مشاهدة النسخة كاملة : ((( زاد المعاد ))) الأجزاء 1.2.3.4.5
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:18 AM
زاد المعاد جزء الجزء الأول
المقدمه
بسم الله الرحمن الرحيم
حسبى الله ونعم الوكيل
مقدمه المؤلف
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله إله الأولين والآخرين ، وقيوم السماوات والأرضين ، ومالك يوم الدين ، الذي لا فوز إلا في طاعته ، ولا عز إلا في التذلل لعظمته ، ولا غنى إلا في الإفتقار إلى رحمته ، ولا هدى إلا في الإستهداء بنوره ، ولا حياة إلا في رضاه ، ولا نعيم إلا في قربه ، ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإخلاص له ، وتوحيد حبه ، الذي إذا أطيع شكر ، وإذا عصي تاب وغفر ، وإذا دعي أجاب ، وإذا عومل أثاب .
والحمد لله الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته ، وأقرت له بالإلهية جميع مصنوعاته ، وشهدت بأنه الله الذي لا إله إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته ، وبدائع آياته ، وسبحان الله وبحمده ، عدد خلقه ، ورضى نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته . ولا إله إلا الله وحده ، لا شريك له في إلهيته ، كما لا شريك له في ربوبيته ، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته ، والله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، وسبحان من سبحت له السماوات وأملاكها ، والنجوم وأفلاكها ، والأرض وسكانها ، والبحار وحيتانها ، والنجوم والجبال ، والشجر والدواب ، والآكام والرمال ، وكل رطب ويابس ، وكل حي وميت " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " [ الإسراء : 44 ] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة قامت بها الأرض السماوات ، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات ، وبها أرسل الله تعالى رسله ، وأنزل كتبه ، وشرع شرائعه ، ولأجلها نصبت الموازين ، ووضعت الدواوين ، وقام سوق الجنة والنار ، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار ، والأبرار والفجار ، فهى منشأ الخلق والأمر ، والثواب والعقاب ، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة ، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب ، وعليها يقع الثواب والعقاب ، وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ، وهي حق الله على جميع العباد ، فهي كلمة الإسلام ، ومفتاح دار السلام ، وعنها يسأل الأولون والآخرون ، فلا تزول قدما العبد بين يدى الله حتى يسأل عن مسألتين : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟
فجواب الأولى بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقراراً وعملاً .
وجواب الثانية بتحقيق أن محمداً رسول الله معرفة وإقراراً ، وانقياداً وطاعة .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، وسفيره بينه وبين عباده ، المبعوث بالدين القويم ، والمنهج المستقيم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماماً للمتقين ، وحجة على الخلائق أجمعين . أرسله على حين فترة من الرسل ، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل ، وافترض على العباد طاعته وتعزيره وتوقيره ومحبته ، والقيام بحقوقه ، وسد دون جنته الطرق ، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه ، فشرح له صدره ، ورفع له ذكره ، ووضع عنه وزره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره . ففي
المسند من حديث أبي منيب الجرشي ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم ، فهو منهم " وكما أن الذلة مضروبة على من خالف أمره ، فالعزة لأهل طاعته ومتابعته ، قال الله سبحانه : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " [ آل عمران : 139 ] . وقال تعالى : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " [ المناققون : 8 ] . وقال تعالى : " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم " [ محمد : 35 ] . وقال تعالى : " يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " [ الأنفال : 64 ] . أي : الله وحده كافيك ، وكافي أتباعك ، فلا تحتاجون معه إلى أحد .
وهنا تقديران ، أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لـ من على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار ، وشواهده كثيرة ، وشبه المنع منه واهية .
والثاني : أن تكون الواو واو مع وتكون من في محل نصب عطفاً على الموضع ، فإن حسبك في معنى كافيك ، أي : الله يكفيك ويكفي من اتبعك ، كما تقول العرب : حسبك وزيداً درهم ، قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصــا فحسبــك والضحــاك سيف مهند
وهذا أصح التقديرين .
وفيها تقدير ثالث : أن تكون من في موضع رفع بالإبتداء ، أي : اتبعك من المؤمنين ، فحسبهم الله .
وفيها تقدير رابع ، وهو خطأ من جهة المعنى ، وهو أن تكون من موضع رفع عطفاً على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك ، وهذا وإن قاله بعض الناس ، فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب و الكفاية لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة ، قال الله تعالى : " وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين "
[ الأنفال : 62 ] . ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده ، وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " [ آل عمران : 173 ] .
ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ، ومدح الرب تعالى لهم بذلك ، فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه ، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله ؟! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ، ونظير هذا قوله تعالى : " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " [ التوبة : 59 ] . فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله ، كما قال تعالى : " وما آتاكم الرسول فخذوه " [ الحشر : 59 ] . وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا : حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال تعالى : " إنا إلى الله راغبون " [ التوبة : 59 ] . ولم يقل : وإلى رسوله ، بل جعل الرغبة إليه وحده ، كما قال تعالى :
" فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب " [ الإنشراح : 7 ، 18 ] . فالرغبة ، والتوكل ، والإنابة ، والحسب لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى ، والسجود لله وحده ، والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى . ونظير هذا قوله تعالى : " أليس الله بكاف عبده " [ الزمر : 36 ] .
فالحسب : هو الكافي ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده ، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟! والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ها هنا .
والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة ، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة ، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته ، فلأتباعه الهدى والأمن ، والفلاح والعزة ، والكفاية والنصرة ، والولاية والتأييد ، وطيب العيش في الدنيا والآخرة ، ولمخالفيه الذلة والصغار ، والخوف والضلال ، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة . وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأن " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " وأقسم الله سبحانه بأن لا يؤمن من لا يحكمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجاً مما حكم به ثم يسلم له تسليماً ، وينقاد له انقياداً . وقال تعالى : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " [ الأحزاب : 36 ] . فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله ، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صلى الله عليه وسلم ، بل إذا أمر ، فأمره حتم ، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره ، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته ، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الإتباع ، لا واجب الإتباع ، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه ، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه ، ولو ترك الأخذ بقول غيره ، لم يكن عاصياً لله ورسوله . فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله ؟ فلا حكم لأحد معه ، ولا قول لأحد معه ، كما لا تشريع لأحد معه ، وكل من سواه ، فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به ، و نهى عما نهى عنه ، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً لا منشئاً ، ومؤسساً ، فمن أنشأ أقوالاً ، وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله ، لم يجب على الأمة اتباعها ، ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول ، فإن طابقته ، ووافقته ، وشهد لها بالصحة ، قبلت حينئذ ، وإن خالفته ، وجب ردها واطراحها ، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين ، جعلت موقوفة ، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه ، وأم أنه يجب ويتعين ، فكلا ، ولما .
وبعد ، فإن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والإختيار من المخلوقات ، قال الله تعالى : " وربك يخلق ما يشاء ويختار "
[ القصص : 68 ] . وليس المراد هاهنا بالإختيار الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار - وهو سبحانه - كذلك ، ولكن ليس المراد بالإختيار هاهنا : الإجتباء والإصطفاء ، فهو اختيار بعد الخلق ، والإختيار العام اختيار قبل الخلق ، فهو أعم وأسبق ، وهذا أخص ، وهو متأخر ، فهو اختيار من الخلق ، والأول اختيار للخلق . وأصح القولين أن الوقف التام على قوله :
" ويختار " ويكون " ما كان لهم الخيرة " نفياً ، أي : ليس هذا الإختيار إليهم ، بل هو إلى الخالق وحده ، فكما أنه المنفرد بالخلق ، فهو المنفرد بالإختيار منه ، فليس لأحد أن يخلق ، ولا أن يختار سواه ، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ، ومحال رضاه ، وما يصلح للإختيار مما لا يصلح له ، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه .
وذهب بعض من لا تحقيق عنده ، ولا تحصيل إلى أن ما في قوله تعالى : " ما كان لهم الخيرة " موصولة ، وهي مفعول
ويختار أي : ويختار الذي لهم الخيرة ، وهذا باطل من وجوه .
أحدها : أن الصلة حينئذ تخلو من العائد ، لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم كان والخبر لهم ، فيصير المعنى : ويختار الأمر الذي كان الخيرة لهم ، وهذا التركيب محال من القول .
فإن قيل : يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفاً ، ويكون التقدير : ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه ، أي : ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره .
قيل : هذا يفسد من وجه آخر ، وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد ، فإنه إنما يحذف مجروراً إذا جر بحرف جر الموصول بمثله مع اتحاد المعنى ، نحو قوله تعالى : " يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " [ المؤمنون : 33 ] ، ونظائره ، ولا يجوز أن يقال : جاءني الذي مررت ، ورأيت الذي رغبت ، ونحوه .
الثاني : أنه لو أريد هذا المعنى لنصب الخيرة وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول ، فكأنه يقول : ويختار ما كان لهم الخيرة ، أي : الذي كان هو عين الخيرة لهم ، وهذا لم يقرأ به أحد البتة ، مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير .
الثالث : أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الإختيار ، وإرادتهم أن تكون الخيرة لهم ، ثم ينفي هذا سبحانه عنهم ، ويبين تفرده هو بالإختيار ، كما قال تعالى : " وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون " [ الزخرف : 31 ، 32 ] ، فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه ، وأخبر أن ذلك ليس إليهم ، بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم ، وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الإختيار ، ومن يصلح له ممن لا يصلح ، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات ، وقسم بينهم معايشهم ، ودرجات التفضيل ، فهو القاسم ذلك وحده لا غيره ، وهكذا هذه الآية بين فيها انفراده بالخلق والإختيار ، وأنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ، كما قال تعالى : " وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته " [ الأنعام : 124 ] ، أي : الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره .
الرابع : أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال : " ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون " [ القصص : 68 ] ، ولم يكن شركهم مقتضياً لإثبات خالق سواه حتى نزه نفسه عنه ، فتأمله ، فإنه في غاية اللطف .
الخامس : أن هذا نظير قوله تعالى في [ الحج : 73 - 76 ] : " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز " ثم قال : " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور " . وهذا نظير قوله في
[ القصص : 69 ] " وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " ونظير قوله في [ الأنعام : 124 ] " الله أعلم حيث يجعل رسالته " فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محال اختياره بما خصصها به ، لعلمه بأنها تصلح له دون غيرها ، فتدبر السياق في هذه الآيات تجده متضمناً لهذا المعنى ، زائداً عليه ، والله أعلم .
السادس : أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله : " ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون * فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين * وربك يخلق ما يشاء ويختار " [ القصص : 65 - 68) فكما خلقهم وحده سبحانه ، اختار منهم من تاب ، وآمن ، وعمل صالحاً ، فكانوا صفوته من عباده ، وخيرته من خلقه ، وكان هذا الإختيار راجعاً إلى حكمته وعلمه سبحانه لمن هو أهل له ، لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم ، فسبحان الله وتعالى عما يشركون .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:19 AM
فصل في ذكر ما اختار الله من مخلوقاته
وإذا تأملت أحوال هذا الخلق ، رأيت هذا الإختيار والتخصيص فيه دالاً على ربوبيته تعالى ووحدانيته ، وكمال حكمته وعلمه وقدرته ، وأنه الله الذي لا إله إلا هو ، فلا شريك له يخلق كخلقه ، ويختار كاختياره ، ويدبر كتدبيره ، فهذا الإختيار والتدبير ، والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته ، وأكبر شواهد وحدانيته ، وصفات كماله ، وصدق رسله ، فنشير منه إلى يسير يكون منبهاً على ما وراءه ، دالاً على ما سواه .
فخلق الله السماوات سبعاً ، فاختار العليا منها ، فجعلها مستقر المقربين من ملائكته ، واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه ، وأسكنها من شاء من خلقه ، فلها مزية وفضل على سائر السماوات ، ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى .
وهذا التفضيل والتخصيص مع تساوي مادة السماوات من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته ، وأنه يخلق ما يشاء ويختار . ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان ، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها ، وفي بعض الآثار : إن الله سبحانه غرسها بيده ، واختارها لخيرته من خلقه .
ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم على سائرهم ، كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " .
فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم ، واصطفائهم ، وقربهم من الله ، وكم من ملك غيرهم في السماوات ، فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة . فجبريل : صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح ، وميكائيل : صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات ، وإسرافيل : صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه ، أحيت نفخته بإذن الله الأموات ، وأخرجتهم من قبورهم .
وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام ، وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، واختياره الرسل منهم ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد ، وابن حبان في صحيحه ، واختياره أولي العزم منهم ، وهم خمسة المذكورون في سورة [ الأحزاب ]
و [ الشورى ] في قوله تعالى : " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم " [ الأحزاب: 7 ] ، وقال تعالى : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " [ الشورى : 13 ] ، اختار منهم الخليلين : إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وآلهما وسلم .
ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم ، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة ، ثم اختار من ولد كنانة قريشاً ، ثم اختار من قريش بني هاشم ، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم . وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين ، واختار منهم السابقين الأولين ، واختار منهم أهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان ، واختار لهم من الدين أكمله ، ومن الشرائع أفضلها ، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها .
واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم ، كما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على
الله " . قال علي بن المديني وأحمد : حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده صحيح .
وظهر أثر هذا الإختيار في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدهم ومنازلهم في الجنة ومقاماتهم في الموقف ، فإنهم أعلى من الناس على تل فوقهم يشرفون عليهم ، وفي الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون منها من هذه الأمة ، وأربعون من سائر الأمم " قال الترمذي : هذا حديث حسن . والذي في
الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث النار : " والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة " ، ولم يزد على ذلك . فإما أن يقال : هذا أصح ، وإما أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة ، فأعلمه ربه فقال : إنهم ثمانون صفاً من مائة وعشرين صفاً ، فلا تنافي بين الحديثين ، والله أعلم .
ومن تفضيل الله لأمته واختياره لها أنه وهبها من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها ، وفي مسند البزار وغيره من حديث أبي الدرداء قال : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله تعالى قال لعيسى ابن مريم : إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون ، حمدوا وشكروا ، وإن أصابهم ما يكرهون ، احتسبوا وصبروا ، ولا حلم ولا علم ، قال : يا رب ، كيف هذا ولا حلم ولا علم ؟ قال : أعطيهم من حلمي وعلمي " .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:20 AM
ذكر فضائل مكة وخواصها
ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها ، وهي البلد الحرام ، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وجعله مناسك لعباده ، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق ، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين ، كاشفي رؤوسهم ، متجردين عن لباس أهل الدنيا ، وجعله حرماً آمناً ، لا يسفك فيه دم ، ولا تعضد به شجرة ، ولا ينفر له صيد ، ولا يختلى خلاه ، ولا تلتقط لقطته للتمليك بل للتعريف ليس إلا ، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب ، ماحياً للأوزار ، حاطاً للخطايا ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أتى هذا البيت ، فلم يرفث ، ولم يفسق ، رجع كيوم ولدته أمه " ، ولم يرض لقاصده من الثواب دون الجنة ، ففي السنن من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة " . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ، فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده ، وأحبها إليه ، ومختاره من البلاد ، لما جعل عرصاتها مناسك لعباده ، فرض عليهم قصدها ، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام ، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه ، فقال تعالى : " وهذا البلد الأمين " [ التين : 3 ] ، وقال تعالى : " لا أقسم بهذا البلد " [ البلد : 1 ] ، وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها والطواف بالبيت الذي فيها غيرها ، وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه ، وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود ، والركن اليماني . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، ففي سنن النسائي و المسند بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة " ورواه ابن حبان في صحيحه وهذا صريح في أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق ، ولذلك كان شد الرحال إليه فرضاً ، ولغيره مما يستحب ولا يجب ، وفي المسند والترمذي والنسائي عن عبدالله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولو لا أني أخرجت منك ما خرجت " قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . بل ومن خصائصها كونها قبلة لأهل الأرض كلهم ، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها .
ومن خواصها أيضاً أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض .
وأصح المذاهب في هذه المسألة : أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان ، لبضعة عشر دليلاً قد ذكرت في غير هذا الموضع ، وليس مع المفرق ما يقاومها البتة ، مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان ، وليس هذا موضع استيفاء الحجاج من الطرفين .
ومن خواصها أيضاً أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض ، كما في الصحيحين عن أبي ذر قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض ؟ فقال : المسجد الحرام قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون عاماً " وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به ، فقال : معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى ، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام ، وهذا من جهل هذا القائل ، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده ، لا تأسيسه ، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار . ومما يدل على تفضيلها أن الله تعالى أخبر أنها أم القرى ، فالقرى كلها تبع لها ، وفرع عليها ، وهي أصل القرى ، فيجب ألا يكون لها في القرى عديل ، فهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ( الفاتحة ) أنها أم القرآن ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عديل .
ومن خصائصها أنها لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام ، وهذه خاصية لا يشاركها فيها شئ من البلاد ، وهذه المسألة تلقاها الناس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد روي عن ابن عباس بإسناد لا يحتج به مرفوعاً " لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام ، من أهلها ومن غير أهلها " ذكره أبو أحمد بن عدي ، ولكن الحجاج بن أرطاة في الطريق ، وآخر قبله من الضعفاء .
وللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال : النفي ، والإثبات ، والفرق بين من هو داخل المواقيت ومن هو قبلها ، فمن قبلها لا يجاوزها إلا بإحرام ، ومن هو داخلها ، فحكمه حكم أهل مكة ، وهو قول أبي حنيفة ، والقولان الأولان للشافعي وأحمد .
ومن خواصه أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها ، قال تعالى : " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " [ الحج : 25 ] فتأمل كيف عدى فعل الإرادة هاهنا بالباء ، ولا يقال : أردت بكذا إلا لما ضمن معنى فعل هم فإنه يقال : هممت بكذا ، فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم .
ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه ، لا كمياتها ، فإن السيئة جزاؤها سيئة ، لكن سيئة كبيرة ، وجزاؤها مثلها ، وصغيرة جزاؤها مثلها ، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض ، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه ، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات ، والله أعلم .
وقد ظهر سر هذا التفضيل والإختصاص فى انجذاب الأفئدة ، وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين ، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد ، فهو الأولى بقول القائل :
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس ، أي : يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطراً ، بل كلما ازدادوا له زيارة ، ازدادوا له اشتياقاً .
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ، وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ، ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل ، والأحباب والأوطان ، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف ، والمعاطف والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ، ويراه - لو ظهر سلطان المحبة في قلبه - أطيب من نعم المتحليه وترفهم ولذاتهم .
وليس محباً من يعد شقاءه عذاباً إذا ما كان يرضى حبيبه
وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله : " وطهر بيتي " [ الحج : 26 ] فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته ، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك ، وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم ، فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه ، فله من المزية والإختصاص على غيره ما أوجب له الإصطفاء والإجتباء ، ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلاً آخر ، وتخصيصاً وجلالة زائداً على ما كان له قبل الإضافة ، ولم يوفق لفهم هذا المعنى من سوى بين الأعيان والأفعال ، والأزمان والأماكن ، وزعم أنه لا مزية لشئ منها على شئ ، وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح ، وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجهاً قد ذكرت في غير هذا الموضع ، ويكفي تصور هذا المذهب الباطل في فساده ، فإن مذهباً يقتضي أن تكون ذوات الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة ، وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها ، وكذلك نفس البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بقعة مزية البتة ، وإنما هو لما يقع فيها من الأعمال الصالحة ، فلا مزية لبقعة البيت ، والمسجد الحرام ، ومنى وعرفة والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض ، وإنما التفضيل باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعود إليها ، ولا إلى وصف قائم بها ، والله سبحانه وتعالى قد رد هذا القول الباطل بقوله تعالى : " وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " قال الله تعالى : " الله أعلم حيث يجعل رسالته " [ الأنعام :124] أي : ليس كل أحد أهلاً ولا صالحاً لتحمل رسالته ، بل لها محال مخصوصة لا تليق إلا بها ، ولا تصح إلا لها ، والله أعلم بهذه المحال منكم . ولو كانت الذوات متساوية كما قال هؤلاء ، لم يكن في ذلك رد عليهم ، وكذلك قوله تعالى : " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " [ الأنعام : 53 ] أي : هو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمته ، فيختصه بفضله ، ويمن عليه ممن لا يشكره ، فليس كل محل يصلح لشكره ، واحتمال منته ، والتخصيص بكرامته . فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليس لغيرها ، ولأجلها اصطفاها الله ، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات ، وخصها بالإختيار ، فهذا خلقه ، وهذا اختياره " وربك يخلق ما يشاء ويختار " [ القصص : 67 ] ، وما أبين بطلان رأي يقضي بأن مكان البيت الحرام مساو لسائر الأمكنة ، وذات الحجر الأسود مساوية لسائر حجارة الأرض ، وذات رسول الله صلى الله عليه وسلم مساوية لذات غيره ، وإنما التفضيل في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها ، وهذه الأقاويل وأمثالها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة ، ونسبوها إليها وهي بريئة منها ، وليس معهم أكثر من اشتراك الذوات في أمر عام ، وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة ، لأن المختلفات قد تشترك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية ، وما سوى الله تعالى بين ذات المسك وذات البول أبداً ، ولا بين ذات الماء وذات النار أبداً ، والتفاوت البين بين الأمكنة الشريفة وأضدادها ، والذوات الفاضلة وأضدادها أعظم من هذا التفاوت بكثير ، فبين ذات موسى عليه السلام وذات فرعون من التفاوت أعظم مما بين المسك والرجيع ، وكذلك التفاوت بين نفس الكعبة ، وبين بيت السلطان أعظم من هذا التفاوت أيضاً بكثير ، فكيف تجعل البقعتان سواء في الحقيقة والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات و الأذكار والدعوات ؟!
ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول ، وإنما قصدنا تصويره ، وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكم ، ولا يعبأ الله وعباده بغيره شيئاً ، والله سبحانه لا يخصص شيئاً ، ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله ، نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه ، فهو الذي خلقه ، ثم اختاره بعد خلقه ، وربك يخلق ما يشاء ويختار .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:21 AM
ذكر فضائل بعض الأيام كعشر ذي الحجة وليالي رمضان وغيرها
ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض ، فخير الأيام عند الله يوم النحر ، وهو يوم الحج الأكبر كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل الأيام عند الله يوم النحر ، ثم يوم القر " . وقيل : يوم عرفة أفضل منه ، وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي ، قالوا : لأنه يوم الحج الأكبر ، وصيامه يكفر سنتين ، وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة ، ولأنه سبحانه وتعالى يدنو فيه من عباده ، ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف . والصواب القول الأول ، لأن الحديث الدال على ذلك لا يعارضه شئ يقاومه ، والصواب أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ، لقوله تعالى : " وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر " [ التوبة : 3 ] ، وثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما أذنا بذلك يوم النحر ، لا يوم عرفة . وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوم الحج الأكبر يوم النحر " ، وكذلك قال أبو هريرة ، وجماعة من الصحابة ، ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف ، والتضرع ، والتوبة ، والإبتهال ، والإستقالة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ، لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم ربهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرؤوس ، ورمي الجمار ، ومعظم أفعال الحج ، وعمل يوم عرفة كالطهور والإغتسال بين يدي هذا اليوم . وكذلك تفضيل عشر ذي على غيره من الأيام ، فإن أيامه أفضل الأيام عند الله ، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع من ذلك بشئ " وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله : " والفجر * وليال عشر " [ الفجر : 1 ، 2 ] ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد " ، ونسبتها إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع .
ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على سائر الشهور ، وتفضيل عشره الأخير على سائر الليالي ، وتفضيل ليلة القدر على ألف شهر . فإن قلت : أي العشرين أفضل ؟ عشر ذي الحجة ، أو العشر الأخير من رمضان ؟ وأي الليلتين أفضل ؟ ليلة القدر ، أو ليلة الإسراء ؟ قلت : أما السؤال الأول ، فالصواب فيه أن يقال : ليالي العشر الأخير من رمضان ، أفضل من ليالي عشر ذي الحجة ، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان ، وبهذا التفصيل يزول الإشتباه ، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر ، وهي من الليالي ، وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه ، إذ فيه يوم النحر ، ويوم عرفة ، ويوم التروية .
وأما السؤال الثاني ، فقد سأل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل ، فأيهما المصيب ؟
فأجاب : الحمد لله ، أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، فإن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر ، فهذا باطل ، لم يقله أحد من المسلمين ، وهو معلوم الفساد بالإطراد من دين الإسلام . هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها ، فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ، ولا على عشرها ، ولا على عينها ، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما تقطع به ، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره ، بخلاف ليلة القدر ، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " وفي
" الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه " ، وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر ، وأنه أنزل فيها القرآن .
وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة ، فهذا صحيح ، وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان ، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة . هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر ، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه بها .
والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمور ، ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي ، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم ، ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها ، لا سيما على ليلة القدر ، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ، ولا يذكرونها ، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت ، وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ، ولا ذلك المكان بعبادة شرعية ، بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي ، وكان يتحراه قبل النبوة ، لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة ، ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها ، ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا الزمان بشئ ، ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله ، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات ، كيوم الميلاد ، ويوم التعميد ، وغير ذلك من أحواله . وقد رأى عمر بن الخطاب رضى الله عنه جماعة يتبادرون مكاناً يصلون فيه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل ، وإلا فليمض .
وقد قال بعض الناس : إن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر ، وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء ، فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم ، وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له .
فإن قيل : فأيهما أفضل : يوم الجمعة ، أو يوم عرفة ؟ فقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة " وفيه أيضاً حديث أوس بن أوس
" خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة " . قيل : قد ذهب بعض العلماء إلى تفضيل يوم الجمعة على يوم عرفة ، محتجاً بهذا الحديث ، وحكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد أن ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر ، والصواب أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ، ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر ، وليلة الجمعة ، ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام من وجوه متعددة .
أحدها : اجتماع اليومين اللذين هما أفضل الأيام .
الثاني : أنه اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة ، وأكثر الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع .
الثالث : موافقته ليوم وقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرابع : أن فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة ، ويوافق ذلك اجتماع أهل عرفة يوم عرفة بعرفة ، فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه .
الخامس : أن يوم الجمعة يوم عيد ، ويوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة ، ولذلك كره لمن بعرفة صومه ، وفي النسائي عن أبي هريرة قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة " ، وفي إسناده نظر ، فإن مهدي بن حرب العبدي ليس بمعروف ، ومداره عليه ، ولكن ثبت في الصحيح من حديث أم الفضل " أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : هو صائم ، وقال بعضهم : ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن ، وهو واقف على بعيره بعرفة ، فشربه " .
وقد اختلف في حكمة استحباب فطر يوم عرفة بعرفة ، فقالت طائفة : ليتقوى على الدعاء ، وهذا هو قول الخرقي وغيره ، وقال غيرهم - منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - : الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة ، فلا يستحب صومه لهم ، قال : والدليل عليه الحديث الذي في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام " . قال شيخنا : وإنما يكون يوم عرفة عيداً في حق أهل عرفة ، لاجتماعهم فيه ، بخلاف أهل الأمصار ، فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر ، فكان هو العيد في حقهم ، والمقصود أنه إذا اتفق يوم عرفة ، ويوم جمعة ، فقد اتفق عيدان معاً .
السادس : أنه موافق ليوم إكمال الله تعالى دينه لعباده المؤمنين ، وإتمام نعمته عليهم ، كما ثبت في صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال : جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين آية تقرؤونها في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ونعلم ذلك اليوم الذي نزلت فيه ، لاتخذناه عيداً ، قال : أي آية ؟ قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " [ المائدة : 3 ] فقال عمر بن الخطاب : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه ، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم جمعة ، ونحن واقفون معه بعرفة .
السابع : أنه موافق ليوم الجمع الأكبر ، والموقف الأعظم يوم القيامة ، فإن القيامة تقوم يوم الجمعة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه " ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى لعباده يوماً يجتمعون فيه ، فيذكرون المبدأ والمعاد ، والجنة والنار ، وادخر الله تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة ، إذ فيه كان المبدأ ، وفيه المعاد ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره سورتي ( السجدة ) و ( هل أتى على الإنسان ) لاشتمالهما على ما كان وما يكون في هذا اليوم ، من خلق آدم ، وذكر المبدإ والمعاد ، ودخول الجنة والنار ، فكان يذكر الأمة في هذا اليوم بما كان فيه وما يكون ، فهكذا يتذكر الإنسان بأعظم مواقف الدنيا - وهو يوم عرفة - الموقف الأعظم بين يدي الرب سبحانه في هذا اليوم بعينه ، ولا يتنصف حتى يستقر أهل الجنة في منازلهم ، وأهل النار في منازلهم .
الثامن : أن الطاعة الواقعة من المسلمين يوم الجمعة ، وليلة الجمعة ، أكثر منها في سائر الأيام ، حتى إن أكثر أهل الفجور يحترمون يوم الجمعة وليلته ، ويرون أن من تجرأ فيه على معاصي الله عز وجل ، عجل الله عقوبته ولم يمهله ، وهذا أمر قد استقر عندهم وعلموه بالتجارب ، وذلك لعظم اليوم وشرفه عند الله ، واختيار الله سبحانه له من بين سائر الأيام ، ولا ريب أن للوقفة فيه مزية على غيره .
التاسع : أنه موافق ليوم المزيد في الجنة ، وهو اليوم الذي يجمع فيه أهل الجنة في واد أفيح ، وينصب لهم منابر من لؤلؤ ، ومنابر من ذهب ، ومنابر من زبرجد وياقوت على كثبان المسك ، فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى ، ويتجلى لهم ، فيرونه عياناً ويكون أسرعهم موافاة أعجلهم رواحاً إلى المسجد ، وأقربهم منه أقربهم من الإمام ، فأهل الجنة مشتاقون إلى يوم المزيد فيها لما ينالون فيه من الكرامة ، وهو يوم جمعة ، فإذا وافق يوم عرفة ، كان له زيادة مزية واختصاص وفضل ليس لغيره .
العاشر : أنه يدنو الرب تبارك وتعالى عشية يوم عرفة من أهل الموقف ، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ، أشهدكم أني قد غفرت لهم وتحصل مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعة الإجابة التي لا يرد فيها سائلاً يسأل خيراً فيقربون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة ، ويقرب منهم تعالى نوعين من القرب ، أحدهما : قرب الإجابة المحققة في تلك الساعة ، والثاني : قربه الخاص من أهل عرفة ، ومباهاته بهم ملائكته ، فتستشعر قلوب أهل الإيمان هذه الأمور ، فتزداد قوة إلى قوتها ، وفرحاً وسروراً وابتهاجاً ورجاء لفضل ربها وكرمه ، فبهذه الوجوه وغيرها فضلت وقفة يوم الجمعة على غيرها . وأما ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل ثنتين وسبعين حجة ، فباطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:22 AM
فصل فيما اختاره الله من الأعمال وغيرها
فصل
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى اختار من كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبه ، واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره ، فإنه تعالى طيب لا يحب إلا الطيب ، ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيب ، فالطيب من كل شئ هو مختاره تعالى .
وأما خلقه تعالى ، فعام للنوعين ، وبهذا يعلم عنوان سعادة العبد وشقاوته ، فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب ، ولا يرضى إلا به ، ولا يسكن إلا إليه ، ولا يطمئن قلبه إلا به ، فله من الكلام الكلم الطيب الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو ، وهو أشد شئ نفرة عن الفحش في المقال ، والتفحش في اللسان والبذاء ، والكذب والغيبة ، والنميمة والبهت ، وقول الزور ، وكل كلام خبيث .
وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها ، وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مع الشرائع النبوية ، وزكتها العقول الصحيحة ، فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة ، مثل أن يعبد الله وحده لا شريك به شيئاً ، ويؤثر مرضاته على هواه ، ويتحبب إليه جهده وطاقته ، ويحسن إلى خلقه ما استطاع ، فيفعل بهم ما يحب أن يفعلوا به ، ويعاملوه به ، ويدعهم مما يحب أن يدعوه منه ، وينصحهم بما ينصح به نفسه ، ويحكم لهم بما يحب أن يحكم له به ، ويحمل أذاهم ولا يحملهم أذاه ، ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بما نالوا من عرضه ، وإذا رأى لهم حسناً أذاعه ، وإذا رأى لهم سيئاً ، كتمه ، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة ، ولا يناقض لله أمراً ولا نهياً . وله أيضاً من الأخلاق أطيبها وأزكاها ، كالحلم ، والوقار ، والسكينة ، والرحمة ، والصبر ، والوفاء ، وسهولة الجانب ، ولين العريكة ، والصدق ، وسلامة الصدر من الغل والغش والحقد والحسد ، والتواضع ، وخفض الجناح لأهل الإيمان والعزة ، والغلظة على أعداء الله ، وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله ، والعفة ، والشجاعة ، والسخاء ، والمروءة ، وكل خلق اتفقت علي حسنه الشرائع والفطر والعقول .
وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها ، وهو الحلال الهنيء المرئ الذي يغذي البدن والروح أحسن تغذية ، مع سلامة العبد من تبعته .
وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها ، ومن الرائحة إلا أطيبها وأزكاها ، ومن الأصحاب والعشراء إلا الطيبين منهم ، فروحه طيب ، وبدنه طيب ، وخلقه طيب ، وعمله طيب ، وكلامه طيب ، ومطعمه طيب ، ومشربه طيب ، وملبسه طيب ، ومنكحه طيب، ومدخله طيب ، ومخرجه طيب ، ومنقلبه طيب ، ومثواه كله طيب . فهذا ممن قال الله تعالى فيه : " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " [ النحل : 32 ] ومن الذين يقول لهم خزنة الجنة : " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " [ الزمر : 72 ] وهذه الفاء تقتضي السببية ، أي : بسبب طيبكم ادخلوها . وقال تعالى : " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " [ النور : 26 ] وقد فسرت الآية بأن الكلمات الخبيثات للخبيثين ، والكلمات الطيبات للطيبين ، وفسرت بأن النساء الطيبات للرجال الطيبين ، والنساء الخبيثات للرجال الخبيثين ، وهي تعم ذلك وغيره ، فالكلمات ، والأعمال ، والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين ، والكلمات ، والأعمال ، والنساء الخبيثة لمناسبها من الخبيثين ، فالله سبحانه وتعالى جعل الطيب بحذافيره في الجنة ، وجعل الخبيث بحذافيره في النار فجعل الدور ثلاثة : داراً أخلصت للطيبين ، وهي حرام على غير الطيبين ، وقد جمعت كل طيب وهي الجنة ، وداراً أخلصت للخبيث والخبائث ، ولا يدخلها إلا الخبيثون ، وهي النار ، وداراً امتزج فيها الطيب والخبيث ، وخلط بينهما ، وهي هذه الدار ، ولهذا وقع الإبتلاء والمحنة بسبب هذا الإمتزاج والإختلاط ، وذلك بموجب الحكمة الإلهية ، فإذا كان يوم معاد الخليقة ، ميز الله الخبيث من الطيب ، فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم ، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم ، فعاد الأمر إلى دارين فقط : الجنة ، وهي دار الطيبين ، والنار ، وهي دار الخبيثين ، وأنشأ الله تعالى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم ، فجعل طيبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هي عين نعيمهم ولذاتهم ، أنشأ لهم منها أكمل أسباب النعيم والسرور ، وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هي عين عذابهم وآلامهم ، فأنشأ لهم منها أعظم أسباب العقاب والآلام ، حكمة بالغة ، وعزة باهرة قاهرة ، ليري عباده كمال ربوبيته ، وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته ، وليعلم أعداؤه أنهم كانوا من المفترين الكذابين ، لا رسله البررة الصادقون - قال الله تعالى : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين " [ النحل : 38 ، 39 ] . والمقصود أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للسعادة والشقاوة عنواناً يعرفان به ، فالسعيد الطيب لا يليق به إلا طيب ، ولا يأتي إلا طيباً ولا يصدر منه إلا طيب ، ولا يلابس إلا طيباً ، والشقي الخبيث لا يليق به إلا الخبيث ، ولا يأتي إلا خبيثاً ، ولا يصدر منه إلا الخبيث ، فالخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه ، والطيب يتفجر من قلبه الطيب على لسانه وجوارحه . وقد يكون في الشخص مادتان ، فأيهما غلب عليه كان من أهلها ، فإن أراد الله به خيراً طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة ، فيوافيه يوم القيامة مطهراً ، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار ، فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ، ويمسك عن الآخر مواد التطهير ، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ، ومادة طيبة ، وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه ، فيدخله النار طهرة له وتصفية وسبكاً ، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث ، صلح حينئذ لجواره ، ومساكنة الطيبين من عباده .
وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها ، فأسرعهم زوالاً وتطهيراً أسرعهم خروجاً، وأبطؤهم أبطؤهم خروجاً ، جزاء وفاقاً ، وما ربك بظلام للعبيد .
ولما كان المشرك خبيث العنصر ، خبيث الذات ، لم تطهر النار خبثه ، بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان ، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه ، فلذلك حرم الله تعالى على المشرك الجنة .
ولما كان المؤمن الطيب المطيب مبرءاً من الخبائث ، كانت النار حراماً عليه ، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها ، فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب ، وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ، ورب العالمين ، لا إله إلا هو .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:22 AM
فصل في ذكر الاحتياج بعثة الرسل
فصل
ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول ، وما جاء به ، وتصديقه فيما أخبر به ، وطاعته فيما أمر ، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ، ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ، ولاينال رضى الله البتة إلا على أيديهم ، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ، ليس إلا هديهم وما جاؤوا به ، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال ، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال ، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه ، والعين إلى نورها ، والروح إلى حياتها ، فأي ضرورة وحاجة فرضت ، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير . وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين ، فسد قلبك ، وصار كالحوت إذا فارق الماء ، ووضع في المقلاة ، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل ، كهذه الحال ، بل أعظم ، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي و ما لجرح بميت إيلام
وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فيجب على كل من نصح نفسه ، وأحب نجاتها وسعادتها ، أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به ، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه ، والناس في هذا بين مستقل ، ومستكثر ، ومحروم ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:23 AM
فصل في ذكر الاحتياج الى معرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
وهذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى همة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه ، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره مع البضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها أبواب السدد ، ولا يتنافس فيها المتنافسون مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة ، والقلب بكل واد منه شعبة ، والهمة قد تفرقت شذر مذر ، والكتاب مفقود ، ومن يفتح باب العلم لمذاكرته معدوم غير موجود ، فعود العلم النافع الكفيل بالسعادة قد أصبح ذاوياً ، وربعه قد أوحش من أهله وعاد منهم خالياً ، فلسان العالم قد ملئ بالغلول مضاربة لغلبة الجاهلين ، وعادت موارد شفائه وهي معاطبه لكثرة المنحرفين والمحرفين ، فليس له معول إلا على الصبر الجميل ، وما له ناصر ولا معين إلا الله وحده وهو حسبنا ونعم الوكيل .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:24 AM
فصل في نسبه صلى الله عليه وسلم
فصل في نسبه صلى الله عليه وسلم
وهو خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق ، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة ، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك ، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم ، فأشرف القوم قومه ، وأشرف القبائل قبيله ، وأشرف الأفخاذ فخذه .
فهو محمد بن عبدالله ، بن عبد المطلب ، بن هاشم ، بن عبد مناف ، بن قصي ، بن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك ، بن النضر ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، بن عدنان .
إلى هاهنا معلوم الصحة ، متفق عليه بين النسابين ، ولا خلاف فيه البتة ، وما فوق عدنان مختلف فيه . ولا خلاف بينهم أن
عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام ، وإسماعيل : هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وأما القول بأن إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ، فإن فيه : إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره ، وفي لفظ : وحيده ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده ، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم : اذبح ابنك إسحاق ، قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم ، لأنها تناقض قوله : اذبح بكرك ووحيدك ، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب ، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله . وكيف يسوغ أن يقال : إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة : إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى : " لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " [ هود : 70 ، 71 ] فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ، ثم يأمر بذبحه ، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة ، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد ، وهذا ظاهر الكلام وسياقه .
فإن قيل : لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجروراً عطفاً على إسحاق ، فكانت القراءة " ومن وراء إسحاق يعقوب " أي : ويعقوب من وراءه إسحاق . قيل : لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشراً به ، لأن البشارة قول مخصوص ، وهي أول خبر سار صادق ، وقوله تعالى : " ومن وراء إسحاق يعقوب " جملة متضمنة لهذه القيود ، فتكون بشارة ، بل حقيقة البشارة هى الجملة الخبرية . ولما كانت البشارة قولاً ، كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول ، كأن المعنى : وقلنا لها : من وراء إسحاق يعقوب ، والقائل إذا قال : بشرت فلاناً بقدوم أخيه وثقله في أثره ، لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعاً . هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة ، ثم يضعف الجر أمر آخر ، وهو ضعف قولك : مررت بزيد ومن بعده عمرو ، ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجر ، فلا يفصل بينه وبين المجرور ، كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور . ويدل عليه أيضاً أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة ( الصافات ) قال : " فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين " [ الصافات : 103 - 111 ] . ثم قال تعالى: " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " [ الصافات : 112 ] . فهذه بشارة من الله تعالى له شكراً على صبره على ما أمر به ، وهذا ظاهر جداً في أن المبشر به غير الأول ، بل هو كالنص فيه .
فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته ، أي : لما صبر الأب على ما أمر به ، وأسلم الولد لأمر الله ، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة .
قيل : البشارة وقعت على المجموع : على ذاته ووجوده ، وأن يكون نبياً ، ولهذا نصب نبياً على الحال المقدر ، أي : مقدراً نبوته ، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل ، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة ، هذا محال من الكلام ، بل إذا وقعت البشارة على نبوته ، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى . وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، وذلك جعلت القرابين يوم النحر بها ، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيراً لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله ، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه ، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل ، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زماناً ومكاناً ، ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم ، لكانت القرابين والنحر بالشام ، لا بمكة .
وأيضاً فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً . لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه . ولما ذكر إسحاق سماه عليماً ، فقال تعالى : " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون " [ الذاريات : 24 ، 25 ] إلى أن قال : " قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم " [ الذاريات : 28 ] وهذا إسحاق بلا ريب ، لأنه من امرأته ، وهي المبشرة به ، وأما إسماعيل ، فمن السرية . وأيضاً فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد ، وهذا بخلاف إسماعيل ، فإنه ولد قبل ذلك .
وأيضاً فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده ، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ، ووهبه له ، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلاً ، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة ، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها ، فلما أخذ الولد شعبه من قلب الوالد ، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل ، فأمره بذبح المحبوب ، فلما أقدم على ذبحه ، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد ، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة ، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه ، فقد حصل المقصود ، فنسخ الأمر ، وفدي الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب . ومعلوم أن هذا الإمتحان والإختبار إنما حصل عند أول مولود ، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول ، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه ، وهذا في غاية الظهور .
وأيضاً فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة ، فإنها كانت جارية ، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه ، اشتدت غيرة سارة فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ، ويسكنها في أرض مكة لتبرد عن
سارة حرارة الغيرة ، وهذا من رحمته تعالى ورأفته ، فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها ، ويدع ابن الجارية بحاله ، هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها ، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية ، بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية ، فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها ، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتاً هذه وابنها منهم ، وليري عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة ، وأن عاقبة صبر
هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه ، من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة ، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره . قال تعالى : " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " [ القصص : 5] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
ولنرجع إلى المقصود من سيرته صلى الله عليه وسلم وهديه وأخلاقه لا خلاف أنه ولد صلى الله عليه وسلم بجوف مكة ، وأن مولده كان عام الفيل ، وكان أمر الفيل تقدمه قدمها الله لنبيه وبيته ، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب ، وكان دينهم خير من دين أهل مكة إذ ذاك ، لأنهم كانوا عباد أوثان ، فنصرهم الله على أهل الكتاب نصراً لا صنع للبشر فيه ، إرهاصاً وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة ، وتعظيماً للبيت الحرام .
واختلف في وفاة أبيه عبد الله ، هل توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل ، أو توفي بعد ولادته ؟ على قولين : أصحهما: أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل .
والثاني : أنه توفي بعد ولادته بسبعة أشهر . ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء منصرفها من المدينة من زيارة أخواله ، ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين .
وكفله جده عبد المطلب ، وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين ، وقيل : ست ، وقيل : عشر ، ثم كفله عمه أبو طالب ، واستمرت كفالته له ، فلما لم بلغ ثنتي عشرة سنة ، خرج به عمه إلى الشام ، وقيل : كانت سنه تسع سنين ، وفي هذه الخرجة رآه بحيرى الراهب ، وأمر عمه ألا يقدم به الى الشام خوفاً عليه من اليهود ، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة ، ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالاً ، وهو من الغلط الواضح ، فإن بلالاً إذ ذاك لعله لم يكن موجوداً ، وإن كان ، فلم يكن مع عمه ، ولا مع أبي بكر . وذكر البزار في مسنده هذا الحديث ، ولم يقل : وأرسل معه عمه بلالاً ، ولكن قال : رجلاً. فلما بلغ خمساً وعشرين سنة ، خرج إلى الشام في تجارة ، فوصل إلى بصرى ثم رجع ، فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد . وقيل : تزوجها وله ثلاثون سنة . وقيل : إحدى وعشرون ، وسنها أربعون ، وهي أول امرأة تزوجها ، وأول امرأة ماتت من نسائه ، ولم ينكح عليها غيرها ، وأمره جبريل أن يقرأ عليها السلام من ربها .
ثم حبب الله إليه الخلوة ، والتعبد لربه ، وكان يخلو بـ غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، وبغضت إليه الأوثان ودين قومه ، فلم يكن شئ أبغض إليه من ذلك .
فلما كمل له أربعون ، أشرق عليه نور النبوة ، وأكرمه الله تعالى برسالته ، وبعثه إلى خلقه ، واختصه بكرامته ، وجعله أمينه بينه وبين عباده . ولا خلاف أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين ، واختلف في شهر المبعث . فقيل : لثمان مضين من ربيع الأول ، سنة إحدى وأربعين من عام الفيل ، هذا قول الأكثرين ، وقيل : بل كان ذلك في رمضان ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " [ البقرة : 185 ] قالوا : أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته ، أنزل عليه القرآن ، وإلى هذا ذهب جماعة ، منهم يحيى الصرصري حيث يقول في نونيته :
وأتت عليه أربعون فأشرقت شمس النبوة منه في رمضان
والأولون قالوا : إنما كان إنزال القرآن في رمضان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة ، ثم أنزل منجماً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة .
وقالت طائفة : أنزل فيه القرآن ، أي في شأنه وتعظيمه ، وفرض صومه . وقيل : كان ابتداء المبعث في شهر رجب .
وكمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة :
إحداها : الرؤيا الصادقة ، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .
الثانية : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله ، فإما ما عند الله لا ينال إلا بطاعته " . الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً ، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له ، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً .
الرابعة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها . ولقد جاءه الوحي مرة كذلك ، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت ، فثقلت عليه حتى كادت ترضها .
الخامسة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه ، وهذا وقع له مرتين ، كما ذكر الله ذلك في [ النجم : 7 ، 13 ] .
السادسة : ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها .
السابعة : كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك ، كما كلم الله موسى بن عمران ، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص
القرآن ، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء .
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب ، وهذا على مذهب من يقول : إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى ، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف ، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعاً للصحابة .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:24 AM
فصل في ختانه صلى الله عليه وسلم
وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه ولد مختوناً مسروراً ، وروي في ذلك حديث لا يصح ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات وليس فيه حديث ثابت ، وليس هذا من خواصه ، فإن كثيراً من الناس يولد مختوناً .
وقال الميموني : قلت لأبي عبد الله : مسألة سئلت عنها : ختان ختن صبياً ، فلم يستقص ؟ قال : إذا كان الختان جاوز نصف الحشفة إلى فوق ، فلا يعيد ، لأن الحشفة تغلظ ، وكلما غلظت ارتفع الختان . فأما إذا كان الختان دون النصف ، فكنت أرى أن يعيد . قلت : فإن الإعادة شديدة جداً ، وقد يخاف عليه من الإعادة ؟ فقال : لا أدري ، ثم قال لي فإن هاهنا رجلاً ولد له ابن مختون ، فاغتم لذلك غماً شديداً ، فقلت له : إذا كان الله قد كفاك المؤنة ، فما غمك بهذا ؟! انتهى . وحدثنى صاحبنا أبو عبد الله محمد بن عثمان الخليلي المحدث ببيت المقدس أنه ولد كذلك ، وأن أهله لم يختنوه ، والناس يقولون لمن ولد كذلك : ختنة القمر ، وهذا من خرافاتهم .
القول الثاني : أنه ختن صلى الله عليه وسلم يوم شق قلبه الملائكة عند ظئره حليمة .
القول الثالث : أن جده عبد المطلب ختنه يوم سابعه ، وصنع له مأدبة وسماه محمداً .
قال أبو عمر بن عبد البر : وفي هذا الباب حديث مسند غريب ، حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف ، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن شعيب ، عن عطاء الخراساني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه ، وجعل له مأدبة ، وسماه محمداً ، صلى الله عليه وسلم ، قال يحيى بن أيوب : طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري ، وقد وقعت هذه المسألة بين رجلين فاضلين ، صنف أحدهما مصنفاً في أنه ولد مختوناً وأجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام ، وهو كمال الدين بن طلحة ، فنقضه عليه كمال الدين بن العديم ، وبين فيه أنه صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب ، وكان عموم هذه السنة للعرب قاطبة مغنياً عن نقل معين فيها ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:25 AM
فصل في أمهاته صلى الله عليه وسلم اللاتي أرضعنه
فمنهن ثويبة مولاة أبي لهب ، أرضعته أياماً ، وأرضعت معه أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي بلبن ابنها مسروح ، وأرضعت معهما عمه حمزة بن عبد المطلب . واختلف في إسلامها ، فالله أعلم .
ثم أرضعته حليمة السعدية بلبن ابنها عبد الله أخي أنيسة ، وجدامة ، وهي الشيماء أولاد الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي ، واختلف في إسلام أبويه من الرضاعة ، فالله أعلم ، وأرضعت معه ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم عام الفتح وحسن إسلامه ، وكان عمه حمزة مسترضعاً في بني سعد بن بكر فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند أمه حليمة ، فكان حمزة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهتين : من جهة ثويبة ، ومن جهة السعدية .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:25 AM
فصل في حواضنه صلى الله عليه وسلم
فمنهن أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب .
ومنهن ثويبة وحليمة ، والشيماء ابنتها ، وهي أخته من الرضاعة ، كانت تحضنه مع أمها ، وهي التي قدمت عليه في وفد هوزان، فبسط لها رداءه ، وأجلسها عليه رعاية لحقها .
ومنهن الفاضلة الجليلة أم أيمن بركة الحبشية ، وكان ورثها من أبيه ، وكانت دايته ، وزوجها من حبه زيد بن حارثة ، فولدت له أسامة ، وهي التي دخل عليها أبو بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، فقالا : يا أم أيمن ما يبكيك فما عند الله خير لرسوله ؟ قالت : إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله ، وإنا أبكي لانقطاع خبر السماء ، فهيجتهما على البكاء ، فبكيا .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:26 AM
فصل في مبعثه صلى الله عليه وسلم وأول ما نزل عليه
بعثه الله على رأس أربعين ، وهي سن الكمال . قيل : ولها تبعث الرسل ، وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة ، فهذا لا يعرف له أثر متصل يجب المصير إليه .
وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر النبوة الرؤيا ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . قيل : وكان ذلك ستة أشهر ، ومدة النبوة ثلاثة وعشرون سنة ، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة والله أعلم .
ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة ، فجاءه الملك وهو بغار حراء ، وكان يحب الخلوة فيه ، فأول ما أنزل عليه " اقرأ باسم ربك الذي خلق " [ العلق : 1 ] هذا قول عائشة والجمهور .
وقال جابر : أول ما أنزل عليه : " يا أيها المدثر " .
والصحيح قول عائشة لوجوه :
أحدها : أن قوله : ما أنا بقارئ صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئاً .
الثاني : الأمر بالقراءة في الترتيب قبل الأمر بالإنذار ، فإنه إذا قرأ في نفسه ، أنذر بما قرأه ، فأمره بالقراءة أولاً ، ثم بالإنذار بما قرأه ثانياً .
الثالث : أن حديث جابر ، وقوله : أول ما أنزل من القرآن " يا أيها المدثر " قول جابر ، وعائشة أخبرت عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بذلك . الرابع : أن حديث جابر الذي احتج به صريح في أنه قد تقدم نزول الملك عليه أولاً قبل نزول " يا أيها المدثر " . فإنه قال :
" فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، فرجعت إلى أهلي فقلت : زملوني دثروني ، فأنرل الله : " يا أيها المدثر " " وقد أخبر أن الملك الذي جاءه بحراء أنزل عليه " اقرأ باسم ربك الذي خلق " فدل حديث جابر على تأخر نزول " يا أيها المدثر " والحجة في روايته ، لا في رأيه ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:26 AM
فصل في ترتيب الدعوة ولها مراتب
المرتبة الأولى : النبوة . الثانية : إنذار عشيرته الأقربين . الثالثة : إنذار قومه . الرابعة : إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة .
الخامسة : إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:27 AM
فصل في ترتيب الدعوة النبوية
وأقام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفياً ، ثم نزل عليه " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " [ الحجر : 94 ] . فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة ، وجاهر قومه بالعداوة ، واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين ، حتى أذن الله لهم بالهجرتين .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:28 AM
فصل في أسمائه صلى الله عليه وسلم
وكلها نعوت ليست أعلاماً محضة لمجرد التعريف ، بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به توجب له المدح والكمال .
فمنها محمد ، وهو أشهرها ، وبه سمي في التوراة صريحاً كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام وهو كتاب فرد في معناه لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها ، بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه ، وصحيحها من حسنها ، ومعلولها وبينا ما في معلولها من العلل بياناً شافياً ، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد ، ثم مواطن الصلاة عليها ومحالها ، ثم الكلام في مقدار الواجب منها ، واختلاف أهل العلم فيه ، وترجيح الراجح ، وتزييف المزيف ، ومخبر الكتاب فوق وصفه .
والمقصود أن اسمه محمد في التوراة صريحاً بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب .
ومنها أحمد ، وهو الإسم الذى سماه به المسيح ، لسر ذكرناه في ذلك الكتاب .
ومنها المتوكل ، ومنها الماحي ، والحاشر ، والعاقب ، والمقفي ، ونبي التوبة ، ونبي الرحمة ، ونبى الملحمة ، والفاتح ، والأمين .
ويلحق بهذه الأسماء : الشاهد ، والمبشر ، والبشير ، والنذير ، والقاسم ، والضحوك ، والقتال ، وعبد الله ، والسراج المنير ، وسيد ولد آدم ، وصاحب لواء الحمد ، وصاحب المقام المحمود ، وغير ذلك من الأسماء ، لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح ، فله من كل وصف اسم ، لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به ، أو الغالب عليه ، ويشتق له منه اسم ، وبين الوصف المشترك ، فلا يكون له منه اسم يخصه . وقال جبير بن مطعم : سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء ، فقال : " أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، والعاقب الذي ليس بعده نبي " .
وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان :
أحدهما : خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل ، كمحمد ، وأحمد ، والعاقب ، والحاشر ، والمقفي ، ونبي الملحمة .
والثاني : ما يشاركه في معناه غيره من الرسل ، ولكن له منه كماله ، فهو مختص بكماله دون أصله ، كرسول الله ، ونبيه ، وعبده ، والشاهد ، والمبشر ، والنذير ، ونبي الرحمة ، ونبي التوبة .
وأما إن جعل له من كل وصف من أوصافه اسم ، تجاوزت أسماؤه المائتين ، كالصادق ، والمصدوق ، والرؤوف الرحيم ، إلى أمثال ذلك . وفي هذا قال من قال من الناس : إن لله ألف اسم ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم ، قاله أبو الخطاب بن دحية ومقصوده الأوصاف .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:28 AM
فصل في شرح معاني أسمائه صلى الله عليه وسلم
أما محمد ، فهو اسم مفعول ، من حمد ، فهو محمد ، إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها ، ولذلك كان أبلغ من محمود ، فإن
محموداً من الثلاثي المجرد ، ومحمد من المضاعف للمبالغة ، فهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره من البشر ، ولهذا - والله أعلم - سمي به في التوراة ، لكثرة الخصال المحمودة التي وصف بها هو ودينه وأمته في التوراة ، حتى تمنى موسى عليه الصلاة والسلام أن يكون منهم ، وقد أتينا على هذا المعنى بشواهده هناك ، وبينا غلط أبي القاسم السهيلي حيث جعل الأمر بالعكس ، وأن اسمه في التوراة أحمد .
وأما أحمد ، فهو اسم على زنة أفعل التفضيل ، مشتق أيضاً من الحمد . وقد اختلف الناس فيه : هل هو بمعنى فاعل أو مفعول ؟ فقالت طائفة : هو بمعنى الفاعل ، أي : حمده لله أكثر من حمد غيره له ، فمعناه : أحمد الحامدين لربه ، ورجحوا هذا القول بأن قياس أفعل التفضيل ، أن يصاغ من فعل الفاعل ، لا من الفعل الواقع على المفعول ، قالوا : ولهذا لا يقال : ما أضرب زيداً ، ولا زيد أضرب من عمرو باعتبار الضرب الواقع عليه ، ولا : ما أشربه للماء ، وآكله للخبز ، ونحوه ، قالوا : لأن أفعل التفضيل ، وفعل التعجب ، إنما يصاغان من الفعل اللازم ، ولهذا يقدر نقله من فعل و فعل المفتوح العين ومكسورها ، إلى فعل المضموم العين ، قالوا : ولهذا يعدى بالهمزة الى المفعول ، فهمزته للتعدية ، كقولك : ما أظرف زيداً ، وأكرم عمراً ، وأصلهما : من ظرف ، وكرم . قالوا : لأن المتعجب منه فاعل في الأصل ، فوجب أن يكون فعله غير متعد ، قالوا : وأما نحو : ما أضرب زيداً لعمرو ، فهو منقول من فعل المفتوح العين إلى فعل المضموم العين ، ثم عدي والحالة هذه بالهمزة قالوا : والدليل على ذلك مجيئهم باللام ، فيقولون : ما أضرب زيداً لعمرو ، ولو كان باقياً على تعديه ، لقيل : ما أضرب زيداً عمراً ، لأنه متعد إلى واحد بنفسه ، وإلى الآخر بهمزة التعدية ، فلما أن عدوه إلى المفعول بهمزة التعدية ، عدوه إلى الآخر باللام ، فهذا هو الذي أوجب لهم أن قالوا : إنهما لا يصاغان إلا من فعل الفاعل ، لا من الفعل الواقع على المفعول .
ونازعهم في ذلك آخرون ، وقالوا : يجوز صوغهما من فعل الفاعل ، ومن الواقع على المفعول ، وكثرة السماع به من أبين الأدلة على جوازه ، تقول العرب : ما أشغله بالشئ ، وهو من شغل ، فهو مشغول وكذلك يقولون : ما أولعه بكذا ، وهو من أولع بالشئ ، فهو مولع به ، مبني للمفعول ليس إلا ، وكذلك قولهم : ما أعجبه بكذا ، فهو من أعجب به ، ويقولون : ما أحبه إلي ، فهو تعجب من فعل المفعول ، وكونه محبوباً لك ، وكذا : ما أبغضه إلي ، وأمقته إلي .
وهاهنا مسألة مشهورة ذكرها سيبويه ، وهي أنك تقول : ما أبغضني له ، وما أحبني له ، وما أمقتني له : إذا كنت أنت المبغض الكاره ، والمحب الماقت ، فتكون متعجباً من فعل الفاعل ، وتقول : ما أبغضني إليه ، وما أمقتني إليه ، وما أحبني إليه : إذا كنت أنت البغيض الممقوت ، أو المحبوب ، فتكون متعجباً من الفعل الواقع على المفعول ، فما كان باللام فهو للفاعل ، وما كان بـ إلى فهو للمفعول . وأكثر النحاة لا يعللون بهذا . والذي يقال في علته والله أعلم : إن اللام تكون للفاعل في المعنى ، نحو قولك : لمن هذا ؟ فيقال : لزيد ، فيؤتى باللام .
وأما إلى فتكون للمفعول في المعنى ، فتقول : إلى من يصل هذا الكتاب ؟ فتقول : إلى عبد الله ، وسر ذلك أن اللام في الأصل للملك والإختصاص ، والإستحقاق إنما يكون للفاعل الذي يملك ويستحق ، و إلى لانتهاء الغاية ، والغاية منتهى ما يقتضيه الفعل ، فهي بالمفعول أليق ، لأنها تمام مقتضى الفعل ، ومن التعجب من فعل المفعول قول كعب بن زهير في النبي صلى الله عليه وسلم :
فله أخـــوف عنـدي إذ أكلمـــه وقيل إنك محبوس ومقتول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه ببطن عثر غيل دونة غيــل
فأخوف هاهنا ، من خيف ، فهو مخوف ، لا من خاف ، وكذلك قولهم : ما أجن زيداً ، من جن فهو مجنون ، هذا مذهب الكوفيين ومن وافقهم .
قال البصريون : كل هذا شاذ لا يعول عليه ، فلا نشوش به القواعد ، ويجب الإقتصار منه على المسموع ، قال الكوفيون : كثرة هذا في كلامهم نثراً ونظماً يمنع حمله على الشذوذ ، لأن الشاذ ما خالف استعمالهم ومطرد كلامهم ، وهذا غير مخالف لذلك ، قالوا : وأما تقديركم لزوم الفعل ونقله إلى فعل ، فتحكم لا دليل عليه ، وما تمسكتم به من التعدية بالهمزة إلى آخره ، فليس الأمر فيها كما ذهبتم إليه ، والهمزة في هذا البناء ليست للتعدية ، وإنما هي للدلالة على معنى التعجب والتفضيل فقط ، كألف فاعل ، وميم مفعول وواوه ، وتاء الإفتعال ، والمطاوعة ، ونحوها من الزوائد التي تلحق الفعل الثلاثي لبيان ما لحقه من الزيادة على مجرده ، فهذا هو السبب الجالب لهذه الهمزة ، لا تعدية الفعل .
قالوا : والذي يدل على هذا أن الفعل الذي يعدى بالهمزة يجوز أن يعدى بحرف الجر وبالتضعيف ، نحو : جلست به ، وأجلسته ، وقمت به ، وأقمته ، ونظائره ، وهنا لا يقوم مقام الهمزة غيرها ، فعلم أنها ليست للتعدية المجردة أيضاً ، فإنها تجامع باء التعدية ، نحو : أكرم به ، وأحسن به ، ولا يجمع على الفعل بين تعديتين .
وأيضاً فإنهم يقولون : ما أعطاه للدراهم ، وأكساه للثياب ، وهذا من أعطى وكساً المتعدي ، ولا يصح تقدير نقله إلى عطو : إذا تناول ، ثم أدخلت همزة التعدية ، لفساد المعنى ، فإن التعجب إنما وقع من إعطائه ، لا من عطوه وهو تناوله ، والهمزة التي فيه همزة التعجب والتفضيل ، وحذفت همزته التي في فعله ، فلا يصح أن يقال : هي للتعدية .
قالوا : وأما قولكم : إنه عدي باللام في نحو : ما أضربه لزيد . . . إلى آخره ، فالإتيان باللام هاهنا ليس لما ذكرتم من لزوم الفعل ، وإنما أتي بها تقوية له لما ضعف بمنعه من التصرف ، وألزم طريقة واحدة خرج بها عن سنن الأفعال ، فضعف عن اقتضائه وعمله ، فقوي باللام كما يقوى بها عند تقدم معموله عليه ، وعند فرعيته ، وهذا المذهب هو الراجح كما تراه .
فلنرجع إلى المقصود فنقول : تقدير أحمد على قول الأولين : أحمد الناس لربه ، وعلى قول هؤلاء : أحق الناس وأولاهم بأن يحمد ، فيكون كمحمد في المعنى ، إلا أن الفرق بينهما أن محمداً هو كثير الخصال التي يحمد عليها ، وأحمد هو الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره ، فمحمد في الكثرة والكمية ، وأحمد في الصفة والكيفية ، فيستحق من الحمد أكثر مما يستحق غيره ، وأفضل مما يستحق غيره ، فيحمد أكثر حمد ، وأفضل حمد حمده البشر . فالإسمان واقعان على المفعول ، وهذا أبلغ في مدحه ، وأكمل معنى . ولو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد ، أي : كثير الحمد ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق حمداً لربه ، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه ، لكان الأولى به الحماد ، كما سميت بذلك أمته .
وأيضاً : فإن هذين الإسمين ، إنما اشتقا من أخلاقه ، وخصائصه المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأحمد وهو الذي يحمده أهل السماء وأهل الأرض وأهل الدنيا وأهل الآخرة ، لكثرة خصائله المحمودة التي تفوق عد العادين وإحصاء المحصين ، وقد أشبعنا هذا المعنى في كتاب الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكرنا هاهنا كلمات يسيرة اقتضتها حال المسافر ، وتشتت قلبه وتفرق همته ، وبالله المستعان وعليه التكلان .
وأما اسمه المتوكل ، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو قال : " قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم : محمد رسول الله ، عبدي ورسولي ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، بل يعفو ويصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله " وهو صلى الله عليه وسلم أحق الناس بهذا الإسم ، لأنه توكل على الله في إقامة الدين توكلاً لم يشرك فيه غيره .
وأما الماحي ، والحاشر ، والمقفي ، والعاقب ، فقد فسرت في حديث جبير بن مطعم ، فالماحي : هو الذي محا الله به الكفر ، ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه بعث وأهل الأرض كلهم كفار ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، وهم ما بين عباد أوثان ، ويهود مغضوب عليهم ، ونصارى ضالين ، وصابئة دهرية ، لا يعرفون رباً ولا معاداً ، وبين عباد الكواكب ، وعباد النار ، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ، ولا يقرون بها ، فمحا الله سبحانه برسوله ذلك حتى ظهر دين الله على كل دين ، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار ، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار .
وأما الحاشر ، فالحشر هو الضم والجمع ، فهو الذي يحشر الناس على قدمه ، فكأنه بعث ليحشر الناس .
والعاقب : الذي جاء عقب الأنبياء ، فليس بعده نبي ، فإن العاقبة هو الآخر ، فهو بمنزلة الخاتم ، ولهذا سمي العاقب على الإطلاق ، أي : عقب الأنبياء جاء بعقبهم .
وأما المقفي ، فكذلك ، وهو الذي قفى على آثار من تقدمه ، فقفى الله به على آثار من سبقه من الرسل ، وهذه اللفظة مشتقة من القفو ، يقال : قفاه يقفوه : إذا تأخر عنه ، ومنه قافية الرأس ، وقافية البيت ، فالمقفي : الذي قفى من قبله من الرسل ، فكان خاتمهم وآخرهم .
وأما نبي التوبة ، فهو الذي فتح الله به باب التوبة على أهل الأرض ، فتاب الله عليهم توبة لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله . وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس استغفاراً وتوبة ، حتى كانوا يعدون له في المجلس الواحد مائة مرة : رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور .
وكان يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى الله ربكم ، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة " وكذلك توبة أمته أكمل من توبة سائر الأمم ، وأسرع قبولاً ، وأسهل تناولاً ، وكانت توبة من قبلهم من أصعب الأشياء ، حتى كان من توبة بني إسرائيل من عبادة العجل قتل أنفسهم، وأما هذه الأمة ، فلكرامتها على الله تعالى جعل توبتها الندم والإقلاع .
وأما نبي الملحمة ، فهو الذي بعث بجهاد أعداء الله ، فلم يجاهد نبي وأمته قط ما جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، والملاحم الكبار التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله ، فإن أمته يقتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار، وقد أوقعوا بهم من الملاحم ما لم تفعله أمة سواهم .
وأما نبي الرحمة ، فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين ، فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم ، أما المؤمنون ، فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة ، وأما الكفار ، فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله ، وتحت حبله وعهده ، وأما من قتله منهم هو وأمته ، فإنهم عجلوا به إلى النار ، وأراحوه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدة العذاب في الآخرة .
وأما الفاتح ، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجاً ، وفتح به الأعين العمي ، والآذان الصم ، والقلوب الغلف ، وفتح الله به أمصار الكفار ، وفتح به أبواب الجنة ، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح ، ففتح به الدنيا والآخرة ، والقلوب والأسماع والأبصار والأمصار .
وأما الأمين ، فهو أحق العالمين بهذا الإسم ، فهو أمين الله على وحيه ودينه ، وهو أمين من في السماء ، وأمين من في الأرض، ولهذا كانوا يسمونه قبل النبوة : الأمين .
وأما الضحوك القتال ، فاسمان مزدوجان ، لا يفرد أحدهما عن الآخر ، فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين ، غير عابس ، ولا مقطب ، ولا غضوب ، ولا فظ ، قتال لأعداء الله ، لا تأخذه فيهم لومة لائم . وأما البشير ، فهو المبشر لمن أطاعه بالثواب ، والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب ، وقد سماه الله عبده في مواضع من كتابه ، منها قوله : " وأنه لما قام عبد الله يدعوه " [ الجن : 20 ] وقوله : " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده " [ الفرقان : 1 ] وقوله : " فأوحى إلى عبده ما أوحى " [ النجم : 10 ] وقوله : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا " [ البقرة : 23 ] وثبت عنه في الصحيح أنه قال : " أنا سيد ولد آدم ( يوم القيامة ) ولا فخر " وسماه الله سراجاً منيراً ، وسمى الشمس سراجاً وهاجاً .
والمنير : هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج ، فإن فيه نوع إحراق وتوهج .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:29 AM
فصل في ذكرى الهجرتين الأولى والثانية
لما كثر المسلمون ، وخاف منهم الكفار ، اشتد أذاهم له صلى الله عليه وسلم ، وفتنتهم إياهم ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة وقال : إن بها ملكاً لا يظلم الناس عنده ، فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة ، منهم عثمان بن عفان ، وهو أول من خرج ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار ، فبلغهم أن قريشاً أسلمت ، وكان هذا الخبر كذباً ، فرجعوا إلى مكة ، فلما بلغهم أن الأمر أشد مما كان ، رجع منهم من رجع ، ودخل جماعة ، فلقوا من قريش أذى شديداً ، وكان ممن دخل عبد الله بن مسعود .
ثم أذن لهم في الهجرة ثانياً إلى الحبشة ، فهاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً ، إن كان فيهم عمار ، فإنه يشك فيه ، ومن النساء ثمان عشرة امرأة ، فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال ، فبلغ ذلك قريشاً ، فأرسلوا عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة في جماعة ، ليكيدوهم عند النجاشي ، فرد الله كيدهم في نحورهم ، فاشتد أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحصروه وأهل بيته في الشعب شعب أبي طالب ثلاث سنين ، وقيل : سنتين ، وخرج من الحصر وله تسع وأربعون سنة ، وقيل : ثمان وأربعون سنة ، وبعد ذلك بأشهر مات عمه أبو طالب وله سبع وثمانون سنة ، وفي الشعب ولد عبد الله بن عباس ، فنال الكفار منه أذى شديداً ، ثم ماتت خديجة بعد ذلك بيسير ، فاشتد أذى الكفار له ، فخرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى الله تعالى ، وأقام به أياماً فلم يجيبوه ، وآذوه ، وأخرجوه ، وقاموا له سماطين ، فرجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه ، فانصرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى مكة ، وفي طريقه لقي عداساً النصراني ، فآمن به وصدقه ، وفي طريقه أيضاً بنخلة صرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين ، فاستمعوا القرآن وأسلموا ، وفي طريقه تلك أرسل الله إليه ملك الجبال يأمره بطاعته ، وأن يطبق على قومه أخشبي مكة ، وهما جبلاها إن أراد ، فقال : " لا بل أستأني بهم ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً " . وفي طريقه دعا بذلك الدعاء المشهور : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي . . . " الحديث ، ثم دخل مكة في جوار المطعم بن عدي ، ثم أسري بروحه وجسده إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى فوق السماوات بجسده وروحه إلى الله عز وجل ، فخاطبه ، وفرض عليه الصلوات ، وكان ذلك مرة واحدة ، هذا أصح الأقوال . وقيل : كان ذلك مناماً ، وقيل : بل يقال . أسري به ، ولا يقال : يقظة ولا مناماً . وقيل : كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة ، وإلى السماء مناماً . وقيل : كان الإسراء مرتين : مرة يقظة ، ومرة مناماً . وقيل : بل أسري به ثلاث مرات ، وكان ذلك بعد المبعث بالإتفاق .
وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه ، فهذا مما عد من أغلاط شريك الثمانية ، وسوء حفظه ، لحديث الإسراء . وقيل : إن هذا كان إسراء المنام قبل الوحي . وأما إسراء اليقظة ، فبعد النبوة ، وقيل : بل الوحي هاهنا مقيد ، وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة ، والمراد : قبل أن يوحى إليه في شأن الإسرار ، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام ، والله أعلم .
فأقام صلى الله عليه وسلم بمكة ما أقام ، يدعو القبائل إلى الله تعالى ، ويعرض نفسه عليهم في كل موسم أن يؤووه ، حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة ، فلم تستجيب له قبيلة ، وادخر الله ذلك كرامة للأنصار ، فلما أراد الله تعالى إظهار دينه ، وإنجاز وعده ، ونصر نبيه ، وإعلاء كلمته ، والإنتقام من أعدائه ، ساقه إلى الأنصار ، لما أراد بهم من الكرامة ، فانتهى إلى نفر منهم ستة ، وقيل : ثمانية ، وهم يحلقون رؤوسهم عند عقبة منى في الموسم ، فجلس إليهم ، ودعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم القرآن ، فاستجابوا لله ورسوله ، ورجعوا إلى المدينة ، فدعوا قومهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زريق ، ثم قدم مكة في العام القابل اثنا عشر رجلاً من الأنصار ، منهم خمسة من الستة الأولين ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء عند العقبة ، ثم انصرفوا إلى
المدينة ، فقدم عليه في العام القابل منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ، وهم أهل العقبة الأخيرة ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم ، فترحل هو وأصحابه إليهم ، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيباً ، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى المدينة ، فخرجوا أرسالاً متسللين ، أولهم فيما قيل : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وقيل : مصعب بن عمير فقدموا على الأنصار في دورهم ، فآووهم ، ونصروهم ، وفشا الإسلام بالمدينة ، ثم أذن الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فخرج من مكة يوم الإثنين في شهر ربيع الأول وقيل : في صفر ، وله إذ ذاك ثلاث وخمسون سنة ، ومعه أبو بكر الصديق ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي ، فدخل غار ثور هو وأبو بكر ، فأقاما فيه ثلاثاً ، ثم أخذا على طريق الساحل ، فلما انتهوا إلى المدينة ، وذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، وقيل غير ذلك ، نزل بقباء في أعلى المدينة على بني عمر بن عوف . وقيل : نزل على كلثوم بن الهدم . وقيل: على سعد بن خيثمة ، والأول أشهر ، فأقام عندهم أربعة عشر يوماً ، وأسس مسجد قباء ، ثم خرج يوم الجمعة ، فأدركته الجمعة في بني سالم ، فجمع بهم بمن كان معه من المسلمين ، وهم مائة ، ثم ركب ناقته وسار ، وجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم ، ويأخذون بخطام الناقة ، فيقول : " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فبركت عند مسجده اليوم ، وكان مربداً لسهل وسهيل غلامين من بني النجار ، فنزل عنها على أبي أيوب الأنصاري ، ثم بنى مسجده موضع المربد بيده هو وأصحابه بالجريد واللبن ، ثم بنى مسكنه ومساكن أزواجه إلى جنبه ، وأقربها إليه مسكن عائشة ، ثم تحول بعد سبعة أشهر من دار أبي أيوب إليها ، وبلغ أصحابه بالحبشة هجرته إلى المدينة ، فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ، فحبس منهم بمكة سبعة ، وانتهى بقيتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ثم هاجر بقيتهم في السفينة عام خيبر سنة سبع .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:30 AM
فصل في أولاده صلى الله عليه وسلم
أولهم القاسم ، وبه كان يكنى ، مات طفلاً ، وقيل : عاش إلى أن ركب الدابة ، وسار على النجيبة .
ثم زينب ، وقيل : هي أسن من القاسم ، ثم رقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة ، وقد قيل في كل واحدة منهن : إنها أسن من أختيها ، وقد ذكر عن ابن عباس أن رقية أسن الثلاث ، وأم كلثوم أصغرهن . ثم ولد له عبد الله ، وهل ولد بعد النبوة ، أو قبلها ؟ فيه اختلاف ، وصحح بعضهم أنه ولد بعد النبوة ، وهل هو الطيب والطاهر ، أو هما غيره ؟ على قولين . والصحيح : أنهما لقبان له ، والله أعلم . وهؤلاء كلهم من خديجة ، ولم يولد له من زوجة غيرها .
ثم ولد له إبراهيم بالمدينة من سريته مارية القبطية سنة ثمان من الهجرة ، وبشره به أبو رافع مولاه ، فوهب له عبداً ، ومات طفلاً قبل الفطام ، واختلف هل صلى عليه ، أم لا ؟ على قولين . وكل أولاده توفي قبله إلا فاطمة ، فإنها تأخرت بعده بستة أشهر فرفع الله لها بصبرها واحتسابها من الدرجات ما فضلت به على نساء العالمين . وفاطمة أفضل بناته على الإطلاق ، وقيل : إنها أفضل نساء العالمين ، وقيل : بل أمها خديجة ، وقيل : بل عائشة ، وقيل : بل بالوقف في ذلك .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:30 AM
فصل في أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم
فمنهم أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، والعباس ، وأبو طالب واسمه عبد مناف ، وأبو لهب واسمه عبد العزى ، والزبير ، وعبد الكعبة ، والمقوم ، وضرار ، وقثم ، والمغيرة ولقبه حجل ، والغيداق واسمه مصعب ، وقيل : نوفل ، وزاد بعضهم : العوام ، ولم يسلم منهم إلا حمزة والعباس .
وأما عماته ، فصفية أم الزبير بن العوام ، وعاتكة ، وبرة ، وأروى ، وأميمة ، وأم حكيم البيضاء . أسلم منهن صفية ، واختلف في إسلام عاتكة وأروى ، وصحح بعضهم إسلام أروى .
وأسن أعمامه : الحارث ، وأصغرهم سناً : العباس ، وعقب منه حتى ملأ أولاده الأرض . وقيل : أحصوا في زمن المأمون ، فبلغوا ستمائة ألف ، وفي ذلك بعد لا يخفى ، وكذلك أعقب أبو طالب وأكثر ، والحارث ، وأبو لهب ، وجعل بعضهم الحارث والمقوم واحداً ، وبعضهم الغيداق وحجلاً واحداً .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:31 AM
فصل في أزواجه صلى الله عليه وسلم
أولاهن خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية ، تزوجها قبل النبوة ، ولها أربعون سنة ، ولم يتزوج عليها حتى ماتت ، وأولاده كلهم منها إلا إبراهيم ، وهى التي آزرته على النبوة ، وجاهدت معه ، وواسته بنفسها ومالها ، وأرسل الله إليها السلام مع جبريل ، وهذه خاصة لا تعرف لامرأة سواها ، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين .
ثم تزوج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة القرشية ، وهي التي وهبت يومها لعائشة .
ثم تزوج بعدها أم عبد الله عائشة الصديقة بنت الصديق ، المبرأة من فوق سبع سماوات ، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وعرضها عليه الملك قبل نكاحها في سرقة من حرير وقال : هذه زوجتك تزوج بها في شوال وعمرها ست سنين ، وبنى بها في شوال في السنة الأولى من الهجرة وعمرها تسع سنين ، ولم يتزوج بكراً غيرها ، وما نزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها ، وكانت أحب الخلق إليه ، ونزل عذرها من السماء ، واتفقت الأمة على كفر قاذفها ، وهي أفقه نسائه وأعلمهن ، بل أفقه نساء الأمة وأعلمهن على الإطلاق ، وكان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها ويستفتونها . وقيل : إنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطاً ، ولم يثبت .
ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذكر أبو داود أنه طلقها ، ثم راجعها .
ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث القيسية ، من بني هلال بن عامر ، وتوفيت عنده بعد ضمه لها بشهرين .
ثم تزوج أم سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية ، واسم أبي أمية حذيفة بن المغيرة ، وهي آخر نسائه موتاً . وقيل : آخرهن موتاً صفية . واختلف فيمن ولي تزويجها منه ؟ فقال ابن سعد في الطبقات : ولي تزويجها منه سلمة بن أبي سلمة دون غيره من أهل بيتها ، ولما زوج النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة أمامة بنت حمزة التي اختصم فيها علي وجعفر وزيد قال : " هل جزيت سلمة " يقول ذلك ، لأن سلمة هو الذي تولى تزويجه دون غيره من أهلها ، ذكر هذا في ترجمة سلمة ، ثم ذكر في ترجمة أم سلمة عن الواقدي: حدثني مجمع بن يعقوب ، عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أم سلمة إلى ابنها عمر بن أبي سلمة ، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ غلام صغير .
وقال الإمام أحمد في المسند : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن أبي سلمة ، حدثنا ثابت قال : حدثني ابن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أم سلمة أنها لما انقضت عدتها من أبي سلمة ، بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم إني امرأة غيرى ، وإني مصبية ، وليس أحد من أوليائي حاضراً . . . الحديث ، وفيه فقالت لابنها عمر : قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوجه ، وفي هذا نظر ، فإن عمر هذا كان سنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ، ذكره ابن سعد ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع ، فيكون له من العمر حينئذ ثلاث سنين ، ومثل هذا لا يزوج قال ذلك ابن سعد وغيره ، ولما قيل ذلك للإمام إحمد ، قال : من يقول : إن عمر كان صغيراً ؟! قال : أبو الفرج بن الجوزي : ولعل أحمد قال هذا قبل أن يقف على مقدار سنه ، وقد ذكر مقدار سنه جماعة من المؤرخين ، ابن سعد وغيره . وقد قيل : إن الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمها عمر بن الخطاب ، والحديث " قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم " ونسب عمر ، و نسب أم سلمة يلتقيان في كعب ، فإنه عمر بن الخطاب بن نفيل، بن عبد العزى ، بن رياح ، بن عبد الله بن قرط ، بن رزاح بن عدي بن كعب ، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ، فوافق اسم ابنها عمر اسمه ، فقالت : قم يا عمر ، فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظن بعض الرواة أنه ابنها ، فرواه بالمعنى وقال : فقالت لابنها ، وذهل عن تعذر ذلك عليه لصغر سنه ، ونظير هذا وهم بعض الفقهاء في هذا الحديث ، وروايتهم له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قم يا غلام فزوج أمك " قال أبو الفرج ابن الجوزي : وما عرفنا هذا في هذا الحديث ، قال : وإن ثبت ، فيحتمل أن يكون قاله على وجه المداعبة للصغير ، إذ كان له من العمر يومئذ ثلاث سنين ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها في سنة أربع ، ومات ولعمر تسع سنين ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتقر نكاحه إلى ولي . وقال ابن عقيل : ظاهر كلام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشترط في نكاحه الولي ، وأن ذلك من خصائصه .
ثم تزوج زينب بنت جحش من بني أسد بن خزيمة وهي ابنة عمته أميمة ، وفيها نزل قوله تعالى : " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها " [ الأحزاب : 37 ] وبذلك كانت تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات .
ومن خواصها أن الله سبحانه وتعالى كان هو وليها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته ، وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب ، وكانت أولاً عند زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه ، فلما طلقها زيد ، زوجه الله تعالى إياها لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبنوه .
وتزوج صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية ، وكانت من سبايا بني المصطلق ، فجاءته تستعين به على كتابتها ، فأدى عنها كتابتها وتزوجها .
ثم تزوج أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب القرشية الأموية . وقيل : اسمها هند ، تزوجها وهي ببلاد الحبشة مهاجرة ، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار ، وسيقت إليه من هناك ، وماتت في أيام أخيها معاوية . هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السير والتواريخ ، وهو عندهم بمنزلة نكاحه لخديجة بمكة ، ولحفصة بالمدينة ، ولصفية بعد خيبر .
وأما حديث عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل ، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " أسألك ثلاثاً ، فأعطاه إياهن ، منها : وعندي أجمل العرب أم حبيبة أزوجك إياها " .
فهذا الحديث غلط لا خفاء به ، قال أبو محمد بن حزم : وهو موضوع بلا شك ، كذبه عكرمة بن عمار ، وقال ابن الجوزي في هذا الحديث : هو وهم من بعض الرواة ، لا شك فيه ولا تردد ، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار ، لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبد الله بن جحش ، وولدت له ، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة ، ثم تنصر ، وثبتت أم حبيبة على إسلامها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه ، فزوجه إياها ، وأصدقها عنه
صداقاً ، وذلك في سنة سبع من الهجرة ، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة فدخل عليها ، فثنت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه ، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان .
وأيضاً ففي هذا الحديث أنه قال له : وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ، قال : نعم . ولا يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان البتة .
وقد أكثر الناس الكلام في هذا الحديث ، وتعددت طرقهم في وجهه ، فمنهم من قال : الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح لهذا الحديث، قال : ولا يرد هذا بنقل المؤرخين ، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان .
وقالت طائفة : بل سأله أن يجدد له العقد تطييباً لقلبه ، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره ، وهذا باطل ، لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يليق بعقل أبي سفيان ، ولم يكن من ذلك شئ .
وقالت طائفة منهم البيهقي والمنذري : يحتمل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة ، وهو كافر حين سمع نعي زوج أم حبيبة بالحبشة ، فلما ورد على هؤلاء ما لا حيلة لهم في دفعه من سؤاله أن يؤمره حتى يقاتل
الكفار ، وأن يتخذ ابنه كاتباً ، قالوا : لعل هاتين المسألتين وقعتا منه بعد الفتح ، فجمع الراوي ذلك كله في حديث واحد ، والتعسف والتكلف الشديد الذي في هذا الكلام يغني عن رده .
وقالت طائفة : للحديث محمل آخر صحيح ، وهو أن يكون المعنى : أرضى أن تكون زوجتك الآن ، فإني قبل لم أكن راضياً ، والآن فإني قد رضيت ، فأسألك أن تكون زوجتك ، وهذا وأمثاله لو لم يكن قد سودت به الأوراق ، وصنفت فيه الكتب ، وحمله الناس ، لكان الأولى بنا الرغبة عنه، لضيق الزمان عن كتابته وسماعه والإشتغال به ، فإنه من ربد الصدور لا من زبدها .
وقالت طائفة : لما سمع أبو سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه لما آلى منهن ، أقبل إلى المدينة ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، ظناً منه أنه قد طلقها فيمن طلق ، وهذا من جنس ما قبله .
وقالت طائفة : بل الحديث صحيح ، ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة ، وإنما سأل أن يزوجه أختها
رملة ، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه ، فقد خفي ذلك على ابنته ، وهي أفقه منه وأعلم حين قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل لك في أختي بنت أبي سفيان ؟ فقال : أفعل ماذا ؟ قالت : تنكحها . قال : أوتحبين ذلك ؟ قالت : لست لك بمخلية ، وأحب من شركني في الخير أختي ، قال : فإنها لا تحل لي " . فهذه هي التي عرضها أبو سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم ، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة . وقيل : بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة ، وهذا الجواب حسن لو لا قوله في الحديث : فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأل ، فيقال حينئذ : هذه اللفظة وهم من الراوي ، فإنه أعطاه بعض ما سأل ، فقال الراوي : أعطاه ما سأل ، أو أطلقها إتكالاً على فهم المخاطب أنه أعطاه ما يجوز إعطاؤه مما سأل ، والله أعلم . وتزوج صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير من ولد هارون بن عمران أخي موسى ، فهي ابنة نبي ، وزوجة نبي ، وكانت من أجمل نساء العالمين ، وكانت قد صارت له من الصفي أمة فأعتقها ، وجعل عتقها صداقها ، فصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة ، أن يعتق الرجل أمته ، ويجعل عتقها صداقها ، فتصير زوجته بذلك ، فإذا قال : أعتقت أمتي ، وجعلت عتقها
صداقها ، أو قال : جعلت عتق أمتي صداقها ، صح العتق والنكاح ، وصارت زوجته من غير احتياج إلى تجديد عقد ولا ولي ، وهو ظاهر مذهب أحمد وكثير من أهل الحديث .
وقالت طائفة : هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو مما خصه الله به في النكاح دون الأمة ، وهذا قول الأئمة الثلاثة ومن وافقهم ، والصحيح القول الأول ، لأن الأصل عدم الإختصاص حتى يقوم عليه دليل ، والله سبحانه لما خصه بنكاح الموهوبة له ، قال فيها :
" خالصة لك من دون المؤمنين " [ الأحزاب : 50 ] ولم يقل هذا في المعتقة ، ولا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقطع تأسي الأمة به في ذلك ، فالله سبحانه أباح له نكاح امرأة من تبناه ، لئلا يكون على الأمة حرج في نكاح أزواج من تبنوه ، فدل على أنه إذا نكح نكاحاً ، فلأمته التأسي به فيه ، ما لم يأت عن الله ورسوله نص بالإختصاص وقطع التأسي ، وهذا ظاهر .
ولتقرير هذه المسألة وبسط الحجاج فيها - وتقرير أن جواز مثل هذا هو مقتضى الأصول والقياس - موضع آخر ، وإنما نبهنا عليه تنبيهاً .
ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وهي آخر من تزوج بها ، تزوجها بمكة في عمرة القضاء بعد أن حل منها على الصحيح . وقيل : قبل إحلاله ، هذا قول ابن عباس ، ووهم رضي الله عنه ، فإن السفير بينهما بالنكاح أعلم الخلق بالقصة ، وهو أبو رافع، وقد أخبر أنه تزوجها حلالاً ، وقال : كنت أنا السفير بينهما ، وابن عباس إذ ذاك له نحو العشر سنين أو فوقها ، وكان غائباً عن القصة لم يحضرها ، وأبو رافع رجل بالغ ، وعلى يده دارت القصة ، وهو أعلم بها ، ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم ، وماتت في أيام معاوية ، وقبرها بـ سرف .
قيل : ومن أزواجه ريحانة بنت زيد النضرية . وقيل : القرظية ، سبيت يوم بني قريظة ، فكانت صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقها وتزوجها ، ثم طلقها تطليقة ، ثم راجعها .
وقالت طائفة : بل كانت أمته ، وكان يطؤها بملك اليمين حتى توفي عنها ، فهي معدودة في السراري ، لا في الزوجات ، والقول الأول اختيار الواقدي ، ووافقه عليه شرف الدين الدمياطي . وقال : هو الأثبت عند أهل العلم . وفيما قاله نظر ، فإن المعروف أنها من سراريه ، وإمائه ، والله أعلم .
فهؤلاء نساؤه المعروفات اللاتي دخل بهن ، وأما من خطبها ولم يتزوجها ، ومن وهبت نفسها له ، ولم يتزوجها ، فنحو أربع أو خمس ، وقال بعضهم : هن ثلاثون امرأة ، وأهل العلم بسيرته وأحواله صلى الله عليه وسلم لا يعرفون هذا ، بل ينكرونه ، والمعروف عندهم أنه بعث إلى الجونية ليتزوجها ، فدخل عليها ليخطبها ، فاستعاذت منه ، فأعاذها ولم يتزوجها ، وكذلك الكلبية ، وكذلك التي رأى بكشحها بياضاً ، فلم يدخل بها ، والتي وهبت نفسها له فزوجها غيره على سور من القرآن ، هذا هو المحفوظ ، والله أعلم .
ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع ، وكان يقسم منهن لثمان : عائشة ، وحفصة ، وزينب بنت جحش ، وأم سلمة ، وصفية ، وأم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وجويرية .
وأول نسائه لحوقاً به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم زينت بنت جحش سنة عشرين ، وآخرهن موتاً أم سلمة ، سنة اثنتين وستين في خلافة يزيد ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:32 AM
فصل في سراريه صلى الله عليه وسلم
قال أبو عبيدة : كان له أربع : مارية وهي أم ولده إبراهيم ، وريحانة وجارية أخرى جميلة أصابها في بعض السبي ، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:32 AM
فصل في مواليه صلى الله عليه وسلم
فمنهم زيد بن حارثة بن شراحيل ، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن ، فولدت له أسامة .
ومنهم أسلم ، وأبو رافع ، وثوبان ، وأبو كبشة سليم ، وشقران واسمه صالح ، ورباح نوبي ، ويسار نوبي أيضاً ، وهو قتيل العرنيين ، ومدعم ، و كركرة ، نوبي أيضاً ، وكان على ثقله صلى الله عليه وسلم ، وكان يمسك راحلته عند القتال يوم خيبر . وفي صحيح البخاري أنه الذي غل الشملة ذلك اليوم فقتل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنها لتلتهب عليه ناراً " وفي الموطأ أن الذي غلها مدعم ، وكلاهما قتل بخيبر ، والله أعلم .
ومنهم أنجشة الحادي ، وسفينة بن فروخ ، واسمه مهران ، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : سفينة لأنهم كانوا يحملونه في السفر متاعهم ، فقال : أنت سفينة . قال أبو حاتم : أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال غيره : أعتقته أم سلمة . ومنهم أنسة ، ويكنى أبا مشرح ، وأفلح ، وعبيد ، وطهمان ، وهو كيسان ، وذكوان ، ومهران ، ومروان ، وقيل : هذا خلاف في اسم طهمان ، والله أعلم .
ومنهم حنين ، وسندر ، وفضالة يماني ، ومابور خصي ، وواقد ، وأبو واقد ، وقسام ، وأبو عسيب ، وأبو مويهبة .
ومن النساء سلمى أم رافع ، وميمونة بنت سعد ، وخضرة ، ورضوى ، ورزينة ، وأم ضميرة ، وميمونة بنت أبي عسيب ، ومارية ، وريحانة .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:33 AM
فصل في خدامه صلى الله عليه وسلم
فمنهم أنس بن مالك ، وكان على حوائجه ، وعبد الله بن مسعود صاحب نعله ، وسواكه ، وعقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته ، يقود به في الأسفار ، وأسلع بن شريك ، وكان صاحب راحلته ، وبلال بن رباح المؤذن ، وسعد ، موليا أبي بكر الصديق ، وأبو ذر الغفاري ، وأيمن بن عبيد ، وأمه أم أيمن موليا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أيمن على مطهرته وحاجته .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:33 AM
فصل في كتابه صلى الله عليه وسلم
أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والزبير ، وعابر بن فهيرة ، وعمرو بن العاص ، وأبي بن كعب ، وعبدالله بن الأرقم ، وثابت بن قيس بن شماس ، وحنظلة بن الربيع الأسيدي ، والمغيرة بن شعبة ، وعبدالله بن رواحة ، وخالد بن الوليد ، وخالد بن سعيد بن العاص . وقيل : إنه أول من كتب له ومعاوية بن أبي سفيان ، وزيد بن ثابت وكان ألزمهم لهذا الشأن وأخصهم به .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:34 AM
فصل في كتبه صلى الله عليه وسلم التي كتبها إلى أهل الإسلام في الشرائع
فمنها كتابه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر ، وكتبه أبو بكر لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين وعليه عمل الجمهور .
ومنها كتابه إلى أهل اليمن ، وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ، وكذلك رواه الحاكم في
مستدركه ، والنسائي ، وغيرهما مسنداً متصلاً ، ورواه أبو داود وغيره مرسلاً ، وهو كتاب عظيم ، فيه أنواع كثيرة من الفقه ، في الزكاة ، والديات ، والأحكام ، وذكر الكبائر ، والطلاق ، والعتاق ، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد ، والإحتباء فيه ، ومس المصحف ، وغير ذلك . قال الإمام أحمد : لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه ، واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات . ومنها كتابه إلى بني زهير .
ومنها كتابه الذي كان عند عمر بن الخطاب في نصب الزكاة ، وغيرها .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:34 AM
فصل في كتبه ورسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك
لما رجع من الحديبية ، كتب إلى ملوك الأرض ، وأرسل إليهم رسله ، فكتب إلى ملك الروم ، فقيل له : إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا إذا كان مختوماً ، فاتخذ خاتماً من فضة ، ونقش عليه ثلاثة أسطر : محمد سطر ، ورسول سطر ، والله سطر ، وختم به الكتب إلى الملوك ، وبعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع .
فأولهم عمرو بن أمية الضمري ، بعثه إلى النجاشي ، واسمه أصحمة بن أبجر ، وتفسير " أصحمة " بالعربية : عطية ، فعظم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم ، وشهد شهادة الحق ، وكان من أعلم الناس بالإنجيل ، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات بالمدينة وهو بالحبشة ، هكذا قال جماعة ، منهم الواقدي وغيره ، وليس كما قال هؤلاء ، فإن أصحمة النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي كتب إليه ، هذا الثاني لا يعرف إسلامه ، بخلاف الأول ، فإنه مات مسلماً . وقد روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أنس قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ، وإلى قيصر ، وإلى النجاشي ، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى ، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو محمد بن حزم : إن هذا النجاشي الذي بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ، لم يسلم ، والأول هو اختيار أبا سعد وغيره ، والظاهر قول ابن حزم .
وبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم ، واسمه هرقل ، وهم بالإسلام وكاد ، ولم يفعل ، وقيل : بل أسلم ، وليس بشئ .
وقد روى أبو حاتم ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ينطلق بصحيفتي هذه إلى قيصر وله الجنة ؟ فقال رجل من القوم : وإن لم يقبل ؟ قال : وإن لم يقبل فوافق قيصر وهو يأتي بيت المقدس قد جعل عليه بساط لا يمشي عليه غيره ، فرمى بالكتاب على البساط ، وتنحى ، فلما انتهى قيصر إلى الكتاب ، أخذه ، فنادى قيصر : من صاحب الكتاب ؟ فهو آمن ، فجاء الرجل ، فقال : أنا . قال : فإذا قدمت فأتني ، فلما قدم ، أتاه ، فأمر قيصر بأبواب قصره فغلقت ، ثم أمر منادياً ينادي : ألا إن قيصر قد اتبع محمداً ، وترك النصرانية ، فأقبل جنده وقد تسلحوا حتى أطافوا به ، فقال لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد ترى أني خائف على مملكتي ، ثم أمر مناديه فنادى : ألا إن قيصر قد رضي عنكم ، وإنما اختبركم لينظر كيف صبركم على دينكم ، فارجعوا فانصرفوا ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني مسلم ، وبعث إليه بدنانير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على النصرانية " وقسم الدنانير .
وبعث عبد الله بن حذافة السهمي الى كسرى ، واسمه أبرويز بن هرمز ابن أنوشروان ، فمزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم مزق ملكه " فمزق الله ملكه ، وملك قومه .
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ، واسمه جريج بن ميناء ملك الإسكندرية عظيم القبط ، فقال خيراً ، وقارب الأمر ولم
يسلم ، وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم مارية ، وأختيها سيرين وقيسرى ، فتسرى مارية ، ووهب سيرين لحسان بن ثابت ، وأهدى له جارية أخرى ، وألف مثقال ذهباً ، وعشرين ثوباً من قباطي مصر وبغلة شهباء وهي دلدل ، وحماراً أشهب ، وهو عفير ، وغلاماً خصياً يقال له : مابور . وقيل : هو ابن عم مارية ، وفرساً وهو اللزاز ، وقدحاً من زجاج ، وعسلاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ضن الخبيث بملكه " .
وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء ، قاله ابن إسحاق والواقدي . قيل : إنما توجه لجبلة بن الأيهم . وقيل : توجه لهما معاً . وقيل : توجه لهرقل مع دحية بن خليفة ، والله أعلم . وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة ، فأكرمه . وقيل : بعثه إلى هوذة وإلى ثمامة بن أثال الحنفي ، فلم يسلم هوذة ، وأسلم ثمامة بعد ذلك ، فهؤلاء الستة قيل : هم الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد .
وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد الله ابني الجلندى الأزديين بعمان ، فأسلما ، وصدقا ، وخليا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم ، فلم يزل فيما بينهم حتى بلغته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة وقيل : قبل الفتح فأسلم وصدق.
وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري باليمن ، فقال : سأنظر في أمري .
وبعث أبا موسى الأشعري ، ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك . وقيل : بل سنة عشر من ربيع الأول داعيين إلى الإسلام ، فأسلم عامة أهلها طوعاً من غير قتال .
ثم بعث بعد ذلك علي بن أبي طالب إليهم ، ووافاه بمكة في حجة الوداع .
وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري ، وذي عمرو ، يدعوهما إلى الإسلام ، فأسلما ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرير عندهم . وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب ، وكتب إليه بكتاب آخر مع السائب بن العوام أخي الزبير فلم يسلم .
وبعث إلى فروة بن عمرو الجذامي يدعوه إلى الإسلام . وقيل : لم يبعث إليه ، وكان فروة عاملاً لقيصر بمعان ، فأسلم ، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه ، وبعث إليه هدية مع مسعود بن سعد ، وهي بغلة شهباء يقال لها : فضة ، وفرس يقال لها : الظرب ، وحمار يقال له : يعفور ، كذا قاله جماعة ، والظاهر - والله أعلم - أن عفيراً ويعفور واحد ، عفير تصغير يعفور تصغير الترخيم .
وبعث أثواباً وقباء من سندس مخوض بالذهب ، فقبل هديته ، ووهب لمسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية ونشاً .
وبعث عياش بن أبي ربيعة المخزومي بكتاب إلى الحارث ، ومسروح ، ونعيم بني عبد كلال من حمير .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:35 AM
فصل في مؤذنيه صلى الله عليه وسلم
وكانوا أربعة : اثنان بالمدينة : بلال بن رباح ، وهو أول من أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمرو بن أم مكتوم القريش العامري الأعمى ، وبقباء سعد القرظ مولى عمار بن ياسر ، وبمكة أبو محذورة واسمه أوس بن مغيرة الجمحي ، وكان أبو محذورة منهم يرجع الأذان ، ويثني الإقامة ، وبلال لا يرجع ، ويفرد الإقامة ، فأخذ الشافعي رحمه الله وأهل مكة بأذان أبي محذورة ، وإقامة بلال ، وأخذ أبو حنيفة رحمه الله وأهل العراق بأذان بلال ، وإقامة أبي محذورة ، وأخذ الإمام أحمد رحمه الله وأهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته ، وخالف مالك رحمه الله في الموضعين : إعادة التكبير ، وتثنية لفظ الإقامة ، فإنه لا يكررها .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:35 AM
فصل في أمرائه صلى الله عليه وسلم
منهم باذان بن ساسان ، من ولد بهرام جور ، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن كلها بعد موت كسرى ، فهو أول أمير في الإسلام على اليمن ، وأول من أسلم من ملوك العجم .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت باذان ابنه شهر بن باذان على صنعاء وأعمالها . ثم قتل شهر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنعاء خالد بن سعيد بن العاص .
وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجر بن أبي أمية المخزومي كندة والصدف ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسر إليها ، فبعثه أبو بكر إلى قتال أناس من المرتدين . وولى زياد بن أمية الأنصاري حضرموت .
وولى أبا موسى الأشعري زبيد وعدن والساحل .
وولى معاذ بن جبل الجند .
وولى أبا سفيان صخر بن حرب نجران .
وولى ابنه يزيد تيماء .
وولى عتاب بن أسيد مكة ، وإقامة الموسم بالحج بالمسلمين سنة ثمان وله دون العشرين سنة .
وولى علي بن أبي طالب الأخماس باليمن والقضاء بها .
وولى عمرو بن العاص عمان وأعمالها .
وولى الصدقات جماعة كثيرة ، لأنه كان لكل قبيلة وال يقبض صدقاتها ، فمن هنا كثر عمال الصدقات .
وولى أبا بكر إقامة الحج سنة تسع ، وبعث في أثره علياً يقرأ على الناس سورة ( براءة ) فقيل : لأن أولها نزل بعد خروج أبي بكر إلى الحج . وقيل : بل لأن عادة العرب كانت أنه لا يحل العقود ويعقدها إلا المطاع ، أو رجل من أهل بيته . و قيل : أردفه به عوناً له ومساعداً . ولهذا قال له الصديق : أمير أو مأمور ؟ قال : بل مأمور .
وأما أعداء الله الرافضة ، فيقولون : عزله بعلي ، وليس هذا ببدع من بهتهم وافترائهم . واختلف الناس ، هل كانت هذه الحجة قد وقعت في شهر ذي الحجة ، أو كانت في ذي القعدة من أجل النسيء ؟ على قولين ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:35 AM
فصل في حرسه صلى الله عليه وسلم
فمنهم سعد بن معاذ ، حرسه يوم بدر حين نام في العريش ، ومحمد بن مسلمة حرسه يوم أحد ، والزبير بن العوام حرسه يوم الخندق .
ومنهم عباد بن بشر ، وهو الذي كان على حرسه ، وحرسه جماعة آخرون غير هؤلاء ، فلما نزل قوله تعالى : " والله يعصمك من الناس " [ المائدة : 67 ] خرج على الناس فأخبرهم بها ، وصرف الحرس .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:36 AM
فصل فيمن كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم
علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، والمقداد بن عمرو ، ومحمد بن مسلمة ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، والضحاك بن سفيان الكلابي ، وكان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري منه صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:36 AM
فصل فيمن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن كان يأذن عليه
كان بلال على نفقاته ، ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي على خاتمه ، وابن مسعود على سواكه ونعله ، وأذن عليه رباح الأسود وأنسة مولياه ، وأنس بن مالك ، وأبو موسى الأشعري .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:37 AM
فصل في شعرائه وخطبائه صلى الله عليه وسلم
كان من شعرائه الذين يذبون عن الإسلام : كعب بن مالك ، وعبدالله بن رواحة ، وحسان بن ثابت ، وكان أشدهم على الكفار حسان بن ثابت وكعب بن مالك يعيرهم بالكفر والشرك ، وكان خطيبه ثابت بن قيس بن شماس .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:37 AM
فصل في حداته الذين كانوا يحدون بين يديه صلى الله عليه وسلم في السفر
منهم عبد الله بن رواحة ، وأنجشة ، وعامر بن الأكوع وعمه سلمة بن الأكوع . وفي صحيح مسلم : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاد حسن الصوت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رويداً يا أنجشة ، لا تكسر القوارير " . يعني ضعفة النساء .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:38 AM
فصل في غزواته وبعوثه وسراياه صلى الله عليه وسلم
غزواته كلها وبعوثه وسراياه كانت بعد الهجرة في مدة عشر سنين ، فالغزوات سبع وعشرون ، وقيل : خمس وعشرون ، وقيل : تسع وعشرون وقيل غير ذلك ، قاتل منها في تسع : بدر ، وأحد ، والخندق ، وقريظة ، والمصطلق ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف . وقيل : قاتل في بني النضير والغابة ووادي القرى من أعمال خيبر .
وأما سراياه وبعوثه ، فقريب من ستين ، والغزوات الكبار الأمهات سبع : بدر ، وأحد ، والخندق ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، وتبوك . وفي شأن هذه الغزوات نزل القرآن ، فسورة ( الأنفال ) سورة بدر ، وفي أحد آخر سورة ( آل عمران ) من قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال " [ آل عمران : 121 ] إلى قبيل آخرها بيسير ، وفي قصة الخندق ، وقريظة ، وخيبر صدر ( سورة الأحزاب ) ، وسورة ( الحشر ) في بني النضير ، وفي قصة الحديبية وخيبر سورة ( الفتح ) وأشير فيها إلى الفتح ، وذكر الفتح صريحاً في سورة ( النصر ) .
وجرح منها صلى الله عليه وسلم في غزوة واحدة وهي أحد ، وقاتلت معه الملائكة منها في بدر وحنين ، ونزلت الملائكة يوم الخندق ، فزلزلت المشركين وهزمتهم ، ورمى فيها الحصباء في وجوه المشركين فهربوا ، وكان الفتح في غزوتين : بدر ، وحنين .
وقاتل بالمنجنيق منها في غزوة واحدة ، وهي الطائف ، وتحصن في الخندق في واحدة ، وهي الأحزاب أشار به عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:38 AM
فصل في ذكر سلاحه وأثاثه صلى الله عليه وسلم
كان له تسعة أسياف :
مأثور ، وهو أول سيف ملكه ، ورثه من أبيه .
والعضب ، وذو الفقار ، بكسر الفاء ، وبفتح الفاء ، وكان لا يكاد يفارقه ، وكانت قائمته وقبيعته وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة . والقلعي ، والبتار ، والحتف ، والرسوب ، والمخذم ، والقضيب ، وكان نعل سيفه فضة ، وما بين حلق فضة .
وكان سيفه ذو الفقار تنفله يوم بدر ، وهو الذي أري فيها الرؤيا ، ودخل يوم الفتح مكة وعلى سيفه ذهب وفضة .
وكان له سبعة أدرع :
ذات الفضول : وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على شعير لعياله ، وكان ثلاثين صاعاً ، وكان الدين إلى سنة ، وكانت الدرع من حديد .
وذات الوشاح ، وذات الحواشي ، والسعدية ، وفضة ، والبتراء والخرنق .
وكانت له ست قسي : الزوراء ، والروحاء ، والصفراء ، والبيضاء ، والكتوم ، كسرت يوم أحد ، فأخذها قتادة بن النعمان ، والسداد .
وكانت له جعبة تدعى : الكافور ، ومنطقة من أديم منشور فيها ثلاث حلق من فضة ، والإبزيم من فضة ، والطرف من فضة ، وكذا قال بعضهم ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شد على وسطه منطقة .
وكان له ترس يقال له : الزلوق ، وترس يقال له : الفتق . قيل : وترس أهدي إليه ، فيه صورة تمثال ، فوضع يده عليه ، فأذهب الله ذلك التمثال . وكانت له خمسة أرماح ، يقال لأحدهم : المثوي ، والآخر : المثني ، وحربة يقال لها : النبعة ، وأخرى كبيرة تدعى : البيضاء ، وأخرى صغيرة شبه العكاز يقال لها : العنزة يمشي بها بين يديه في الأعياد ، تركز أمامه ، فيتخذها سترة يصلي إليها ، وكان يمشي بها أحياناً .
وكان له مغفر من حديد يقال له : الموشح ، وشح بشبه ومغفر آخر يقال له : السبوغ ، أو : ذو السبوغ .
وكان له ثلاث جباب يلبسها في الحرب . قيل فيها : جبة سندس أخضر ، والمعروف أن عروة بن الزبير كان له يلمق من ديباج ، بطانته سندس أخضر ، يلبسه في الحرب ، والإمام أحمد في إحدى روايتيه يجوز لبس الحرير في الحرب .
وكانت له راية سوداء يقال لها : العقاب . وفي سنن أبي داود عن رجل من الصحابة قال : رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء ، وكانت له ألوية بيضاء ، وربما جعل فيها الأسود .
وكان له فسطاط يسمى : الكن ، ومحجن قدر ذراع أو أطول يمشي به ويركب به ، ويعلقه بين يديه على بعيره ، ومخصرة تسمى: العرجون ، وقضيب من الشوحط يسمى : الممشوق . قيل : وهو الذي كان يتداوله الخلفاء .
وكان له قدح يسمى : الريان ، ويسمى مغنياً ، وقدح آخر مضبب بسلسلة من فضة .
وكان له قدح من قوارير ، وقدح من عيدان يوضع تحت سريره يبول فيه بالليل ، وركوة تسمى : الصادر ، قيل : وتور من حجارة يتوضأ منه ، ومخضب من شبه ، وقعب يسمى : السعة ، ومغتسل من صفر ، ومدهن ، وربعة يجعل فيها المرآة والمشط . قيل : وكان المشط من عاج ، وهو الذبل ، ومكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثاً في كل عين بالإثمد ، وكان في الربعة المقراضان والسواك .
وكانت له قصعة تسمى : الغراء ، لها أربع حلق ، يحملها أربعة رجال بينهم ، وصاع ، ومد ، وقطيفة ، وسرير قوائمه من ساج ، أهداه له أسعد بن زرارة ، وفراش من أدم حشوه ليف .
وهذه الجملة قد رويت متفرقة في أحاديث .
وقد روى الطبراني في معجمه حديثاً جامعاً في الآنية من حديث ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيف قائمته من فضة، وقبيعته من فضة ، وكان يسمى : ذا الفقار ، وكانت له قوس تسمى : السداد ، وكانت له كنانة تسمى : الجمع ، وكانت له درع موشحة بالنحاس تسمى : ذات الفضول ، وكانت له حربة تسمى : النبعاء ، وكان له محجن يسمى : الدقن ، وكان له ترس أبيض يسمى : الموجز ، وكان له فرس أدهم يسمى : السكب ، وكان له سرج يسمى : الداج ، وكانت له بغلة شهباء تسمى : دلدل ، وكانت له ناقة تسمى : القصواء ، وكان له حمار يسمى : يعفور ، وكان له بساط يسمى : الكن ، وكانت له عنزة تسمى : القمرة ، وكانت له ركوة تسمى : الصادرة ، وكان له مقراض اسمه : الجامع ، ومرآة وقضيب شوحط يسمى : الموت .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:39 AM
فصل في دوابه صلى الله عليه وسلم
فمن الخيل : السكب . قيل : وهو أول فرس ملكه ، وكان اسمه عند الأعرابي الذي اشتراه منه بعشر أواق : الضرس ، وكان أغر محجلاً ، طلق اليمين ، كميتاً . وقيل : كان أدهم .
والمرتجز ، وكان أشهب ، وهو الذي شهد فيه خزيمة بن ثابت .
واللحيف ، واللزاز ، والظرب ، وسبحة ، والورد . فهذه سبعة متفق عليها ، جمعها الإمام أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن جماعة الشافعي في بيت فقال :
والخيل سكب لحيف سبحة ظرب لزاز مرتجز ورد لها أسرار
أخبرني بذلك عنه ولده الإمام عز الدين عبد العزيز أبو عمرو ، أعزه الله بطاعته .
وقيل : كانت له أفراس أخر خمسة عشر ، ولكن مختلف فيها ، وكان دفتا سرجه من ليف .
وكان له من البغال دلدل ، وكانت شهباء ، أهداها له المقوقس . وبغلة أخرى . يقال لها : فضة . أهداها له فروة الجذامي ، وبغلة شهباء أهداها له صاحب أيلة ، وأخرى أهداها له صاحب دومة الجندل ، وقد قيل : إن النجاشي أهدى له بغلة فكان يركبها.
ومن الحمير عفير ، وكان أشهب ، أهداه له المقوقس ملك القبط ، وحمار آخر أهداه له فروة الجذامي . وذكر أن سعد بن عبادة أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً فركبه .
ومن الإبل القصواء ، قيل : وهي التي هاجر عليها ، والعضباء ، والجدعاء ، ولم يكن بهما عضب ولا جدع ، وإنما سميتا بذلك ، وقيل : كان بأذنها عضب ، فسميت به ، وهل العضباء والجدعاء واحدة ، أو اثنتان ؟ فيه خلاف ، والعضباء هي التي كانت لا تسبق ، ثم جاء أعرابي على قعود فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن حقاً على الله ألا يرفع من الدنيا شيئاً إلا وضعه " وغنم صلى الله عليه وسلم يوم بدر جملاً مهرياً لأبي جهل في أنفه برة من فضة ، فأهداه يوم الحديبية ليغيظ به المشركين .
وكانت له خمس وأربعون لقحة ، وكانت له مهرية أرسل بها إليه سعد بن عبادة من نعم بني عقيل .
وكانت له مائة شاة وكان لا يريد أن تزيد ، كلما ولد له الراعي بهمة ، ذبح مكانها شاة ، وكانت له سبع أعنز منائح ترعاهن أم أيمن .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:39 AM
فصل في ملابسه صلى الله عليه وسلم
كانت له عمامة تسمى : السحاب ، كساها علياً ، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة . وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ، ويلبس العمامة بغير قلنسوة . وكان إذا اعتم ، أرخى عمامته بين كتفيه ، كما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه .
وفي مسلم أيضاً ، عن جابر بن عبدالله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء . ولم يذكر في حديث جابر : ذؤابة ، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه . وقد يقال : إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه ، فلبس في كل موطن ما يناسبه .
وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه في الجنة ، يذكر في سبب الذؤابة شيئاً بديعاً ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة ، لما رأى رب العزة تبارك وتعالى ، فقال : " يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري ، فوضع يده بين كتفي فعلمت ما بين السماء والأرض . . . " الحديث ، وهو في الترمذي ، وسئل عنه البخاري ، فقال صحيح . قال : فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه ، وهذا من العلم الذي تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم ، ولم أر هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره .
ولبس القميص وكان أحب الثياب إليه ، وكان كمه إلى الرسغ ، ولبس الجبة والفروج وهو شبه القباء ، والفرجية ، ولبس القباء أيضاً ، ولبس في السفر جبة ضيقة الكمين ، ولبس الإزار والرداء . قال الواقدي : كان رداؤه وبرده طول ستة أذرع في ثلاثة وشبر ، وإزاره من نسج عمان طول أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر .
ولبس حلة حمراء ، والحلة : إزار ورداء ، ولا تكون الحلة إلا اسماً للثوبين معاً ، وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتاً لا يخالطها غيره ، وإنما الحلة الحمراء : بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود ، كسائر البرود اليمنية ، وهي معروفة بهذا الإسم باعتبار ما فيها من الخطوط الحمر ، وإلا فالأحمر البحت منهي عنه أشد النهي ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المياثر الحمر وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليه ريطة مضرجة بالعصفر ، فقال : ما هذه الريطة التي عليك ؟ فعرفت ما كره ، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنوراً لهم ، فقذفتها فيه ، ثم أتيته من الغد ، فقال : يا عبد الله ما فعلت الريطة ؟ فأخبرته ، فقال : هلا كسوتها بعض أهلك ، فإنه لا بأس بها للنساء " . وفي صحيح مسلم عنه أيضاً ، قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين . فقال : " إن هذه من لباس الكفار فلا تلبسها " وفي صحيحه أيضاً عن علي رضي الله عنه قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس المعصفر . ومعلوم أن ذلك إنما يصبغ صبغاً أحمر . وفي بعض السنن أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فرأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمراء ، فقال : " ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم ، فقمنا سراعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى نفر بعض إبلنا ، فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها " . رواه أبو داود .
وفي جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرها نظر . وأما كراهته ، فشديدة جداً ، فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس الأحمر القاني ، كلا لقد أعاذه الله منه ، وإنما وقعت الشبهة من لفظ الحلة الحمراء ، والله أعلم .
ولبس الخميصة المعلمة والساذجة ، ولبس ثوباً أسود ، ولبس الفروة المكفوفة بالسندس .
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود بإسنادهما عن أنس بن مالك أن ملك الروم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم مستقة من سندس ، فلبسها ، فكأني أنظر إلى يديه تذبذبان . قال الأصمعي : المساتق : فراء طوال الأكمام . قال الخطابي : يشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس ، لأن نفس الفروة لا تكون سندساً .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:41 AM
فصل آخر فيما يتعلق بلباسه
فصل
وكان غالب ما يلبس هو وأصحابه ما نسج من القطن ، وربما لبسوا ما نسج من الصوف والكتان ، وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصبهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال : دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جبة صوف ، وإزار صوف ، وعمامة صوف ، فاشمأز منه محمد ، وقال : أظن أن أقواماً يلبسون الصوف ويقولون : قد لبسه عيسى ابن مريم ، وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لبس الكتان والصوف والقطن ، وسنة نبينا أحق أن تتبع . ومقصود ابن سيرين بهذا أن أقواماً يرون أن لبس الصوف دائماً أفضل من غيره ، فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره ، وكذلك يتحرون زياً واحداً من الملابس ، ويتحرون رسوماً وأوضاعاً وهيئات يرون الخروج عنها منكراً ، وليس المنكر إلا التقيد بها ، والمحافظة عليها ، وترك الخروج عنها .
والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم التى سنها ، وأمر بها ، ورغب فيها ، وداوم عليها ، وهي أن هديه في اللباس : أن يلبس ما تيسر من اللباس ، من الصوف تارة ، والقطن تارة ، والكتان تارة .
ولبس البرود اليمانية ، والبرد الأخضر ، ولبس الجبة ، والقباء ، والقميص ، والسراويل ، والإزار ، والرداء ، والخف ، والنعل ، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة ، وتركها تارة .
وكان يتلحى بالعمامة تحت الحنك .
وكان إذا استجد ثوباً ، سماه باسمه ، وقال : " اللهم أنت كسوتني هذا القميص أو الرداء أو العمامة ، أسألك خيره وخير ما صنع له ، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " .
وكان إذا لبس قميصه ، بدأ بميامنه . ولبس الشعر الأسود ، كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه مرط مرحل من شعر أسود . وفي الصحيحين عن قتادة قلنا لأنس : أي اللباس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : الحبرة . والحبرة : برد من برود اليمن . فإن غالب لباسهم كان من نسج اليمن ، لأنها قريبة منهم ، وربما لبسوا ما يجلب من الشام ومصر ، كالقباطي المنسوجة من الكتان التي كانت تنسجها القبط . وفي سنن النسائي عن عائشة أنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم بردة من صوف ، فلبسها ، فلما عرق ، فوجد ريح الصوف ، طرحها ، وكان يحب الريح الطيب . وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عباس
قال : لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل ، وفي سنن النسائي عن أبي رمثة قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وعليه بردان أخضران . والبرد الأخضر : هو الذي فيه خطوط خضر ، وهو كالحلة الحمراء سواء ، فمن فهم من الحلة الحمراء الأحمر البحت ، فينبغي أن يقول : إن البرد الأخضر كان أخضر بحتاً ، وهذا لا يقوله أحد .
وكانت مخدته صلى الله عليه وسلم من أدم حشوها ليف ، فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهداً وتعبداً ، بإزائهم طائفة قابلوهم ، فلا يلبسون إلا أشرف الثياب ، ولا يأكلون إلا ألين الطعام ، فلا يرون لبس الخشن ولا أكله تكبراً وتجبراً ، وكلا الطائفتين هديه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعض السلف : كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب : العالي ، والمنخفض وفي السنن عن ابن عمر يرفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم : " من لبس ثوب شهرة ، ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة ، ثم تلهب فيه النار " وهذا لأنه قصد به الإختيال والفخر ، فعاقبه الله بنقيض ذلك ، فأذله ، كما عاقب من أطال ثيابه خيلاء بأن خسف به
الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جر ثوبه خيلاء ، لم ينظر الله إليه يوم القيامة " وفي السنن عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم قال : " الإسبال في الإزار ، والقميص والعمامة ، من جر شيئاً منها خيلاء ، لم ينظر الله إليه يوم القيامة " وفي السنن عن ابن عمر أيضاً قال : ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار ، فهو في القميص ، وكذلك لبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ، ويحمد في موضع ، فيذم إذا كان شهرة وخيلاء ويمدح إذا كان تواضعاً واستكانة ، كما أن لبس الرفيع من الثياب يذم إذا كان تكبراً وفخراً وخيلاء ، ويمدح إذا كان تجملاً وإظهاراً لنعمة الله ، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، فقال رجل : يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسناً ، ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذاك ؟ فقال : لا ، إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بطر الحق ، وغمط الناس " .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:42 AM
فصل في هديه في الأكل
فصل
وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم ، وسيرته في الطعام ، لا يرد موجوداً ، ولا يتكلف مفقوداً ، فما قرب إليه شئ من الطيبات إلا أكله ، إلا أن تعافه نفسه ، فيتركه من غير تحريم ، وما عاب طعاماً قط ، إن اشتهاه أكله ، وإلا تركه ، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ولم يحرمه على الأمة ، بل أكل على مائدته وهو ينظر .
وأكل الحلوى والعسل ، وكان يحبهما ، وأكل لحم الجزور ، والضأن ، والدجاج ، ولحم الحبارى ، ولحم حمار الوحش ، والأرنب ، وطعام البحر ، وأكل الشواء ، وأكل الرطب والتمر ، وشرب اللبن خالصاً ومشوباً ، والسويق ، والعسل بالماء ، وشرب نقيع التمر ، وأكل الخزيرة ، وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق ، وأكل القثاء بالرطب ، وأكل الأقط ، وأكل التمر بالخبز ، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد ، وهو الخبز باللحم ، وأكل الخبز بالإهالة ، وهي الودك ، وهو الشحم المذاب ، وأكل من الكبد المشوية ، وأكل
القديد ، وأكل الدباء المطبوخة ، وكان يحبها وأكل المسلوقة ، وأكل الثريد بالسمن ، وأكل الجبن ، وأكل الخبز بالزيت ، وأكل البطيخ بالرطب ، وأكل التمر بالزبد ، وكان يحبه ، ولم يكن يرد طيباً ، ولا يتكلفه ، بل كان هديه أكل ما تيسر ، فإن أعوزه ، صبر حتى إنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع ، ويرى الهلال والهلال والهلال ، ولا يوقد في بيته نار . وكان معظم مطعمه يوضع على الأرض في السفرة ، وهي كانت مائدته ، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ، ويلعقها إذا فرغ ، وهو أشرف ما يكون من الأكلة ، فإن المتكبر يأكل بأصبع واحدة ، والجشع الحريص يأكل بالخمس ، ويدفع بالراحة . وكان لا يأكل متكئاً ، والإتكاء على ثلاثة أنواع ، أحدها : الإتكاء على الجنب ، والثاني : التربع ، والثالث : الإتكاء على إحدى يديه ، وأكله بالأخرى ، والثلاث مذمومة .
وكان يسمي الله تعالى على أول طعامه ، ويحمده في آخره فيقول عند انقضائه : " الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا " . وربما قال : " الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم ، من علينا فهدانا ، وأطعمنا وسقانا ، وكل بلاء حسن أبلانا ، الحمد لله الذي أطعم من الطعام ، وسقى من الشراب ، وكسا من العري ، وهدى من الضلالة ، وبصر من العمى ، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلاً ، الحمد لله رب العالمين " .
وربما قال : " الحمد لله الذي أطعم وسقى ، وسوغه " .
وكان إذا فرغ من طعامه لعق أصابعه ، ولم يكن لهم مناديل يمسحون بها أيديهم ، ولم يكن عادتهم غسل أيديهم كلما أكلوا .
وكان أكثر شربه قاعداً ، بل زجر عن الشرب قائماً وشرب مرة قائماً . فقيل : هذا نسخ لنهيه ، وقيل : بل فعله لبيان جواز الأمرين ، والذي يظهر فيه - والله أعلم - أنها واقعة عين شرب فيها قائماً لعذر ، وسياق القصة يدل عليه ، فإنه أتى زمزم وهم يستقون منها ، فأخذ الدلو ، وشرب قائماً .
والصحيح في هذه المسألة : النهي عن الشرب قائماً ، وجوازه لعذر يمنع من القعود ، وبهذا تجمع أحاديث الباب ، والله أعلم . وكان إذا شرب ، ناول من على يمينه ، وإن كان من على يساره أكبر منه .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:42 AM
فصل في هديه في النكاح ومعاشرته صلى الله عليه وسلم أهله
صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي الله عنه ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " حبب إلي ، من دنياكم : النساء ، والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة " هذا لفظ الحديث ، ومن رواه حبب إلي من دنياكم ثلاث ، فقد وهم ، ولم يقل صلى الله عليه وسلم : ثلاث والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها . وكان النساء والطيب أحب شئ إليه ، وكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة ، وكان قد أعطي قوة ثلاثين في الجماع وغيره ، وأباح الله له من ذلك ما لم يبحه لأحد من أمته .
وكان يقسم بينهن في المبيت والإيواء والنفقة ، وأما المحبة فكان يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " فقيل : هو الحب والجماع ، ولا تجب التسوية في ذلك ، لأنه مما لا يملك .
وهل كان القسم واجباً عليه ، أو كان له معاشرتهن من غير قسم ؟ على قولين للفقهاء .
فهو أكثر الأمة نساء ، قال ابن عباس : تزوجوا ، فإن خير هذه الامة أكثرها نساء . وطلق صلى الله عليه وسلم ، وراجع ، وآلى إيلاء مؤقتاً بشهر ، ولم يظاهر أبداً ، وأخطأ من قال : إنه ظاهر خطأ عظيماً ، وإنما ذكرته هنا تنبيهاً على قبح خطئه ونسبته إلى ما برأه الله منه .
وكانت سيرته مع أزواجه حسن المعاشرة ، وحسن الخلق .
وكان يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها . وكان إذا هويت شيئاً لا محذور فيه تابعها عليه ، وكانت إذا شربت من الإناء أخذه ، فوضع فمه في موضع فمها وشرب ، وكان إذا تعرقت عرقاً - وهو العظم الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكئ في حجرها ، ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها ، وربما كانت حائضاً ، وكان يأمرها وهي حائض فتتزر ثم يباشرها ، وكان يقبلها وهو صائم ، وكان من لطفه وحسن خلقه مع أهله أنه يمكنها من اللعب ، ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده ، وهي متكئة على منكبيه تنظر ، وسابقها في السفر على الأقدام مرتين ، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة .
وكان إذا أراد سفراً ، أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها ، خرج بها معه ، ولم يقض للبواقي شيئاً ، وإلى هذا ذهب الجمهور.
وكان يقول : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " .
وربما مد يده إلى بعض نسائه في حضرة باقيهن . وكان إذا صلى العصر ، دار على نسائه ، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن ، فإذا جاء الليل ، انقلب إلى بيت صاحبة النوبة ، فخصها بالليل . وقالت عائشة : كان لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندهن في القسم ، وقل يوم إلا كان يطوف علينا جميعاً ، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو في نوبتها ، فيبيت عندها .
وكان يقسم لثمان منهن دون التاسعة ، ووقع في صحيح مسلم من قول عطاء أن التي لم يكن يقسم لها هي صفية بنت حيي ، وهو غلط من عطاء رحمه الله ، وإنما هي سودة ، فإنها لما كبرت وهبت نوبتها لعائشة .
وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة ، وسبب هذا الوهم - والله أعلم - أنه كان قد وجد على صفية في شئ ، فقالت لعائشة : هل لك أن ترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ، وأهب لك يومي ؟ قالت : نعم ، فقعدت عائشة إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم ، في يوم صفية ، فقال : " إليك عني يا عائشة ، فإنه ليس يومك فقالت : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وأخبرته بالخبر ، فرضي عنها " . وإنما كانت وهبتها ذلك اليوم وتلك النوبة الخاصة ، ويتعين ذلك ، وإلا كان يكون القسم لسبع منهن ، وهو خلاف الحديث الصحيح الذي لا ريب فيه أن القسم كان لثمان ، والله أعلم . ولو اتفقت مثل هذه الواقعة لمن له أكثر من زوجتين ، فوهبت إحداهن يومها للأخرى ، فهل للزوج أن يوالي بين ليلة الموهوبة وليلتها الأصلية وإن لم تكن ليلة الواهبة تليها ، أو يجب عليه أن يجعل ليلتها هي الليلة التي كانت تستحقها الواهبة بعينها ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره .
وكان صلى الله عليه وسلم يأتي أهله آخر الليل ، وأوله ، فكان إذا جامع أول الليل ، ربما إغتسل ونام ، وربما توضأ ونام . وذكر أبو إسحاق السبيعي عن الأسود عن عائشة أنه كان ربما نام ، ولم يمس ماء وهو غلط عند أئمة الحديث ، وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته .
وكان يطوف على نسائه بغسل واحد ، وربما اغتسل عند كل واحدة ، فعل هذا وهذا .
وكان إذا سافر وقدم ، لم يطرق أهله ليلاً ، وكان ينهى عن ذلك .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:43 AM
فصل في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في نومه وانتباهه
كان ينام على الفراش تارة ، وعلى النطع تارة ، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رماله ، وتارة على كساء أسود . قال عباد بن تميم عن عمه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى .
وكان فراشه أدماً حشوه ليف . وكان له مسح ينام عليه يثنى بثنيتين ، وثني له يوماً أربع ثنيات ، فنهاهم عن ذلك وقال : "ردوه إلى حاله الأول ، فإنه منعني صلاتي الليلة " . والمقصود أنه نام على الفراش ، وتغطى باللحاف ، وقال لنسائه : " ما أتاني جبريل وأنا في لحاف امرأة منكن غير عائشة " .
وكانت وسادته أدماً حشوها ليف . وكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال : " باسمك اللهم أحيا وأموت " .
وكان يجمع كفيه ثم ينفث فيهما ، وكان يقرأ فيهما : " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ، ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات .
وكان ينام على شقه الأيمن ، ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ، ثم يقول : " اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك " . وكان يقول إذا أوى إلى فراشه : " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا ، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي " ذكره مسلم . وذكر أيضاً أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه : " اللهم رب السماوات والأرض ، ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شئ ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل ، والفرقان ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شئ ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن ، فليس دونك شئ ، إقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر " .
وكان إذا استيقظ من منامه في الليل قال : " لا إله إلا أنت سبحانك ، اللهم إني أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب " .
وكان إذا انتبه من نومه قال : " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور " . ثم يتسوك ، وربما قرأ العشر الآيات من آخر ( آل عمران ) من قوله : " إن في خلق السماوات والأرض " إلى آخرها [ آل عمران : 190-200 ] . وقال : " اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة
حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت ، وما
أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، أنت إلهي ، لا إله إلا أنت " .
وكان ينام أول الليل ، ويقوم آخره ، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين ، وكان تنام عيناه ، ولا ينام قلبه . وكان إذا نام، لم يوقظوه حتى يكون هو الذي يستيقظ . وكان إذا عرس بليل ، اضطجع على شقه الأيمن ، وإذا عرس قبيل الصبح ، نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه ، هكذا قال الترمذي . وقال أبو حاتم في صحيحه : كان إذا عرس بالليل ، توسد يمينه ، وإذا عرس قبيل الصبيح ، نصب ساعده ، وأظن هذا وهماً ، والصواب حديث الترمذي .
وقال أبو حاتم : والتعريس إنما يكون قبيل الصبح .
وكان نومه أعدل النوم ، وهو أنفع ما يكون من النوم ، والأطباء يقولون : هو ثلث الليل والنهار ، ثمان ساعات .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:43 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الركوب
ركب الخيل والإبل والبغال والحمير ، وركب الفرس مسرجة تارة ، وعرياً أخرى ، وكان يجريها في بعض الأحيان ، وكان يركب وحده ، وهو الأكثر ، وربما أردف خلفه على البعير ، وربما أردف خلفه ، وأركب أمامه ، وكانوا ثلاثة على بعير ، وأردف الرجال ، وأردف بعض نسائه ، وكان أكثر مراكبه الخيل والإبل . وأما البغال ، فالمعروف أنه كان عنده منها بغلة واحدة أهداها له بعض الملوك ، ولم تكن البغال مشهورة بأرض العرب ، بل لما أهديت له البغلة قيل : ألا ننزي الخيل على الحمر ؟ فقال : " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:44 AM
فصل في اتخاذه الغنم والإماء والعبيد
واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم الغنم . وكان له مائة شاة ، وكان لا يحب أن تزيد على مائة ، فإذا زادت بهمة ، ذبح مكانها
أخرى ، واتخذ الرقيق من الإماء والعبيد ، وكان مواليه وعتقاؤه من العبيد أكثر من الإماء . وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبي أمامة وغيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما امرئ أعتق امرءاً مسلماً ، كان فكاكه من النار ، يجزئ كل عضو منه عضواً منه ، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين ، كانتا فكاكه من النار ، يجزئ كل عضوين منهما عضواً منه " وقال : هذا حديث صحيح . وهذا يدل على أن عتق العبد أفضل ، وأن عتق العبد يعدل عتق أمتين ، فكان أكثر عتقائه صلى الله عليه وسلم من العبيد ، وهذا أحد المواضع الخمسة التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر ، والثاني : العقيقة ، فإنه عن الأنثى شاة ، وعن الذكر شاتان عند الجمهور ، وفيه عدة أحاديث صحاح وحسان . والثالث : الشهادة ، فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل . والرابع : الميراث . والخامس : الدية .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:45 AM
فصل في بيعه وشرائه ومعاملاته
فصل
وباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى ، وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله تعالى برسالته أكثر من بيعه ، وكذلك بعد الهجرة لا يكاد يحفظ عنه البيع إلا في قضايا يسيرة أكثرها لغيره ، كبيعه القدح والحلس فيمن يزيد ، وبيعه يعقوب المدبر غلام أبي مذكور ، وبيعه عبداً أسود بعبدين .
وأما شراؤه ، فكثير ، وآجر ، واستأجر ، واستئجاره أكثر من إيجاره ، وإنما يحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم ، وأجر نفسه من خديجة في سفره بمالها إلى الشام .
وإن كان العقد مضاربة ، فالمضارب أمين ، وأجير ، ووكيل ، وشريك ، فأمين إذا قبض المال ، ووكيل إذا تصرف فيه ، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل ، وشريك إذا ظهر فيه الربح . وقد أخرج الحاكم في مستدركه من حديث الربيع بن بدر ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : آجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جرش كل سفرة بقلوص ، وقال : صحيح الإسناد .
قال في النهاية : جرش ، بضم الجيم وفتح الراء من مخاليف اليمن ، وهو بفتحهما بلد بالشام .
قلت : إن صح الحديث ، فإنما هو المفتوح الذي بالشام ، ولا يصح ، فإن الربيع بن بدر هذا هو عليلة ، ضعفه أئمة الحديث . قال النسائي والدارقطني والأزدي : متروك ، وكأن الحاكم ظنه الربيع بن بدر مولى طلحة بن عبيد الله .
وشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قدم عليه شريكه قال : أما تعرفني ؟ قال : " أما كنت شريكي ؟ فنعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري " .
وتدارئ بالهمزة من المدارأة ، وهي مدافعة الحق ، فإن ترك همزها ، صارت من المداراة ، وهي المدافعة بالتي هي أحسن .
ووكل وتوكل ، وكان توكيله أكثر من توكله .
وأهدى ، وقبل الهدية ، وأثاب عليها ، ووهب ، واتهب ، فقال لسلمة بن الأكوع ، وقد وقع في سهمه جارية : " هبها لي " فوهبها له ، ففادى بها من أهل مكة أسارى من المسلمين .
واستدان برهن ، وبغير رهن ، واستعار ، واشترى بالثمن الحال والمؤجل .
وضمن ضماناً خاصاً على ربه على أعمال من عملها كان مضموناً له بالجنة ، وضماناً عاماً لديون من توفي من المسلمين ، ولم يدع وفاء أنها عليه وهو يوفيها وقد قيل : إن هذا الحكم عام للأئمة بعده ، فالسلطان ضامن لديون المسلمين إذا لم يخلفوا وفاء ، فإنها عليه يوفيها من بيت المال ، وقالوا : كما يرثه إذا مات ، ولم يدع وارثاً ، فكذلك يقضي عنه دينه إذا مات ولم يدع وفاء ، وكذلك ينفق عليه في حياته إذا لم يكن له من ينفق عليه . ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً كانت له ، جعلها صدقة في سبيل الله ، وتشفع ، وشفع إليه ، وردت بريرة شفاعته في مراجعتها مغيثاً ، فلم يغضب عليها ، ولا عتب ، وهو الأسوة والقدوة ، وحلف في أكثر من ثمانين موضعاً ، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع ، فقال تعالى : " ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق " [ يونس : 53 ] وقال تعالى : " وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم " [ سبأ : 3 ] وقال تعالى : " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير " [ التغابن : 7 ] وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر محمد بن داود الظاهري ، ولا يسميه بالفقيه ، فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له ، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود ، فتهيأ للحلف ، فقال له القاضي إسماعيل : أوتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟! فقال : وما يمنعني من الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه ، قال : أين ذلك ؟ فسردها له أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جداً ، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم .
وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة ، ويكفرها تارة ، ويمضي فيها تارة ، والإستثناء يمنع عقد اليمين ، والكفارة تحلها بعد عقدها ، ولهذا سماها الله تحلة .
وكان يمازح ، ويقول في مزاحه الحق ، ويوري ، ولا يقول في توريته إلا الحق ، مثل أن يريد جهة يقصدها فيسأل عن غيرها كيف طريقها ؟ وكيف مياهها ومسلكها ؟ أو نحو ذلك . وكان يشير ويستشير .
وكان يعود المريض ويشهد الجنازة ، ويجيب الدعوة ، ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم ، وسمع مديح الشعر ، وأثاب عليه ، ولكن ما قيل فيه من المديح ، فهو جزء يسير جداً من محامده ، وأثاب على الحق . وأما مدح غيره من الناس ، فأكثر ما يكون بالكذب ، فلذلك أمر أن يحثى في وجوه المداحين التراب .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:46 AM
فصل في مسابقته ومصارعته
وسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه على الأقدام ، وصارع ، وخصف نعله بيده ، ورقع ثوبه بيده ، ورقع دلوه ، وحلب شاته ، وفلى ثوبه ، وخدم أهله ونفسه ، وحمل معهم اللبن في بناء المسجد ، وربط على بطنه الحجر من الجوع تارة ، وشبع تارة ، وأضاف وأضيف ، واحتجم في وسط رأسه ، وعلى ظهر قدمه ، واحتجم في الأخدعين والكاهل وهو ما بين الكتفين ، وتداوى ، وكوى ولم يكتو ، ورقى ولم يسترق ، وحمى المريض مما يؤذيه .
وأصول الطب ثلاثة : الحمية ، وحفظ الصحة ، واستفراغ المادة المضرة ، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه ، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر ، فقال تعالى : " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " ( النساء : 43 و المائدة : 6 ) فأباح التيمم للمريض حمية له ، كما أباحه للعادم ، وقال في حفظ الصحة : " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ( البقرة : 184) فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظاً لصحته ، لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر ، فيضعف القوة والصحة . وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " ( البقرة : 196) فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه وهو محرم أن يحلق رأسه ، ويستفرغ المواد الفاسدة ، والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل ، كما حصل لكعب بن عجرة ، أو تولد عليه المرض ، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله ، فذكر من كل جنس منها شيئاً ، وصورة ، تنبيهاً بها على نعمته على عباده في أمثالها من حميتهم ، وحفظ صحتهم ، واستفراغ مواد أذاهم ، رحمة لعباده ، ولطفاً بهم ، ورأفة بهم . وهو الرؤوف الرحيم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:46 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في معاملته
كان أحسن الناس معاملة . وكان إذا استسلف سلفاً قضى خيراً منه .
وكان إذا استسلف من رجل سلفاً ، قضاه إياه ، ودعا له ، فقال : " بارك الله لك في أهلك ومالك ، إنما جزاء السلف الحمد و الأداء " .
واستسلف من رجل أربعين صاعاً ، فاحتاج الأنصاري ، فأتاه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما جاءنا من شئ بعد " فقال الرجل : وأراد أن يتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقل إلا خيراً ، فأنا خير من تسلف " فأعطاه أربعين فضلاً ، وأربعين سلفة ، فأعطاه ثمانين . ذكره البزار . واقترض بعيراً ، فجاء صاحبه يتقاضاه ، فأغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهم به أصحابه ، فقال : " دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ". واشترى مرة شيئاً وليس عنده ثمنه فأربح فيه ، فباعه ، وتصدق بالربح على أرامل بني عبد المطلب ، وقال : " لا أشتري بعد هذا شيئاً إلا وعندي ثمنه " ذكره أبو داود ، وهذا لا يناقض الشراء في الذمة إلى أجل ، فهذا شئ ، وهذا شئ . وتقاضاه غريم له ديناً ، فأغلظ عليه ، فهم به عمر بن الخطاب فقال : " مه يا عمر كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء . وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر " ، وباعه يهودي بيعاً إلى أجل ، فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنه ، فقال : لم يحل الأجل ، فقال اليهودي : إنكم لمطل يا بني عبد المطلب ، فهم به أصحابه ، فنهاهم ، فلم يزده ذلك إلا حلماً ، فقال اليهودي : كل شئ منه قد عرفته من علامات النبوة ، وبقيت واحدة ، وهي أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، فأردت أن أعرفها ، فأسلم اليهودي .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:47 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه
كان إذا مشى ، تكفأ تكفؤاً ، وكان أسرع الناس مشية ، وأحسنها وأسكنها قال أبو هريرة : ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنما الأرض تطوى له ، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب ، وقال مرة : إذا مشى ، تقلع قلت : والتقلع : الإرتفاع من الأرض بجملته ، كحال المنحط من الصبب ، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة ، وهي أعدل المشيات وأرواحها للأعضاء ، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت ، فإن الماشي ، إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة ، كأنه خشبة محمولة ، وهي مشية مذمومة قبيحة ، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج ، وهي مشية مذمومة أيضاً ، وهي دالة على خفة عقل صاحبها ، ولا سيما إن كان يكثر الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً ، وإما أن يمشي هوناً ، وهي مشية عباد الرحمن ، كما وصفهم بها في كتابه ، فقال : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " ( الفرقان : 63) قال غير واحد من السلف : بسكينة ووقار من غير تكبر ولا تماوت ، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب ، وكأنما الأرض تطوى له ، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث ، وهذا يدل على أمرين : أن مشيته لم تكن مشية بتماوت ولا بمهانة ، بل مشية أعدل المشيات .
والمشيات عشرة أنواع ، هذه الثلاثة منها ، والرابع : السعي . والخامس : الرمل ، وهو أسرع المشى مع تقارب الخطا ، ويسمى : الخبب ، وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم خب في طوافه ثلاثاً ، ومشى أربعاً .
السادس : النسلان ، وهو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي ، ولا يكرثه . وفي بعض المسانيد أن المشاة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشى في حجة الوداع ، فقال : " استعينوا بالنسلان ".
والسابع : الخوزلى ، وهي مشية التمايل ، وهي مشية ، يقال : إن فيها تكسراً وتخنثاً .
والثامن : القهقرى ، وهي المشية إلى وراء .
والتاسع : الجمزى ، وهي مشية يثب فيها الماشي وثباً .
والعاشر : مشية التبختر ، وهي مشية أولي العجب والتكبر ، وهي التي خسف الله سبحانه بصاحبها لما نظر في عطفيه وأعجبته نفسه ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة .
وأعدل هذه المشيات مشية الهون والتكفؤ .
وأما مشيه مع أصحابه ، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم ، ويقول : " دعوا ظهري للملائكة " ولهذا جاء في الحديث : وكان يسوق أصحابه . وكان يمشي حافياً ومنتعلاً ، وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعة ، ومشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه ، وسال منها الدم ، فقال :
هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
وكان في السفر ساقة أصحابه : يزجي الضعيف ، ويردفه ، ويدعو لهم ، ذكره أبو داود .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:47 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في جلوسه واتكائه
كان يجلس على الأرض ، وعلى الحصير ، والبساط ، وقالت قيلة بنت مخرمة : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء ، قالت : فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كالمتخشع في الجلسة ، أرعدت من الفرق . ولما قدم عليه عدي بن حاتم ، دعاه إلى منزله ، فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها ، فجعلها بينه وبين عدي ، وجلس على الأرض . قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك . وكان يستلقي أحياناً ، وربما وضع إحدى رجليه على الأخرى ، وكان يتكئ على الوسادة ، وربما اتكأ على يساره ، وربما اتكأ على يمينه . وكان إذا احتاج في خروجه ، توكأ على بعض أصحابه من الضعف .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:48 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم عند قضاء الحاجة
كان إذا دخل الخلاء قال : " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " . " الرجس النجس الشيطان الرجيم " .
وكان إذا خرج يقول : "غفرانك " .
وكان يستنجي بالماء تارة ، ويستجمر بالأحجار تارة ، ويجمع بينهما تارة .
وكان إذا ذهب في سفره للحاجة ، انطلق حتى يتوارى عن أصحابه ، ربما كان يبعد نحو الميلين .
وكان يستتر للحاجة بالهدف تارة ، وبحائش النخل تارة ، وبشجر الوادي تارة .
وكان إذا أراد أن يبول في عزاز من الأرض - وهو الموضع الصلب - أخذ عوداً من الأرض ، فنكت به حتى يثرى ، ثم يبول .
وكان يرتاد لبوله الموضع الدمث - وهو اللين الرخو من الأرض- وأكثر ما كان يبول وهو قاعد ، حتى قالت عائشة : " من حدثكم أنه كان يبول قائماً ، فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعداً " وقد روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة أنه بال قائماً . فقيل : هذا بيان للجواز وقيل : إنما فعله من وجع كان بمأبضية . وقيل : فعله استشفاء . قال الشافعي رحمه الله : والعرب تستشفي وجع الصلب بالبول قائماً ، والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزهاً وبعداً من إصابة البول ، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو ملقى الكناسة ، وتسمى المزبلة ، وهي تكون مرتفعة ، فلو بال فيها الرجل قاعداً ، لارتد عليه بوله، وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها ، وجعلها بينه وبين الحائط ، فلم يكن بد من بوله قائماً ، والله أعلم .
وقد ذكر الترمذي عن عمر بن الخطاب قال : رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً ، فقال : " يا عمر لا تبل قائماً " ، قال : فما بلت قائماً بعد . قال الترمذي : وانما رفعه عبد الكريم بن أبي المخارق ، وهو ضعيف عند أهل الحديث .
وفي مسند البزار وغيره ، من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من الجفاء : أن يبول الرجل قائماً ، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته ، أو ينفخ في سجوده " . ورواه الترمذي وقال : هو غير محفوظ ، وقال البزار : لا نعلم من رواه عن عبد الله بن بريدة إلا سعيد بن عبيد الله ، ولم يجرحه بشئ . وقال ابن أبي حاتم : هو بصري ثقة مشهور .
وكان يخرج من الخلاء ، فيقرأ القرآن ، وكان يستنجي ، ويستجمر بشماله ، ولم يكن يصنع شيئاً مما يصنعه المبتلون بالوسواس من نتر الذكر ، والنحنحة ، والقفز ، ومسك الحبل ، وطلوع الدرج ، وحشو القطن في الإحليل ، وصب الماء فيه ، وتفقده الفينة بعد الفينة ، ونحو ذلك من بدع أهل الوسواس . وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا بال ، نتر ذكره ثلاثاً . وروي أنه أمر به ، ولكن لا يصح من فعله ولا أمره . قاله أبو جعفر العقيلي .
وكان إذا سلم عليه أحد وهو يبول ، لم يرد عليه ، ذكره مسلم في صحيحه عن ابن عمر .
وروى البزار في مسنده في هذه القصة أنه رد عليه ، ثم قال : " إنما رددت عليك خشية أن تقول : سلمت عليه ، فلم يرد علي سلاماً ، فإذا رأيتني هكذا فلا تسلم علي ، فإني لا أرد عليك السلام ". وقد قيل : لعل هذا كان مرتين ، وقيل : حديث مسلم أصح ، لأنه من حديث الضحاك بن عثمان ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وحديث البزار من رواية أبي بكر رجل من أولاد عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عنه . قيل : وأبو بكر هذا : هو أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، روى عنه مالك وغيره ، والضحاك أوثق منه . وكان إذا استنجى بالماء ، ضرب يده بعد ذلك على الأرض ، وكان إذا جلس لحاجته، لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:48 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الفطرة وتوابعها
قد سبق الخلاف هل ولد صلى الله عليه وسلم مختوناً ، أو ختنته الملائكة يوم شق صدره لأول مرة ، أو ختنه جده عبد المطلب ؟
وكان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وأخذه وعطائه ، وكانت يمينه لطعامه وشرابه وطهوره ، ويساره لخلائه ونحوه من إزالة الأذى .
وكان هديه في حلق الرأس تركه كله ، أو أخذه كله ، ولم يكن يحلق بعضه ، ويدع بعضه ، ولم يحفط عنه حلقه إلا في نسك .
وكان يحب السواك ، وكان يستاك مفطراً وصائماً ، ويستاك عند الانتباه من النوم ، وعند الوضوء ، وعند الصلاة ، وعند دخول المنزل ، وكان يستاك بعود الأراك .
وكان يكثر التطيب ، ويحب الطيب ، وذكر عنه أنه كان يطلي بالنورة . وكان أولاً يسدل شعره ، ثم فرقه ، والفرق : أن يجعل شعره فرقتين ، كل فرقة ذؤابة ، والسدل : أن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين . ولم يدخل حماماً قط ، ولعله ما رآه بعينه ، ولم يصح في الحمام حديث . وكان له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثاً عند النوم في كل عين .
واختلف الصحابة في خضابه ، فقال أنس : لم يخضب . وقال أبو هريرة : خضب ، وقد روى حماد بن سلمة عن حميد ، عن أنس قال : رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوباً ، قال حماد : وأخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل قال : رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك مخضوباً ، وقالت طائفة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر الطيب قد احمر شعره ، فكان يظن مخضوباً . ولم يخضب . وقال أبو رمثة : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن لي ، فقال : " أهذا ابنك ؟ " قلت : نعم أشهد به ، فقال : " لا تجني عليه ، ولا يجني عليك " ، قال : ورأيت الشيب أحمر . قال الترمذي : هذا أحسن شئ روي في هذا الباب وأفسره ، لأن الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الشيب . قال حماد بن سلمة عن سماك بن حرب : قيل لجابر بن سمرة : أكان في رأس النبي صلى الله عليه وسلم شيب ؟ قال : لم يكن في رأسه شيب إلا شعرات في مفرق رأسه إذا ادهن وأراهن الدهن . قال أنس : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ولحيته ، ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيات . وكان يحب الترجل ، وكان يرجل نفسه تارة ، وترجله عائشة تارة . وكان شعره فوق الجمة ودون الوفرة ، وكانت جمته تضرب شحمة أذنيه ، وإذا طال ، جعله غدائر أربعاً ، قالت أم هانئ : قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قدمة ، وله أربع غدائر ، والغدائر : الضفائر ، وهذا حديث صحيح . وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب ، وثبت عنه في حديث صحيح مسلم أنه قال : " من عرض عليه ريحان فلا يرده ، فإنه طيب الرائحين ، خفيف المحمل " ، هذا لفظ الحديث ، وبعضهم يرويه " من عرض عليه طيب فلا يرده " وليس بمعناه ، فإن الريحان لا تكثر المنة بأخذه ، وقد جرت العادة بالتسامح في بذله ، بخلاف المسك والعنبر والغالية ونحوها ، ولكن الذي ثبت عنه من حديث عزرة بن ثابت ، عن ثمامة ، قال أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب . وأما حديث ابن عمر يرفعه " ثلاث لا ترد : الوسائد ، والدهن ، واللبن " فحديث معلول ، رواه الترمذي وذكر علته ، ولا أحفظ الآن ما قيل فيه ، إلا أنه من رواية عبد الله بن مسلم بن جندب ، عن أبيه ، عن ابن عمر . ومن مراسيل أبي عثمان النهدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أعطي أحدكم الريحان ، فلا يرده ، فإنه خرج من الجنة " . وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكة يتطيب منها ، وكان أحب الطيب إليه المسك ، وكان يعجبه الفاغية قيل : وهي نور الحناء .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:49 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قص الشارب
قال أبو عمر بن عبد البر : روى الحسن بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه ، ويذكر أن إبراهيم كان يقص شاربه ، ووقفه طائفة على ابن عباس . وروى الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يأخذ من شاربه ، فليس منا " وقال : حديث صحيح . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قصوا الشوارب ، وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس " وفي الصحيحين عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " خالفوا المشركين ، ووفروا اللحي ، وأحفوا الشوارب " . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : وقت لنا النبي صلى الله عليه وسلم قص الشارب وتقليم الأظفار ، ألا نترك أكثر من أربعين يوماً وليلة .
واختلف السلف في قص الشارب و حلقه أيهما أفضل ؟ فقال مالك في موطئه : يؤخذ من الشارب حتى تبدو أطراف للشفة وهو الإطار ، ولا يجزه فيمثل بنفسه . وذكر ابن عبد الحكم عن مالك قال : يحفي الشارب ويعفي اللحى ، وليس إحفاء الشارب حلقه ، وأرى أن يؤدب من حلق شاربه ، وقال ابن القاسم عنه : إحفاء الشارب وحلقه عندي مثلة ، قال مالك : وتفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في إحفاء الشارب ، إنما هو الإطار ، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه ، وقال : أشهد في حلق الشارب أنه بدعة ، وأرى أن يوجع ضرباً من فعله ، قال مالك : وكان عمر بن الخطاب إذا كربه أمر ، نفخ، فجعل رجله بردائه وهو يفتل شاربه . وقال عمر بن عبد العزيز : السنة في الشارب الإطار . وقال الطحاوي : ولم أجد عن الشافعي شيئاً منصوصاً في هذا ، وأصحابه الذين رأينا المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما ، ويدل ذلك على أنهما أخذاه عن الشافعي رحمه الله ، قال : وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد ، فكان مذهبهم في شعر الرأس والشوارب أن الإحفاء أفضل من التقصير ، وذكر ابن خويز منداد المالكي عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة ، وهذا قول أبي عمر .
وأما الإمام أحمد ، فقال الأثرم : رأيت الإمام أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديداً ، وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب ؟ فقال : يحفي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " أحفوا الشوارب " وقال حنبل : قيل لأبي عبد الله: ترى الرجل يأخذ شاربه ، أو يحفيه ؟ أم كيف يأخذه ؟ قال : إن أحفاه ، فلا بأس ، وإن أخذه قصاً فلا بأس . وقال أبو محمد بن قدامة المقدسي في المغني : وهو مخير بين أن يحفيه ، وبين أن يقصه من غير إحفاء . قال الطحاوي : وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شاربه على سواك وهذا لا يكون معه إحفاء . واحتج من لم ير إحفاءه بحديثي عائشة وأبي هريرة المرفوعين " عشر من الفطرة ... فذكر منها قص الشارب " . وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه " الفطرة خمس ... " وذكر منها قص الشارب .
واحتج المحفون بأحاديث الأمر بالإحفاء ، وهي صحيحة ، وبحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجز شاربه . قال الطحاوي : وهذا الأغلب فيه الإحفاء ، وهو يحتمل الوجهين . وروى العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة يرفعه "جزوا الشوارب ، وأرخوا اللحى" . قال : وهذا يحتمل الإحفاء أيضاً ، وذكر بإسناده عن أبي سعيد ، وأبي أسيد ، ورافع بن خديج ، وسهل بن سعد ، وعبد الله بن عمر ، وجابر ، وأبي هريرة أنهم كانوا يحفون شواربهم . وقال إبراهيم بن محمد بن حاطب : رأيت ابن عمر يحفي شاربه كأنه ينتفه . وقال بعضهم : حتى يرى بياض الجلد . قال الطحاوي : ولما كان التقصير مسنوناً عند الجميع ، كان الحلق فيه أفضل قياس على الرأس ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين واحدة ، فجعل حلق الرأس أفضل من تقصيره ، فكذلك الشارب .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:49 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه
كان صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله ، وأعذبهم كلاماً ، وأسرعهم أداء ، وأحلاهم منطقاً ، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ، ويسبي الأرواح ، ويشهد له بذلك أعداؤه . وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ، ليس بهذ مسرع لا يحفظ ، ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام ، بل هديه فيه أكمل الهدي ، قالت عائشة : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه . وكان كثيراً ما يعيد الكلام ثلاثاً ليعقل عنه ، وكان إذا سلم سلم ثلاثاً . وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلام ، فصل لا فضول ولا تقصير ، وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، وإذا كره الشئ : عرف في وجهه ، ولم يكن فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا صخاباً . وكان جل ضحكه التبسم ، بل كله التبسم ، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه .
وكان يضحك مما يضحك منه ، وهو مما يتعجب من مثله ويستغرب وقوعه و يستندر .
وللضحك أسباب عديدة ، هذا أحدها . والثاني : ضحك الفرح ، وهو أن يرى ما يسره أو يباشره . والثالث : ضحك الغضب ، وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه ، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب ، وشعور نفسه بالقدرة على خصمه ، وأنه في قبضته ، وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب ، وإعراضه عمن أغضبه ، وعدم اكتراثه به .
وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم ، فكان من جنس ضحكه ، لم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة ، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ، ويسمع لصدره أزيز . وكان بكاؤه تارة رحمة للميت ، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها ، وتارة من خشية
الله ، وتارة عند سماع القرآن ، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال ، مصاحب للخوف والخشية . ولما مات ابنه ابراهيم ، دمعت عيناه وبكى رحمة له ، وقال : " تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " . وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ، وبكي لما قرأ عليه ابن مسعود سورة ( النساء ) وانتهى فيها إلى قوله تعالى : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ( النساء : 41) وبكى لما مات عثمان بن مظعون ، وبكى لما كسفت الشمس ، وصلى صلاة الكسوف ، وجعل يبكي في صلاته ، وجعل ينفخ ، ويقول : " رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ، ونحن نستغفرك " وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته وكان يبكي أحياناً في صلاة الليل .
والبكاء أنواع . أحدها : بكاء الرحمة ، والرقة .
والثاني : بكاء الخوف والخشية .
والثالث : بكاء المحبة والشوق .
والرابع : بكاء الفرح والسرور .
والخامس : بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله .
والسادس : بكاء الحزن .
والفرق بينه وبين بكاء الخوف ، أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه ، أو فوات محبوب ، وبكاء الخوف يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك ، والفرق بين بكاء السرور والفرح ، وبكاء الحزن ، أن دمعة السرور باردة ، والقلب فرحان ، ودمعة الحزن حارة ، والقلب حزين ، ولهذا يقال لما يفرح به : هو قرة عين ، وأقر الله به عينه ، ولما يحزن : هو سخينة العين ، وأسخن الله عينه به .
والسابع : بكاء الخور والضعف . والثامن : بكاء النفاق ، وهو أن تدمع العين ، والقلب قاس ، فيظهر صاحبه الخشوع ، وهو من أقسى الناس قلباً .
والتاسع : البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة ، فإنها كما قال عمر بن الخطاب : تبيع عبرتها ، وتبكي شجو غيرها .
والعاشر : بكاء الموافقة ، وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم ، فيبكي معهم ، ولا يدري لأي شئ يبكون ، ولكن يراهم يبكون ، فيبكي .
وما كان من ذلك دمعاً بلا صوت ، فهو بكى ، مقصور ، وما كان معه صوت ، فهو بكاء ، ممدود على بناء الأصوات .
وقال الشاعر :
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
وما كان منه مستدعى متكلفاً ، فهو التباكي ، وهو نوعان : محمود ، ومذموم ، فالمحمود ، أن يستجلب لرقة القلب ، ولخشية الله، لا للرياء والسمعة . والمذموم : أن يجتلب لأجل الخلق ، وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر : أخبرني ما يبكيك يا رسول الله ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت ، لبكائكما ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم . وقد قال بعض السلف : ابكوا من خشية الله ، فإن لم تبكوا ، فتباكوا .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:50 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته
خطب صلى الله عليه وسلم على الأرض ، وعلى المنبر ، وعلى البعير ، وعلى الناقة . وكان إذا خطب ، احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول : " صبحكم ومساكم " ويقول : " بعثت أنا والساعة كهاتين " ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ، ويقول : " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " .
وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله . وأما قول كثير من الفقهاء : إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار ، وخطبة العيدين بالتكبير ، فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ، وسنته تقتضي خلافه ، وهو افتتاح جميع الخطب بـ الحمد لله ، وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد ، وهو اختيار شيخنا قدس الله سره .
وكان يخطب قائماً ، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ، ثم قال : " السلام عليكم " قال الشعبي : وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك . وكان يختم خطبته بالاستغفار ، وكان كثيراً يخطب بالقرآن . وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت " ق والقرآن المجيد " إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس . وذكر أبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال : " الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة ، من يطع الله ورسوله ، فقد رشد ومن يعصهما ، فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئاً " وقال أبو داود عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، فذكر نحو هذا إلا أنه قال : " ومن يعصهما فقد غوى" .
قال ابن شهاب : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب : " كل ما هو آت قريب ، لا بعد لما هو آت ، ولا يعجل الله لعجلة أحد ، ولا يخف لأمر الناس ، ما شاء الله ، لا ما شاء الناس ، يريد الله شيئاً ويريد الناس شيئاً ، ما شاء الله كان ، ولو كره الناس ، ولا مبعد لما قرب الله ، ولا مقرب لما بعد الله ، ولا يكون شئ إلا بإذن الله " .
وكان مدار خطبه على حمد الله ، والثناء عليه بآلائه ، وأوصاف كماله ومحامده ، وتعليم قواعد الإسلام ، وذكر الجنة والنار والمعاد ، والأمر بتقوى الله ، وتبيين موارد غضبه ، ومواقع رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه .
وكان يقول في خطبه : " أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به ، ولكن سددوا وأبشروا " .
وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ، ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ، ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ويذكر فيها نفسه باسمه العلم .
وثبت عنه أنه قال : " كل خطبة ليس فيها تشهد ، فهي كاليد الجذماء "
ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته ، ولم يكن يلبس لباس الخطباء اليوم لا طرحة ، ولا زيقاً واسعاً .
وكان منبره ثلاث درجات ، فإذا استوى عليه ، واستقبل الناس ، أخذ المؤذن في الأذان فقط ، ولم يقل شيئاً قبله ولا بعده ، فإذا أخذ في الخطبة ، لم يرفع أحد صوته بشئ البتة ، لا مؤذن ولا غيره .
وكان إذا قام يخطب ، أخذ عصا ، فتوكأ عليها وهو على المنبر ، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب . وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك ، وكان أحيانا يتوكأ على قوس ، ولم يحفط عنه أنه توكأ على سيف ، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف ، وهذا جهل قبيح من وجهين ، أحدهما : أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس . الثاني : أن الدين إنما قام بالوحي ، وأما السيف ، فلمحق أهل الضلال والشرك ، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ، ولم تفتح بالسيف .
وكان إذا عرض له في خطبته عارض ، اشتغل به ، ثم رجع إلى خطبته ، وكان يخطب ، فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين ، فقطع كلامه ، فنزل ، فحملهما ، ثم عاد إلى منبره ، ثم قال : " صدق الله العظيم " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " ( الأنفال : 28) رأيت هذين يعثران في قميصيهما ، فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما " .
وجاء سليك ، الغطفاني وهو يخطب ، فجلس ، فقال له : " قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما "، ثم قال وهو على المنبر: " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " . وكان يقصر خطبته أحياناً ، ويطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس . وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة . وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ، ويحرضهن على الصدقة ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:50 AM
فصول في هديه صلى الله عليه وسلم في العبادات
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء
كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه ، وربما صلى الصلوات بوضوء واحد . وكان يتوضأ بالمد تارة ، وبثلثيه تارة ، وبأزيد منه تارة ، وذلك نحو أربع أواق بالدمشقي إلى أوقيتين وثلاث . وكان من أيسر الناس صباً لماء الوضوء ، وكان يحذر أمته من الإسراف فيه ، وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور ، وقال : " إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء " . ومر على سعد ، وهو يتوضأ فقال له : " لا تسرف في الماء " فقال : وهل في الماء من إسراف ؟ قال : " نعم وإن كنت على نهر جار " .
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة ، ومرتين مرتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وفي بعض الأعضاء مرتين ، وبعضها ثلاثاً .
وكان يتمضمض ويستنشق تارة بغرفة ، وتارة بغرفتين ، وتارة بثلاث . وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق ، فيأخذ نصف الغرفة لفمه ، ونصفها لأنفه ، ولا يمكن في الغرفة إلا هذا ، وأما الغرفتان والثلاث ، فيمكن فيهما الفصل والوصل ، إلا أن هديه صلى الله عليه وسلم كان الوصل بينهما ، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " تمضمض واستنشق من كف واحدة ، فعل ذلك ثلاثا " وفي لفظ : " تمضمض واستنثر بثلاث غرفات " فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق ، ولم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة ، لكن في حديث طلحة بن مصرف ، عن أبيه ، عن جده : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق ، ولكن لا يروى إلا عن طلحة عن أبيه عن جده ، ولا يعرف لجده صحبة . وكان يستنشق بيده اليمنى ، ويستنثر باليسرى ، وكان يمسح رأسه كله ، وتارة يقبل بيديه ويدبر ، وعليه يحمل حديث من قال : مسح برأسه مرتين . والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه ، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء ، أفرد مسح الرأس ، هكذا جاء عنه صريحاً ، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه البتة ، بل ما عدا هذا ، إما صحيح غير صريح ، كقول الصحابي : توضأ ثلاثاً ثلاثاً ، وكقوله: مسح برأسه مرتين ، وإما صريح غير صحيح ، كحديث ابن البيلماني ، عن أبيه ، عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ فغسل كفيه ثلاثاً " ثم قال : " ومسح برأسه ثلاثاً " وهذا لا يحتج به ، وابن البيلماني وأبوه مضعفان ، وإن كان الأب أحسن حالاً وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم : " مسح رأسه ثلاثاً ". وقال أبو داود : أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ، ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة . فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود : "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يده من تحت العمامة ، فمسح مقدم رأسه ، ولم ينقض العمامة ". فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله ، ولم ينف التكميل على العمامة ، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره ، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه . ولم يتوضأ صلى الله عليه وسلم إلا تمضمض واستنشق ، ولم يحفظ عنه أنه أخل به مرة واحدة ، وكذلك كان وضوؤه مرتباً متوالياً ، لم يخل به مرة واحدة البتة ، وكان يمسح على رأسه تارة ، وعلى العمامة تارة ، وعلى الناصية والعمامة تارة .
وأما اقتصاره على الناصية مجردة ، فلم يحفظ عنه كما تقدم . وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفين ولا جوربين ، ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين . وكان يمسح أذنيه مع رأسه ، وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما ، ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديداً ، وإنما صح ذلك عن ابن عمر . ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة ، ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئاً غير التسمية ، وكل حديث فى أذكار الوضوء الذي يقال عليه ، فكذب مختلق ، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه ، ولا علمه لأمته ، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله ، وقوله : " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين " في آخره . وفي حديث آخر في سنن النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضا : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك " .
و لم يكن يقول في أوله : نويت رفع الحدث ، ولا استباحة الصلاة ، لا هو ، ولا أحد من أصحابه البتة ، ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد ، لا بإسناد صحيح ، ولا ضعيف ، ولم يتجاوز الثلاث قط ، وكذلك لم يثبت عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين ، ولكن أبوهريرة كان يفعل ذلك ويتأول حديث إطالة الغرة . وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين ، ورجليه حتى أشرع في الساقين فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء ، ولا يدل على مسألة الإطالة .
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتاد تنشيف أعضائه بعد الوضوء ، ولا صح عنه في ذلك حديث البتة ، بل الذي صح عنه خلافه ، وأما حديث عائشة كان للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء ، وحديث معاذ بن جبل : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح على وجهه بطرف ثوبه ، فضعيفان لا يحتج بمثلهما ، في الأول سليمان بن أرقم متروك ، وفي الثاني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف ، قال الترمذي : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شئ .
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه الماء كلما توضأ، ولكن تارة يصب على نفسه ، وربما عاونه من يصب عليه أحياناً لحاجة كما في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أنه صب عليه في السفر لما توضأ .
وكان يخلل لحيته أحياناً ، ولم يكن يواظب على ذلك . وقد اختلف أئمة الحديث فيه ، فصحح الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته . وقال أحمد وأبو زرعة : لا يثبت في تخليل اللحية حديث .
وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه ، وفي السنن عن المستورد بن شداد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره ، وهذا إن ثبت عنه ، فإنما كان يفعله أحياناً ، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه ، كعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن زيد ، والربيع ، وغيرهم ، على أن في إسناده عبد الله بن لهيعة .
وأما تحريك خاتمه ، فقد روي فيه حديث ضعيف من رواية معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه . ومعمر وأبوه ضعيفان ، ذكر ذلك الدارقطني .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:50 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين
صح عنه أنه مسح في الحضر والسفر ، ولم ينسخ ذلك حتى توفي ، ووقت للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح ، وكان يمسح ظاهر الخفين ، ولم يصح عنه مسح أسفلهما إلا في حديث منقطع . والأحاديث الصحيحة على خلافه ، ومسح على الجوربين والنعلين ، ومسح على العمامة مقتصراً عليها ، ومع الناصية ، وثبت عنه ذلك فعلاً وأمراً في عدة أحاديث ، لكن في قضايا أعيان يحتمل أن تكون خاصة بحال الحاجة والضرورة ، ويحتمل العموم كالخفين ، وهو أظهر والله أعلم .
ولم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه ، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما ، وإن كانتا مكشوفتين ، غسل القدمين ، ولم يلبس الخف ليمسح عليه ، وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل ، قاله شيخنا ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:51 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في التيمم
كان صلى الله عليه وسلم يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين ، ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ، ولا إلى المرفقين . قال الإمام أحمد : من قال : إن التيمم إلى المرفقين ، فإنما هو شئ زاده من عنده . وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ، تراباً كانت أو سبخة أو رملاً . وصح عنه أنه قال : " حيثما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة ، فعنده مسجده وطهوره " ، وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل ، فالرمل له طهور . ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك ، قطعوا تلك الرمال في طريقهم ، وماؤهم في غاية القلة ، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ، ولا أمر به ، ولا فعله أحد من أصحابه ، مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب ، وكذلك أرض الحجاز وغيره ، ومن تدبر هذا ، قطع بأنه كان يتيمم بالرمل ، والله أعلم وهذا قول الجمهور .
وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ، ثم إمرارها إلى المرفق ، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع ، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن ، إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى ، فيطبقها عليها ، فهذا مما يعلم قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولاعلمه أحداً من أصحابه ، ولا أمر به ، ولا استحسنه ، وهذا هديه ، إليه التحاكم ، وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة ، ولا أمر به ، بل أطلق التيمم ، وجعله قائماً مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه ، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:51 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال : " الله أكبر " ولم يقل شيئاً قبلها ولا تلفظ بالنية البتة ، ولا قال : أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماماً أو مأموماً ، ولا قال : أداء ولا قضاء ، ولا فرض الوقت ، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة ، ولا عن أحد من أصحابه ، ولا استحسنه أحد من التابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، وإنما غر بعض المتأخرين قول الشافعي رضي الله عنه في الصلاة : إنها ليست كالصيام ، ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر ، فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية ، وإنما أراد الشافعي رحمه الله بالذكر : تكبيرة الإحرام ليس إلا ، وكيف يستحب الشافعى أمراً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة ، ولا أحد من خلفائه وأصحابه ، وهذا هديهم وسيرتهم ، فإن أوجدنا أحد حرفاً واحداً عنهم في ذلك ، قبلناه ، وقابلناه بالتسليم والقبول ، ولا هدي أكمل من هديهم ، ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم .
وكان دأبه في إحرامه لفظة : الله أكبر لا غيرها ، ولم ينقل أحد عنه سواها .
وكان يرفع يديه معها ممدودة الأصابع ، مستقبلاً بها القبلة إلى فروع أذنيه ، وروي إلى منكبيه ، فأبو حميد الساعدي ومن معه قالوا : حتى يحاذي بهما المنكبين ، وكذلك قال ابن عمر . وقال وائل بن حجر : إلى حيال أذنيه . وقال البراء : قريباً من أذنيه . وقيل : هو من العمل المخير فيه ، وقيل : كان أعلاها إلى فروع أذنيه ، وكفاه إلى منكبيه ، فلا يكون اختلافاً ، ولم يختلف عنه في محل هذا الرفع .
ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى .
وكان يستفتح تارة بـ " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ، اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " .
وتارة يقول : " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين ، اللهم أنت الملك ، لا إله إلا أنت ، أنت ربي ، وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي . فاغفر لي ذنوبي جميعها ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئ الأخلاق ، لايصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك ، والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك ، أنا بك وإليك تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك " ، ولكن المحفوظ أن هذا الاستفتاح إنما كان يقوله في قيام الليل .
وتارة يقول : " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " .
وتارة يقول : " اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض ، ومن فيهن ..." الحديث . وسيأتي في بعض طرقه الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كبر ، ثم قال ذلك .
وتارة يقول : " الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله كثيراً ، الحمد لله كثيراً ، الحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، سبحان الله بكرة وأصيلاً ، سبحان الله بكرة وأصيلاً ، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " .
وتارة يقول : " الله أكبر عشر مرات ، ثم يسبح عشر مرات ، ثم يحمد عشراً ، ثم يهلل عشراً ، ثم يستغفر عشراً " ، ثم يقول : " اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني عشراً "، ثم يقول : " اللهم إني أعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة عشراً ".
فكل هذه الأنواع صحت عنه صلى الله عليه وسلم .
وروي عنه أنه كان يستفتح بـ " سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك " ذكر ذلك أهل السنن من حديث علي بن علي الرفاعي ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد على أنه ربما أرسل ، وقد روي مثله من حديث عائشة رضي الله عنها ، والأحاديث التي قبله أثبت منه ، ولكن صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به ، ويعلمه الناس وقال الإمام أحمد : أما أنا فأذهب إلى ما روى عن عمر ، ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح كان حسناً .
وإنما اختار الإمام أحمد هذا لعشرة أوجه قد ذكرتها في مواضع أخرى . منها جهر عمر به يعلمه الصحابة .
ومنها اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن ، فإن أفضل الكلام بعد القرآن : سبحان الله ، والحمد الله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وقد تضمنها هذا الاستفتاح مع تكبيرة الإحرام .
ومنها أنه استفتاح أخلص للثناء على الله ، وغيره متضمن للدعاء ، والثناء أفضل من الدعاء ، ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ، لأنها أخلصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى ، والثناء عليه ، ولهذا كان سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر أفضل الكلام بعد القرآن ، فيلزم أن ما تضمنها من الاستفتاحات أفضل من غيره من الاستفتاحات .
ومنها أن غيره من الاستفتاحات عامتها إنما هي في قيام الليل في النافلة ، وهذا كان عمر يفعله ، ويعلمه الناس في الفرض .
ومنها أن هذا الاستفتاح إن شاء للثناء على الرب تعالى ، متضمن للإخبار عن صفات كماله ، ونعوت جلاله ، والاستفتاح بـ وجهت وجهي إخبار عن عبودية العبد ، وبينهما من الفرق ما بينهما .
ومنها أن من اختار الاستفتاح بـ وجهت وجهي لا يكمله ، وإنما يأخذ بقطعة من الحديث ، ويذر باقيه ، بخلاف الاستفتاح بـ سبحانك اللهم وبحمدك فإن من ذهب إليه يقوله كله إلى آخره .
وكان يقول بعد ذلك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة ، وكان يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم تارة ، ويخفيها أكثر مما يجهر بها . ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات أبداً ، حضراً وسفراً ، ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين ، وعلى جمهور أصحابه ، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة ، هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة ، وأحاديث واهية ، فصحيح تلك الأحاديث غير صريح ، وصريحها غير صحيح ، وهذا موضع يستدعي مجلداً ضخماً .
وكانت قراءته مداً ، يقف عند كل آية ، ويمد بها صوته .
فإذا فرغ من قراءة الفاتحة ، قال : آمين فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته ، وقالها من خلفه . وكان له سكتتان ، سكتة بين التكبير والقراءة ، وعنها سأله أبو هريرة ، واختلف في الثانية ، فروي أنها بعد الفاتحة . وقيل : إنها بعد القراءة وقبل الركوع . وقيل : هي سكتتان غير الأولى ، فتكون ثلاثاً ، والظاهر إنما هي اثنتان فقط ، وأما الثالثة ، فلطيفة جداً لأجل تراد النفس ، ولم يكن يصل القراءة بالركوع ، بخلاف السكتة الأولى ، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح ، والثانية قد قيل : إنها لأجل قراءة المأموم ، فعلى هذا : ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة ، وأما الثالثة ، فللراحة والنفس فقط ، وهي سكتة لطيفة ، فمن لم يذكرها ، فلقصرها ، ومن اعتبرها ، جعلها سكتة ثالثة ، فلا اختلاف بين الروايتين ، وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث . وقد صح حديث السكتتين ، من رواية سمرة ، وأبي بن كعب ، وعمران بن حصين ، ذكر ذلك أبو حاتم في صحيحه وسمرة هو ابن جندب ، وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب وقد قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين : سكتة إذا كبر ، وسكتة إذا فرغ من قراءة " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " . وفي بعض طرق الحديث: فإذا فرغ من القراءة ، سكت وهذا كالمجمل ، واللفظ الأول مفسر مبين ، ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : للإمام سكتتان ، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب إذا افتتح الصلاة ، وإذا قال : ولا الضالين على أن تعيين محل السكتتين ، إنما هو من تفسير قتادة ، فإنه روى الحديث عن الحسن ، عن سمرة قال : سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنكر ذلك عمران ، فقال : حفظناها سكتة ، فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة ، فكتب أبي أن قد حفظ سمرة ، قال سعيد : فقلنا لقتادة ما هاتان السكتتان قال : إذا دخل في الصلاة ، وإذا فرغ من القراءة ، ثم قال بعد ذلك : وإذا قال : ولا الضالين . قال : وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه ومن يحتج بالحسن عن سمرة يحتج بهذا .
فإذا فرغ من الفاتحة ، أخذ في سورة غيرها ، وكان يطيلها تارة ويخففها لعارض من سفر أو غيره ، ويتوسط فيها غالباً .
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية ، وصلاها بسورة ( ق) وصلاها بـ ( الروم ) وصلاها بـ ( إذا الشمس كورت ) وصلاها بـ ( إذا زلزلت ) في الركعتين كليهما ، وصلاها بـ ( المعوذتين ) وكان في السفر وصلاها ، فافتتح بـ ( سورة المؤمنين ) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى ، أخذته سعلة فركع .
وكان يصليها يوم الجمعة بـ ( ألم تنزيل السجدة ) وسورة ( هل أتى على الإنسان ) كاملتين ، ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين ، وقراءة السجدة وحدها في الركعتين ، وهو خلاف السنة . وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فضل بسجدة ، فجهل عظيم ، ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة السجدة لأجل هذا الظن ، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدإ والمعاد ، وخلق آدم ، ودخول الجنة والنار ، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة ، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم ، تذكيراً للأمة بحوادث هذا اليوم ، كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة ( ق ) و ( و اقتربت ) و ( سبح ) و ( الغاشية ) .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:52 AM
فصل في إطالة الركعة الأولى وقراءة السور وغير ذلك
وأما الظهر ، فكان يطيل قراءتها أحياناً ، حتى قال أبو سعيد : " كانت صلاة الظهر تقام ، فيذهب الذاهب إلى البقيع ، فيقضي حاجته ، ثم يأتي أهله ، فيتوضأ، ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها " رواه مسلم .
وكان يقرأ فيها تارة بقدر ( ألم تنزيل ) وتارة بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( الليل إذا يغشى ) وتارة بـ ( السماء ذات البروج ) و ( السماء والطارق ) .
وأما العصر ، فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت ، وبقدرها إذا قصرت .
وأما المغرب ، فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم ، فإنه صلاها مرة بـ ( الأعراف ) فرقها في الركعتين ، ومرة بـ ( الطور ) ومرة بـ ( المرسلات ) .
قال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بـ ( المص ) وأنه قرأ فيها بـ ( الصافات ) وأنه قرأ فيها بـ ( حم الدخان ) وأنه قرأ فيها بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) وأنه قرأ فيها بـ ( التين والزيتون ) وأنه قرأ فيها بـ ( المعوذتين ) وأنه قرأ فيها بـ ( المرسلات ) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل . قال : وهى كلها آثار صحاح مشهورة . انتهى .
وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائماً ، فهو فعل مروان بن الحكم ، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت ، وقال : ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ؟! وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين . قال : قلت : وما طولى الطوليين ؟ قال : ( الأعراف ) وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن .
وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة ( الأعراف ) فرقها في الركعتين . فالمحافظة فيها على الآية القصيرة ، والسورة من قصار المفصل خلاف السنة ، وهو فعل مروان بن الحكم .
وأما العشاء الآخرة ، فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم بـ ( التين والزيتون ) ووقت لمعاذ فيها بـ ( الشمس وضحاها ) و( سبح اسم ربك الأعلى) و( الليل إذا يغشى ) ونحوها ، وأنكر عليه قراءته فيها بـ ( البقرة ) بعدما صلى معه ، ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ، فأعادها لهم بعدما مضى من الليل ما شاء الله ، وقرأ بهم بـ ( البقرة ) ولهذا قال له : " أفتان أنت يا معاذ " فتعلق النقارون بهذه الكلمة ، ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها .
وأما الجمعة ، فكان يقرأ فيها بسورتي ( الجمعة ) و ( المنافقين ) كاملتين و ( سورة سبح ) و ( الغاشية ) .
وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من " يا أيها الذين آمنوا " إلى آخرها ، فلم يفعله قط ، وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه .
وأما قراءته في الأعياد ، فتارة كان يقرأ سورتي ( ق ) و ( اقتربت) كاملتين ، وتارة سورتي ( سبح ) و ( الغاشية ) وهذا هو الهدي الذي استمر صلى الله عليه وسلم عليه إلى أن لقي الله عز وجل ، لم ينسخه شئ .
ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده ، فقرأ أبو بكر رضي الله عنه في الفجر بسورة ( البقرة ) حتى سلم منها قريباً من طلوع الشمس ، فقالوا : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كادت الشمس تطلع ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين .
وكان عمر رضي الله عنه يقرأ فيها بـ ( يوسف ) و ( النحل ) و بـ ( هود ) و ( بني إسرائيل ) ونحوها من السور ، ولو كان تطويله صلى الله عليه وسلم منسوخاً لم يخف على خلفائه الراشدين ، ويطلع عليه النقارون .
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر " ق والقرآن المجيد " وكانت صلاته بعد تخفيفاً فالمراد بقوله بعد أي : بعد الفجر ، أي : إنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها ، وصلاته بعدها تخفيفاً . ويدل على ذلك قول أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ و ( المرسلات عرفاً ) فقالت : يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب فهذا في آخر الأمر .
وأيضا فإن قوله : وكانت صلاته بعد غاية قد حذف ما هي مضافة إليه ، فلا يجوز إضمار ما لا يدل عليه السياق ، وترك إضمار ما يقتضيه السياق ، والسياق إنما يقتضي أن صلاته بعد الفجر كانت تخفيفاً ، ولا يقتضي أن صلاته كلها بعد ذلك اليوم كانت تخفيفاً ، هذا ما لا يدل عليه اللفظ ، ولو كان هو المراد ، لم يخف على خلفائه الراشدين ، فيتمسكون بالمنسوخ ، ويدعون الناسخ .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " أيكم أم الناس ، فليخفف " وقول أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، وواظب عليه ، لا إلى شهوة المأمومين ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهـم بأمر ، ثم يخالفه ، وقد عالم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة ، فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به ، فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة ، فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها ، وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازغ فيه المتنازعون ، ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بـ ( الصافات ) فالقرءاة بـ ( الصافات ) من التخفيف الذي كان يأمر به ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:53 AM
فصل في هديه عدم تعيينه سورة بعينها إلا في الجمعة والعيدين
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعين سورة في الصلاة بعينها لا يقرأ إلا بها إلا في الجمعة والعيدين ، وأما في سائر الصلوات ، فقد ذكر أبو داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة . وكان من هديه قراءة السورة كاملة ، وربما قرأها في الركعتين ، وربما قرأ أول السورة . وأما قراءة أواخر السور وأوساطها، فلم يحفظ عنه . وأما قراءة السورتين في ركعة ، فكان يفعله في النافلة ، وأما في الفرض ، فلم يحفظ عنه . وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه : إني لأعرف النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن السورتين في الركعة ( الرحمن ) و ( النجم ) في ركعة و ( اقتربت) و ( الحاقة ) في ركعة و ( الطور ) و ( الذرايات ) في ركعة و ( إذا وقعت ) و( ن ) في ركعة الحديث فهذا حكاية فعل لم يعين محله هل كان في الفرض أو النفل ؟ وهو محتمل . وأما قراءة سورة واحدة في ركعتين معاً ، فقلما كان يفعله . وقد ذكر أبو داود عن رجل من جهينة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح ( إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما، قال : فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم قرأ ذلك عمداً .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:54 AM
فصل في إطالة الركعة الأولى على الثانية من صلاة الصبح
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى على الثانية من صلاة الصبح ومن كل صلاة ، وربما كان يطيلها حتى لا يسمع وقع قدم ، وكان يطيل صلاة الصبح أكثر من سائر الصلوات ، وهذا لأن قرآن الفجر مشهود ، يشهده الله تعالى وملائكته ، وقيل : يشهده ملائكة الليل والنهار ، والقولان مبنيان على أن النزول الإلهي هل يدوم إلى انقضاء صلاة الصبح ، أو إلى طلوع الفجر ؟ وقد ورد فيه هذا وهذا . وأيضا فإنها لما نقص عدد ركعاتها ، جعل تطويلها عوضاً عما نقصته من العدد .
وأيضاً فإنها تكون عقيب النوم ، والناس مستريحون .
وأيضاً فإنهم لم يأخذوا بعد في استقبال المعاش ، وأسباب الدنيا .
وأيضاً فإنها تكون في وقت تواطأ فيه السمع واللسان والقلب لفراغه وعدم تمكن الاشتغال فيه ، فيفهم القرآن ويتدبره .
وأيضاً فإنها أساس العمل وأوله ، فأعطيت فضلاً من الاهتمام بها وتطويلها ، وهذه أسرار إنما يعرفها من له إلتفات إلى أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها ، والله المستعان .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:54 AM
فصل في كيفية ركوعه والرفع منه
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من القراءة ، سكت بقدر ما يتراد إليه نفسه ، ثم رفع يديه كما تقدم ، وكبر راكعاً ، ووضع كفيه على ركبتيه كالقابض عليهما ، ووتر يديه ، فنحاهما عن جنبيه ، وبسط ظهره ومده ، واعتدل ، ولم ينصب رأسه ، ولم يخفضه ، بل يجعله حيال ظهره معادلاً له .
وكان يقول : سبحان ربي العظيم وتارة يقول مع ذلك ، أو مقتصراً عليه : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي . وكان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات ، وسجوده كذلك . وأما حديث البراء بن عازب رضى الله عنه : رمقت الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان قيامه فركوعه فاعتداله فسجدته ، فجلسته ما بين السجدتين قريباً من السواء . فهذا قد فهم منه بعضهم أنه كان يركع بقدر قيامه ، ويسجد بقدره ، ويعتدل كذلك . وفي هذا الفهم شئ ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالمائة آية أو نحوها ، وقد تقدم أنه قرأ في المغرب بـ ( الأعراف ) و ( الطور ) و ( المرسلات ) ومعلوم أن ركوعه وسجوده لم يكن قدر هذه القراءة ، ويدل عليه حديث أنس الذي رواه أهل السنن أنه قال : ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز ، قال : فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات ، وفي سجوده عشر تسبيحات هذا مع قول أنس أنه كان يؤمهم بـ ( الصافات ) فمراد البراء - والله أعلم- أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة ، فكان إذا أطال القيام ، أطال الركوع والسجود ، وإذا خفف القيام ، خفف الركوع والسجود ، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام ، ولكن كان يفعل ذلك أحياناً في صلاة الليل وحدها ، وفعله أيضاً قريباً من ذلك في صلاة الكسوف ، وهديه الغالب صلى الله عليه وسلم تعديل الصلاة وتناسبها .
وكان يقول أيضاً في ركوعه " سبوح قدوس رب الملائكة والروح " وتارة يقول : " اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي " . وهذا إنما حفظ عنه في قيام الليل .
ثم كان يرفع رأسه بعد ذلك قائلاً : " سمع الله لمن حمده " ويرفع يديه كما تقدم ، وروى رفع اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحو من ثلاثين نفساً ، واتفق على روايتها العشرة ، ولم يثبت عنه خلاف ذلك البتة ، بل كان ذلك هديه دائماً إلى أن فارق الدنيا ، ولم يصح عنه حديث البراء : ثم لا يعود بل هي من زيادة يزيد بن زياد . فليس ترك ابن مسعود الرفع مما يقدم على هديه المعلوم ، فقد ترك من فعل ابن مسعود في الصلاة أشياء ليس معارضها مقارباً ولا مدانياً للرفع ، فقد ترك من فعله التطبيق والافتراش في السجود ، ووقوفه إماماً بين الإثنين في وسطهما دون التقدم عليهما ، وصلاته الفرض في البيت بأصحابه بغير أذان ولا إقامة لأجل تأخير الأمراء ، وأين الأحاديث في خلاف ذلك من الأحاديث التى في الرفع كثرة وصحة وصراحة وعملاً ، وبالله التوفيق .
وكان دائماً يقيم صلبه إذا رفع من الركوع ، وبين السجدتين ، ويقول " لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود " ذكره ابن خزيمة في صحيحه .
وكان إذا استوى قائماً ، قال : ربنا ولك الحمد وربما قال : ربنا لك الحمد وربما قال : اللهم ربنا لك الحمد صح ذلك عنه . وأما الجمع بين اللهم و الواو فلم يصح .
وكان من هديه إطالة هذا الركن بقدر الركوع والسجود ، فصح عنه أنه كان يقول : " سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شئ بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد -: لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" .
وصح عنه أنه كان يقول فيه : " اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ، ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب " .
وصح عنه أنه كرر فيه قوله : " لربي الحمد ، لربي الحمد " حتى كان بقدر الركوع .
وصح عنه أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يمكث حتى يقول القائل : قد نسي من إطالته لهذا الركن . وذكر مسلم عن أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : سمع الله لمن حمده ، قام حتى نقول : قد أوهم ، ثم يسجد ، ثم يقعد بين السجدتين حتى نقول : قد أوهم .
وصح عنه في صلاة الكسوف أنه أطال هذا الركن بعد الركوع حتى كان قريباً من ركوعه ، وكان ركوعه قريباً من قيامه .
فهذا هديه المعلوم الذي لا معارض له بوجه .
وأما حديث البراء بن عازب : كان ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجوده بين السجدتين ، وإذا رفع رأسه من الركوع - ما خلا القيام والقعود - قريباً من السواء . رواه البخاري فقد تشبث به من ظن تقصير هذين الركنين ، ولا متعلق له ، فإن الحديث مصرح فيه بالتسوية بين هذين الركنين وبين سائر الأركان ، فلو كان القيام والقعود المستثنيين هو القيام بعد الركوع والقعود بين السجدتين ، لناقض الحديث الواحد بعضه بعضاً ، فتعين قطعاً أن يكون المراد بالقيام والقعود قيام القراءة ، وقعود التشهد ، ولهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم فيهما إطالتهما على سائر الأركان كما تقدم بيانه ، وهذا بحمد الله واضح ، وهو مما خفي من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته على من شاء الله أن يخفى عليه .
قال شيخنا : وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة ، وأحدثوه فيها ، كما أحدثوا فيها ترك إتمام التكبير ، وكما أحدثو التأخير الشديد ، وكما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم وربي في ذلك من ربي حتى ظن أنه من السنة .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:55 AM
فصل في كيفية سجوده والقيام منه
فصل
ثم كان يكبر ويخر ساجداً ، ولا يرفع يديه وقد روي عنه أنه كان يرفعهما أيضاً ، وصححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم رحمه الله ، وهو وهم ، فلا يصح ذلك عنه البتة ، والذي غره أن الراوي غلط من قوله : كان يكبر في كل خفض ورفع إلى قوله : كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع ، وهو ثقة ولم يفطن لسبب غلط الراوي ووهمه ، فصححه . والله أعلم .
وكان صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه قبل يديه ، ثم يديه بعدهما ، ثم جبهته وأنفه ، هذا هو الصحيح الذي رواه شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن وائل بن حجر : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد ، وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض ، رفع يديه قبل ركبتيه ، ولم يرو في فعله ما يخالف ذلك .
وأما حديث أبي هريرة يرفعه " إذا سجد أحدكم ، فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه " فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهم من بعض الرواة ، فإن أوله يخالف آخره ، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه ، فقد برك كما يبرك البعير ، فإن البعير إنما يضع يديه أولاً ، ولما علم أصحاب هذا القول ذلك ، قالوا : ركبتا البعير في يديه ، لا في رجليه ، فهو إذا برك ، وضع ركبتيه أولاً ، فهذا هو المنهي عنه ، وهو فاسد لوجوه .
أحدها : أن البعير إذا برك ، فإنه يضع يديه أولاً ، وتبقى رجلاه قائمتين ، فإذا نهض ، فإنه ينهض برجليه أولاً ، وتبقى يداه على الأرض ، وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ، وفعل خلافه . وكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب ، وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى .
وكان يضع ركبتيه أولاً ، ثم يديه ، ثم جبهته . وإذا رفع ، رفع رأسه أولاً ، ثم يديه ، ثم ركبتيه ، وهذا عكس فعل البعير ، وهو صلى الله عليه وسلم نهى في الصلاة عن التشبه بالحيوانات ، فنهى عن بروك كبروك البعير ، والتفات كالتفات الثعلب ، وافتراش كافتراش السبع ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، ونقر كنقر الغراب ورفع الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل الشمس ، فهدي المصلي مخالف لهدي الحيوانات .
الثاني : أن قولهم : ركبتا البعير في يديه كلام لا يعقل ، ولا يعرفه أهل اللغة وإنما الركبة في الرجلين ، وإن أطلق على اللتين في يديه اسم الركبة ، فعلى سبيل التغليب .
الثالث : أنه لو كان كما قالوه ، لقال : فليبرك كما يبرك البعير ، وإن أول ما يمس الأرض من البعير يداه . وسر المسألة أن من تأمل بروك البعير ، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بروك كبروك البعير ، علم أن حديث وائل بن حجر هو الصواب ، والله أعلم .
وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة كما ذكرنا مما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله ، ولعله : وليضع ركبتيه قبل يديه كما انقلب على بعضهم حديث ابن عمر " إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ". فقال : ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال . وكما انقلب على بعضهم حديث " لا يزال يلقى في النار ، فتقول : هل من مزيد ... إلى أن قال : وأما الجنة فينشئ الله لها خلقاً يسكنهم إياها فقال : وأما النار فينشئ الله لها خلقاً يسكنهم إياها " حتى رأيت أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك، فقال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سجد أحدكم ، فليبدأ بركبتيه قبل يديه ، ولا يبرك كبروك الفحل " ورواه الأثرم في سننه أيضاً عن أبي بكر كذلك . وقد روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدق ذلك ، ويوافق حديث وائل بن حجر . قال ابن أبي داود : حدثنا يوسف بن عدي ، حدثنا ابن فضيل هو محمد ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه .
وقد روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : كنا نضع اليدين قبل الركبتين ، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين وعلى هذا فإن كان حديث أبي هريرة محفوظاً ، فإنه منسوخ ، وهذه طريقة صاحب المغني وغيره ، ولكن للحديث علتان .
إحداهما : أنه من رواية يحيى ابن سلمة بن كهيل ، وليس ممن يحتج به ، قال النسائي : متروك . وقال ابن حبان : منكر الحديث جداً لا يحتج به ، وقال ابن معين : ليس بشئ .
الثانية : أن المحفوظ من رواية مصعب بن سعد عن أبيه هذا إنما هو قصة التطبيق ، وقول سعد : كنا نصنع هذا ، فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب .
وأما قول صاحب المغني عن أبي سعيد قال : كنا نضع اليدين قبل الركبتين ، فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين ، فهذا - والله أعلم - وهم في الاسم ، وإنما هو عن سعد ، وهو أيضاً وهم في المتن كما تقدم ، وإنما هو في قصة التطبيق ، والله أعلم .
وأما حديث أبي هريرة المتقدم ، فقد علله البخاري ، والترمذي ، والدارقطني . قال البخاري : محمد بن عبد الله بن حسن لا يتابع عليه ، وقال : لا أدري أسمع من أبي الزناد ، أم لا . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه .
وقال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي ، عن أبي الزناد ، وقد ذكر النسائي عن قتيبة ، حدثنا عبد الله بن نافع ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يعمد أحدكم في صلاته ، فيبرك كما يبرك الجمل " ولم يزد . قال أبو بكر بن أبي داود : وهذه سنة تفرد بها أهل المدينة ، ولهم فيها إسنادان ، هذا أحدهما ، والآخر عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قلت : أراد الحديث الذي رواه أصبغ بن الفرج ، عن الدراوردي ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ، ويقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك . رواه الحاكم في المستدرك من طريق محرز بن سلمة عن الدراوردي وقال على شرط مسلم وقد رواه الحاكم من حديث حفص بن غياث ، عن عاصم الأحول ، عن أنس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه قال الحاكم : على شرطهما ، ولا أعلم له علة .
قلت : قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث ، فقال : هذا الحديث منكر . انتهى . وإنما أنكره - والله أعلم - لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار ، عن حفص بن غياث ، والعلاء هذا مجهول لا ذكر له في الكتب الستة . فهذه الأحاديث المرفوعة من الجانبين كما ترى .
وأما الآثار المحفوظة عن الصحابة ، فالمحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ، ذكره عنه عبد الرزاق وابن المنذر ، وغيرهما ، وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، ذكره الطحاوي عن فهد عن عمر بن حفص ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود قالا : حفظنا عن عمر في صلاته أنه خر بعد ركوعه على ركبتيه كما يخر البعير ، ووضع ركبتيه قبل يديه ، ثم ساق من طريق الحجاج بن أرطاة قال : قال إبراهيم النخعي : حفظ عن عبد الله بن مسعود أن ركبتيه كانتا تقعان على الأرض قبل يديه ، وذكر عن أبي مرزوق عن وهب ، عن شعبة ، عن مغيرة قال : سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد ؟ قال : أو يصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون !
قال ابن المنذر : وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب ، فممن رأى أن يضع ركبتيه قبل يديه : عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبه قال النخعي ، ومسلم بن يسار ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأهل الكوفة .
وقالت طائفة : يضع يديه قبل ركبتيه ، قاله مالك : وقال الأوزاعي : أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم . قال ابن أبي داود : وهو قول أصحاب الحديث .
قلت : وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ آخر ذكره البيهقي ، وهو : " إذا سجد أحدكم ، فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه على ركبتيه " قال البيهقى : فإن كان محفوظاً ، كان دليلاً على أنه يضع يديه قبل ركبتيه عند الإهواء إلى السجود .
وحديث وائل بن حجر أولى لوجوه .
أحدها : أنه أثبت من حديث أبي هريرة ، قاله الخطابي ، وغيره .
الثاني : أن حديث أبي هريرة مضطرب المتن كما تقدم ، فمنهم من يقول فيه : وليضع يديه قبل ركبتيه ، ومنهم من يقول بالعكس ، ومنهم من يقول : وليضع يديه على ركبتيه ، ومنهم من يحذف هذه الجملة رأساً .
الثالث : ما تقدم من تعليل البخاري والدارقطني وغيرهما .
الرابع : أنه على تقدير ثبوته قد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخ قال ابن المنذر : وقد زعم بعض أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ ، وقد تقدم ذلك .
الخامس : أنه الموافق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بروك كبروك الجمل في الصلاة ، بخلاف حديث أبي هريرة .
السادس : أنه الموافق للمنقول عن الصحابة ، كعمر بن الخطاب ، وابنه ، وعبد الله بن مسعود ، ولم ينقل عن أحد منهم ما يوافق حديث أبي هريرة إلا عن عمر رضي الله عنه على اختلاف عنه .
السابع : أن له شواهد من حديث ابن عمر وأنس كما تقدم ، وليس لحديث أبي هريرة شاهد ، فلو تقاوما ، لقدم حديث وائل بن حجر من أجل شواهده ، فكيف وحديث وائل أقوى كما تقدم . الثامن : أن أكثر الناس عليه ، والقول الآخر إنما يحفظ عن الأوزاعي ومالك ، وأما قول ابن أبي داود : إنه قول أهل الحديث ، فإنما أراد به بعضهم ، وإلا فأحمد والشافعي وإسحاق على خلافه .
التاسع : أنه حديث فيه قصة محكية سيقت لحكاية فعله صلى الله عليه وسلم ، فهو أولى أن يكون محفوظاً ، لأن الحديث إذا كان فيه قصة محكية ، دل على أنه حفظ .
العاشر : أن الأفعال المحكية فيه كلها ثابتة صحيحة من رواية غيره ، فهي أفعال معروفة صحيحة ، وهذا واحد منها ، فله حكمها ، ومعارضه ليس مقاوماً له ، فيتعين ترجيحه ، والله أعلم .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة ، ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن ، ولكن روى عبد الرزاق في المصنف من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته ، وهو من رواية عبد الله بن محرب ، وهو متروك وذكره أبو أحمد الزبيري من حديث جابر ، ولكنه من رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفي ، متروك عن متروك ، وقد ذكر أبو داود في المراسيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي في المسجد ، فسجد بجبينه ، وقد اعتم على جبهته ، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبهته .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الأرض كثيراً ، وعلى الماء والطين وعلى الخمرة المتخذة من خوص النخل ، وعلى الحصير المتخذ منه ، وعلى الفروة المدبوغة .
وكان إذا سجد ، مكن جبهته وأنفه من الأرض ، ونحى يديه عن جنبيه ، وجافى بهما حتى يرى بياض إبطيه ، ولو شاءت بهمة - وهي الشاة الصغيرة - أن تمر تحتهما لمرت .
وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه ، وفي صحيح مسلم عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سجدت ، فضع كفيك وارفع مرفقيك ". وكان يعتدل في سجوده ، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة .
وكان يبسط كفيه وأصابعه ، ولا يفرج بينها ولا يقبضها ، وفي صحيح ابن حبان كان " إذا ركع ، فرج أصابعه ، فإذا سجد ، ضم أصابعه ". وكان يقول : " سبحان ربي الأعلى " وأمر به .
وكان يقول : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي " . وكان يقول : " سبوح قدوس رب الملائكة والروح " .
وكان يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ".
وكان يقول : " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " .
وكان يقول : " اللهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوره ، وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين " .
وكان يقول : " اللهم اغفر لي ذنبي كله ، دقه وجله ، وأوله وآخره ، وعلانيته وسره " .
وكان يقول : " اللهم اغفز لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي ، اللهم اغفز لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، أنت إلهى ، لا إله إلا أنت " .
وكان يقول : " اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، وأمامي نوراً ، وخلفي نوراً ، وفوقي نوراً ، وتحتي نوراً ، واجعل لي نوراً " .
وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال : " إنه قمن أن يستجاب لكم " . وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود ، أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل ، فليكن في السجود ؟ وفرق بين الأمرين ، وأحسن ما يحمل عليه الحديث أن الدعاء نوعان : دعاء ثناء ، ودعاء مسألة ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين ، والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين.
والاستجابة أيضا نوعان : استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله ، واستجابة دعاء المثني بالثواب ، وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى : " أجيب دعوة الداع إذا دعان " ( البقرة : 187) والصحيح أنه يعم النوعين .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:56 AM
فصل في التفاضل بين طول القيام وإكثار السجود
فصل
وقد اختلف الناس في القيام والسجود أيهما أفضل ؟ فرجحت طائفة القيام لوجوه .
أحدها : أن ذكره أفضل الأذكار ، فكان ركنه أفضل الأركان .
والثاني : قوله تعالى : " قوموا لله قانتين " ( البقرة : 238) .
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة طول القنوت " .
وقالت طائفة : السجود أفضل ، واحتجت بقوله صلى الله عليه وسلم : " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " . وبحديث معدان بن أبي طلحة قال : لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : حدثني بحديث عسى الله أن ينفعني به ؟ فقال : عليك بالسجود فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفع الله له بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة "قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء ، فسألته ، فقال لي مثل ذلك . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي وقد سأله مرافقته في الجنة " أعني على نفسك بكثرة السجود " .
وأول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة ( اقرأ ) على الأصح ، وختمها بقوله : " واسجد واقترب " ( العلق :19) .
و بأن السجود لله يقع من المخلوقات كلها علويها وسفليها ، وبأن الساجد أذل ما يكون لربه وأخضع له ، وذلك أشرف حالات العبد ، فلهذا كان أقرب ما يكون من ربه في هذه الحالة ، وبأن السجود هو سر العبودية ، فإن العبودية هي الذل والخضوع ، يقال : طريق معبد ، أي ذللته الأقدام ، ووطأته ، وأذل ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجداً .
وقالت طائفة : طول القيام بالليل أفضل ، وكثرة الركوع والسجود بالنهار أفضل ، واحتجت هذه الطائفة بأن صلاة الليل قد خصت باسم القيام ، لقوله تعالى : " قم الليل " ( المزمل : 1) وقوله صلى الله عليه وسلم : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً "، ولهذا يقال : قيام الليل ، ولا يقال : قيام النهار ، قالوا : وهذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما زاد في الليل على إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ركعة .
وكان يصلي الركعة في بعض الليالي بالبقرة وآل عمران والنساء ، وأما بالنهار ، فلم يحفظ عنه شئ من ذلك ، بل كان يخفف السنن .
وقال شيخنا : الصواب أنهما سواء ، والقيام أفضل بذكره وهو القراءة ، والسجود أفضل بهيئته ، فهيئة السجود أفضل من هيئة القيام ، وذكر القيام أفضل من ذكر السجود ، وهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان إذا أطال القيام ، أطال الركوع والسجود ، كما فعل في صلاة الكسوف ، وفي صلاة الليل ، وكان إذا خفف القيام ، خفف الركوع والسجود ، وكذلك كان يفعل في الفرض ، كما قاله البراء بن عازب : كان قيامه وركوعه وسجوده واعتداله قريباً من السواء . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:57 AM
فصل في كيفية جلسته بين السجدتين
فصل
ثم كان صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه مكبراً غير رافع يديه ، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه ، ثم يجلس مفترشاً ، يفرش رجله اليسرى ، ويجلس عليها ، وينصب اليمنى . وذكر النسائي عن ابن عمر قال : من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى ، واستقباله بأصابعها القبلة ، والجلوس على اليسرى ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع جلسة غير هذه . وكان يضع يديه على فخذيه ، ويجعل مرفقه على فخذه ، وطرف يده على ركبته ، ويقبض ثنتين من أصابعه ، ويحلق حلقة ، ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويحركها ، هكذا قال وائل بن حجر عنه .
وأما حديث أبي داود عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه إذا دعا ولا يحركها فهذه الزيادة في صحتها نظر ، وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في صحيحه عنه ، ولم يذكر هذه الزيادة ، بل قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة ، جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ، وفرش قدمه اليمنى ، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ، وأشار بأصبعه .
وأيضاً فليس في حديث أبي داود عنه أن هذا كان في الصلاة .
وأيضاً لو كان في الصلاة ، لكان نافياً ، وحديث وائل بن حجر مثبتاً ، وهو مقدم ، وهو حديث صحيح ، ذكره أبو حاتم في صحيحه .
ثم كان يقول : ( بين السجدتين ) : " اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني ، وارزقني "، هكذا ذكره ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم وذكر حذيفة أنه كان يقول : " رب اغفر لي ، رب اغفر لي " .
وكان هديه صلى الله عليه وسلم إطالة هذا الركن بقدر السجود ، وهكذا الثابت عنه في جميع الأحاديث ، وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد بين السجدتين حتى نقول : قد أوهم وهذه السنة تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة ، ولهذا قال ثابت : وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه ، يمكث بين السجدتين حتى نقول : قد نسي ، أو قد أوهم. وأما من حكم السنة ولم يلتفت إلى ما خالفها ، فإنه لا يعبأ بما خالف هذا الهدي .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:58 AM
فصل في جلسة الاستراحة
فصل
ثم كان صلى الله عليه وسلم ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمداً على فخذيه كما ذكر . عنه : وائل وأبو هريرة ، ولا يعتمد على الأرض بيديه وقد ذكر عنه مالك بن الحويرث أنه كان لا ينهض حتى يستوي جالساً . وهذه هي التي تسمى جلسة الإستراحة .
واختلف الفقهاء فيها هل هي من سنن الصلاة ، فيستحب لكل أحد أن يفعلها ، أو ليست من السنن ، وإنما يفعلها من احتاح إليها؟ على قولين هما روايتان عن أحمد رحمه الله . قال الخلال : رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الإستراحة ، وقال : أخبرني يوسف بن موسى ، أن أبا أمامة سئل عن النهوض ، فقال : على صدور القدمين على حديث رفاعه . وفي حديث ابن عجلان ما يدل على أنه كان ينهض على صدور قدميه ، وقد روي عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الجلسة ، وإنما ذكرت في حديث أبي حميد ، ومالك بن الحويرث . ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائم ، لذكرها كل من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم ومجرد فعله صلى الله عليه وسلم لها لا يدل على أنها من سنن الصلاة ، إلا إذا علم أنه فعلها على أنها سنة يقتدى به فيها ، وأما إذا قدر أنه فعلها للحاجة ، لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة ، فهذا من تحقيق المناط في هذه المسألة .
وكان إذا نهض ، افتتح القراءة ، ولم يسكت كما كان يسكت عند افتتاح الصلاة ، فاختلف الفقهاء : هل هذا موضع استعاذة أم لا بعد اتفاقهم على أنه ليس موضع استفتاح ؟ وفي ذلك قولان هما روايتان عن أحمد ، وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة هل هي قراءة واحدة ؟ فيكفي فيها استعاذة واحدة ، أو قراءة كل ركعة مستقلة برأسها . ولا نزاع بينهم أن الاستفتاح لمجموع الصلاة ، والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر ، للحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ ( الحمد لله رب العالمين ) ولم يسكت وإنما يكفي استعاذة واحدة ، لأنه لم يتخلل القراءتين سكوت ، بل تخللهما ذكر ، فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمد الله ، أو تسبيح ، أو تهليل ، أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الثانية كالأولى سواء ، إلا في أربعة أشياء : السكوت ، والاستفتاح ، وتكبيرة الإحرام ، وتطويلها كالأولى ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستفتح ، ولا يسكت ، ولا يكبر للإحرام فيها ، ويقصرها عن الأولى ، فتكون الأولى أطول منها في كل صلاة كما تقدم .
فإذا جلس للتشهد ، وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ، وأشار بأصبعه السبابة ، وكان لا ينصبها نصباً ، ولا ينيمها ، بل يحنيها شيئاً ، ويحركها شيئاً ، كما تقدم في حديث وائل بن حجر ، وكان يقبض أصبعين وهما الخنصر والبنصر ، ويحلق حلقة وهي الوسطى مع الإبهام ويرفع السبابة يدعو بها ، ويرمي ببصره إليها ، ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى ، ويتحامل عليها .
وأما صفة جلوسه ، فكما تقدم بين السجدتين سواء ، يجلس على رجله اليسرى ، وينصب اليمنى . ولم يرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة .
وأما حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة ، جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ، وفرش قدمه اليمنى فهذا في التشهد الأخير كما يأتي ، وهو أحد الصفتين اللتين رويتا عنه ، ففي الصحيحين من حديث أبي حميد في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم : " فإذا جلس في الركعتين ، جلس على رجله اليسرى ، ونصب الأخرى ، وإذا جلس في الركعة الأخيرة ، قدم رجله اليسرى ، ونصب اليمنى ، وقعد على مقعدته " فذكر أبو حميد أنه كان ينصب اليمنى . وذكر ابن الزبير أنه كان يفرشها ، ولم يقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم : إن هذه صفة جلوسه في التشهد الأول ، ولا أعلم أحداً قال به ، بل من الناس من قال : يتورك في التشهدين ، وهذا مذهب مالك رحمه الله ، ومنهم من قال : يفترش فيهما ، فينصب اليمنى ، ويفترش اليسرى ، ويجلس عليها ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، ومنهم من قال : يتورك في كل تشهد يليه السلام ، ويفترش في غيره ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، ومنهم من قال يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما ، فرقا بين الجلوسين ، وهو قول الإمام أحمد رحمه الله . ومعنى حديث ابن الزبير رضي الله عنه أنه فرش قدمه اليمنى : أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته ، فتكون قدمه اليمنى مفروشة ، وقدمه اليسرى بين فخذه وساقه ، ومقعدته على الأرض ، فوقع الاختلاف في قدمه اليمنى في هذا الجلوس : هل كانت مفروشة أو منصوبة ؟ وهذا - والله أعلم - ليس اختلافاً في الحقيقة ، فإنه كان لا يجلس على قدمه ، بل يخرجها عن يمينه ، فتكون بين المنصوبة والمفروشة ، فإنها تكون على باطنها الأيمن ، فهي مفروشة بمعنى ليس ناصباً لها ، جالساً على عقبه ، ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالساً على باطنها وظهرها إلى الأرض ، فصح قول أبي حميد ومن معه ، وقول عبد الله بن الزبير ، أو يقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا وهذا ، فكان ينصب قدمه ، وربما فرشها أحياناً ، وهذا أروح لها . والله أعلم .
ثم كان صلى الله عليه وسلم يتشهد دائماً في هذه الجلسة ، ويعلم أصحابه أن يقولوا : " التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " . وقد ذكر النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر" قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد ، كما يعلمنا السورة من القرآن : بسم الله ، وبالله ، التحيات لله ، والصلوات ، والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أسأل الله الجنة ، وأعوذ بالله من النار " .
ولم تجئ التسمية في أول التشهد إلا في هذا الحديث ، وله علة غير عنعنة عن أبي الزبير .
وكان صلى الله عليه وسلم يخفف هذا التشهد جداً حتى كأنه على الرضف - وهي الحجارة المحماة - ولم ينقل عنه في حديث قط أنه صلى عليه وعلى آله في هذا التشهد ، ولا كان أيضاً يستعيذ فيه من عذاب القبر وعذاب النار ، وفتنة المحيا والممات ، وفتنة المسيح الدجال ، ومن استحب ذلك ، فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيين موضعها ، وتقييدها بالتشهد الأخير .
ثم كان ينهض مكبراً على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمداً على فخذه كما تقدم ، وقد ذكر مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفع يديه في هذا الموضع ، وهي في بعض طرق البخاري أ يضاً ، على أن هذه الزيادة ليست متفقاً عليها في حديث عبد الله بن عمر ، فأكثر رواته لا يذكرونها ، وقد جاء ذكرها مصرحاً به في حديث أبي حميد الساعدي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة ، كبر ، ثم رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ويقيم كل عضو في موضعه ، ثم يقرأ ، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه معتدلاً لا يصوب رأسه ولا يقنع به ، ثم يقول : سمع الله لمن حمده ، ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، حتى يقر كل عظم إلى موضعه ، ثم يهوي إلى الأرض ، ويجافي يديه عن جنبيه ثم يرفع رأسه ، ويثني رجله ، فيقعد عليها ، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد ، ثم يكبر ، ويجلس على رجله اليسري حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ، ثم يقوم فيصنع في الأخرى مثل ذلك ، ثم إذا قام من الركعتين رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما يصنع عند افتتاح الصلاة ، ثم يصلي بقية صلاته هكذا ، حتى إذا كانت السجدة التى فيها التسليم ، أخرج رجليه ، وجلس على شقه الأيسر متوركاً . هذا سياق أبي حاتم في صحيحه وهو في صحيح مسلم أيضاً ، وقد ذكره الترمذي مصححاً له من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في هذه المواطن أيضاً .
ثم كان يقرأ الفاتحة وحدها ، ولم يثبت عنه أنه قرأ فى الركعتين الأخريين بعد الفاتحة شيئاً ، وقد ذهب الشافعي في أحد قوليه وغيره إلى استحباب القراءة بما زاد على الفاتحة في الأخريين ، واحتج لهذا القول بحديث أبي سعيد الذي في الصحيح : حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر في الركعتين الأوليين قدر قراءة ( الم تنزيل السجدة ) ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الركعتين الأخريين من الظهر ، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك .
وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهر في الاقتصار على فاتحة الكتاب في الركعتين الأخريين .
قال أبو قتادة رضي الله عنه : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا ، فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأولين بفاتحة الكتاب وسورتين ، ويسمعنا الآية أحياناً . زاد مسلم : ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب ، والحديثان غير صريحين في محل النزاع . وأما حديث أبي سعيد ، فإنما هو حزر منهم وتخمين ، ليس إخباراً عن تفسير نفس فعله صلى الله عليه وسلم . وأما حديث أبي قتادة ، فيمكن أن يراد به أنه كان يقتصر على الفاتحة ، وأن يراد به أنه لم يكن يخل بها في الركعتين الأخريين ، بل كان يقرؤها فيهما ، كما كان يقرؤها في الأوليين ، فكان يقرأ الفاتحة في كل ركعة ، وإن كان حديث أبي قتادة في الاقتصار أظهر ، فإنه في معرض التقسيم ، فإذا قال : كان يقرأ في الأوليين بالفاتحة والسورة ، وفي الأخريين بالفاتحة ، كان كالتصريح في اختصاص كل قسم بما ذكر فيه ، وعلى هذا ، فيمكن أن يقال : إن هذا أكثر فعله ، وربما قرأ في الركعتين الأخريين بشئ فوق الفاتحة ، كما دل عليه حديث أبي سعيد ، وهذا كما أن هديه صلى الله عليه وسلم كان تطويل القراءة في الفجر ، وكان يخففها أحياناً ، وتخفيف القراءة في المغرب ، وكان يطيلها أحياناً ، وترك القنوت في الفجر ، وكان يقنت فيها أحياناً ، والإسرار في الظهر والعصر بالقراءة ، وكان يسمع الصحابة الآية فيها أحياناً ، وترك الجهر بالبسملة ، وكان يجهر بها أحياناً .
والمقصود أنه كان يفعل في الصلاة شيئاً أحياناً لعارض لم يكن من فعله الراتب ، ومن هذا لما بعث صلى الله عليه وسلم فارساً طليعة ، ثم قام إلى الصلاة ، وجعل يلتفت في الصلاة إلى الشعب الذي يجئ منه الطليعة ، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الالتفات في الصلاة ، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ؟ فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد .
وفي الترمذي من حديث سعيد بن المسيب عن أنس رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني إياك والالتفات في الصلاة ، فإن الالتفات في الصلاة هلكة ، فإن كان ولا بد ففي التطوع ، لا في الفرض " ولكن للحديث علتان :
إحداهما : إن رواية سعيد عن أنس لا تعرف .
الثانية : إن في طريقه علي بن زيد بن جدعان ، وقد ذكر البزار في مسنده من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة للملتفت " . فأما حديث ابن عباس : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً ، ولا يلوي عنقه خلف ظهره " فهذا حديث لا يثبت قال الترمذي فيه : حديث غريب . ولم يزد .
وقال الخلال : أخبرني الميموني أن أبا عبد الله قيل له : إن بعض الناس أسند أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة . فأنكر ذلك إنكاراً شديداً ، حتى تغير وجهه ، وتغير لونه ، وتحرك بدنه ، ورأيته في حال ما رأيته في حال قط أسوأ منها ، وقال : النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة ؟! يعني أنه أنكر ذلك ، وأحسبه قال : ليس له إسناد ، وقال : من روى هذا ؟! إنما هذا من سعيد بن المسيب ، ثم قال لي بعض أصحابنا : إن أبا عبد الله وهن حديث سعيد هذا ، وضعف إسناده ، وقال : إنما هو عن رجل عن سعيد ، وقال عبد الله بن أحمد : حدثت أبي بحديث حسان بن إبراهيم عن عبد الملك الكوفي قال : سمعت العلاء قال : سمعت مكحولاً يحدث عن أبي أمامة وواثلة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة لم يلتفت يميناً ولا شمالاً ، ورمى ببصره في موضع سجوده ، فأنكره جداً ، وقال : اضرب عليه . فأحمد رحمه الله أنكر هذا وهذا ، وكان إنكاره للأول أشد ، لأنه باطل سنداً ومتناً .
والثاني : إنما أنكر سنده ، وإلا فمتنه غير منكر ، والله أعلم .
ولو ثبت الأول ، لكان حكاية فعل فعله ، لعله كان لمصلحة تتعلق بالصلاة ككلامه عليه السلام هو وأبو بكر وعمر ، وذو اليدين في الصلاة لمصلحتهما ، أو لمصلحة المسلمين ، كالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال : ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب . قال أبو داود : يعني وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة وهو يدخل في مداخل العبادات ، كصلاة الخوف ، وقريب منه قول عمر : إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة . فهذا جمع بين الجهاد والصلاة . ونظيره التفكر في معاني القرآن ، واستخراج كنوز العلم منه في الصلاة ، فهذا جمع بين الصلاة والعلم، فهذا لون ، والتفات الغافلين اللاهين وأفكارهم لون آخر ، وبالله التوفيق .
فهديه الراتب صلى الله عليه وسلم إطالة الركعتين الأوليين من الرباعية على الأخريين ، وإطالة الأولى من الأولين على الثانية ، ولهذا قال سعد لعمر : أما أنا فأطيل في الأوليين ، وأحذف في الأخريين ، ولا آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم إطالة صلاة الفجر على سائر الصلوات ، كما تقدم . قالت عائشة رضي الله عنها : فرض الله الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زيد في صلاة الحضر ، إلا الفجر ، فإنها أقرت على حالها من أجل طول القراءة، والمغرب ، لأنها وتر النهار . رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وأصله في صحيح البخاري وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم في سائر صلاته إطالة أولها على آخرها ، كما فعل في الكسوف ، وفي قيام الليل لما صلى ركعتين طويلتين ، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ، حتى أتم صلاته . ولا يناقض هذا افتتاحه صلى الله عليه وسلم صلاة الليل بركعتين خفيفتين ، وأمره بذلك ، لأن هاتين الركعتين مفتاح قيام الليل ، فهما بمنزلة سنة الفجر وغيرها ، وكذلك الركعتان اللتان كان يصليهما أحياناً بعد وتره ، تارة جالساً ، وتارة قائماً ، مع قوله : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً " فإن هاتين الركعتين لا تنافيان هذا الأمر ، كما أن المغرب وتر للنهار ، وصلاة السنة شفعاً بعدها لا يخرجها عن كونها وتراً للنهار ، وكذلك الوتر لما كان عبادة مستقلة ، وهو وتر الليل ، كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب ، من المغرب ، ولما كان المغرب فرضاً ، كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر ، وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهر جداً ، وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين إن شاء الله تعالى ، وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف ، وبالله التوفيق .
اسير الصحراء
04-27-2006, 01:59 AM
فصل في كيفية التورك في القعدة الأخيرة
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد الأخير ، جلس متوركاً ، وكان يفضي بوركه إلى الأرض ، ويخرج قدمه من ناحية واحدة .
فهذا أحد الوجوه الثلاثة التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم في التورك . ذكره أبو داود في حديث أبي حميد الساعدي من طريق عبد الله بن لهيعة وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه هذه الصفة من حديث أبي حميد الساعدي من غير طريق ابن لهيعة ، وقد تقدم حديثه .
الوجه الثاني : ذكره البخاري في صحيحه من حديث أبي حميد أيضاً قال : وإذا جلس في الركعة الآخرة ، قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى ، وقعد على مقعدته فهذا هو الموافق الأول في الجلوس على الورك ، وفيه زيادة وصف في هيئة القدمين لم تتعرض الرواية الأولى لها .
الوجه الثالث : ما ذكره مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن الزبير : أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ، ويفرش قدمه اليمنى ، وهذه هي الصفة التي اختارها أبو القاسم الخرقي في مختصره وهذا مخالف للصفتين الأوليين في إخراج اليسرى من جانبه الأيمن ، وفي نصب اليمنى ، ولعله كان يفعل هذا تارة ، وهذا تارة ، وهذا أظهر .
ويحتمل أن يكون من اختلاف الرواة ، ولم يذكر عنه عليه السلام هذا التورك إلا في التشهد الذي يليه السلام . قال الإمام أحمد ومن وافقه : هذا مخصوص بالصلاة التي فيها تشهدان ، وهذا التورك فيها جعل فرقاً بين الجلوس في التشهد الأول الذي يسن تخفيفه ، فيكون الجالس فيه متهيئاً للقيام ، وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه مطمئناً .
وأيضا فتكون هيئة الجلوسين فارقة بين التشهدين ، مذكرة للمصلي حاله فيهما .
وأيضاً فإن أبا حميد إنما ذكر هذه الصفة عنه صلى الله عليه وسلم في الجلسة التي في التشهد الثاني ، فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول ، وأنه كان يجلس مفترشاً ، ثم قال : وإذا جلس في الركعة الآخرة ، وفي لفظ : فإذا جلس في الركعة الرابعة .
وأما قوله في بعض ألفاظه : حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسليم ، أخرج رجله اليسرى ، وجلس على شقه متوركاً ، فهذا قد يحتج به من يرى التورك يشرع في كل تشهد يليه السلام ، فيتورك في الثانية ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، وليس بصريح في الدلالة ، بل سياق الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد الذي يليه السلام من الرباعية والثلاثية ، فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وقيامه منه ، ثم قال : حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم ، جلس متوركاً فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني .
اسير الصحراء
04-27-2006, 02:00 AM
فصل في كيفية جلوسه وإشارته في التشهد
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد ، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ، وضم أصابعه الثلاث ، ونصب السبابة . وفي لفظ : وقبض أصابعه الثلاث ، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى . ذكره مسلم عن ابن عمر .
وقال وائل بن حجر : جعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ، ثم قبض ثنتين من أصابعه ، وحلق حلقة ، ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها وهو في السنن .
وفي حديث ابن عمر في صحيح مسلم " عقد ثلاثة وخمسين " .
وهذه الروايات كلها واحدة ، فإن من قال : قبض أصابعه الثلاث ، أراد به : أن الوسطى كانت مضمومة لم تكن منشورة كالسبابة ، ومن قال : قبض ثنتين من أصابعه ، أراد : أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر ، بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى ، وقد صرح بذلك من قال : وعقد ثلاثة وخمسين ، فإن الوسطى في هذا العقد تكون مضمومة ، ولا تكون مقبوضة مع البنصر .
وقد استشكل كثير من الفضلاء هذا ، إذا عقد ثلاث وخمسين لا يلائم واحدة من الصفتين المذكورتين ، فإن الخنصر لا بد أن تركب البنصر في هذا العقد .
وقد أجاب عن هذا بعض الفضلاء ، بأن الثلاثة لها صفتان في هذا العقد : قديمة ، وهي التي ذكرت في حديث ابن عمر : تكون فيها الأصابع الثلاث مضمومة مع تحليق الإبهام مع الوسطى ، وحديثة ، وهي المعروفة اليوم بين أهل الحساب ، والله أعلم .
وكان يبسط ذراعه على فخذه ولا يجافيها ، فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه ، وأما اليسرى ، فممدودة الأصابع على الفخذ اليسرى .
وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه ، في ركوعه ، وفي سجوده ، وفي تشهده ، ويستقبل أيضاً بأصابع رجليه القبلة في سجوده . وكان يقول في كل ركعتين : التحيات .
وأما المواضع التي كان يدعو فيها في الصلاة ، فسبعة مواطن .
أحدها : بعد تكبيرة الإحرام في محل الاستفتاح .
الثاني : قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك ، فإن فيه نظراً .
الثالث : بعد الاعتدال من الركوع ، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال : " سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شئ بعد ، اللهم طهرني بالثلج والبرد ، والماء البارد ، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ " .
الرابع : في ركوعه كان يقول : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " .
الخامس : في سجوده ، وكان فيه غالب دعائه .
السادس : بين السجدتين .
السابع : بعد التشهد وقبل السلام ، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة ، وحديث فضالة بن عبيد وأمر أيضا بالدعاء في السجود .
وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين ، فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلاً ، ولا روي عنه بإسناد صحيح ، ولا حسن .
وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر ، فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه ، ولا أرشد إليه أمته ، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنة بعدهما ، والله أعلم . وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها ، وأمر بها فيها ، وهذا هو اللائق بحال المصلي ، فإنه مقبل على ربه ، يناجيه ما دام في الصلاة ، فإذا سلم منها ، انقطعت تلك المناجاة ، وزال ذلك الموقف بين يديه ، والقرب منه ، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه ، والإقبال عليه ، ثم يسأله إذا انصرف عنه ؟! ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي ، إلا أن هاهنا نكتة لطيفة ، وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته ، وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة ، استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، ويدعو بما شاء ، ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية ، لا لكونه دبر الصلاة ، فإن كل من ذكر الله ، وحمده ، وأثنى عليه ، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم استحب له الدعاء عقيب ذلك ، كما في حديث فضالة بن عبيد " إذا صلى أحدكم ، فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ليدع بما شاء " قال الترمذي : حديث صحيح .
اسير الصحراء
04-27-2006, 02:01 AM
فصل في كيفية سلامه من الصلاة
فصل
ثم كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه : السلام عليكم ورحمة الله ، وعن يساره كذلك . هذا كان فعله الراتب رواه عنه خمسة عشر صحابياً ، وهم : عبد الله بن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وسهل بن سعد الساعدي ، ووائل بن حجر ، وأبو موسى الأشعري ، وحذيفة بن اليمان ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن سمرة ، والبراء بن عازب ، وأبو مالك الأشعري ، وطلق بن علي ، وأوس بن أوس ، وأبو رمثة ، وعدي بن عميرة ، رضي الله عنهم .
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولكن لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح ، وأجود ما فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم : كان يسلم تسليمة واحدة : السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا ، وهو حديث معلول ، وهو في السنن ، لكنه كان في قيام الليل والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شاهدوه في الفرض والنفل ، على أن حديث عائشة ليس صريحاً في الاقتصار على التسليمة الواحدة ، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها ، ولم تنف الأخرى ، بل سكتت عنها ، وليس سكوتها عنها مقدماً على رواية من حفظها وضبطها ، وهم أكثر عدداً ، وأحاديثهم أصح ، وكثير من أحاديثهم صحيح ، والباقي حسان .
قال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقاص ، ومن حديث عائشة ، ومن حديث أنس ، إلا أنها معلولة ، ولا يصححها أهل العلم بالحديث ، ثم ذكر علة حديث سعد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة . قال : وهذا وهم وغلط ، وإنما الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره ، ثم ساق الحديث من طريق ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن شماله حتى كأني أنظر إلى صفحة خده ، فقال الزهري : ما سمعنا هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له إسماعيل بن محمد : أكل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته ؟ قال : لا ، قال : فنصفه ؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذا من النصف الذي لم تسمع . قال : وأما حديث عائشة رضي الله عنها : عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يسلم تسليمة واحدة ، فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره ، وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع ، كثير الخطأ لا يحتج به ، وذكر ليحيى بن معين هذا الحديث ، فقال : حديث عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان ، لا حجة فيهما قال : وأما حديث أنس ، فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ، ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئاً ، قال : وقد روي مرسلاً عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يسلمون تسلمية واحدة ، وليس مع القائلين بالتسليمة غير عمل أهل المدينة ، قالوا : وهو عمل قد توارثوه كابراً عن كابر ، ومثله يصح الاحتجاج به ، لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مراراً ، وهذه طريقة قد خالفهم فيها سائر الفقهاء ، والصواب معهم ، والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدفع ولا ترد بعمل أهل بلد كائناً من كان ، وقد أحدث الأمراء بالمدينة وغيرها في الصلاة أموراً استمر عليها العمل ، ولم يلتفت إلى استمراره وعمل أهل المدينة الذي يحتج به ما كان في زمن الخلفاء الراشدين ، وأما عملهم بعد موتهم ، وبعد انقراض عصر من كان بها في الصحابة ، فلا فرق بينهم وبين عمل غيرهم ، والسنة تحكم بين الناس ، لا عمل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه ، وبالله التوفيق .
اسير الصحراء
04-27-2006, 02:02 AM
فصل في أدعيته في الصلاة
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم " . وكان يقول في صلاته أيضاً : " اللهم اغفر لي ذنبي ، ووسع لي في داري وبارك لي فيما رزقتني " .
وكان يقول : " اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، وأسألك قلباً سليماً ، ولساناً صادقاً ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم " . وكان يقول في سجوده " رب أعط نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ". وقد تقدم ذكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده وجلوسه واعتداله في الركوع .
اسير الصحراء
04-27-2006, 02:02 AM
فصل في المحفوظ من أدعيته في الصلاة
فصل
والمحفوظ في أدعيته صلى الله عليه وسلم في الصلاة كلها بلفظ الإفراد ، كقوله :" رب اغفر لي وارحمني واهدني " ، وسائر الأدعية المحفوظة عنه ، ومنها قوله في دعاء الاستفتاح : " اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد ، اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب "... الحديث .
وروى الإمام أحمد رحمه الله وأهل السنن من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل ، فقد خانهم " قال ابن خزيمة في صحيحه : وقد ذكر حديث " اللهم باعد بيني وبين خطاياي ..." الحديث قال : في هذا دليل على رد الحديث الموضوع " لايؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم " وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ، ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 02:08 AM
فصل في صفة صلاته وخشوعه
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة ، طأطأ رأسه ، ذكره الإمام أحمد رحمه الله ، وكان في التشهد لا يجاوز بصره إشارته ، وقد تقدم . وكان قد جعل الله قرة عينه ونعيمه وسروره وروحه في الصلاة . وكان يقول : " يا بلال أرحنا بالصلاة " . وكان يقول : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " . ومع هذا لم يكن يشغله ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله وقربه من الله تعالى وحضور قلبه بين يديه واجتماعه عليه .
وكان يدخل في الصلاة وهو يريد إطالتها ، فيسمع بكاء الصبي ، فيخففها مخافة أن يشق على أمه ، وأرسل مرة فارساً طليعة له ، فقام يصلي ، وجعل يلتفت إلى الشعب الذي يجيء منه الفارس ، ولم يشغله ما هو فيه عن مراعاة حال فارسه .
وكذلك كان يصلي الفرض وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنة بنته زينب على عاتقه ، إذا قام ، حملها ، وإذا ركع وسجد ، وضعها .
وكان يصلي فيجيء الحسن أو الحسين فيركب ظهره ، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره .
وكان يصلي ، فتجيء عائشة من حاجتها والباب مغلق ، فيمشي ، فيفتح لها الباب ، ثم يرجع إلى الصلاة . وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة .
وقال جابر : بعثني رسول الله لحاجة ، ثم أدركته وهو يصلي ، فسلمت عليه ، فأشار إلي . ذكره مسلم في صحيحه .
وقال أنس رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير في الصلاة ، ذكره الإمام أحمد رحمه الله .
وقال صهيب : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، فسلمت عليه ، فرد إشارة ، قال الراوي : لا أعلمه ، قا ل : إلا إشارة بأصبعه ، وهو في السنن و المسند . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " خرح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه ، قال : فجاءته الأنصار ، فسلموا عليه وهو في الصلاة ، فقلت لبلال : كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي ؟ قال : يقول : هكذا ، وبسط جعفر بن عون كفه ، وجعل بطنه أسفل ، وجعل ظهره إلى فوق "، وهو في السنن و المسند وصححه الترمذي ، ولفظه: كان يشير بيده .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لما قدمت من الحبشة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، فسلمت عليه ، فأومأ برأسه ، ذكره البيهقي .
وأما حديث أبي غطفان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه ، فليعد صلاته " فحديث باطل ، ذكره الدارقطني وقال : قال لنا ابن أبي داود : أبو غطفان هذا رجل مجهول ، والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في صلاته . رواه أنس وجابر وغيرهما .
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة ، فإذا سجد ، غمزها بيده ، فقبضت رجليها ، وإذا قام بسطتهما . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ، فجاءه الشيطان ليقطع عليه صلاته ، فأخذه ، فخنقه حتى سال لعابه على يده .
وكان يصلي على المنبر ويركع عليه ، فإذا جاءت السجدة ، نزل القهقرى ، فسجد على الأرض ثم صعد عليه .
وكان يصلي إلى جدار ، فجاءت بهمة تمر من بين يديه ، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ، ومرت من ورائه .
يدارئها : يفاعلها من المدارأة وهي المدافعة . وكان يصلي ، فجاءته جاريتان من بني عبد المطلب قد اقتتلتا ، فأخذهما بيديه ، فنزع إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة . ولفظ أحمد فيه : فأخذتا بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزع بينهما ، أو فرق بينهما ، ولم ينصرف .
وكان يصلي ، فمر بين يديه غلام ، فقال بيده هكذا ، فرجع ، ومرت بين يديه جارية فقال بيده هكذا ، فمضت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هن أغلب " ذكره الإمام أحمد ، وهو في السنن .
وكان ينفخ في صلاته ، ذكره الإمام أحمد ، وهو في السنن .
وأما حديث النفخ في الصلاة كلام فلا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما رواه سعيد في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله إن صح .
وكان يبكي في صلاته ، وكان يتنحنح في صلاته ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها ، فإذا أتيته استأذنت ، فإن وجدته يصلي فتنحنح ، دخلت ، وإن وجدته فارغاً ، أذن لي ، ذكره النسائي وأحمد ، ولفظ أحمد : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان بالليل والنهار ، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي ، تنحنح . رواه أحمد ، وعمل به ، فكان يتنحنح في صلاته ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة .
وكان يصلي تارة ، ومنتعلاً أخرى ، كذلك قال عبد الله بن عمرو عنه : وأمر بالصلاة بالنعل مخالفة لليهود .
وكان يصلي في الثوب الواحد تارة ، وفي الثوبين تارة ، وهو أكثر .
وقنت في الفجر بعد الركوع شهراً ، ثم ترك القنوت . ولم يكن من هديه القنوت فيها دائماً ، ومن المحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وتولني فيمن توليت .... " ويرفع بذلك صوته ، ويؤمن عليه أصحابه دائماً إلى أن فارق الدنيا ، ثم لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة ، بل يضيعه أكثر أمته ، وجمهورأصحابه ، بل كلهم ، حتى يقول من يقول منهم : إنه محدث ، كما قال سعد بن طارق الأشجعي : قلت لأبي : يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم ها هنا ، وبالكوفة منذ خمس سنين ، فكانوا يقنتون في الفجر ؟ فقال : أي بني محدث . رواه أهل السنن وأحمد . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال : أشهد أني سمعت ابن عباس يقول : إن القنوت في صلاة الفجر بدعة ، وذكر البيهقى عن أبي مجلز قال : صليت مع ابن عمر صلاة الصبح ، فلم يقنت ، فقلت له . لا أراك تقنت ، فقال : لا أحفظه عن أحد من أصحابنا .
ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان يقنت كل غداة ، ويدعو بهذا الدعاء ، ويؤمن الصحابة ، لكان نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها ، وإن جازعليهم تضييع ذلك، ولا فرق ، وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كل يوم وليلة خمس مرات دائماً مستمراً ثم يضيع أكثر الأمة ذلك ، ويخفى عليها ، وهذا من أمحل المحال . بل لو كان ذلك واقعاً ، لكان نقله كنقل عدد الصلوات ، وعدد الركعات ، والجهر والإخفات ، وعدد السجدات ، ومواضع الأركان وترتيبها ، والله الموفق . والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف ، أنه صلى الله عليه وسلم جهر ، وأسر ، وقنت ، وترك ، وكان إسراره أكثر من جهره ، وتركه القنوت أكثر من فعله ، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم ، وللدعاء على آخرين ، ثم تركه لما قدم من دعا لهم ، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين ، فكان قنوته لعارض ، فلما زال ترك القنوت ، ولم يختص بالفجر ، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب ، ذكره البخاري في صحيحه عن أنس . وقد ذكره مسلم عن البراء . وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً ، في الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والصبح في دبر كل صلاة إذا قال : سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة ، يدعو على حي من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ، ويؤمن من خلفه ، ورواه أبو داود .
وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة ، وتركه عند عدمها ، ولم يكن يخصه بالفجر ، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل ، ولاتصالها بصلاة الليل ، وقربها من السحر ، وساعة الإجابة ، وللتنزل الإلهي ، ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته ، أو ملائكة الليل والنهار ، كما روي هذا ، وهذا ، في تفسير قوله تعالى : " إن قرآن الفجر كان مشهودا " ( الإسراء : 78) . وأما حديث ابن أبي فديك ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية ، يرفع يديه فيها ، فيدعو بهذا الدعاء : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت " فما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحاً أو حسناً ، ولكن لا يحتج بعبد الله هذا وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن أحمد بن عبد الله المزني : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن أبي فديك .. فذكره . نعم صح عن أبي هريرة أنه قال : والله لأنا أقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول : سمع الله لمن حمده ، فيدعو للمؤمنين ، ويلعن الكفار .
>>>يتبع
اسير الصحراء
04-27-2006, 02:09 AM
ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، ثم تركه ، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها ، ويقولون : هو منسوخ ، وفعله بدعة ، فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها ، وهم أسعد بالحديث من الطائفتين ، فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتركونه حيث تركه ، فيقتدون به في فعله وتركه ، ويقولون : فعله سنة ، وتركه سنة ، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه ، ولا يكرهون فعله ، ولا يرونه بدعة ، ولا فاعله مخالفاً للسنة ، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ، ولا يرون تركه بدعة ، ولا تاركه مخالفاً للسنة ، بل من قنت ، فقد أحسن ، ومن تركه فقد أحسن ، وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء ، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، ودعاء القنوت دعاء وثناء ، فهو أولى بهذا المحل ، وإذا جهر به الإمام أحياناً ليعلم المأمومين ، فلا بأس بذلك ، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين ، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة ، ومن هذا أيضاً جهر الإمام بالتأمين ، وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ، ولا من تركه ، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه ، وكالخلاف في أنواع التشهدات ، وأنواع الأذان والإقامة ، وأنواع النسك من الإفراد والقران والتمتع ، وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم ، الذي كان يفعله هو ، فإنه قبلة القصد ، وإليه التوجه في هذا الكتاب ، وعليه مدار التفتيش والطلب ، وهذا شئ ، والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شئ ، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز ولما لا يجوز ، وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه ، فإنه أكمل الهدي وأفضله ، فإذا قلنا : لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ، ولا الجهر بالبسملة ، لم يدل ذلك على كراهية غيره ، ولا أنه بدعة ، ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأفضله ، والله المستعان .
وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أنس قال : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في المسند والترمذي وغيرهما ، فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره . وقال ابن المديني : كان يخلط . وقال أبو زرعة : كان يهم كثيراً . وقال ابن حبان : كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير . وقال لي شيخنا ابن تيمية قدس الله روحه : وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم " ( الأعراف : 172) . حديث أبي بن كعب الطويل ، وفيه : وكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم ، فأرسل تلك الروح إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشراً سوياً ، قال : فحملت الذي يخاطبها ، فدخل من فيها ، وهذا غلط محض ، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها ، " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " ( مريم :19) ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم ، هذا محال .
والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير ، لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث البتة ، ولو صح ، لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة ، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء ، فإن القنوت يطلق على القيام ، والسكوت ، ودوام العبادة ، والدعاء ، والتسبيح ، والخشوع ، كما قال تعالى : " وله من في السماوات والأرض كل له قانتون " ( الروم : 26) ، وقال تعالى : " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " ( الزمر : 9) ، وقال تعالى : " وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " ( التحريم : 12) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة طول القنوت " . وقال زيد بن أرقم : لما نزل قوله تعالى : " وقوموا لله قانتين " ( البقرة : 238) أمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام . وأنس رضي الله عنه لم يقل : لم يزل يقنت بعد الركوع رافعاً صوته " اللهم اهدني فيمن هديت ..." إلى آخره ويؤمن من خلفه ، ولا ريب أن قوله : ربنا ولك الحمد ، ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شئ بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ... إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله ، قنوت ، وتطويل هذا الركن قنوت ، وتطويل القراءة قنوت ، وهذا الدعاء المعين قنوت ، فمن أين لكم أن أنساً إنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت ؟!
ولا يقال : تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين ، إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها ، وأنس خص الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت ، ولا يمكن أن يقال : إنه الدعاء على الكفار ، ولا الدعاء للسمتضعفين من المؤمنين ، لأن أنساً قد أخبر أنه كان قنت شهراً ثم تركه ، فتعين أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوت المعروف ، وقد قنت أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلى ، والبراء بن عازب ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عباس ، وأبو موسى الأشعري ، وأنس بن مالك وغيرهم .
والجواب من وجوه .
أحدها : أن أنساً قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري ، فلم يخصص القنوت بالفجر ، وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء ، فما بال القنوت اختص بالفجر ؟!
فإن قلتم : قنوت المغرب منسوخ ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة : وكذلك قنوت الفجر سواء ، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلاً على نسخ قنوت الفجر سواء ، ولا يمكنكم أبداً أن تقيموا دليلاً على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوت الفجر .
فإن قلتم : قنوت المغرب كان قنوتاً للنوازل ، لا قنوتاً راتباً ، قال منازعوكم من أهل الحديث : نعم كذلك هو ، وكذلك قنوت الفجر سواء ، وما الفرق ؟ قالوا : ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوت نازلة ، لا قنوتاً راتباً أن أنساً نفسه أخبر بذلك ، وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس ، وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة ثم تركه ، ففي الصحيحين عن أنس قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . شهراً يدعو على حي من أحياء العرب ، ثم تركه .
الثاني : أن شبابة روى عن قيس بن الربيع ، عن عاصم بن سليمان قال : قلنا لأنس بن مالك : إن قوماً يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بالفجر ، قال : كذبوا ، وإنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً واحداً يدعو على حي من أحياء العرب ، وقيس بن الربيع وإن كان يحيى بن معين ضعفه ، فقد وثقه غيره ، وليس بدون أبي جعفر الرازي ، فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله : لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا . وقيس ليس بحجة في هذا الحديث ، وهو أوثق منه أو مثله ، والذين ضعفوا أبا جعفر أكثر من الذين ضعفوا قيساً ، فإنما يعرف تضعيف قيس عن يحيى ، وذكر سبب تضعيفه ، فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم : سألت يحيى عن قيس بن الربيع ، فقال : ضعيف لا يكتب حديثه ، كان يحدث بالحديث عن عبيدة ، وهو عنده عن منصور ، ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي ، لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور ، ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين ؟
الثالث : أن أنساً أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون ، وأن بدء القنوت هو قنوت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رعل وذكوان ، ففي الصحيحين من حديث عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم : القراء ، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له : بئر معونة ، فقال القوم : والله ما إياكم أردنا ، وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شهراً في صلاة الغداة ، فذلك بدء القنوت ، وما كنا نقنت .
فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائماً ، وقول أنس : فذلك بدء القنوت ، مع قوله : قنت شهراً ، ثم تركه ، دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت النوازل ، وهو الذي وقته بشهر ، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهراً ، كما في الصحيحين عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة العتمة شهراً يقول في قنوته : " اللهم أنج الوليد بن الوليد ، اللهم أنج سلمة بن هشام ، اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة ، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ". قال أبو هريرة : وأصبح ذات يوم فلم يدع لهم ، فذكرت ذلك له ، فقال : أو ما تراهم قد قدموا ، فقنوته في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة ، ولذلك وقته أنس بشهر .
وقد روي عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضاً في الفجر شهراً ، وكلاهما صحيح ، وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : شهراً متتابعاً في الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والصبح ، ورواه أبو داود وغيره ، وهو حديث صحيح .
>>>يتبع
اسير الصحراء
04-27-2006, 02:10 AM
وقد ذكر الطبراني في معجمه من حديث محمد بن أنس : حدثنا مطرف بن طريف ، عن أبي الجهم ، عن البراء بن عازب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها .
قال الطبراني : لم يروه عن مطرف إلا محمد بن أنس . انتهى .
وهذا الإسناد وإن كان لا تقوم به حجة ، فالحديث صحيح من جهة المعنى ، لأن القنوت هو الدعاء ، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها ، كما تقدم ، وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ، ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك ، وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا .
الوجه الرابع : أن طرق أحاديث أنس تبين المراد ، ويصدق بعضها بعضاً ، ولا تتناقض . وفي الصحيحين من حديث عاصم الأحول قال : سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة ؟ فقال : قد كان القنوت ، فقلت : كان قبل الركوع أو بعده ؟ قال : قبله ؟ قلت : وإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت : قنت بعده . قال : كذب ، إنما قلت : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً . وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم ، وسائر الرواة عن أنس خالفوه ، فقالوا : عاصم ثقة جداً ، غير أنه خالف أصحاب أنس في موضع القنوتين ، والحافظ قد يهم ، والجواد قد يعثر ، وحكوا عن الإمام أحمد تعليله ، فقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - : أيقول أحد في حديث أنس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول ؟ فقال : ما علمت أحداً يقوله غيره . قال أبو عبد الله : خالفهم عاصم كلهم ، هشام عن قتادة عن أنس ، والتيمي ، عن أبي مجلز ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : قنت بعد الركوع ، وأيوب عن محمد بن سيرين قال : سألت أنساً وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه . وأما عاصم فقال : قلت له ؟ فقال : كذبوا ، إنما قنت بعد الركوع شهراً . قيل له : من ذكره عن عاصم ؟ قال : أبو معاوية وغيره ، قيل لأبي عبد الله : وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع ؟ فقال : بلى كلها عن خفاف بن إيماء بن رحضة، وأبي هريرة . قلت لأبي عبد الله : فلم ترخص إذا في القنوت قبل الركوع ، وإنما صح الحديث بعد الركوع ؟ فقال : القنوت في الفجر بعد الركوع ، وفي الوتر يختار بعد الركوع ، ومن قنت قبل الركوع ، فلا بأس ، لفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . واختلافهم ، فأما في الفجر ، فبعد الركوع .
فيقال : من العجب تعليل هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته ، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي ، وقيس بن الربيع ، وعمرو بن أيوب ، وعمرو بن عبيد ، ودينار ، وجابر الجعفي ، وقل من تحمل مذهباً ، وانتصر له في كل شئ إلا اضطر إلى هذا المسلك .
فنقول وبالله التوفيق : أحاديث أنس كلها صحاح ، يصدق بعضها بعضاً ، ولا تتناقض ، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير القنوت الذي ذكره بعده ، والذي وقته غير الذي أطلقه ، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة طول القنوت " والذي ذكره بعده ، هو إطالة القيام للدعاء ، فعله شهراً يدعو على قوم ، ويدعو لقوم ، ثم استمر يطيل هذا الركن للدعاء والثناء ، إلى أن فارق الدنيا ، كما في الصحيحين عن ثابت ، عن أنس قال : إني لا أزال أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا ، قال : وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه ، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً ، حتى يقول القائل : قد نسي ، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكث ، حتى يقول القائل : قد نسي . فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا .
ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل ، بل كان يثني على ربه ، ويمجده ، ويدعوه ، وهذا غير القنوت الموقت بشهر ، فإن ذلك دعاء على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان ، ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة . وأما تخصيص هذا بالفجر ، فبحسب سؤال السائل ، فإنما سأله عن قنوت الفجر ، فأجابه عما سأله عنه . وأيضاً ، فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات ، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة ، وكان كما قال البراء بن عازب : ركوعه ، واعتداله ، وسجوده ، وقيامه متقارباً . وكان يظهر من تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك . ومعلوم أنه كان يدعو ربه ، ويثني عليه ، ويمجده في هذا الاعتدال ، كما تقدمت الأحاديث بذلك ، وهذا قنوت منه لا ريب ، فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا .
ولما صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثر الناس ، هو هذا الدعاء المعروف : اللهم اهدني فيمن هديت ... إلى آخره ، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا ، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة ، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم ، ونشأ من لا يعرف غير ذلك ، فلم يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مداومين عليه كل غداة ، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء ، وقالوا : لم يكن هذا من فعله الراتب ، بل ولا يثبت عنه أنه فعله .
وغاية ما روي عنه في هذا القنوت ، أنه علمه للحسن بن علي ، كما في المسند و السنن الأربع عنه قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ، ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت " قال الترمذي : حديث حسن ، ولا نعرف في القنوت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أحسن من هذا ، وزاد البيهقي بعد "ولا يذل من واليت " ، " ولا يعز من عاديت " .
ومما يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيام للدعاء والثناء ، ما رواه سليمان بن حرب : حدثنا أبو هلال ، حدثنا حنظلة إمام مسجد قتادة ، قلت : هو السدوسي ، قال : اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح ، فقال قتادة : قبل الركوع ، وقلت ، أنا : بعد الركوع ، فأتينا أنس بن مالك ، فذكرنا له ذلك ، فقال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر ، فكبر ، وركع ، ورفع رأسه ، ثم سجد ، ثم قام في الثانية ، فكبر ، وركع ، ثم رفع رأسه ، فقام ساعة ثم وقع ساجداً . وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء ، وهو يبين مراد أنس بالقنوت ، فإنه ذكره دليلاً لمن قال : إنه قنت بعد الركوع ، فهذا القيام والتطويل هو كان مراد أنس ، فاتفقت أحاديثه كلها ، وبالله التوفيق . وأما المروي عن الصحابة ، فنوعان :
أحدهما : قنوت عند النوازل ، كقنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة ، وعند محاربة أهل الكتاب ، وكذلك قنوت عمر ، وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام .
الثاني : مطلق ، مراد من حكاه عنهم به تطويل هذا الركن للدعاء والثناء ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-27-2006, 02:10 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود السهو
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني " . وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته ، وإكمال دينهم ، ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو ، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في الموطأ : " إنما أنسى أو أنسى لأسن " .
وكان صلى الله عليه وسلم ينسى ، فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة ، فقام صلى الله عليه وسلم من اثنتين في الرباعية ، ولم يجلس بينهما ، فلما قضى صلاته ، سجد سجدتين قبل السلام ، ثم سلم ، فأخذ من هذا قاعدة : أن من ترك شيئاً من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهواً ، سجد له قبل السلام ، وأخذ من بعض طرقه أنه : إذا ترك ذلك وشرع في ركن ، لم يرجع إلى المتروك ، لأنه لما قام ، سبحوا ، فأشار إليهم : أن قوموا .
واختلف عنه في محل هذا السجود ، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن بحينة ، أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر ، ولم يجلس بينهما ، فلما قضى صلاته ، سجد سجدتين ، ثم سلم بعد ذلك .
وفي رواية متفق عليها : يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم . وفي المسند من حديث يزيد بن هارون ، عن المسعودي ، عن زياد بن علاقة قال : صلى بنا المغيرة بن شعبة ، فلما صلى ركعتين ، قام ولم يجلس ، فسبح به من خلفه ، فأشار إليهم : أن قوموا ، فلما فرغ من صلاته ، سلم ، ثم سجد سجدتين ، وسلم ، ثم قال : هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الترمذي .
وذكر البيهقي من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : صلى بنا عقبة بن عامر الجهني ، فقام وعليه جلوس ، فقال الناس : سبحان الله ، سبحان الله ، فلم يجلس ، ومضى على قيامه ، فلما كان في آخر صلاته ، سجد سجدتى السهو وهو جالس ، فلما سلم ، قال : إني سمعتكم آنفاً تقولون : سبحان الله لكيما أجلس ، لكن السنة الذي صنعت .
وحديث عبد الله بن بحينة أولى لثلاثة وجوه .
أحدها : أنه أصح من حديث المغيرة .
الثاني : أنه أصرح منه ، فإن قول المغيرة : وهكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجوز أن يرجع إلى جميع ما فعل المغيرة ، ويكون قد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السهو مرة قبل السلام ، ومرة بعده ، فحكى ابن بحينة ما شاهده ، وحكى المغيرة ما شاهده ، فيكون كلا الأمرين جائزاً ، ويجوز أن يريد المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قام ولم يرجع ، ثم سجد للسهو .
الثالث : أن المغيرة لعله نسي السجود قبل السلام وسجده بعده ، وهذه صفة السهو ، وهذا لا يمكن أن يقال في السجود قبل السلام ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:54 AM
فصل في مجموع ما حفظ عنه من سهوه في الصلاة
فصل
وسلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي ، إما الظهر ، وإما العصر ، ثم تكلم ، ثم أتمها ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتين بعد السلام والكلام ، يكبر حين يسجد ، ثم يكبر حين يرفع .
وذكر أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ، فسجد سجدتين ، ثم تشهد ، ثم سلم . وقال الترمذي : حسن غريب . وصلى يوماً فسلم وانصرف ، وقد بقي من الصلاة ركعة ، فأدركه طلحة بن عبيد الله ، فقال : نسيت من الصلاة ركعة ، فرجع فدخل المسجد ، وأمر بلالاً فأقام الصلاة ، فصلى للناس ركعة ذكره الإمام أحمد رحمه الله . وصلى الظهر خمساً ، فقيل له : زيد في الصلاة ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : صليت خمساً ، فسجد سجدتين بعدما سلم . متفق عليه . وصلى العصر ثلاثاً ، ثم دخل منزله ، فذكره الناس ، فخرج فصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتين ، ثم سلم . فهذا مجموع ما حفظ عنه صلى الله عليه وسلم من سهوه في الصلاة ، وهو خمسة مواضع ، وقد تضمن سجوده في بعضه قبل السلام ، وفي بعضه بعده . فقال الشافعي رحمه الله : كله قبل السلام . وقال أبو حنيفة رحمه الله : كله بعد السلام .
وقال مالك رحمه الله : كل سهو كان نقصاناً في الصلاة ، فإن سجوده قبل السلام ، وكل سهو كان زيادة في الصلاة ، فإن سجوده بعد السلام ، وإذا اجتمع سهوان : زيادة ونقصان ، فالسجود لهما قبل السلام .
قال أبو عمر بن عبد البر : هذا مذهبه لا خلاف عنه فيه ، ولو سجد أحد عنده لسهوه بخلاف ذلك ، فجعل السجود كله بعد السلام ، أو كله قبل السلام ، لم يكن عليه شئ ، لأنه عنده من باب قضاء القاضي باجتهاده ، لاختلاف الآثار المرفوعة ، والسلف من هذه الأمة في ذلك .
وأما الإمام أحمد رحمه الله ، فقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن سجود السهو : قبل السلام ، أم بعده ؟ فقال : في مواضيع قبل السلام ، وفي مواضع بعده ، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين سلم من اثنتين ، ثم سجد بعد السلام ، على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين .
ومن سلم من ثلاث سجد أيضاً بعد السلام على حديث عمران بن حصين . وفي التحري يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود ، وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث ابن بحينة وفي الشك يبني على اليقين ، ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الرحمن بن عوف . قال الأثرم : فقلت لأحمد بن حنبل : فما كان سوى هذه المواضع ؟ قال : يسجد فيها كلها قبل السلام ، لأنه يتم ما نقص من صلاته ، قال : ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لرأيت السجود كله قبل السلام ، لأنه من شأن الصلاة ، فيقضيه قبل السلام ، ولكن أقول : كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيه بعد السلام ، فإنه يسجد فيه بعد السلام ، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام .
وقال داود بن علي : لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع التى سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وأما الشك ، فلم يعرض له صلى الله عليه وسلم ، بل أمر فيه بالبناء على اليقين ، وإسقاط الشك ، والسجود قبل السلام . فقال الإمام أحمد : الشك على وجهين : اليقين ، والتحري ، فمن رجع إلى اليقين ، ألغى الشك ، وسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري ، وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم ، سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور . انتهى .
وأما حديث أبي سعيد ، فهو " إذا شك أحدكم في صلاته ، فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً ، فليطرح الشك ، وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم "، وأما حديث ابن مسعود ، فهو " إذا شك أحدكم في صلاته ، فليتحر الصواب ، ثم ليسجد سجدتين " متفق عليهما . وفي لفظ الصحيحين : " ثم يسلم ، ثم يسجد سجدتين " وهذا هو الذي قال الإمام أحمد ، وإذا رجع إلى التحري ، سجد بعد السلام .
والفرق عنده بين التحري واليقين ، أن المصلي إذا كان إماماً بنى على غالب ظنه وأكثر وهمه ، وهذا هو التحري ، فيسجد له بعد السلام على حديث ابن مسعود ، وإذ كان منفرداً ، بنى على اليقين ، وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد ، وهذه طريقة أكثر أصحابه في تحصيل ظاهر مذهبه . وعنه : روايتان أخريان : إحداهما : أنه يبني على اليقين مطلقاً ، وهو مذهب الشافعي ومالك ، والأخرى : على غالب ظنه مطلقاً ، وظاهر نصوصه إنما يدل على الفرق بين الشك ، وبين الظن الغالب القوي ، فمع الشك يبني على اليقين ، ومع أكثر الوهم أو الظن الغالب يتحرى ، وعلى هذا مدار أجوبته . وعلى الحالين حمل الحديثين ، والله أعلم .
وقال أبو حنيفة رحمه الله في الشك : إذا كان أول ما عرض له ، استأنف الصلاة ، فإن عرض له كثيراً ، فإن كان له ظن غالب ، بنى عليه ، وإن لم يكن له ظن ، بنى على اليقين .
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:55 AM
فصل في كراهة تغميض العينين في الصلاة
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة ، وقد تقدم أنه كان في التشهد يومئ ببصره إلى أصبعه في الدعاء ، ولا يجاوز بصره إشارته .
وذكر البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : كان قرام لعائشة ، سترت به جانب بيتها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أميطي عني قرامك هذا ، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي " . ولو كان يغمض عينيه في صلاته ، لما عرضت له في صلاته . وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر ، لأن الذي كان يعرض له في صلاته : هل تذكر تلك التصاوير بعد رؤيتها ، أو نفس رؤيتها ؟ هذا محتمل ، وهذا محتمل ، وأبين دلالة منه حديث عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام ، فنظر إلى أعلامها نظرة ، فلما انصرف قال : " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم ، وأتوني بانبجانية أبي جهم ، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي " . وفي الاستدلال بهذا أيضاً ما فيه ، إذ غايته أنه حانت منه التفاتة إليها ، فشغلته تلك الالتفاتة ولا يدل حديث التفاته إلى الشعب لما أرسل إليه الفارس طليعة ، لأن ذلك النظر والالتفات منه كان للحاجة ، لاهتمامه بأمور الجيش ، وقد يدل على ذلك مد يده في صلاة الكسوف ليتناول العنقود لما رأى الجنة ، وكذلك رؤيتة النار وصاحبة الهرة فيها ، وصاحب المحجن وكذلك حديث مدافعته للبهيمة التي أرادت أن تمر بين يديه ، ورده الغلام والجارية ، وحجزه بين الجاريتين ، وكذلك أحاديث رد السلام بالإشارة على من سلم عليه وهو في الصلاة ، فإنه إنما كان يشير إلى من يراه ، وكذلك حديث تعرض الشيطان له فأخذه فخنقه ، وكان ذلك رؤية عين ، فهذه الأحاديث وغيرها يستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة .
وقد اختلف الفقهاء في كراهته ، فكرهه الإمام أحمد وغيره ، وقال : هو فعل اليهود ، وأباحه جماعة ولم يكرهوه ، وقالوا : قد يكون أقرب إلى تحصيل الخشوع الذي هو روح الصلاة وسرها ومقصودها. والصواب أن يقال : إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع ، فهو أفضل ، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه ، فهنالك لا يكره التغميض قطعاً ، والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:56 AM
فصل فيما كان يقوله بعد انصرافه من الصلاة من الأذكار وكيفية انصرافه
فصل
فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة ، وجلوسه بعدها ، وسرعة الانتقال منها ، وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها
كان إذا سلم ، استغفر ثلاثاً ، وقال : " اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " .
ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك ، بل يسرع الانتقال إلى المأمومين .
وكان ينتفل عن يمينه وعن يساره ، وقال ابن مسعود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره .
وقال أنس : أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ، والأول في الصحيحين . والثاني في مسلم .
وقال عبد الله بن عمرو : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة .
ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه ، ولا يخص ناحية منهم دون ناحية .
وكان إذا صلى الفجر ، جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس .
وكان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شئ قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .
وكان يقول : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كال شئ قدير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " .
وذكر أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة قال : " اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ". هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه عليه الصلاة والسلام ، وما كان يقوله في ركوعه وسجوده .
ولمسلم فيه لفظان .
أحدهما : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم ، وهذا هو الصواب .
والثاني : كان يقوله بعد السلام ، ولعله كان يقوله في الموضعين ، والله أعلم .
وذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة : " اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه ، أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، اجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام ، اسمع واستجب ، الله أكبر الأكبر الله نور السماوات والأرض ، الله أكبر الأكبر ، حسبي الله ونعم الوكيل ، الله أكبر الأكبر " ورواه أبو داود .
وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله كذلك ، والله أكبر كذلك ، وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير .
وفي صفة أخرى : التكبير أربعاً وثلاثين فتتم به المائة . وفي صفة أخرى : خمساً وعشرين تسبيحة ، ومثلها تحميدة ، ومثلها تكبيرة ، ومثلها لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير .
وفي صفة أخرى : عشر تسبيحات ، وعشر تحميدات ، وعشر تكبيرات . وفي صفة أخرى : إحدى عشرة كما في صحيح مسلم في بعض روايات حديث أبي هريرة " ويسبحون ، ويحمدون ، ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ، إحدى عشرة ، وإحدى عشرة ، وإحدى عشرة ، فذلك ثلاثة وثلاثون " والذي يظهر في هذه الصفة ، أنها من تصرف بعض الرواة وتفسيره ، لأن لفظ الحديث : " يسبحون ويحمدون ، ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين " وإنما مراده بهذا أن يكون الثلاث والثلاثون في كل واحدة من كلمات التسبيح والتحميد والتكبير ، أي قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ثلاثاً وثلاثين لأن راوي الحديث سمي عن أبي صالح السمان ، وبذلك فسره أبو صالح قال : قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون .
وأما تخصيصه بإحدى عشرة ، فلا نظير له في شئ من الأذكار بخلاف المائة ، فإن لها نظائر ، والعشر لها نظائر أيضاً ، كما في السنن من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير ، عشر مرات ، كتب له عشر حسنات ، ومحي عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه ، وحرس من الشيطان ، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله " ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وفي مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة ، "أنه صلى الله عليه وسلم علم ابنته فاطمة لما جاءت تسأله الخادم ، فأمرها : أن تسبح الله عند النوم ثلاثاً وثلاثين ، وتحمده ثلاثاً وثلاثين ، وتكبره ثلاثاً وثلاثين ، وإذا صلت الصبح أن تقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، عشر مرات ، وبعد صلاة المغرب ، عشر مرات ".
وفي صحيح ابن حبان عن أبي أيوب الأنصاري يرفعه : "من قال إذا أصبح : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير عشر مرات ، كتب له بهن عشر حسنات ، ومحي عنه بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات ، وكن له عدل عتاقة أربع رقاب ، وكن له حرساً من الشيطان حتى يمسي ، ومن قالهن إذا صلى المغرب دبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح " .
وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح " الله أكبر عشراً ، والحمد لله عشراً ، وسبحان الله عشراً ، ولا إله إلا الله عشراً ، ويستغفر الله عشراً ، ويقول : اللهم اغفر لي ، واهدني وارزقني عشراً ، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة عشراً " فالعشر في الأذكار والدعوات كثيرة . وأما الإحدى عشرة ، فلم يجئ ذكرها في شئ من ذلك البتة إلا في بعض طرق حديث أبي هريرة المتقدم والله أعلم .
وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من صلاته : " اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري ، وأصلح لي دنياى التى جعلت فيها معاشي ، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من نقمتك ، وأعوذ بك منك ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . وذكر الحاكم في مستدركه عن أبي أيوب أنه قال : ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته حين ينصرف من صلاته يقول : " اللهم اغفر لي خطاياي وذنوبي كلها ، اللهم أنعمنى وأحيني وارزقني ، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق ، إنه لا يهدي لصالحها إلا أنت ، ولا يصرف عن سيئها إلا أنت " .
وذكر ابن حبان في صحيحه عن الحارث بن مسلم التميمي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا صليت الصبح ، فقل قبل أنت تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات ، فإنك إن مت من يومك ، كتب الله لك جواراً من النار ، وإذا صليت المغرب ، فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات ، فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارا من النار " .
وقد ذكر النسائي في السنن الكبير من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " . وهذا الحديث تفرد به محمد بن حمير ، عن محمد بن زياد الألهاني ، عن أبي أمامة ، ورواه النسائي عن الحسين بن بشر ، عن محمد بن حمير . وهذا الحديث من الناس من يصححه ، ويقول : الحسين بن بشر قد قال فيه النسائي : لا بأس به ، وفي موضع آخر : ثقة . وأما المحمدان ، فاحتج بهما البخاري في صحيحه قالوا : فالحديث على رسمه ، ومنهم من يقول : هو موضوع ، وأدخله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه في الموضوعات ، وتعلق على محمد بن حمير ، وأن أبا حاتم الرازي قال : لا يحتج به ، وقال يعقوب بن سفيان : ليس بقوي ، وأنكر ذلك عليه بعض الحفاظ ، ووثقوا محمداً ، وقال : هو أجل أن يكون له حديث موضوع ، وقد احتج به أجل من صنف في الحديث الصحيح ، وهو البخاري ، ووثقه أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين ، وقد رواه الطبراني في معجمه أيضاً من حديث عبد الله بن حسن عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة ، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى " . وقد روي هذا الحديث من حديث أبي أمامة ، وعلي أبي طالب ، و عبد الله بن عمر ، والمغيرة بن شعبة ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وفيها كلها ضعف ، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين واختلاف مخارجها ، دلت على أن الحديث له أصل وليس بموضوع . وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه أنه قال : ما تركتها عقيب كل صلاة . وفي المسند و السنن ، "عن عقبة بن عامر قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة ". ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح على شرط مسلم . ولفظ الترمذي بالمعوذتين .
وفي معجم الطبراني ، و مسند أبي يعلى الموصلي من حديث عمر بن نبهان ، وقد تكلم فيه عن جابر يرفعه : ثلاث من جاء بهن مع الإيمان ، دخل من أي أبواب الجنة شاء ، وزوج من الحور العين حيث شاء ، من عفا عن قاتله ، وأدى ديناً خفياً ، و قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات ، قل هو الله أحد . فقال أبو بكر رضي الله عنه : أو إحداهن يا رسول الله : قال : أو إحداهن . وأوصى معاذاً أن يقول في دبر كل صلاة : " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ".
ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده ، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام ، فراجعته فيه ، فقال : دبر كل شئ منه ، كدبر الحيوان .
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:56 AM
فصل في هديه في السترة
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى الجدار ، جعل بينه وبينه قدر ممر الشاة ، ولم يكن يتباعد منه ، بل أمر بالقرب من السترة ، وكان إذا صلى إلى عود أو عمود أو شجرة ، جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ، ولم يصمد له صمداً ، وكان يركز الحربة ، في السفر والبرية ، فيصلي إليها ، فتكون سترته ، وكان يعرض راحلته ، فيصلي إليها ، وكان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته ، وأمر المصلي أن يستتر ولو بسهم أو عصا ، فإن لم يجد فليخط خطاً في الأرض . قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول : الخط عرضاً مثل الهلال . وقال عبد الله : الخط بالطول ، وأما العصا ، فتنصب نصباً ، فإن لم يكن سترة ، فإنه صح عنه أنه يقطع صلاته ،" المرأة والحمار والكلب الأسود" . وثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وعبد الله بن مغفل . ومعارض هذه الاحاديث قسمان : صحيح غير صريح ، وصريح غير صحيح ، فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة رضي الله عنها نائمة في قبلته . وكأن ذلك ليس كالمار ، فإن الرجل محرم عليه المرور بين يدي المصلي ، ولا يكره له أن يكون لابثاً بين يديه ، وهكذا المرأة يقطع مرورها الصلاة دون لبثها ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:57 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب
كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على عشر ركعات في الحضر دائماً ، وهي التي قال فيها ابن عمر : " حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب في بيته ، وركعتين بعد العشاء في بيته ، وركعتين قبل صلاة الصبح ". فهذه لم يكن يدعها في الحضر أبداً ، ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر ، وداوم عليهما ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملاً أثبته ، وقضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته ، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي ، فمختص به كما سيأتي تقرير ذلك في ذكر خصائصه إن شاء الله تعالى . وكان يصلي أحياناً قبل الظهر أربعاً ، كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم : " كان لا يدع أربعاً قبل الظهر ، وركعتين قبل الغداة " .
فإما أن يقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعاً ، وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين ، وهذا أظهر ، وإما أن يقال : كان يفعل هذا ، ويفعل هذا ، فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده ، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما . وقد يقال : إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر ، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال ، كما ذكره الإمام أحمد عن عبد الله بن السائب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس ، وقال : " إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء ، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح " .
وفي السنن أيضاً عن عائشة رضي الله عنها ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر ، صلاهن بعدها " . وقال ابن ماجه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر ، صلاها بعد الركعتين بعد الظهر " . وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً قبل الظهر ، وبعدها ركعتين " . وذكر ابن ماجه أيضاً عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصلي أربعاً قبل الظهر ، يطيل فيهن القيام ، ويحسن فيهن الركوع والسجود " فهذه - والله أعلم - هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن . وأما سنة الظهر ، فالركعتان اللتان قال عبد الله بن عمر ، يوضح ذلك أن سائر الصلوات سنتها ركعتان ركعتان ، والفجر مع كونها ركعتين ، والناس في وقتها أفرغ ما يكونون ، ومع هذا سنتها ركعتان ، وعلى هذا ، فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر ورداً مستقلاً سببه انتصاف النهار وزوال الشمس . وكان عبد الله بن مسعود يصلي بعد الزوال ثمان ركعات ، ويقول : إنهن يعدلن بمثلهن من قيام الليل . وسر هذا - والله أعلم - أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل ، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ، ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل ، فهما وقتا قرب ورحمة ، هذا تفتح فيه أبواب السماء ، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا . وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أم حبيبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من صلى في يوم وليله ثنتي عشرة ركعة ، بني له بهن بيت في الجنة " . وزاد النسائي والترمذي فيه : "أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل صلاة الفجر ". قال النسائي : " وركعتين قبل العصر " بدل "وركعتين بعد العشاء " وصححه الترمذي . وذكر ابن ماجه عن عائشة ترفعه : "من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة ، بنى الله له بيتاً في الجنة : أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل الفجر " . وذكر أيضاً عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال : "ركعتين قبل الفجر ، وركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين أظنه قال : قبل العصر ، وركعتين بعد المغرب أظنه قال : وركعتين بعد العشاء الآخرة " . وهذا التفسير ، يحتمل أن يكون من كلام بعض الرواة مدرجاً في الحديث ، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً ، والله أعلم .
وأما الأربع قبل العصر ، فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شئ إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي ... الحديث الطويل ، أنه صلى الله عليه وسلم : " كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة ، يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا لصلاة الظهر أربع ركعات ، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات ، وبعد الظهر ركعتين ، وقبل العصر أربع ركعات ". وفي لفظ : "كان إذا زالت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند العصر ، صلى ركعتين ، وإذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند الظهر ، صلى أربعاً ، ويصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين ، وقبل العصر أربعاً ، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين ". وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث ويدفعه جداً ، ويقول : إنه موضوع. ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره . وقد روى أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً " . وقد اختلف في هذا الحديث ، فصححه ابن حبان ، وعلله غيره ، قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى ، عن أبيه عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً ". فقال دع ذا . فقلت : إن أبا داود قد رواه ، فقال : قال أبو الوليد : كان ابن عمر يقول : "حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات في اليوم والليلة ". فلو كان هذا لعده . قال أبي : كان يقول : " حفظت ثنتي عشرة ركعة ". وهذا ليس بعلة أصلاً فإن ابن عمر إنما أخبر بما حفظه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يخبر عن غير ذلك ، فلا تنافي بين الحديثين البتة .
وأما الركعتان قبل المغرب ، فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليهما ، وصح عنه أنه أقر أصحابه عليهما ، وكان يراهم يصلونهما ، فلم يأمرهم ولم ينههم ، وفي الصحيحين عن عبد الله المزني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلوا قبل المغرب ، صلوا قبل المغرب " . قال في الثالثة :" لمن شاء كراهة أن يتخذها الناس سنة ". وهذا هو الصواب في هاتين الركعتين ، أنهما مستحبتان مندوب إليهما ، بسنة راتبة كسائر السنن الرواتب .
وكان يصلي عامة السنن ، والتطوع الذي لا سبب له في بيته ، لا سيما سنة المغرب ، فإنه لم ينقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة . وقال الإمام أحمد في رواية حنبل : السنة أن يصلي الرجل الركعتين بعد المغرب في بيته ، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه . قال السائب بن يزيد : لقد رأيت الناس في زمن عمر بن الخطاب ، إذا انصرفوا من المغرب ، انصرفوا جميعاً حتى لا يبقى في المسجد أحد ، كأنهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه . فإن صلى الركعتين في المسجد ، فهل يجزئ عنه ، وتقع موقعها ؟ اختلف قوله ، فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال : بلغني عن رجل سماه أنه قال : لو أن رجلاً صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه ؟ فقال : ما أحسن ما قال هذا الرجل ، وما أجود ما انتزع ، قال أبو حفص : ووجهه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة في البيوت . وقال المروزي : من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصياً ، قال : ما أعرف هذا ، قلت له : يحكى عن أبي ثور أنه قال : هو عاص . قال : لعله ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في بيوتكم " . قال أبو حفص : ووجهه أنه لو صلى الفرض في البيت ، وترك المسجد ، أجزأه ، فكذلك السنة . انتهى كلامه . وليس هذا وجهه عند أحمد رحمه الله ، وإنما وجهه أن السنن لا يشترط لها مكان معين ، ولا جماعة ، فيجوز فعلها في البيت والمسجد ، والله أعلم .
وفي سنة المغرب سنتان ، إحداهما : أنه لا يفصل بينها وبين المغرب بكلام ، قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني والمروزي : يستحب ألا يكون قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن يصليهما كلام . وقال الحسن بن محمد : رأيت أحمد إذا سلم من صلاة المغرب ، قام ولم يتكلم ، ولم يركع في المسجد قبل أن يدخل الدار ، قال أبو حفص : ووجهه قول مكحول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم ، رفعت صلاته في عليين " ولأنه يتصل النفل بالفرض ، انتهى كلامه .
==>>يتبع
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:58 AM
والسنة الثانية : أن تفعل في البيت ، فقد روى النسائي ، وأبو داود ، والترمذي من حديث كعب بن عجرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل ، فصلى فيه المغرب ، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال : " هذه صلاة البيوت " . ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خديج ، وقال فيها : " اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم " .
والمقصود ، أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فعل عامة السنن والتطوع في بيته . كما في الصحيح عن ابن عمر : حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر ، وركعتيبن بعدها ، وركعتين بعد المغرب فى بيته ، وركعتين بعد العشاء في بيته ، وركعتين قبل صلاة الصبح .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بيتي أربعاً قبل الظهر ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيصلى ركعتين ، وكان يصلي بالناس المغرب ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ويصلى بالناس العشاء ، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين . وكذلك المحفوظ عنه في سنة الفجر ، إنما كان يصليها في بيته كما قالت حفصة . وفي الصحيحين عن ابن عمر ، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الجمعة في بيته . وسيأتي الكلام على ذكر سنة الجمعة بعدها والصلاة قبلها ، عند ذكر هديه في الجمعة إن شاء الله تعالى ، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس صلوا في بيوتكم ، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " . وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل السنن ، والتطوع في البيت إلا لعارض ، كما أن هديه كان فعل الفرائض في المسجد إلا لعارض من سفر ، أو مرض، أو غيره مما يمنعه من المسجد ، وكان تعاهده ومحافظته على سنة الفجر أشد من جميع النوافل ، ولذلك لم يكن يدعها هي والوتر سفراً وحضراً ، وكان في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن ، ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما ، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين ويقول : سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، فكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين ، وهذا وإن احتمل أنهم لم يكونوا يربعون ، إلا أنهم لم يصلوا السنة ، لكن قد ثبت عن ابن عمر أنه سئل عن سنة الظهر في السفر ، فقال : لو كنت مسبحاً لأتممت ، وهذا من فقهه رضي الله عنه ، فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها ، فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها ، لكان الإتمام أولى به .
وقد اختلف الفقهاء : أي الصلاتين آكد ، سنة الفجر أو الوتر ؟ على قولين : ولا يمكن الترجيح باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر ، فقد اختلفوا أيضاً في وجوب سنة الفجر ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل ، والوتر خاتمته . ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص ، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد ، انتهى .
فسورة " قل هو الله أحد " : متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة وما يجب ثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه ، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه ، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوزام الصمدية ، وغناه وأحديته ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير ، فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له ، ونفي كل نقص عنه ، ونفى إثبات شبيه أو مثيل له في كماله ، ونفي مطلق الشريك عنه ، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك ، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، فإن القرآن مداره على الخبر و الإنشاء ، والإنشاء ثلاثة : أمر ، ونهي ، وإباحة . والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه ، وخبر عن خلقه . فأخلصت سورة " قل هو الله أحد " الخبر عنه ، وعن أسمائه ، وصفاته ، فعدلت ثلث القرآن ، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي ، كما خلصت سورة " قل يا أيها الكافرون " من الشرك العلمي الإرادي القصدي . ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه ، والحاكم عليه ومنزله منازله ، كانت سورة " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن . والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر ، و " قل يا أيها الكافرون " ، تعدل ربع القرآن ، والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه :" إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل هو الله أحد ، تعدل ثلث القرآن ، وقل يا أيها الكافرون ، تعدل ربع القرآن " . رواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد .
ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه ، لما لها فيه من نيل الأغراض ، وإزالته ، وقلعه منها أصعب ، وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته ، لأن هذا يزول بالعلم والحجة ، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشئ على غير ما هو عليه ، بخلاف شرك الإرادة والقصد ، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه ، واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه ، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة " قل يا أيها الكافرون " المتضمنة لإزالة الشرك العملي ، ما لم يجئ مثله في سورة " قل هو الله أحد " ، ولما كان القرآن شطرين : شطراً في الدنيا وأحكامها ، ومتعلقاتها ، والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها ، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها ، وكانت سورة " إذا زلزلت " قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر ، فلم يذكر فيها إلا الآخرة . وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها ، كانت تعدل نصف القرآن ، فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً - والله أعلم - ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف ، ولأنهما سورتا الإخلاص والتوحيد ، كان يفتتح بهما عمل النهار ، و يختمه بهما ، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد .
==>>يتبع
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:58 AM
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد سنة الفجر على شقه الأيمن ، هذا الذي ثبت عنه في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها . وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح ، فليضطجع على جنبه الأيمن " . قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب . وسمعت ابن تيمية يقول : هذا باطل ، وليس بصحيح ، وإنما الصحيح الفعل لا الأمر بها ، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه ، وأما ابن حزم ومن تابعه ، فإنهم يوجبون هذه الضجعة ، ويبطل ابن حزم صلاة ما لم يضطجعها بهذا الحديث ، وهذا مما تفرد به عن الأمة ، ورأيت مجلداً لبعض أصحابه قد نصر
فيه هذا المذهب . وقد ذكر عبد الرزاق في المصنف عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، أن أبا موسى ، ورافع بن خديج ، وأنس بن مالك رضي الله عنهم ، كانوا يضطجعون بعد ركعتي الفجر ، ويأمرون بذلك ، وذكر عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، أن ابن عمر كان لا يفعله ، ويقول : كفانا بالتسليم . وذكر عن ابن جريج : أخبرني من أصدق أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول : " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضطجع لسنة ، ولكنه كان يدأب ليله فيستريح" . قال : وكان ابن عمر يحصبهم إذا رآهم يضطجعون على أيمانهم . وذكر ابن أبي شيبة عن أبي الصديق الناجي ، أن ابن عمر رأى قوماً اضطجعوا بعد ركعتي الفجر ، فأرسل إليهم فنهاهم ، فقالوا : نريد بذلك السنة ، فقال ابن عمر : ارجع إليهم وأخبرهم أنها بدعة . وقال أبو مجلز : سألت ابن عمر عنها فقال : يلعب بكم الشيطان . قال ابن عمر رضي الله عنه : ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يفعل كما يفعل الحمار إذا تمعك .
وقد غلا في هذه الضجعة طائفتان ، وتوسط فيها طائفة ثالثة ، فأوجبها جماعة من أهل الظاهر ، وأبطلوا الصلاة بتركها كابن حزم ومن وافقه ، وكرهها جماعة من الفقهاء ، وسموها بدعة ، وتوسط فيها مالك وغيره ، فلم يروا بها بأساً لمن فعلها راحة ، وكرهوها لمن فعلها استناناً ، واستحبها طائفة على الإطلاق ، سواء استراح بها أم لا ، واحتجوا بحديث أبي هريرة . والذين كرهوها ، منهم من احتج بآثار الصحابة كابن عمر وغيره ، حيث كان يحصب من فعلها ، ومنهم من أنكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها ، وقال : الصحيح أن اضطجاعه كان بعد الوتر ، وقبل ركعتي الفجر ، كما هو مصرح به في حديث ابن عباس . قال : وأما حديث عائشة ، فاختلف على ابن شهاب فيه ، فقال مالك عنه : فإذا فرغ يعني من قيام الليل ، اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين ، وهذا صريح أن الضجعة قبل سنة الفجر ، وقال غيره عن ابن شهاب : فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر ، وتبين له الفجر ، وجاءه المؤذن ، قام فركع ركعتين خفيفتين ، ثم اضطجع على شقه الأيمن . قالوا : وإذا اختلف أصحاب ابن شهاب ، فالقول ما قاله مالك ، لأنه أثبتهم فيه وأحفظهم . وقال الآخرون : بل الصواب في هذا مع من خالف مالكاً ، وقال أبو بكر الخطيب : روى مالك عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة ، يوتر منها بواحدة ، فإذا فرغ منها ، اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن ، فيصلى ركعتين خفيفتين . وخالف مالكاً ، عقيل ، ويونس ، وشعيب ، وابن أبي ذئب ، والأوزاعي ، وغيرهم ، فرووا عن الزهري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يركع الركعتين للفجر . ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن ، فيخرج معه . فذكر مالك أن اضطجاعه كان قبل ركعتي الفجر . وفي حديث الجماعة ، أنه اضطجع بعدهما ، فحكم العلماء أن مالكا أخطأ وأصاب غيره ، انتهى كلامه .
وقال أبو طالب : قلت لأحمد : حدثنا أبو الصلت ، عن أبي كدينة ، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه اضطجع بعد ركعتي الفجر ، قال : شعبة لا يرفعه ، قلت : فإن لم يضطجع عليه شئ ؟ قال : لا ، عائشة ترويه وابن عمر ينكره . قال الخلال : وأنبأنا المروزي أن أبا عبد الله قال : حديث أبي هريرة ليس بذاك . قلت : إن الأعمش يحدث به عن أبي صالح ، عن أبي هريرة . قال : عبد الواحد وحده يحدث به . وقال إبراهيم بن الحارث : إن أبا عبد الله سئل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قال : ما أفعله ، وإن فعله رجل ، فحسن . انتهى . فلو كان حديث عبد الواحد بن زياد ، عن الأعمش ، عن أبي صالح صحيحاً عنده ، لكان أقل درجاته عنده الاستحباب ، وقد يقال : إن عائشة رضي الله عنها روت هذا ، وروت هذا ، فكان يفعل هذا تارة ، وهذا تارة ، فليس في ذلك خلاف ، فإنه من المباح ، والله أعلم .
وفي اضطجاعه على شقه الأيمن سر ، وهو أن القلب معلق في الجانب الأيسر ، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر ، استثقل نوماً ، لأنه يكون في دعة واستراحة ، فيثقل نومه ، فإذا نام على شقه الأيمن ، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم ، لقلق القلب ، وطلبه مستقره ، وميله إليه ، ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة وطيب المنام ، وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن ، لئلا يثقل نومه فينام عن قيام الليل ، فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب ، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:58 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل
قد اختلف السلف والخلف في أنه : هل كان فرضاً عليه أم لا ؟ والطائفتان احتجوا بقوله تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك "
( الإسراء :79) قالوا : فهذا صريح في عدم الوجوب ، قال الآخرون : أمره بالتهجد في هذه السورة ، كما أمره فى قوله تعالى: " يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا " ( المزمل :1) ولم يجئ ما ينسخه عنه ، وأما قوله تعالى : " نافلة لك " . فلو كان المراد به التطوع ، لم يخصه بكونه نافلة له ، وإنما المراد بالنافلة الزيادة ، ومطلق الزيادة لا يدل على التطوع ، قال تعالى : " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة " ( الأنبياء : 72) ، أي زيادة على الولد ، وكذلك النافلة في تهجد النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في درجاته ، وفي أجره ولهذا خصه بها ، فإن قيام الليل في حق غيره مباح ، ومكفر للسيئات ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فهو يعمل في زيادة الدرجات وعلو المراتب ، وغيره يعمل في التكفير . قال مجاهد : إنما كان نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكانت طاعته نافلة ، أي : زيادة في الثواب ، ولغيره كفارة لذنوبه ، قال ابن المنذر في تفسيره : حدثنا يعلى بن أبي عبيد ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : ما سوى المكتوبة ، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل في كفارة الذنوب ، وليست للناس نوافل ، إنما هي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، والناس جميعاً يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها .
حدثنا محمد بن نصر ، حدثنا عبد الله ، حدثنا عمرو ، عن سعيد وقبيصة ، عن سفيان ، عن أبي عثمان ، عن الحسن في قوله تعالى : " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " . قال : لا تكون نافلة الليل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم . وذكر عن الضحاك ، قال : نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة .
وذكر سليم بن حيان ، حدثنا أبو غالب ، حدثنا أبو أمامة ، قال : إذا وضعت الطهور مواضعه ، قمت مغفوراً لك ، فإن قمت تصلي، كانت لك فضيلة وأجراً ، فقال رجل : يا أبا أمامة ، أرأيت إن قام يصلي تكون له نافلة ؟ قال : لا ، إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يكون له نافلة ، وهو يسعى في الذنوب والخطايا ؟! تكون له فضيلة وأجراً . قلت : والمقصود أن النافلة في الآية ، لم يرد بها ما يجوز فعله وتركه ، كالمستحب ، والمندوب ، وإنما المراد بها الزيادة في الدرجات ، وهذا قدر مشترك بين الفرض والمستحب ، فلا يكون قوله :" نافلة لك " نافياً لما دل عليه الأمر من الوجوب ، وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة إن شاء الله تعالى ، عند ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم .
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدع قيام الليل حضراً ولا سفراً ، وكان إذا غلبه نوم أو وجع ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة . فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى لفوات محله ، فهو كتحية المسجد ، وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها ، لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وتراً ، كما أن المغرب آخر صلاة النهار ، فإذا انقضى الليل وصليت الصبح ، لم يقع الوتر موقعه . وقد روى أبو داود ، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نام عن الوتر أو نسيه ، فليصله إذا أصبح أو ذكر " . ولكن لهذا الحديث عدة علل .
أحدها : أنه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف . الثاني : أن الصحيح فيه أنه مرسل له عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الترمذي : هذا أصح ، يعني المرسل .
الثالث : أن ابن ماجه حكى عن محمد بن يحيى بعد أن روى حديث أبي سعيد : الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أوتروا قبل أن تصبحوا " . قال : فهذا الحديث دليل على أن حديث عبد الرحمن واه .
وكان قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ، كما قال ابن عباس وعائشة ، فإنه ثبت عنهما هذا وهذا ، ففي الصحيحين عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة . وفي الصحيحين عنها أيضاً ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، يوتر من ذلك بخمس ، لايجلس في شئ إلا في آخرهن و الصحيح عن عائشة الأول : والركعتان فوق الإحدى عشرة هما ركعتا الفجر ، جاء ذلك مبينا عنها في هذا الحديث بعينه ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر ، ذكره مسلم في صحيحه . وقال البخاري : في هذا الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ، ثم يصلي إذا سمع النداء بالفجر ركعتين خفيفتين . وفي الصحيحين عن القاسم بن محمد قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ، ويوتر بسجدة ، ويركع ركعتي الفجر ، وذلك ثلاث عشرة ركعة ، فهذا مفسر مبين .
وأما ابن عباس ، فقد اختلف عليه ، ففي الصحيحين عن أبي جمرة عنه : كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل . لكن قد جاء عنه هذا مفسراً أنها بركعتي الفجر . قال الشعبي : سألت عبد الله بن عباس . وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، فقالا : ثلاث عشرة ركعة ، منها ثمان ، ويوتر بثلاث ، وركعتين قبل صلاة الفجر . وفي الصحيحين عن كريب عنه ، في قصة مبيته عند خالته ميمونة بنت الحارث ، أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعة ، ثم نام حتى نفخ ، فلما تبين له الفجر ، صلى ركعتين خفيفتين . وفي لفظ : فصلى ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن . فقام فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم خرج يصلي الصبح . فقد حصل الاتفاق على إحدى عشرة ركعة .
واختلف فى الركعتين الأخيرتين : هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما ؟ فإذا إنضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض والسنن الراتبة التي كان يحافظ عليها ، جاء مجموع ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة ، كان يحافظ عليها دائما سبعة عشر فرضاً ، وعشر ركعات ، أو ثنتا عشرة سنة راتبة ، وإحدى عشرة ، أو ثلاث عشرة ركعة قيامه بالليل ، والمجموع أربعون ركعة وما زاد على ذلك ، فعارض غير راتب ، كصلاة الفتح ثمان ركعات ، وصلاة الضحى إذا قدم من سفر ، وصلاته عند من يزوره ، وتحية المسجد ونحو ذلك ، فينبغي للعبد أن يواظب على هذا الورد دائماً إلى الممات ، فما أسرع الإجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعه كل يوم وليلة أربعين مرة . والله المستعان .
اسير الصحراء
04-29-2006, 12:59 AM
فصل في سياق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل ووتره وذكر صلاة أول الليل
قالت عائشة رضي الله عنها : ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل علي ، إلا صلى أربع ركعات ، أو ست ركعات ، ثم يأوي إلى فراشه .
وقال ابن عباس لما بات عنده : صلى العشاء ، ثم جاء ، ثم صلى ، ثم نام . ذكرهما أبو داود . وكان إذا استيقظ ، بدأ بالسواك ، ثم يذكر الله تعالى ، وقد تقدم ذكر ما كان يقوله عند استيقاظه ، ثم يتطهر ، ثم يصلى ركعتين خفيفتين ، كما في صحيح مسلم ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين . وأمر بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " إذا قام أحدكم من الليل ، فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين " رواه مسلم . وكان يقوم تارة إذا انتصف الليل ، أوقبله بقليل ، أو بعده بقليل ، وربما كان يقوم إذا سمع الصارخ وهو الديك وهو إنما يصيح في النصف الثاني ، وكان يقطع ورده تارة ، ويصله تارة وهو الأكثر ، ويقطعه كما قال ابن عباس في حديث مبيته عنده ، أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ ، فتسوك ، وتوضأ ، وهو يقول : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " ( آل عمران : 190) فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة ، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ، ثم انصرف ، فنام حتى نفخ ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات ، كل ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات ، ثم أوتر بثلاث ، فأذن المؤذن ، فخرج إلى الصلاة وهو يقول : " اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي لساني نوراً ، واجعل في سمعي نوراً ، واجعل في بصري نوراً ، واجعل من خلفي نوراً ، ومن أمامي نوراً ، واجعل من فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، اللهم أعطني نوراً " رواه مسلم . ولم يذكر ابن عباس افتتاحه بركعتين خفيفتين كما ذكرته عائشة ، فإما أنه كان يفعل هذا تارة ، وهذا تارة ، وإما أن تكون عائشة حفظت ما لم يحفظ ابن عباس ، وهو الأظهر لملازمتها له ، ولمراعاتها ذلك ، ولكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل ، وابن عباس إنما شاهده ليلة المبيت عند خالته ، وإذا اختلف ابن عباس وعائشة في شئ من أمر قيامه بالليل ، فالقول ما قالت عائشة .
وكان قيامه بالليل ووتره أنواعاً ، فمنها هذا الذي ذكره ابن عباس .
النوع الثاني : الذي ذكرته عائشة ، أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ، ثم يتمم ورده إحدى عشرة ركعة ، يسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة .
النوع الثالث : ثلاث عشرة ركعة كذلك .
النوع الرابع : يصلي ثمان ركعات ، يسلم من كل ركعتين ، ثم يوتر بخمس سرداً متوالية ، لا يجلس في شئ إلا في آخرهن .
النوع الخامس : تسع ركعات ، يسرد منهن ثمانياً لا يجلس في شئ منهن إلا في الثامنة ، يجلس يذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه ، ثم ينهض ولا يسلم ، ثم يصلي التاسعة ، ثم يقعد ، ويتشهد ، ويسلم ، ثم يصلي ركعتين جالساً بعدما يسلم .
النوع السادس : يصلي سبعاً كالتسع المذكورة ، ثم يصلي بعدها ركعتين جالساً .
النوع السابع : أنه كان يصلي مثنى مثنى ، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن . فهذا رواه الإمام أحمد رحمه الله عن عائشة ، أنه كان يوتر بثلاث لا فصل فيهن . وروى النسائي عنها : كان لا يسلم في ركعتي الوتر . وهذه الصفة فيها نظر ، فقد روى أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا توتروا بثلاث ، أوتروا بخمس أو سبع ، ولا تشبهوا بصلاة المغرب ". قال الدارقطني : رواته كلهم ثقات ، قال مهنا : سألت أبا عبد الله : إلى أي شئ تذهب في الوتر ، تسلم في الركعتين ؟ قال : نعم . قلت : لأي شئ ؟ قال : لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الركعتين . الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سلم من الركعتين . وقال حرب : سئل أحمد عن الوتر ؟ قال : يسلم في الركعتين . وإن لم يسلم ، رجوت ألا يضره ، إلا أن التسليم أثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو طالب : سألت أبا عبد الله : إلى أي حديث تذهب في الوتر ؟ قال : أذهب إليها كلها : من صلى خمساً لا يجلس إلا في آخرهن ، ومن صلى سبعاً لا يجلس إلا في آخرهن ، وقد روي في حديث زرارة عن عائشة : يوتر بتسع يجلس في الثامنة . قال : ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة ، فأنا أذهب إليها . قلت : ابن مسعود يقول : ثلاث ، قال : نعم ، قد عاب على سعد ركعة ، فقال له سعد أيضاً شيئاً يرد عليه .
النوع الثامن : ما رواه النسائي ، عن حذيفة ، "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فركع ، فقال في ركوعه : سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائماً ، ثم جلس يقول : رب اغفر لي ، رب اغفر لي مثل ما كان قائماً . ثم سجد ، فقال : سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائماً ، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة "، وأوتر أول الليل ، ووسطه ، وآخره . وقام ليلة تامة بآية يتلوها ويرددها حتى الصباح وهي : " إن تعذبهم فإنهم عبادك " ( المائدة : 118) . وكانت صلاته بالليل ثلاثة أنواع .
أحدها - وهو أكثرها : صلاته قائماً .
الثاني : أنه كان يصلي قاعداً ، ويركع قاعداً .
الثالث : أنه كان يقرأ قاعداً ، فإذا بقي يسير من قراءته ، قام فركع قائماً ، والأنواع الثلاثة صحت عنه .
وأما صفة جلوسه في محل القيام ، ففي سنن النسائي ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً قال النسائي : لا أعلم أحداً روى هذا الحديث غير أبي دواد ، يعني الحفري ، وأبو داود ثقة ، ولا أحسب إلا أن هذا الحديث خطأ والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:00 AM
فصل في صلاته جالساً بعد الوتر
فصل
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالساً تارة ، وتارة يقرأ فيهما جالساً ، فإذا أراد أن يركع ، قام فركع ، وفي صحيح مسلم عن أبي سلمة قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ، يصلي ثمان ركعات ، ثم يوتر ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس فإذا أراد أن يركع ، قام فركع ، ثم يصلي ركعتين بعد النداء والإقامة من صلاة الصبح . وفي المسند عن أم سلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس . وقال الترمذي : روي نحو هذا عن عائشة ، وأبي أمامة ، وغير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي المسند عن أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس ، يقرأ فيهما بـ" إذا زلزلت " و " قل يا أيها الكافرون " .
وروى الدارقطني نحوه من حديث أنس رضي الله عنه .
وقد أشكل هذا على كثير من الناس ، فظنوه معارضاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ". وأنكر مالك رحمه الله هاتين الركعتين ، وقال أحمد : لا أفعله ولا أمنع من فعله ، قال : وأنكره مالك وقالت طائفة : إنما فعل هاتين الركعتين ، ليبين جواز الصلاة بعد الوتر ، وأن فعله لا يقطع التنفل ، وحملوا قوله : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً " على الاستحباب ، وصلاة الركعتين بعده على الجواز .
والصواب : أن يقال : إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة ، وتكميل الوتر ، فإن الوتر عبادة مستقلة ، ولا سيما إن قيل بوجوبه ، فتجري الركعتان بعده مجرى سنة المغرب من المغرب ، فإنها وتر النهار ، والركعتان بعدها تكميل لها ، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:00 AM
فصل في قنوت الوتر
فصل
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر ، إلا في حديث رواه ابن ماجه ، عن علي بن ميمون الرقي ، حدثنا مخلد بن يزيد ، عن سفيان ، عن زبيد اليامي ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع . وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله : أختار القنوت بعد الركوع ، إن كل شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت ، إنما هو في الفجر لما رفع رأسه من الركوع ، وقنوت الوتر أختاره بعد الركوع ، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبل أو بعد شئ . وقال الخلال : أخبرني محمد بن يحيى الكحال ، أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر ؟ فقال : ليس يروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ ، ولكن كان عمر يقنت من السنة إلى السنة .
وقد روى أحمد وأهل السنن من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت " . زاد البيهقي والنسائي : " ولا يعز من عاديت " .
وزاد النسائي في روايته : " وصلى الله على النبي " .
وزاد الحاكم في المستدرك وقال : " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود ". ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو" .
قال الترمذي : وفي الباب عن علي رضي الله عنه ، وهذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي ، واسمه ربيعة بن شيبان ، ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئاً أحسن من هذا انتهى .
والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر ، وابن مسعود ، والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر ، والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر ، أصح من الرواية في قنوت الوتر . والله أعلم .
وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : " اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". وهذا يحتمل ، أنه قبل فراغه منه وبعده ، وفي إحدى الروايات عن النسائي : كان يقول إذا فرغ من صلاته ، وتبوأ مضجعه ، وفي هذه الرواية :" لا أحصي ثناء عليك ولو حرصت ". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في السجود ، فلعله قاله في الصلاة وبعدها . وذكر الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووتره : ثم أوتر ، فلما قضى صلاته ، سمعته يقول : " اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، وفوقي نوراً ، وتحتي نوراً ، وأمامي نوراً ، وخلفي نوراً ، واجعل لي يوم لقائك نوراً " . قال كريب : وسبع في القنوت ، فلقيت رجلاً من ولد العباس ، فحدثني بهن ، فذكر : " لحمي ودمي ، وعصبي وشعري وبشري "، وذكر خصلتين ، وفي رواية النسائي في هذا الحديث ، وكان يقول في سجوده . وفي رواية لمسلم في هذا الحديث : فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح ، وهو يقول ... فذكر هذا الدعاء ، وفي رواية له أيضاً ، " وفي لساني نوراً واجعل في نفسي نوراً ، وأعظم لي نوراً " ، وفي رواية له أيضاً ، " واجعلني نوراً " . وذكر أبو داود ، والنسائي من حديث أبي بن كعب ، قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ، بـ " سبح اسم ربك الأعلى " و " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " ، فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ، يمد بها صوته في الثالثة ويرفع ". وهذا لفظ النسائي . زاد الدارقطني "رب الملائكة والروح ".
وكان صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته ، ويقف عند كل آية فيقول : " الحمد لله رب العالمين ، ويقف : الرحمن الرحيم ، ويقف : مالك يوم الدين".
وذكر الزهري أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت آية آية ، وهذا هو الأفضل ، الوقوف على رؤوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها ، وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد ، والوقوف عند انتهائها ، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أولى . وممن ذكر ذلك البيهقي في شعب الإيمان وغيره ، ورجح الوقوف على رؤوس الآي وإن تعلقت بما بعدها .
وكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ، وقام بآية يرددها حتى الصباح . وقد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة ، أو السرعة مع كثرة القراءة : أيهما أفضل ؟ على قولين .
فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها . واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره ، والفقه فيه والعمل به ، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف : نزل القرآن ليعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملاً ، ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به ، والعاملون بما فيه ، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب . وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه ، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم .
قالوا : ولأن الإيمان أفضل الأعمال ، وفهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان ، وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر ، فيفعلها البر والفاجر ، والمؤمن والمنافق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن ، كمثل الريحانة ، ريحها طيب ، وطعمها مر ".
والناس في هذا أربع طبقات : أهل القرآن والإيمان ، وهم أفضل الناس . والثانية : من عدم القرآن والإيمان . الثالثة : من أوتي قرآناً ، ولم يؤت إيماناً ، الرابعة : من أوتي إيماناً ولم يؤت قرآناً . قالوا : فكما أن من أوتي إيماناً بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآناً بلا إيمان ، فكذلك من أوتي تدبراً ، وفهماً في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر . قالوا : وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول منها ، وقام بآية حتى الصباح .
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله : كثرة القراءة أفضل ، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ في كتاب الله ، فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " . رواه الترمذي . وصححه .
قالوا : ولأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة ، وذكروا آثاراً عن كثير من السلف في كثرة القراءة .
والصواب في المسألة أن يقال : إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدراً ، وثواب كثرة القراءة أكثر عدداً ، فالأول : كمن تصدق بجوهرة عظيمة ، أو أعتق عبداً قيمته نفيسة جداً ، والثاني : كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم ، أو أعتق عدداً من العبيد قيمتهم رخيصة ، وفي صحيح البخاري عن قتادة قال : سألت أنساً عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : كان يمد مداً .
وقال شعبة : حدثنا أبو جمرة ، قال : قلت لابن عباس : إني رجل سريع القراءة ، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين ، فقال ابن عباس : لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل ، فإن كنت فاعلاً ولا بد ، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ، ويعيها قلبك . وقال إبراهيم : قرأ علقمة على ابن مسعود ، وكان حسن الصوت ، فقال : رتل فداك أبي وأمي ، فإنه زين القرآن .
وقال ابن مسعود : لا تهذوا القرآن هذ الشعر ، ولا تنثروه نثر الدقل ، وقفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .
وقال عبد الله أيضاً : إذا سمعت الله يقول : " يا أيها الذين آمنوا " فأصغ لها سمعك ، فإنه خير تؤمر به ، أو شر تصرف عنه.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : دخلت علي امرأة وأنا أقرأ ( سورة هود ) فقالت : يا عبد الرحمن : هكذا تقرأ سورة هود ؟! والله إني فيها منذ ستة أشهر ، وما فرغت من قراءتها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بالقراءة في صلاة الليل تارة ، ويجهر بها تارة ، ويطيل القيام تارة ، ويخففه تارة ، ويوتر آخر الليل - وهو الأكثر - وأوله تارة ، وأوسطه تارة .
وكان يصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قبل أي جهة توجهت به ، فيركع ويسجد عليها إيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ، وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعاً ، استقبل القبلة ، فكبر للصلاة ، ثم خلى عن راحلته ، ثم صلى أينما توجهت به . فاختلف الرواة عن أحمد : هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه ؟ على روايتين : فإن أمكنه الاستدارة إلى القبلة في صلاته كلها مثل أن يكون في محمل أو عمارية ونحوها ، فهل يلزمه ، أو يجوز له أن يصلي حيث توجهت به الراحلة ؟ فروى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن صلى في محمل : أنه لا يجزئه إلا أن يستقبل القبلة ، لأنه يمكنه أن يدور ، وصاحب الراحلة والدابة لا يمكنه . وروى عنه أبو طالب أنه قال : الاستدارة في المحمل شديدة يصلي حيث كان وجهه . واختلفت الرواية عنه في السجود في المحمل ، فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال : وإن كان محملاً فقدر أن يسجد في المحمل ، فيسجد . وروى عنه الميموني ، إذا صلى في المحمل أحب إلي أن يسجد ، لأنه يمكنه . وروى عنه الفضل بن زياد : يسجد في المحمل إذا أمكنه . وروى عنه جعفر بن محمد : السجود على المرفقة إذا كان في المحمل ، وربما أسند على البعير ، ولكن يومىء ويجعل السجود أخفض من الركوع ، وكذا روى عنه أبو داود .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:01 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى ، وإني لأسبحها . وروى أيضاً من حديث مورق العجلي ، قلت لابن عمر : أتصلي الضحى ؟ قال : لا ، قلت : فعمر ؟ قال : لا ، قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا . قلت : فالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا . إخاله .
وذكر عن ابن أبي ليلى قال : ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانىء ، فإنها قالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة ، فاغتسل ، وصلى ثمان ركعات ، فلم أر صلاة قط أخف منها ، غير أنه يتم الركوع والسجود .
وفي صحيح مسلم ، عن عبد الله بن شقيق قال : سألت عائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ؟ قالت : لا إلا أن يجيء من مغيبه .
قلت : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بين السور ؟ قالت : من المفصل .
وفي صحيح مسلم عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً ، ويزيد ما شاء الله . وفي الصحيحين عن أم هانىء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ثمان ركعات وذلك ضحى .
وقال الحاكم في المستدرك : حدثنا الأصم ، حدثنا الصغاني ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا بكر بن مضر ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن بكر بن الأشج عن الضحاك بن عبد الله ، عن أنس رضي الله عن قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سبحة الضحى ، صلى ثمان ركعات ، فلما انصرف ، قال : " إني صليت صلاة رغبة ورهبة، فسألت ربي ثلاثاً ، فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة ، سألته ألا يقتلوا أمتي بالسنين ففعل ، وسألته ألا يظهر عليهم عدواً ، ففعل ، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً فأبى علي " . قال الحاكم صحيح . قلت : الضحاك بن عبد الله هذا ينظر من هو وما حاله ؟ وقال الحاكم : في كتاب فضل الضحى : حدثنا أبو بكر الفقيه ، أخبرنا بشر بن يحيى ، حدثنا محمد بن صالح الدولابي ، حدثنا خالد بن عبد الله بن الحصين ، عن هلال بن يساف ، عن زاذان ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى ، ثم قال : " اللهم اغفر لي ، وارحمني ، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم الغفور " . حتى قالها مائة مرة .
حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أسد بن عاصم ، حدثنا حصين بن حفص ، عن سفيان ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى الضحى ركعتين ، وأربعاً ، وستاً وثمانياً .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عثمان بن عبد الملك العمري ، حدثتنا عائشة بنت سعد ، عن أم ذرة، قالت : رأيت عائشة رضي الله عنها تصلي الضحى وتقول : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلا أربع ركعات .
وقال الحاكم أيضاً : أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد المروزي ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا أبو عوانة ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن مرة ، عن عمارة بن عمير ، عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى .
قال الحاكم أيضاً : حدثنا إسماعيل بن محمد ، حدثنا محمد بن عدي بن كامل ، حدثنا وهب بن بقية الواسطي ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن محمد بن قيس ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات
ثم روى الحاكم عن إسحاق بن بشير المحاملي ، حدثنا عيسى بن موسى ، عن جابر ، عن عمر بن صبح ، عن مقاتل بن حيان ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما ، قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة ، وذكر حديثاً طويلاً .
وقال الحاكم : أخبرنا أبو أحمد بن محمد الصيرفي ، حدثنا أبو قلابة الرقاشي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي الضحى .
وبه إلى أبي الوليد : حدثنا أبو عوانة ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عمرو بن مرة ، عن عمارة بن عمير العبدي ، عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى .
قال الحاكم : وفي الباب عن أبي سعيد الخدري ، وأبي ذر الغفاري وزيد بن أرقم ، وأبي هريرة ، وبريدة الأسلمي ، وأبي الدرداء ، وعبد الله أبي أوفى ، وعتبان بن مالك ، وأنس بن مالك ، وعتبة بن عبد الله السلمي ، ونعيم بن همار الغطفاني ، وأبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم ، ومن النساء ، عائشة بنت أبي بكر ، وأم هانىء ، وأم سلمة رضي الله عنهن ، كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها .
وذكر الطبراني من حديث علي ، وأنس ، وعائشة ، وجابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات .
فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق ، منهم من رجح رواية الفعل على الترك بأنها مثبتة تتضمن زيادة علم خفيت على النافي . قالوا : وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس ، ويوجد عند الأقل . قالوا : وقد أخبرت عائشة ، وأنس ، وجابر ، وأم هانىء ، وعلي بن أبي طالب ، أنه صلاها . قالوا : ويؤيد هذا الأحاديث الصحيحة المتضمنة للوصية بها ، والمحافظة عليها ، ومدح فاعلها ، والثناء عليه ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي محمد صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام .
وفي صحيح مسلم نحوه عن أبي الدرداء .
وفي صحيح مسلم ، عن أبي ذر يرفعه ، قال : " يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" .
===>>>يتبع
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:02 AM
وفي مسند الإمام أحمد ، عن معاذ بن أنس الجهني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيراً ، غفر الله له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " .
وفي الترمذي ، و سنن ابن ماجه عن أبي هريرة رضي لله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حافظ على سبحة الضحى ، غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر " .
وفي المسند و السنن ، عن نعيم بن همار قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل : يا ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره " ورواه الترمذي من حديث أبي الدرداء ، وأبي ذر .
وفي جامع الترمذي و سنن ابن ماجه ، عن أنس مرفوعاً " من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة ، بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة " .
وفي صحيح مسلم ، عن زيد بن أرقم أنه رأى قوماً يصلون من الضحى في مسجد قباء ، فقال : أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ".
وقوله : ترمض الفصال ، أي : يشتد حر النهار ، فتجد الفصال حرارة الرمضاء . وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى في بيت عتبان بن مالك ركعتين .
وفي مستدرك الحاكم من حديث خالد بن عبد الله الواسطي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب " وقال : هذا إسناد قد احتج بمثله مسلم بن الحجاح ، وأنه حدث عن شيوخه ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن " قال : ولعل قائلاً يقول : قد أرسله حماد بن سلمة ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن محمد بن عمرو ، فيقال له : خالد بن عبد الله ثقة ، والزيادة من الثقة مقبولة .
ثم روى الحاكم : حدثنا عبدان بن يزيد ، حدثنا محمد بن المغيرة السكري ، حدثنا القاسم بن الحكم العرني ، حدثنا سليمان بن داود اليمامي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للجنة باباً يقال له باب الضحى ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين كانوا يداومون على صلاة الضحى ، هذا بابكم ، فادخلوه برحمه الله " . وقال الترمذي في الجامع : حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني موسى بن فلان ، عن عمه ثمامة بن أنس بن مالك ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة ، بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة " . قال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وكان أحمد يرى أصح شئ في هذا الباب حديث أم هانئ . قلت : وموسى ابن فلان هذا ، هو موسى بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك .
وفي جامعه أيضاً من حديث عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ، ويدعها حتى نقول : لا يصليها . قال : هذا حديث حسن غريب .
وقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن الحارث الذماري ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر ، كان له كأجر الحاج المحرم ، ومن مشى إلى سبحة الضحى كان له كأجر المعتمر ، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين " قال أبو أمامة : الغدو والرواح إلى هذه المساجد من الجهاد في سبيل الله عز وجل . وقال الحاكم : حدثنا أبو العباس ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو المورع محاضر بن المورع ، حدثنا الأحوص بن حكيم ، حدثني عبد الله بن عامر الألهاني ، عن منيب بن عيينة بن عبد الله السلمي ، عن أبي أمامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " من صلى الصبح في مسجد جماعة ، ثم ثبت فيه حتى الضحى ، ثم يصلي سبحة الضحى ، كان له كأجر حاج أو معتمر تام له حجته وعمرته " .
وقال ابن أبي شيبة : حدثني حاتم بن إسماعيل ، عن حميد بن صخر ، عن المقبري ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً ، فأعظموا الغنيمة ، وأسرعوا الكرة . فقال رجل : يا رسول الله ! ما رأينا بعثاً قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث ، فقال : " ألا أخبركم يأسرع كرة ، وأعظم غنيمة : رجل توضأ في بيته فأحسن وضوءه ، ثم عمد إلى المسجد ، فصلى فيه صلاة الغداة ، ثم أعقب بصلاة الضحى ، فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة " .
وفي الباب أحاديث سوى هذه ، لكن هذه أمثلها . قال الحاكم : صحبت جماعة من أئمة الحديث الحفاظ الأثبات ، فوجدتهم يختارون هذا العدد ، يعني أربع ركعات ، ويصلون هذه الصلاة أربعاً ، لتواتر الأخبار الصحيحة فيه ، وإليه أذهب ، وإليه أدعوا اتباعاً للأخبار المأثورة ، واقتداء بمشايخ الحديث فيه .
قال ابن جرير الطبري - وقد ذكر الأخبار المرفوعة في صلاة الضحى واختلاف عددها : وليس في هذه الأحاديث حديث يدفع صاحبه ، وذلك أن من حكى أنه صلى الضحى أربعاً جائز أن يكون رآه في حال فعله ذلك ، ورآه غيره في حال أخرى صلى ركعتين ، ورآه آخر في حال أخرى صلاها ثمانياً ، وسمعه آخر يحث على أن يصلي ستاً ، وآخر يحث على أن يصلي ركعتين وآخر على عشر ، وآخر على ثنتي عشرة ، فأخبر كل واحد منهم عما رأى وسمع . قال : والدليل على صحة قولنا ، ما روى عن زيد بن أسلم قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر : أوصني يا عم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني ، فقال : " من صلى الضحى ركعتين ، لم يكتب من الغافلين ، ومن صلى أربعاً ، كتب من العابدين ، ومن صلى ستاً ، لم يلحقه ذلك اليوم ذنب ، ومن صلى ثمانياً ، كتب من القانتين ، ومن صلى عشراً بنى الله له بيتاً في الجنة " .
وقال مجاهد : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الضحى ركعتين ، ثم يوماً أربعاً ، ثم يوماً ستاً ، ثم يوماً ثمانياً ثم ترك . فأبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من احتمال خبر كل مخبر ممن تقدم أن يكون إخباره لما أخبر عنه في صلاة الضحى على قدر ما شاهده وعاينه . والصواب : إذا كان الأمر كذلك : أن يصليها من أراد على ما شاء من العدد . وقد روي هذا عن قوم من السلف حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن إبراهيم ، سأل رجل الأسود ، كم أصلي الضحى ؟ قال : كم شئت .
وطائفة ثانية ، ذهبت إلى أحاديث الترك ، ورجحتها من جهة صحة إسنادها ، وعمل الصحابة بموجبها ، فروى البخاري عن ابن عمر ، أنه لم يكن يصليها ، ولا أبو بكر ، ولا عمر . قلت : فالنبي صلى الله عليه وسلم قال : لا إخاله . وقال وكيع : حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى إلا يوماً واحداً . وقال علي بن المديني : حدثنا معاذ بن معاذ ، حدثنا شعبة ، حدثنا فضيل بن فضالة ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، قال : رأى أبو بكرة ناساً يصلون الضحى ، قال : إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامة أصحابه .
وفي الموطأ : عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة قالت ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس ، فيفرض عليهم .
وقال أبو الحسن علي بن بطال : فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ، ولم يروا صلاة الضحى ، وقال قوم : إنها بدعة ، روى الشعبي ، عن قيس بن عبيد ، قال : كنت اختلف إلى ابن مسعود السنة كلها ، فما رأيته مصلياً الضحى . وروى شعبة ، عن سعد بن ابراهيم ، عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف ، كان لا يصلي الضحي . وعن مجاهد ، قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ، فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة ، وإذا الناس في المسجد يصلون صلاة الضحى ، فسألناه عن صلاتهم ، فقال : بدعة ، وقال مرة : ونعمت البدعة .
وقال الشعبي : سمعت ابن عمر يقول : ما ابتدع المسلمون أفضل صلاة من الضحى ، وسئل أنس بن مالك عن صلاة الضحى ، فقال : الصلوات خمس .
وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غباً ، فتصلى في بعض الأيام دون بعض ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد ، وحكاه الطبري عن جماعة ، قال : واحتجوا بما روى الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، قال : قلت لعائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى ؟ قالت : لا إلا أن يجئ من مغيبه . ثم ذكر حديث أبي سعيد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ، حتى نقول : لا يدعها ، ويدعها حتى نقول : لا يصليها ، وقد تقدم . ثم قال : كذا ذكر من كان يفعل ذلك من السلف . وروى شعبة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس يصليها يوماً ويدعها عشرة أيام يعنى صلاة الضحى ، وروى شعبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يصلي الضحى ، فإذا أتى مسجد قباء ، صلى ، وكان يأتيه كل سبت . وروى سفيان ، عن منصور ، قال : كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة ، ويصلون ويدعون يعني صلاة الضحى . وعن سعيد بن جبير : إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها ، مخافة أن أراها حتماً علي . وقال مسروق : كنا نقرأ في المسجد ، فنبقى بعد قيام ابن مسعود ، ثم نقوم ، فنصلي الضحى ، فبلغ ابن مسعود ذلك فقال : لم تحملون عباد الله ما لم يحملهم الله ؟! إن كنتم لا بد فاعلين ، ففي بيوتكم . وكان أبو مجلز يصلي الضحى في منزله .
قال هؤلاء : وهذا أولى لئلا يتوهم متوهم وجوبها بالمحافظة عليها ، أو كونها سنة راتبة ، ولهذا قالت عائشة : لو نشر لي أبواي ما تركتهما . فإنها كانت تصليها في البيت حيث لا يراها الناس .
===>>يتبع
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:03 AM
وذهبت طائفة رابعة إلى أنها تفعل بسبب من الأسباب ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما فعلها بسبب ، قالوا : وصلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ثمان ركعات ضحى ، إنما كانت من أجل الفتح ، وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات ، وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح . وذكر الطبرى في تاريخه عن الشعبي قال : لما فتح خالد بن الوليد الحيرة ، صلى صلاة الفتح ثمان ركعات لم يسلم فيهن ، ثم انصرف . قالوا : وقول أم هانئ : وذلك ضحى . تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى ، لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة . قالوا : وأما صلاته في بيت عتبان بن مالك ، فإنما كانت لسبب أيضاً ، فإن عتبان قال له : إني أنكرت بصري ، وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي ، فوددت أنك جئت ، فصليت في بيتي مكاناً أتخذه مسجداً ، فقال : " أفعل إن شاء الله تعالى " قال : فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له ، فلم يجلس حتى قال : " أين تحب أن أصلي من بيتك" ؟ فأشرت إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه ، فقام وصففنا خلفه ، وصلى ، ثم سلم ، وسلمنا حين سلم . متفق عليه .
فهذا أصل هذه الصلاة وقصتها ، ولفظ البخاري فيها ، فاختصره بعض الرواة عن عتبان ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتي سبحة الضحى ، فقاموا وراءه فصلوا .
وأما قول عائشة : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أن يقدم من مغيبه ، فهذا من أبين الأمور أن صلاته لها إنما كانت لسبب ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر ، بدأ بالمسجد ، فصلى فيه ركعتين .
فهذا كان هديه ، وعائشة أخبرت بهذا وهذا ، وهى القائلة : ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى قط . فالذي أثبتته فعلها بسبب ، كقدومه من سفر ، وفتحه ، وزيارته لقوم ونحوه ، وكذلك إتيانه مسجد قباء للصلاة فيه ، وكذلك ما رواه يوسف بن يعقوب ، حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا سلمة بن رجاء ، حدثتنا الشعثاء ، قالت : رأيت ابن أبي أوفى صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل . فهذا إن صح فهي صلاة شكر وقعت وقت الضحى ، كشكر الفتح . والذي نفته ، هو ما كان يفعله الناس ، يصلونها لغير سبب ، وهي لم تقل : إن ذلك مكروه ، ولا مخالف لسنته ، ولكن لم يكن من هديه فعلها لغير سبب . وقد أوصي بها وندب إليها ، وحض عليها ، وكان يستغني عنها بقيام الليل ، فإن فيه غنية عنها ، وهي كالبدل منه ، قال تعالى : " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " (الفرقان :62) قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : عوضاً وخلفاً يقوم أحدهما مقام صاحبه ، فمن فاته عمل في أحدهما ، قضاه في الآخر .
قال قتادة : فأدوا لله من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار ، فإنهما مطيتان يقحمان الناس إلى آجالهم ، ويقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، ويجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة .
وقال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : فاتتني الصلاة الليلة ، فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً .
قالوا : وفعل الصحابة رضي الله عنهم يدل على هذا ، فإن ابن عباس كان يصليها يوماً ، ويدعها عشرة ، وكان ابن عمر لا يصليها ، فإذا أتى مسجد قباء ، صلاها ، وكان يأتيه كل سبت . وقال سفيان ، عن منصور : كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها ، كالمكتوبة ، ويصلون ويدعون ، قالوا : ومن هذا الحديث الصحيح عن أنس ، أن رجلاً من الأنصار كان ضخماً ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لا أستطيع أن أصلي معك ، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً ، ودعاه إلى بيته ، ونضح له طرف حصير بماء ، فصلى عليه ركعتين . قال أنس : ما رأيته صلى الضحى غير ذلك اليوم . رواه البخاري .
ومن تأمل الأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة ، وجدها لا تدل إلا على هذا القول ، وأما أحاديث الترغيب فيها ، والوصية بها ، فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لا يدل على أنها سنة راتبة لكل أحد ، وإنما أوصى أبا هريرة بذلك ، لأنه قد روى أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة ، فأمره بالضحى بدلاً من قيام الليل ، ولهذا أمره ألا ينام حتى يوتر ، ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة .
وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال ، وبعضها منقطع ، وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به ، كحديث يروى عن أنس مرفوعاً "من داوم على صلاة الضحى ولم يقطعها إلا عن علة ، كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر من نور " وضعه زكريا بن دويد الكندي ، عن حميد .
وأما حديث يعلى بن أشدق ، عن عبد الله بن جراد ، عن النبى صلى الله عليه وسلم ، " من صلى منكم صلاة الضحى ، فليصلها متعبداً ، فإن الرجل ليصليها السنة من الدهر ثم ينساها ويدعها ، فتحن إليه كما تحن الناقة إلى ولدها إذا فقدته " . فيا عجباً للحاكم كيف يحتج بهذا الحديث فى كتاب أفرده للضحى ، وهذه نسخة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني نسخة يعلى بن الأشدق . وقال ابن عدي : روى يعلى بن الأشدق ، عن عمه عبد الله بن جراد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة منكرة ، وهو وعمه غير معروفين ، وبلغني عن أبي مسهر ، قال : قلت ليعلى بن الأشدق : ما سمع عمك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : جامع سفيان ، وموطأ مالك ، وشيئاً من الفوائد . وقال أبو حاتم بن حبان : لقي يعلى عبد الله بن جراد ، فلما كبر ، اجتمع عليه من لا دين له ، فوضعوا له شهباً بمائتي حديث ، فجعل يحدث بها وهو لا يدري ، وهو الذي قال له بعض مشايخ أصحابنا : أي شئ سمعته من عبد الله بن جراد ؟ فقال : هذه النسخة ، وجامع سفيان - لا تحل الرواية عنه بحال .
وكذلك حديث عمر بن صبح عن مقاتل بن حيان حديث عائشة المتقدم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة ، وهو حديث طويل ذكره الحاكم في صلاة الضحى وهو حديث موضوع ، المتهم به عمر بن صبح ، قال البخاري : حدثني يحيى ، عن علي بن جرير ، قال : سمعت عمر بن صبح يقول : أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عدي : منكر الحديث . وقال ابن حبان : يضع الحديث على الثقات ، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب منه ، وقال الدارقطني : متروك ، وقال الأزدي : كذاب.
وكذلك حديث عبد العزيز بن أبان ، عن الثوري ، عن حجاج بن فرافصة ، عن مكحول ، عن أبي هريرة مرفوعاً : " من حافظ على سبحة الضحى ، غفرت ذنوبه ، وإن كانت بعدد الجراد ، وأكثر من زبد البحر " ذكره الحاكم أيضاً . وعبد العزيز هذا ، قال ابن نمير : هو كذاب ، وقال يحيى : ليس بشئ ، كذاب خبيث يضع الحديث ، وقال البخاري ، والنسائي ، والدارقطني : متروك الحديث. وكذلك حديث النهاس بن قهم ، عن شداد ، عن أبي هريرة يرفعه " من حافظ على شفعة الضحى ، غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر" والنهاس ، قال يحيى : ليس بشئ ضعيف كان يروي عن عطاء ، عن ابن عباس أشياء منكرة ، وقال النسائي : ضعيف ، وقال ابن عدي : لا يساوي شيئاً ، وقال ابن حبان : كان يروي المناكير عن المشاهير ، ويخالف الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به ، وقال الدارقطني : مضطرب الحديث ، تركه يحيي القطان .
وأما حديث حميد بن صخر ، عن المقبري ، عن أبي هريرة : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً الحديث ، وقد تقدم . فحميد هذا ، ضعفه النسائي ، ويحيى بن معين ، ووثقه آخرون ، وأنكر عليه بعض حديثه ، وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد . والله أعلم .
وأما حديث محمد بن إسحاق ، عن موسى ، عن عبد الله بن المثنى ، عن أنس ، عن عمه ثمامة ، عن أنس يرفعه " من صلى الضحى ، بنى الله له قصراً في الجنة من ذهب "، فمن الأحاديث الغرائب ، وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وأما حديث نعيم بن همار : " ابن آدم لا تعجز لي عن أربع ركعات في أول النهار ، أكفك آخره " ، وكذلك حديث أبي الدرداء ، وأبي ذر ، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:04 AM
فصل في هديه في سجود الشكر
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسر ، أو اندفاع نقمة ، كما في المسند عن أبي بكرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أتاه أمر يسره ، خر لله ساجداً شكراً لله تعالى .
وذكر ابن ماجه ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بحاجة ، فخر لله ساجداً .
وذكر البيهقي بإسناد على شرط البخاري ، أن علياً رضي الله عنه ، لما كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام همدان ، خر ساجداً ثم رفع رأسه ، فقال : " السلام على همدان ، السلام على همدان " . وصدر الحديث في صحيح البخاري وهذا تمامه بإسناده عند البيهقي .
وفي المسند من حديث عبد الرحمن بن عوف ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سجد شكراً لما جاءته البشرى من ربه ، أنه من صلى عليك ، صليت عليه ، ومن سلم عليك ، سلمت عليه .
وفي سنن أبي داود من حديث سعد بن أبي وقاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه فسأل الله ساعة ، ثم خر ساجداً ثلاث مرات ، ثم قال : " إني سألت ربي ، وشفعت لأمتي ، فأعطاني ثلث أمتي ، فخررت ساجداً شكراً لربي ، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي ، فأعطاني الثلث الثاني ، فخررت ساجداً شكراً لربي ، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي ، فأعطاني الثلث الآخر ، فخررت ساجداً لربي " .
وسجد كعب بن مالك لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه ، ذكره البخاري .
وذكر أحمد عن علي رضي الله عنه ، أنه سجد حين وجد ذا الثدية في قتلى الخوارج .
وذكر سعيد بن منصور ، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، سجد حين جاءه قتل مسيلمة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:04 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن
كان صلى الله عليه وسلم ، إذا مر بسجدة ، كبر وسجد ، وربما قال في سجوده " سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ".
وربما قال : " اللهم احطط عني بها وزراً ، واكتب لي بها أجراً ، واجعلها لي عندك ذخراً ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ". ذكرهما أهل السنن .
ولم يذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود ، ولذلك لم يذكره الخرقي ومتقدمو الأصحاب ، ولا نقل فيه عنه تشهد ولا سلام البتة . وأنكر أحمد والشافعي السلام فيه ، فالمنصوص عن الشافعي: إنه لا تشهد فيه ولا تسليم ، وقال أحمد : أما التسليم ، فلا أدري ما هو ، وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه سجد في ( الم تنزيل ) ، وفي ( ص ) ، وفي ( النجم ) وفي ( إذا السماء انشقت ) ، وفي ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) .
وذكر أبو داود عن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقرأه خمس عشرة سجدة ، منها ثلاث في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان .
وأما حديث أبي الدرداء ، سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ، ليس فيها من المفصل شئ : ( الأعراف) ، و ( الرعد ) ، و ( النحل ) ، و ( بنى اسرائيل ) ، و ( مريم ) ، و ( الحج ) ، و ( سجدة الفرقان ) ، و ( النمل ) ، و ( السجدة ) ، و ( ص ) ، و ( سجدة الحواميم ) ، فقال أبو داود : روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ، وإسناده واه .
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة . رواه أبو داود فهو حديث ضعيف ، في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد ، لا يحتج بحديثه . قال الإمام أحمد : أبو قدامة مضطرب الحديث . وقال يحيى بن معين : ضعيف ، وقال النسائي : صدوق عنده مناكير ، وقال أبو حاتم البستي : كان شيخاً صالحاً ممن كثر وهمه . وعلله ابن القطان بمطر الوراق ، وقال : كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعيب على مسلم إخراج حديثه . انتهى كلامه .
ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه ، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه ، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه ، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة ، ومن ضعف جميع حديث سئ الحفظ ، فالأولى : طريقة الحاكم وأمثاله ، والثانية : طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله ، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن والله المستعان . وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم في ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ، وفي ( إذا السماء انشقت ) ، وهو إنما أسلم بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بست سنين أو سبع ، فلو تعارض الحديثان من كل وجه ، وتقاوما في الصحة ، لتعين تقديم حديث أبي هريرة ، لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس ، فكيف وحديث أبي هريرة في غاية الصحة متفق على صحته، وحديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:05 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجمعة وذكر خصائص يومها
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، والناس لنا فيه تبع ، اليهود غداً والنصارى بعد غد " .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، وحذيفة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا ، فهدانا ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة ، المقضي لهم قبل الخلائق " .
وفي المسند والسنن ، من حديث أوس بن أوس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خلق الله آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا : يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ ( يعني : قد بليت ) قال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " . ورواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه . وفي جامع الترمذي ، من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق الله آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة " . قال : حديث حسن صحيح ، وصححه الحاكم .
وفي المستدرك أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً " سيد الأيام يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة " .
وروى مالك في الموطأ ، عن أبي هريرة مرفوعاً " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه . قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ، فقلت : بل في كل جمعة ، فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قال أبو هريرة ، ثم لقيت عبد الله بن سلام ، فحدثته بمجلسي مع كعب ، قال : قد علمت أية ساعة هي ، قلت : فأخيرني بها ، قال : هي آخر ساعة في يوم الجمعة ، فقلت : كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلى فيها ؟ فقال ابن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جلس مجلساً ينتظر الصلاة ، فهو في صلاة حتى يصلي " ؟
وفي صحيح ابن حبان مرفوعاً ، " لا تطلع الشمس على يوم خير من يوم الجمعة " . وفي مسند الشافعي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، "قال : أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرآة بيضاء ، فيها نكتة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذه ؟ فقال : هذه يوم الجمعة فضلت بها أنت وأمتك والناس لكم فيها تبع ، اليهود والنصارى ، ولكم فيها خير ، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ! ما يوم المزيد ؟ قال : إن ربك اتخذ في الفردوس وادياً أفيح فيه كثب من مسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله سبحانه ما شاء من ملائكته ، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين ، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد ، عليها الشهداء والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول الله عز وجل : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي ، فسلوني أعطكم ، فيقولون : ربنا نسألك رضوانك ، فيقول : قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد ، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربك تبارك وتعالى على العرش ، وفيه خلق آدم ، وفيه تقوم الساعة ".
رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد ، حدثني موسى بن عبيدة ، قال : حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة ، عن عبد الله بن عبيد ، عن عمير بن أنس .
ثم قال : وأخبرنا إبراهيم قال : حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد ، عن أنس شبيهاً به .
وكان الشافعي حسن الرأي في شيخه إبراهيم هذا ، لكن قال فيه الإمام أحمد رحمه لله : معتزلي جهمي قدري كل بلاء فيه .
ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع ، حدثنا صفوان : قال : قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل فذكره ورواه محمد بن شعيب ، عن عمر مولى غفرة ، عن أنس . ورواه أبوظبية ، عن عثمان بن عمير ، عن أنس . وجمع أبو بكر بن أبي داود طرقه .
وفي مسند أحمد من حديث علي بن أبي طلحة ، عن أبي هريرة ، قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لأي شئ سمي يوم الجمعة ؟ قال : " لأن فيه طبعت طينة أبيك آدم ، وفيه الصعقة ، والبعثة ، وفيه البطشة ، وفي آخره ثلاث ساعات ، منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له " . وقال الحسن بن سفيان النسوي في مسنده حدثنا أبو مروان هشام بن خالد الأزرق ، حدثنا الحسن بن يحيى الخشني ، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة ، حدثني أنس بن مالك ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أتاني جبريل وفي يده كهيئة المرآة البيضاء ، فيها نكتة سوداء ، فقلت : ما هذه يا جبريل ؟ فقال : هذه الجمعة بعثت بها إليك تكون عيداً لك ولأمتك من بعدك. فقلت : وما لنا فيها يا جبريل ؟ قال : لكم فيها خير كثير ، أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة ، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه . قلت : فما هذه النكتة السوداء يا جبريل ؟ قال : هذه الساعة تكون في يوم الجمعة وهو سيد الأيام ، ونحن نسميه عندنا يوم المزيد . قلت : وما يوم المزيد يا جبريل ؟ قال : ذلك بأن ربك اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة ، هبط الرب عز وجل من عرشه إلى كرسيه ، ويحف الكرسي بمنابر من النور فيجلس عليها النبيون وتحف المنابر بكراسي من ذهب ، فيجلس عليها الصديقون والشهداء ، ويهبط أهل الغرف من غرفهم ، فيجلسون على كثبان المسك لا يرون لأهل المنابر والكراسي فضلاً في المجلس ، ثم يتبدى لهم ذو الجلال والإكرام تبارك وتعالى ، فيقول : سلوني ، فيقولون بأجمعهم : نسألك الرضى يا رب ، فيشهد لهم على الرضى ، ثم يقول : سلوني ، فيسألونه حتى تنتهى نهمة كل عبد منهم ، قال : ثم يسعى عليهم بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ثم يرتفع الجبار من كرسيه إلى عرشه ، ويرتفع أهل الغرف إلى غرفهم ، وهي غرفة من لؤلؤة بيضاء ، أو ياقوتة حمراء ، أو زمردة خضراء ، ليس فيها فصم ولا وصم منورة ، فيها أنهارها ، أو قال : مطردة متدلية فيها ثمارها ، فيها أزواجها وخدمها ومساكنها قال : فأهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة ، كما يتباشر أهل الدنيا في الدنيا بالمطر " .
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب صفة الجنة : حدثني أزهر بن مروان الرقاشي ، حدثني عبد الله بن عرادة الشيباني ، حدثنا القاسم بن مطيب ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آتاني جبريل وفي كفه مرآة كأحسن المرائي وأضوئها ، وإذا في وسطها لمعة سوداء ، فقلت : ما هذه اللمعة التي أرى فيها ؟ قال : هذه الجمعة ، قلت : وما الجمعة ؟ قال : يوم من أيام ربك عظيم ، وسأخبرك بشرفه وفضله في الدنيا ، وما يرجى فيه لأهله ، وأخبرك باسمه في الآخرة ، فأما شرفه وفضله في الدنيا ، فإن الله عز وجل جمع فيه أمر الخلق ، وأما ما يرجى فيه لأهله ، فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله تعالى فيها خيراً إلا أعطاهما إياه ، وأما شرفه وفضله في الآخرة واسمه ، فإن الله تبارك وتعالى إذا صير أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، جرت عليهم هذه الأيام وهذه الليالي ، ليس فيها ليل ولا نهار إلا قد علم الله عز وجل مقدار ذلك وساعاته ، فإذا كان يوم الجمعة حين يخرح أهل الجمعة إلى جمعتهم ، نادى أهل الجنة مناد ، ياأهل الجنة ! اخرجوا إلى وادي المزيد ، ووادي المزيد لا يعلم سعة طوله وعرضه إلا الله ، فيه كثبان المسك ، رؤوسها في السماء قال : فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور ، ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت ، فإذا وضعت لهم ، وأخذ القوم مجالسهم ، بعث الله عليهم ريحاً تدعى المثيرة ، تثير ذلك المسك ، وتدخله من تحت ثيابهم ، وتخرجه في وجوههم وأشعارهم ، تلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من إمرأة أحدكم ، لو دفع إليها كل طيب على وجه الأرض . قال : ثم يوحي الله تبارك وتعالى إلى حملة عرشه : ضعوه بين أظهرهم ، فيكون أول ما يسمعونه منه : إلي يا عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني ، وصدقوا رسلي ، واتبعوا أمري ، سلوني فهذا يوم المزيد ، فيجتمعون على كلمة واحدة ، رضينا عنك فارض عنا ، فيرجع الله إليهم : أن يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم داري ، فسلوني فهذا يوم المزيد ، فيجتمعون على كلمة واحدة : يا ربنا وجهك ننظر إليه ، فيكشف تلك الحجب ، فيتجلى لهم عز وجل ، فيغشاهم من نوره شئ لولا أنه قضى ألا يحترقوا ، لاحترقوا لما يغشاهم من نوره ، ثم يقال لهم : ارجعوا إلى منازلكم ، فيرجعون إلى منازلهم وقد أعطى كل واحد منهم الضعف على ما كانوا فيه ، فيرجعون إلى أزواجهم وقد خفوا عليهن وخفين عليهم مما غشيهم من نوره ، فإذا رجعوا تراد النور حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها ، فتقول لهم أزواجهم : لقد خرجتم من عندنا على صورة ورجعتم على غيرها ، فيقولون : ذلك لأن الله عز وجل تجلى لنا ، فنظرنا منه قال : وإنه والله ما أحاط به خلق ، ولكنه قد أراهم من عظمته وجلاله ما شاء أن يريهم قال : فذلك قولهم فنظرنا منه ، قال : فهم يتقلبون في مسك الجنة ونعيمها في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذلك قوله تعالى : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " (السجدة : 17)" . ورواه أبو نعيم في صفة الجنة من حديث عصمة بن محمد ، حدثنا موسى بن عقبة ، عن أبي صالح ، عن أنس شبيهاً به . وذكر أبو نعيم في صفة الجنة من حديث المسعودي ، عن المنهال ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : سارعوا إلى الجمعة في الدنيا ، فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض ، فيكونون منه سبحانه بالقرب على قدر سرعتهم إلى الجمعة ، ويحدث لهم من الكرامة شيئاً لم يكونوا رأوه قبل ذلك ، فيرجعون إلى أهليهم وقد أحدث لهم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:05 AM
فصل في مبدأ الجمعة
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه ، قال : حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : كنت قائد أبي حين كف بصره ، فإذا خرجت به إلى الجمعة ، فسمع الأذان بها ، استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة ، فمكث حيناً على ذلك فقلت : إن هذا لعجز ألا أسأله عن هذا ، فخرجت به كما كنت أخرج ، فلما سمع الأذان للجمعة ، استغفر له ، فقلت : يا أبتاه ! أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان يوم الجمعة ؟ قال : أي بني ! كان أسعد أول من جمع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له : نقيع الخضمات . قلت : فكم كنتم يومئذ ؟ قال: أربعون رجلاً . قال البيهقي ، ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه من الراوي ، وكان الراوي ثقة ، استقام الإسناد ، وهذا حديث حسن صحيح الإسناد انتهى .
قلت : وهذا كان مبدأ الجمعة . ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأقام بقباء في بني عمرو بن عوف ، كما قاله ابن إسحاق يوم الاثنين ، ويوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، ويوم الخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة ، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف ، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ، وذلك قبل تأسيس مسجده .
قال ابن إسحاق : وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن - ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله ما لم يقل - أنه قام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد أيها الناس ، فقدموا لأنفسكم ، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ، ثم ليدعن غنمه ليس له راع ، ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ، ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي ، فبلغك ، وآتيتك مالاً ، وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك ، فلينظرن يميناً وشمالاً ، فلا يرى شيئاً ، ثم ينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة ، فليفعل ، ومن لم يجد ، فبكلمة طيبة ، فإن بها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ". قال ابن إسحاق : ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى ، فقال : " إن الحمد لله أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إن أحسن الحديث كتاب الله ، قد أفلح من زينه الله في قلبه ، وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس ، إنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا ما أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملوا كلام الله وذكره ، ولا تقس عنه قلوبكم ، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي ، قد سماه الله خيرته من الأعمال ، ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث ، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، واتقوه حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ، إن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .
وقد تقدم طرف من خطبته عليه السلام عند ذكر هديه في الخطب .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:06 AM
فصل في ذكر خصائص يوم الجمعة
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه ، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره . وقد اختلف العلماء : هل هو أفضل ، أم يوم عرفة ؟ على قولين : هما وجهان لأصحاب الشافعي .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:06 AM
الأولى : قراءة سورة السجدة في فجر الجمعة
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره بسورتي ( آلم تنزيل ) و ( هل أتى على الإنسان ) . ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة ، ويسمونها سجدة الجمعة ، وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة ، استحب قراءة سورة أخرى فيها سجدة ، ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة ، دفعاً لتوهم الجاهلين ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة ، لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها ، فإنهما اشتملتا على خلق آدم ، وعلى ذكر المعاد ، وحشر العباد ، وذلك يكون يوم الجمعة ، وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون ، والسجدة جاءت تبعاً ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيث اتفقت . فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:07 AM
الخاصة الثانية : استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة ".
ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنام ، ويوم الجمعة سيد الأيام ، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره مع حكمة أخرى ، وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة ، فإنما نالته على يده ، فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة ، فأعظم كرامة تحصل لهم ، فإنما تحصل يوم الجمعة ، فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة ، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة ، وهو يوم عيد لهم في الدنيا ، ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم ، ولا يرد سائلهم ، وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده ، فمن شكره وحمده ، وأداء القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:07 AM
الخاصة الثالثة : صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام ، ومن أعظم مجامع المسلمين ، وهي أعظم من كل مجع يجمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة ، ومن تركها تهاوناً بها ، طبع الله على قلبه، وقرب أهل الجنة يوم القيامة ، وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرهم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:08 AM
الخاصة الرابعة : الأمر بالاغتسال في يومها ، وهو أمر مؤكد جداً ، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر ، وقراءة البسملة في الصلاة ، ووجوب الوضوء من مس النساء ، ووجوب الوضوء من مس الذكر ، ووجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة ، ووجوب الوضوء من الرعاف ، والحجامة ، والقيء ، ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ، ووجوب القراءة على المأموم .
وللناس في وجوبه ثلاثة أقوال : النفي والإثبات ، والتفصل بين من به رائحة يحتاح إلى إزالتها ، فيجب عليه ، ومن هو مستغن عنه ، فيستحب له ، والثلاثة لأصحاب أحمد .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:09 AM
الخاصة الخامسة : التطيب فيه ، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:09 AM
الخاصة السادسة : السواك فيه ، وله مزية على السواك في غيره .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:10 AM
الخاصة السابعة : التبكير للصلاة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:10 AM
الخاصة الثامنة : أن يشتغل بالصلاة ، والذكر ، والقراءة حتى يخرج الإمام .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:10 AM
الخاصة التاسعة : الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوباً في أصح القولين ، فإن تركه ، كان لاغياً ، ومن لغا ، فلا جمعة له ، وفي المسند مرفوعاً "والذي يقول لصاحبه : أنصت ، فلا جمعة له " .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:11 AM
الخاصة العاشرة : قراءة سورة الكهف في يومها ، فقد روي عن النبى صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضئ به يوم القيامة ، وغفر له ما بين الجمعتين " .
وذكره سعيد بن منصور من قول أبي سعيد الخدري وهو أشبه .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:11 AM
الحادية عشرة : أنه لا يكره فعل الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي رحمه الله ومن وافقه
،وهو اختيار شيخنا أبي العباس بن تيمية ، ولم يكن اعتماده على حديث ليث ، عن مجاهد ، عن أبي الخليل ، عن أبي قتادة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة . وقال : إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة - وإنما كان اعتماده على أن من جاء إلى الجمعة يستحب له أن يصلي حتى يخرج الإمام ، وفي الحديث الصحيح " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ، ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج ، فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " . رواه البخاري فندبه إلى الصلاة ما كتب له ، ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام ، ولهذا قال غير واحد من السلف ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وتبعه عليه الإمام أحمد بن حنبل : خروج الإمام يمنع الصلاة ، وخطبته تمنع الكلام ، فجعلوا المانع من الصلاة خروج الإمام ، لا انتصاف النهار .
وأيضاً ، فإن الناس يكونون في المسجد تحت السقوف ، ولا يشعرون بوقت الزوال ، والرجل يكون متشاغلاً بالصلاة لا يدري بوقت الزوال ، ولا يمكنه أن يخرج ، ويتخطى رقاب الناس ، وينظر إلى الشمس ويرجع ، ولا يشرع له ذلك .
وحديث أبي قتادة هذا ، قال أبو داود : هو مرسل لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة ، والمرسل إذا اتصل به عمل ، وعضده قياس ، أو قول صحابي ، أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك مما يقتضي قوته ، عمل به .
وأيضاً ، فقد عضده شواهد أخر ، منها ما ذكره الشافعي في كتابه فقال : روي عن إسحاق بن عبد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة . هكذا رواه رحمه الله في كتاب اختلاف الحديث ورواه في كتاب الجمعة : حدثنا إبراهيم بن محمد ، عن إسحاق ، ورواه أبو خالد الأحمر ، عن شيخ من أهل المدينة ، يقال له : عبد الله بن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رواه البيهقي في المعرفة من حديث عطاء بن عجلان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة نصف النهار ، إلا يوم الجمعة . ولكن إسناده فيه من لا يحتج به ، قاله البيهقي ، قال : ولكن إذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث أبي قتادة أحدثت بعض القوة .
قال الشافعي : من شأن الناس التهجير إلى الجمعة ، والصلاة إلى خروج الإمام ، قال البيهقي : الذي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في التبكير إلى الجمعة ، وفي الصلاة إلى خروج الإمام من غير استثناء ، وذلك يوافق هذه الأحاديث التي أبيحت فيها الصلاة نصف النهار يوم الجمعة ، وروينا الرخصة في ذلك عن عطاء ، وطاووس ، و الحسن ، ومكحول .
قلت : اختلف الناس في كراهة الصلاة نصف النهار على ثلاثة أقوال أحدها : أنه ليس وقت كراهة بحال ، وهو مذهب مالك .
الثاني : أنه وقت كراهة في يوم الجمعة وغيرها ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والمشهور من مذهب أحمد .
والثالث : أنه وقت كراهة إلا يوم الجمعة ، فليس بوقت كراهة ، وهذا مذهب الشافعي .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:11 AM
الثانية عشرة : قراءة ( سورة الجمعة ) و ( المنافقين ) ، أو( سبح والغاشية ) في صلاة الجمعة ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن في الجمعة ، ذكره مسلم في صحيحه . وفيه أيضاً : أنه صلى الله عليه وسلم ، كان يقرأ فيها بـ ( الجمعة ) و ( هل أتاك حديث الغاشية ) ثبت عنه ذلك كله .
ولا يستحب أن يقرأ من كل سورة بعضها ، أو يقرأ إحداهما في الركعتين ، فإنه خلاف السنة ، وجهال الأئمة يداومون على ذلك .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:12 AM
الثالثة عشرة : أنه يوم عيد متكرر في الأسبوع ، وقد روى أبو عبد الله بن ماجه في سننه من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يوم الجمعة سيد الأيام ، وأعظمها عند الله ، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ، ويوم الفطر ، فيه خمس خلال : خلق الله فيه آدم ، وأهبط فيه آدم إلى الأرض ، وفيه توفى الله آدم ، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا أعطاه ، ما لم يسأل حراماً ، وفيه تقوم الساعة ، ما من ملك مقرب ، ولا سماء ، ولا أرض ، ولا رياح ، ولا جبال ، ولا شجر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة " .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:12 AM
الرابعة عشرة : إنه يستحب أن يلبس فيه أحسن الثياب التي يقدر عليها ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أيوب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان له ، ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد ، ثم يركع إن بدا له ، ولم يؤذ أحداً ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينهما" . وفي سنن أبي داود ، عن عبد الله بن سلام ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة : " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته " .
وفي سنن ابن ماجه ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة ، فرأى عليهم ثياب النمار ، فقال: " ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته " .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:12 AM
الخامسة عشرة : أنه يستحب فيه تجمير المسجد ، فقد ذكر سعيد بن منصور ، عن نعيم بن عبد الله المجمر ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن يجمر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار .
قلت : ولذلك سمي نعيم المجمر .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:13 AM
السادسة عشرة : أنه لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها ، وأما قبله ، فللعلماء ثلاثة أقوال ، وهي روايات منصوصات عن أحمد ، أحدها : لا يجوز ، والثاني : يجوز ، والثالث : يجوز للجهاد خاصة .
وأما مذهب الشافعي رحمه الله ، فيحرم عنده إنشاء السفر يوم الجمعة بعد الزوال ، ولهم في سفر الطاعة وجهان ، أحدهما : تحريمه ، وهو اختيار النووي ، والثاني : جوازه وهو اختيار الرافعي . وأما السفر قبل الزوال ، فللشافعي فيه قولان : القديم : جوازه ، والجديد : أنه كالسفر بعد زوال .
وأما مذهب مالك ، فقال صاحب التفريع : ولا يسافر أحد يوم الجمعة بعد الزوال حتى يصلي الجمعة ، ولا بأس أن يسافر قبل الزوال ، والاختيار : أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى يصلي الجمعة .
وذهب أبو حنيفة إلى جواز السفر مطلقاً ، وقد روى الدارقطني في الأفراد ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سافر من دار إقامته يوم الجمعة ، دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره " . وهو من حديث ابن لهيعة .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية ، فوافق ذلك يوم الجمعة ، قال : فغدا أصحابه ، وقال : أتخلف وأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ألحقهم ، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رآه ، فقال : ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ فقال : أردت أن أصلي معك ، ثم ألحقهم ، فقال : " لو انفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم " .
وأعل هذا الحديث ، بأن الحكم لم يسمع من مقسم . هذا إذا لم يخف المسافر فوت رفقته ، فإن خاف فوت رفقته وانقطاعه بعدهم ، جاز له السفر مطلقاً ، لأن هذا عذر يسقط الجمعة والجماعة .
ولعل ما روي عن الأوزاعي - أنه سئل عن مسافر سمع أذان الجمعة وقد أسرج دابته ، فقال : ليمض على سفره - محمول على هذا ، وكذلك قول ابن عمر رضي الله عنه : الجمعة لا تحبس عن السفر . وإن كان مرادهم جواز السفر مطلقاً ، فهي مسألة نزاع . والدليل : هو الفاصل ، على أن عبد الرزاق قد روى في مصنفه عن معمر ، عن خالد الحذاء ، عن ابن سيرين أو غيره ، أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً عليه ثياب سفر بعدما قضى الجمعة ، فقال : ما شأنك ؟ قال : أردت سفراً ، فكرهت أن أخرج حتى أصلي ، فقال عمر : إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها . فهذا قول من يمنع السفر بعد الزوال ، ولا يمنع منه قبله .
وذكره عبد الرزاق أيضاً عن الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن أبيه قال : أبصر عمر بن الخطاب رجلاً عليه هيئة السفر ، وقال الرجل : إن اليوم يوم جمعة ولولا ذلك ، لخرجت ، فقال عمر : إن الجمعة لا تحبس مسافراً ، فاخرج ما لم يحن الرواح .
وذكر أيضاً عن الثوري ، عن ابن أبي ذئب ، عن صالح بن كثير ، عن الزهري قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافراً يوم الجمعة ضحى قبل الصلاة .
وذكر عن معمر قال : سألت يحيى بن أبي كثير : هل يخرج الرجل يوم الجمعة ؟ فكرهه ، فجعلت أحدثه بالرخصة فيه ، فقال لي: قلما يخرج رجل في يوم الجمعة إلا رأى ما يكرهه ، لو نظرت في ذلك ، وجدته كذلك .
وذكر ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن أبي عطية ، قال : إذا سافر الرجل يوم الجمعة ، دعا عليه النهار أن لا يعان على حاجته ، ولا يصاحب في سفره .
وذكر الأوزاعي ، عن ابن المسيب ، أنه قال : السفر يوم الجمعة بعد الصلاة . قال ابن جريج : قلت لعطاء : أبلغك أنه كان يقال : إذا أمسى في قرية جامعة من ليلة الجمعة ، فلا يذهب حتى يجمع ؟ قال : إن ذلك ليكره . قلت : فمن يوم الخميس ؟ قال : لا ، ذلك النهار فلا يضره .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:13 AM
السابعة عشرة : أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها ، قال عبد الرزاق : عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس ، قال : قال رسول لله صلى الله عليه وسلم : " من غسل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ودنا من الإمام ، فأنصت ، كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها ، وذلك على الله يسير " . ورواه الإمام أحمد في مسنده .
وقال الإمام أحمد : غسل ، بالتشديد : جامع أهله ، وكذلك فسره وكيع .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:13 AM
الثامنة عشرة : أنه يوم تكفير السيئات ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدري ما يوم الجمعة ؟ " قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم قال : " ولكني أدري ما الجمعة ، لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ، ثم يأتي الجمعة ، فينصت حتى يقضي الإمام صلاته ، إلا كانت كفارة لما بينه وبين الجمعة ما اجتنبت المقتلة " .
وفي المسند أيضاً من حديث عطاء الخراساني ، عن نبيشة الهذلي ، أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ، أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحداً ، فإن لم يجد الإمام صلى ما بدا له ، وإن وجد الإمام قد خرج ، جلس ، فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه ، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها ، أن تكون كفارة للجمعة التي تليها". وفي صحيح البخاري ، عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج ، فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام ، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " .
وفي مسند أحمد ، من حديث أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اغتسل يوم الجمعة ، ثم لبس ثيابه ، ومس طيباً إن كان عنده ، ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة ، ولم يتخط أحداً ، ولم يؤذه ، وركع ما قضي له ، ثم انتظر حتى ينصرف الإمام ، غفر له ما بين الجمعتين ".
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:14 AM
التاسعة عشرة : أن جهنم تسجر كل يوم إلا يوم الجمعة . وقد تقدم حديث أبي قتادة في ذلك ، وسر ذلك - والله أعلم - أنه أفضل الأيام عند الله ، ويقع فيه من الطاعات ، والعبادات ، والدعوات ، والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى ، ما يمنع من تسجير جهنم فيه . ولذلك تكون معاصي أهل الإيمان ، فيه أقل من معاصيهم في غيره ، حتى إن أهل الفجور ليمتنعون فيه مما لا يمتنعون منه في يوم السبت وغيره .
وهذا الحديث الظاهر منه أن المراد سجر جهنم في الدنيا ، وأنها توقد كل يوم إلا يوم الجمعة ، وأما يوم القيامة ، فإنه لا يفتر عذابها ، ولا يخفف عن أهلها الذين هم أهلها يوماً من الأيام ، ولذلك يدعون الخزنة أن يدعوا ربهم ليخفف عنهم يوماً من العذاب ، فلا يجيبونهم إلى ذلك .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:14 AM
العشرون : أن فيه ساعة الإجابة ، وهي الساعة التي لا يسأل الله عبد مسلم فيها شيئاً إلا أعطاه ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه ، وقال : بيده يقللها ". وفي المسند من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سيد الأيام يوم الجمعة ، وأعظمها عند الله ، وأعظم عند الله من يوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وفيه خمس خصال : خلق الله فيه آدم ، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض ، وفيه توفى الله عز وجل آدم ، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه ما لم يسأل حراماً ، وفيه تقوم الساعة ، ما من ملك مقرب ، ولا أرض ، ولا رياح ، ولا بحر ، ولا جبال ، ولا شجر ، إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة " .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:15 AM
فصل في اختلاف الناس حول ساعة الاجابة وأقوالهم فيها
فصل
وقد اختلف الناس في هذه الساعة : هل هي باقية أو قد رفعت ؟ على قولين ، حكاهما ابن عبد البر وغيره ، والذين قالوا : هي باقية ولم ترفع ، اختلفوا ، هل هي في وقت من اليوم بعينه ، أم هي غير معينة ؟ على قولين . ثم اختلف من قال تعيينها : هل هي تنتقل في ساعات اليوم ، أو لا ؟ على قولين أيضاً ، والذين قالوا بتعيينها ، اختلفوا على أحد عشر قولاً .
قال ابن المنذر : روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : هي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس .
الثاني : أنها عند الزوال ، ذكره ابن المنذر عن الحسن البصري ، وأبي العالية .
الثالث : أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة ، قال ابن المندز : روينا ذلك عن عائشة رضي الله عنها .
الرابع : أنها إذا جلس الإمام على المنبر يخطب حتى يفرغ ، قال ابن المنذر : رويناه عن الحسن البصري .
الخامس : قاله أبو بردة : هي الساعة التي اختار الله وقتها للصلاة .
السادس : قاله أبو السوار العدوي ، وقال : كانوا يرون أن الدعاء مستجاب ما بين زوال الشمس إلى أن تدخل الصلاة .
السابع : قاله أبو ذر : إنها ما بين أن ترتفع الشمس شبراً إلى ذراع .
الثامن : أنها ما بين العصر إلى غروب الشمس ، قاله أبو هريرة ، وعطاء ، وعبد الله بن سلام ، وطاووس ، حكى ذلك كله ابن المنذر .
التاسع : أنها آخر ساعة بعد العصر ، وهو قول أحمد ، وجمهور الصحابة ، والتابعين .
العاشر : أنها من حين خروح الإمام إلى فراغ الصلاة ، حكاه النووي وغيره .
الحادي عشر : أنها الساعة الثالثة من النهار ، حكاه صاحب المغني فيه . وقال كعب : لو قسم الإنسان جمعة في جمع ، أتى على تلك الساعة ، وقال عمر : إن طلب حاجة في يوم ليسير .
وأرجح هذه الأقوال : قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة ، وأحدهما أرجح من الآخر .
الأول : أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة ، وحجة هذا القول ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى ، أن عبد الله بن عمر قال له : أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة شيئاً ؟ قال : نعم سمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة " . وروى ابن ماجه ، والترمذي ، من حديث عمرو بن عوف المزني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه قالوا : يا رسول الله ! أية ساعة هي؟ قال : حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها " .
والقول الثانى : أنها بعد العصر ، وهذا أرجح القولين ، وهو قول عبد الله بن سلام ، وأبي هريرة ، والإمام أحمد ، وخلق . وحجة هذا القول ما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد وأبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : " إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر ".
وروى أبو داود والنسائي ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يوم الجمعة اثنا عشر ساعة ، فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر ".
وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا ، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة ، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة .
وفي سنن ابن ماجه : "عن عبد الله بن سلام ، قال : قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس : إنا لنجد في كتاب الله ( يعني التوراة) في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا قضى الله له حاجته قال عبد الله : فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة . قلت : صدقت يا رسول الله ، أو بعض ساعة . قلت : أي ساعة هي ؟ قال : هي آخر ساعة من ساعات النهار . قلت : إنها ليست ساعة صلاة ، قال : بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ، ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة ، فهو في صلاة" . وفي مسند أحمد من حديث أبي هريرة ، قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لأي شئ سمي يوم الجمعة ؟ قال : " لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم ، وفيها الصعقة والبعثة ، وفيها البطشة ، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له " .
==>>يتبع
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:15 AM
وفي سنن أبي داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة ، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة ، إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل حاجة إلا أعطاه إياها قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ؟ فقلت : بل في كل جمعة قال : فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو هريرة : ثم لقيت عبد الله بن سلام ، فحدثته بمجلسي مع كعب ، فقال عبد الله بن سلام : وقد علمت أية ساعة هي . قال أبو هريرة : فقلت : أخبرني بها ، فقال عبد الله بن سلام : هي آخر ساعة من يوم الجمعة ، فقلت : كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلى فيها ؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جلس مجلساً ينتظر الصلاة ، فهو في صلاة حتى يصلي ؟ قال : فقلت : بلى . فقال : هو ذاك ".
قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وفي الصحيحين بعضه . وأما من قال : إنها من حين يفتتح الإمام الخطبة إلى فراغه من الصلاة ، فاحتج بما رواه مسلم في صحيحه ، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، قال : قال عبد الله بن عمر : أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة ؟ قال : قلت : نعم سمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الإمام الصلاة " .
وأما من قال : هي ساعة الصلاة ، فاحتج بما رواه الترمذي ، وابن ماجه ، من حديث عمرو بن عوف المزني ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن في الجمعة لساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه " . قالوا : يا رسول الله ! أية ساعة هي ؟ قال : حين تقام الصلاة إلى الإنصراف منها . ولكن هذا الحديث ضعيف ، قال أبو عمر بن عبد البر : هو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، عن أبيه ، عن جده ، وليس هو ممن يحتج بحديثه . وقد روى روح بن عبادة ، عن عوف ، عن معاوية بن قرة ، عن أبي بردة عن أبي موسى ، أنه قال لعبد الله بن عمر : هي الساعة التي يخرج فيها الإمام إلى أن تقضى الصلاة . فقال ابن عمر : أصاب الله بك .
وروى عبد الرحمن بن حجيرة ، عن أبي ذر ، أن امرأته سألته عن الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة للعبد المؤمن ، فقال لها: هي مع رفع الشمس بيسير ، فإن سألتني بعدها ، فأنت طالق .
واحتج هؤلاء أيضاً بقوله في حديث أبي هريرة "وهو قائم يصلي " وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت ، والأخذ بظاهر الحديث أولى . قال أبو عمر : يحتج أيضاً من ذهب إلى هذا بحديث علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا زالت الشمس ، وفاءت الأفياء ، وراحت الأرواح ، فاطلبوا إلى الله حوائجكم ، فإنها ساعة الأوابين ، ثم تلا : " فإنه كان للأوابين غفورا " ( الإسراء :25) ".
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : الساعة التي تذكر يوم الجمعة : ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس . وكان سعيد بن جبير ، إذا صلى العصر ، لم يكلم أحداً حتى تغرب الشمس ، وهذا هو قول أكثر السلف ، وعليه أكثر الأحاديث . ويليه القول : بأنها ساعة الصلاة ، وبقية الأقوال لا دليل عليها .
وعندى أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضاً ، فكلاهما ساعة إجابة ، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر ، فهى ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر ، وأما ساعة الصلاة ، فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت ، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإجابة ، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة ، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها ، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين .
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذى أسس على التقوى ، فقال : " هو مسجدكم هذا " وأشار إلى مسجد المدينة . وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى ، بل كل منهما مؤسس على التقوى . وكذلك قوله في ساعة الجمعة " هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة " لا ينافي قوله في الحديث الآخر " فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر " .
ويشبه هذا في الأسماء قوله "ما تعدون الرقوب فيكم ؟ قالوا : من لم يولد له ، قال : الرقوب من لم يقدم من ولده شيئاً " .
فأخبر أن هذا هو الرقوب ، إذ لم يحصل له من ولده من الأجر ما حصل لمن قدم منهم فرطاً ، وهذا لا ينافي أن يسمى من لم يولد له رقوباً .
ومثله قوله ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا : من لا درهم له ولا متاع . قال : " المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد لطم هذا ، وضرب هذا ، وسفك دم هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته " الحديث .
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ، ولا يتفطن له . فيتصدق عليه " . وهذه الساعة هي آخر ساعة بعد العصر ، يعظمها جميع أهل الملل . وعند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة ، وهذا مما لاغرض لهم في تبديله وتحريفه ، وقد اعترف به مؤمنهم .
وأما من قال بتنقلها ، فرام الجمع بذلك بين الأحاديث ، كما قيل ذلك في ليلة القدر ، وهذا ليس بقوي ، فإن ليلة القدر قد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : "فالتمسوها في خامسة تبقى ، في سابعة تبقى ، في تاسعة تبقى " . ولم يجىء مثل ذلك في ساعة الجمعة .
وأيضاً فالأحاديث التي في ليلة القدر ، ليس فيها حديث صريح بأنها ليلة كذا وكذا ، بخلاف أحاديث ساعة الجمعة ، فظهر الفرق بينهما .
وأما قول من قال : إنها رفعت ، فهو نظير قول من قال : إن ليلة القدر رفعت ، وهذا القائل ، إن أراد أنها كانت معلومة ، فرفع علمها عن الأمة ، فيقال له : يرفع علمها عن كل الأمة ، وإن رفع عن بعضهم ، وإن أراد أن حقيقتها وكونها ساعة إجابة رفعت ، فقول باطل مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة ، فلا يعول عليه . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:16 AM
الحادية والعشرون : أن فيه صلاة الجمعة التي خصت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع ، والعدد المخصوص ، واشترط الإقامة ، والاستيطان ، والجهر بالقراءة . وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأت نظيره إلا في صلاة العصر ، ففي السنن الأربعة ، من حديث أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك ثلاث جمع تهاوناً ، طبع الله على قلبه " قال الترمذي : حديث حسن ، وسألت محمد بن إسماعيل عن اسم أبي الجعد الضمري ، فقال : لم يعرف اسمه ، وقال : لا أعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث .
وقد جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر لمن تركها أن يتصدق بدينار ، فإن لم يجد ، فنصف دينار . رواه أبو داود ، والنسائي من رواية قدامة بن وبرة ، عن سمرة بن جندب . ولكن قال أحمد : قدامة بن وبرة لا يعرف . وقال يحيى بن معين : ثقة ، وحكي عن البخاري ، أنه لا يصح سماعه من سمرة .
وأجمع المسلمون على أن الجمعة فرض عين ، إلا قولاً يحكى عن الشافعي ، أنها فرض كفاية ، وهذا غلط عليه منشؤه أنه قال : وأما صلاة العيد . فتجب على كل من تجب عليه صلاة الجمعة ، فظن هذا القائل أن العيد لما كانت فرض كفاية ، كانت الجمعة كذلك . وهذا فاسد ، بل هذا نص من الشافعي أن العيد واجب على الجميع ، وهذا يحتمل أمرين ، أحدهما : أن يكون فرض عين كالجمعة ، وأن يكون فرض كفاية ، فإن فرض الكفاية على الجميع ، كفرض الأعيان سواء ، وإنما يختلفان بسقوطه عن البعض بعد وجوبه بفعل الآخرين .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:16 AM
الثانية والعشرون : أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده ، والشهادة له بالوحدانية ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، وتذكير العباد بأيامه ، وتحذيرهم من بأسه ونقمته ، ووصيتهم بما يقربهم إليه ، وإلى جنانه ، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره ، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:17 AM
الثالثة والعشرون : أنه اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة ، وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات واجبة ومستحبة ، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوماً يتفرغون فيه للعبادة ، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا ، فيوم الجمعة يوم عبادة ، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور ، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان . ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم ، سلمت له سائر جمعته ، ومن صح له رمضان وسلم ، سلمت له سائر سنته ، ومن صحت له حجته وسلمت له ، صح له سائر عمره ، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع ، ورمضان ميزان العام ، والحج ميزان العمر . وبالله التوفيق .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:18 AM
الرابعة والعشرون : أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام ، و كان العيد مشتملاً على صلاة وقربان ، وكان يوم الجمعة يوم صلاة ، جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان ، وقائماً مقامه ، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة ، والقربان ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " من راح في الساعة الأولى ، فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية ، فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرب كبشاً أقرن "
وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعة على قولين :
أحدهما : أنها من أول النهار ، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما .
والثاني : أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال ، وهذا هو المعروف في مذهب مالك ، واختاره بعض الشافعية ، واحتجوا عليه بحجتين .
إحداهما : أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال ، وهو مقابل الغدو الذي لا يكون إلا قبل الزوال ، قال تعالى : " ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر " ( سبأ:12) . قال الجوهري : ولا يكون إلا بعد الزوال .
الحجة الثانية : أن السلف كانوا أحرص شئ على الخير ، ولم يكونوا يغدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس ، وأنكر مالك التبكير إليها في أول النهار ، وقال : لم ندرك عليه أهل المدينة .
واحتج أصحاب القول الأول ، بحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة ". قالوا : والساعات المعهودة ، هي الساعات التي هي ثنتا عشرة ساعة ، وهي نوعان : ساعات تعديلية ، وساعات زمانية ، قالوا : ويدل على هذا القول ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما بلغ بالساعات إلى ست ، ولم يزد عليها ، ولو كانت الساعة أجزاء صغاراً من الساعة التي تفعل فيها الجمعة ، لم تنحصر في ستة أجزاء ، بخلاف ما إذا كان المردذ بها الساعات المعهودة ، فإن الساعة السادسة متى خرجت ، ودخلت السابعة ، خرج الإمام ، وطويت الصحف ، ولم يكتب لأحد قربان بعد ذلك ، كما جاء مصرحاً به في سنن أبي داود من حديث علي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم الجمعة ، غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق ، فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث ويثبطونهم عن الجمعة ، وتغدو الملائكة ، فتجلس على أبواب المساجد ، فيكتبون الرجل من ساعة ، والرجل من ساعتين حتى يخرج الإمام " . قال أبو عمر بن عبد البر : اختلف أهل العلم في تلك الساعات ، فقالت طائفة منهم : أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها ، والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة والشافعي ، وأكثر العلماء ، بل كلهم يستحب البكور إليها .
قال الشافعي رحمه الله : ولو بكر إليه بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس ، كان حسناً . وذكر الأثرم ، قال : قيل لأحمد بن حنبل : كان مالك بن أنس يقول : لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكراً ، فقال : هذا خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم . وقال : سبحان الله إلى أي شئ ذهب في هذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كالمهدى جزوراً ". قال : وأما مالك فذكر يحيي بن عمر ، عن حرملة ، أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات : أهو الغدو من أول ساعات النهار ، أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح ؟ فقال ابن وهب : سألت مالكاً عن هذا ، فقال : أما الذي يقع بقلبي ، فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات ، من راح من أول تلك الساعة ، أو الثانيه ، أو الثالثة ، أو الرابعة ، أو الخامسة ، أو السادسة . ولو لم يكن كذلك ، ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر ، أو قريباً من ذلك . وكان ابن حبيب ، ينكر مالك هذا ، ويميل إلى القول الأول ، وقال : قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ، ومحال من وجوه . وقال : يدلك أنه لا يجوز ساعات في ساعة واحدة : أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار ، وهو وقت الأذان ، وخروج الإمام إلى الخطبة ، فدل ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات ، فبدأ بأول ساعات النهار ، فقال : من راح في الساعة الأولى ، فكأنما قرب بدنة ، ثم قال : في الساعة الخامسة بيضة ، ثم انقطع التهجير ، وحان وقت الأذان ، فشرح الحديث بين في لفظه ، ولكنه حرف عن موضعه ، وشرح بالخلف من القول ، وما لا يكون ، وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير من أول النهار ، وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس ، قال : وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار ، وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية .
===>>يتبع
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:18 AM
هذا كله قول عبد الملك بن حبيب ، ثم رد عليه أبو عمر ، وقال : هذا تحامل منه على مالك رحمه الله تعالى ، فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خلفاً وتحريفاً من التأويل ، والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ، ويشهد له أيضاً العمل بالمدينة عنده ، وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل ، لأنه أمر يتردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء . فمن الآثار التي يحتج بها مالك ، ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم الجمعة ، قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة ، يكتبون الناس ، الأول فالأول ، فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثم الذي يليه كالمهدي كبشاً ، حتى ذكر الدجاجة والبيضة ، فإذا جلس الإمام ، طويت الصحف ، واستمعوا الخطبة ". قال : ألا ترى إلى ما في هذا الحديث ، فإنه قال : يكتبون الأول فالأول ، فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه فجعل الأول مهجراً ، وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والتهجير ، وذلك وقت النهوض إلى الجمعة ، وليس ذلك وقت طلوع الشمس ، لأن ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا تهجير ، وفي الحديث : " ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ". ولم يذكر الساعة . قال : والطرق بهذا اللفظ كثيرة ، مذكورة في التمهيد ، وفي بعضها " المتعجل إلى الجمعة كالمهدى بدنة " . وفي أكثرها " المهجر كالمهدى جزوراً " الحديث . وفي بعضها ، ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدي بدنة ، وفي آخرها كذلك ، وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة ، وفي آخرها كذلك . وقال بعض أصحاب الشافعي : لم يرد صلى الله عليه وسلم بقوله : " المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة " ، الناهض إليها في الهجير والهاجرة ، وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من أغراض أهل الدنيا للنهوض إلى الجمعة ، كالمهدي بدنة ، وذلك مأخوذ من الهجرة وهو ترك الوطن ، والنهوض إلى غيره ، ومنه سمي المهاجرون . وقال الشافعي رحمه الله : أحب التبكير إلى الجمعة ، ولا تؤتى إلا مشياً . هذا كله كلام أبي عمر .
قلت : ومدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور ، أحدها : عل لفظة الرواح ، وإنها لا تكون إلا بعد الزوال ، والثاني : لفظة التهجير ، وهي إنما تكون بالهجرة وقت شدة الحر ، والثالث : عمل أهل المدينة ، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار .
فأما لفظة الرواح ، فلا ريب أنها تطلق على المضي بعد الزوال ، وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قرنت بالغدو ، كقوله تعالى : " غدوها شهر ورواحها شهر " ( سبأ :12) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " من غدا إلى المسجد وراح ، أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح ". وقول الشاعر :
نروح ونغدوا لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
وقد يطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي ، وهذا إنما يجئ ، إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو .
وقال الأزهري في التهذيب : سمعت بعض العرب يستعمل الرواح في السير في كل وقت ، يقال : راح القوم : إذا ساروا ، وغدوا كذلك ، ويقول أحدهم لصاحبه : تروح ، ويخاطب أصحابه ، فيقول : روحوا أي : سيروا ، ويقول الآخر : ألا تروحون ؟ ومن ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة ، وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخفة إليها ، لا بمعنى الرواح بالعشي .
وأما لفظ التهجير والمهجر ، فمن الهجير ، والهاجرة ، قال الجوهري : هي نصف النهار عند اشتداد الحر ، تقول منه : هجر النهار ، قال امرؤ القيس :
فدعها وسل الهم عنها بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا
ويقال : أتينا أهلنا مهجرين ، أي : في وقت الهاجرة ، والتهجير والتهجر : السير في الهاجرة ، فهذا ما يقرر به قول أهل المدينة . قال الآخرون : الكلام في لفظ التهجير ، كالكلام في لفظ الرواح ، فإنه يطلق ويراد به التبكير .
قال الأزهري في التهذيب : روى مالك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو يعلم الناس ما في التهجير ، لاستبقوا إليه " .
وفي حديث آخر مرفوع : " المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ". قال : ويذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقت الزوال وهو غلط ، والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي ، عن النضر بن شميل ، أنه قال : التهجير إلى الجمعة وغيرها : التبكير والمبادرة إلى كل شئ قال : سمعت الخليل يقول ذلك ، قاله في تفسير هذا الحديث .
قال الأزهري : وهذا صحيح ، وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس ، قال لبيد :
أهل المدينة حجة ، فإن هذا ليس فيه إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار ، وهذا جائز بالضرورة . وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار ، ولا ريب أن انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وجلوس الرجل في مصلاه حتى يصلي الصلاة الأخرى ، أفضل من ذهابه وعوده في وقت آخر للثانية ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " والذي ينتظر الصلاة ، ثم يصليها مع الإمام أفضل من الذي يصلي ، ثم يروح إلى أهله " وأخبر " أن الملائكة لم تزل تصلي عليه ما دام في مصلاه " وأخبر " أن انتظار الصلاة بعد الصلاة ، مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، وأنه الرباط " وأخبر " أن الله يباهي ملائكته بمن قضى فريضة وجلس ينتظر أخرى " وهذا يدل على أن من صلى الصبح ، ثم جلس ينتظر الجمعة ، فهو أفضل ممن يذهب ، ثم يجيء في وقتها ، وكون أهل المدينة وغيرهم لا يفعلون ذلك ، لا يدل على أنه مكروه، فهكذا المجيء إليها والتبكير في أول النهار ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:18 AM
الخامسة والعشرون : أن للصدقة فيه مزية عليها في سائر الأيام ، والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع ، كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور . وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ، إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره ، فيتصدق به في طريقه سراً ، وسمعته يقول : إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضل وأولى بالفضيلة . وقال أحمد بن زهير بن حرب : حدثنا أبي ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : اجتمع أبو هريرة ، وكعب ، فقال أبو هريرة : إن في الجمعة لساعة لا يوافقها رجل مسلم في صلاة يسأل الله عز وجل شيئاً إلا آتاه إياه ، فقال كعب : أنا أحدثكم عن يوم الجمعة ، إنه إذا كان يوم الجمعة فزعت له السماوات والأرض ، والبر ، والبحر ، والجبال ، والشجر ، والخلائق كلها ، إلا ابن آدم والشياطين ، وحفت الملائكة بأبواب المسجد ، فيكتبون من جاء الأول فالأول حتى يخرج الإمام ، فإذا خرج الإمام ، طووا صحفهم ، فمن جاء بعد ، جاء لحق الله ، لما كتب عليه ، وحق على كل حالم أن يغتسل يومئذ كاغتساله من الجنابة ، والصدقة فيه أعظم من الصدقة في سائر الأيام ، ولم تطلع الشمس ولم تغرب على مثل يوم الجمعة . فقال ابن عباس : هذا حديث كعب وأبي هريرة ، وأنا أرى إن كان لأهله طيب يمس منه .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:19 AM
السادسة والعشرون : أنه يوم يتجلى الله عز وجل فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة ، وزيارتهم له ، فيكون أقربهم منهم أقربهم من الإمام ، وأسبقهم إلى الزيارة أسبقهم إلى الجمعة . وروى يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن أبي اليقظان ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، في قوله عز وجل : " ولدينا مزيد " ( ق : 35) قال : يتجلى لهم في كل جمعة .
وذكر الطبراني في معجمه ، من حديث أبي نعيم المسعودي ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : سارعوا إلى الجمعة ، فإن الله عز وجل يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور فيكونون منه في القرب على قدر تسارعهم إلى الجمعة ، فيحدث الله سبحانه لهم من الكرامة شيئاً لم يكونوا قد رأوه قبل ذلك ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، فيحدثونهم بما أحدث الله لهم . قال : ثم دخل عبد الله المسجد ، فإذا هو برجلين ، فقال عبد الله : رجلان وأنا الثالث ، إن يشأ الله يبارك في الثالث .
وذكر البيهقي في الشعب عن علقمة بن قيس قال : رحت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى جمعة ، فوجد ثلاثة قد سبقوه ، فقال : رابع أربعة ، وما رابع أربعة ببعيد . ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رواحهم إلى الجمعة ، الأول ، ثم الثاني ، ثم الثالث ، ثم الرابع " . ثم قال : وما أربع أربعة ببعيد .
قال الدارقطني في كتاب الرؤية : حدثنا أحمد بن سلمان بن الحسن ، حدثنا محمد بن عثمان بن محمد ، حدثنا مروان بن جعفر، حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم ، حدثنا عطاء بن أبي ميمونة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة ، رأى المؤمنون ربهم ، فأحدثهم عهداً بالنظر إليه من بكر في كل جمعة ، وتراه المؤمنات يوم الفطر ويوم النحر ".
حدثنا محمد بن نوح ، حدثنا محمد بن موسى بن سفيان السكري ، حدثنا عبد الله بن الجهم الرازي ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن أبي طيبة ، عن عاصم ، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذه الجمعة يعرضها الله عليك لتكون لك عيداً ولقومك من بعدك ، قلت : وما لنا فيها ؟ قال : لكم فيها خير ، أنت فيها الأول ، واليهود والنصارى من بعدك ، ولك فيها ساعة لا يسأل الله عز وجل عبد فيها شيئاً هو له قسم إلا أعطاه ، أو ليس له قسم إلا أعطاه أفضل منه ، وأعاذه الله من شر ما هو مكتوب عليه ، وإلا دفع عنه ما هو أعظم من ذلك . قال : قلت : وما هذه النكتة السوداء ؟ قال : هي الساعة تقوم يوم الجمعة، وهو عندنا سيد الأيام ، ويدعوه أهل الآخرة يوم المزيد . قال : قلت : يا جبريل ! وما يوم المزيد ؟ قال : ذلك أن ربك عز وجل اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة ، نزل على كرسيه ، ثم حف الكرسي بمنابر من نور ، فيجيء النبيون حتى يجلسوا عليها ، ثم حف المنابر بمنابر من ذهب ، فيجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا عليها ، ويجيء أهل الغرف حتى يجلسوا على الكثب ، قال : ثم يتجلى لهم ربهم عز وجل ، قال : فينظرون إليه فيقول : أنا الذي صدقتم وعدي ، وأتممت عليكم نعمتي ، وهذا محل كرامتي فسلوني ، فيسألونه الرضى . قال : رضاي أنزلكم داري ، وأنالكم كرامتي ، فسلوني ، فيسألونه الرضى . قال : فيشهد لهم بالرضى ، ثم يسألونه ، حتى تنتهي رغبتهم ، ثم يفتح لهم عند ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . قال : ثم يرتفع رب العزة ، ويرتفع معه النبيون والشهداء ، ويجيء أهل الغرف إلى غرفهم . قال : كل غرفة من لؤلؤة لا وصل فيها ولا فصم ، ياقوتة حمراء ، وغرفة من زبرجدة خضراء ، أبوابها وعلاليها وسقائفها وأغلاقها منها أنهارها مطردة متدلية فيها أثمارها ، فيها أزواجها وخدمها . قال : فليسوا إلى شئ أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا من كرامة الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ، فذلك يوم المزيد " .
ولهذا الحديث عدة طرق ، ذكرها أبو الحسن الدارقطني في كتاب الرؤية .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:19 AM
السابعة والعشرون : أنه قد فسر الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة ، قال حميد بن زنجويه : حدثنا عبد الله بن موسى ، أنبأنا موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اليوم الموعود : يوم القيامة ، واليوم المشهود : هو يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت شمس ، ولا غربت على أفضل من يوم الجمعة ، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها بخير إلا استجاب له ، أو يستعيذه من شر إلا أعاذه منه " .
ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، عن روح ، عن موسى بن عبيدة .
وفي معجم الطبراني ، من حديث محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثنى أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اليوم الموعود : يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة ، ويوم الجمعة ذخره الله لنا ، وصلاة الوسطى صلاة العصر " وقد روي من حديث جبير بن مطعم . قلت : والظاهر - والله أعلم -: أنه من تفسير أبي هريرة ، فقد قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمار مولى بني هاشم ، عن أبي هريرة ، أما علي بن زيد ، فرفعه إلى النبي ، وأما يونس، فلم يعد أبا هريرة أنه قال : في هذه الآية : " وشاهد ومشهود " قال : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، والموعود: يوم القيامة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:19 AM
الثامنة والعشرون : أنه اليوم الذي تفزع منه السماوات والأرض ، والجبال ، والبحار ، والخلائق كلها إلا الإنس والجن ، فروى أبو الجواب ، عن عمار بن رزيق ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : اجتمع كعب وأبو هريرة ، فقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه " . فقال كعب : ألا أحدثكم عن يوم الجمعة ، إنه إذا كان يوم الجمعة ، فزعت له السماوات والأرض ، والجبال ، والبحار ، والخلائق كلها إلا ابن آدم والشياطين ، وحفت الملائكة بأبواب المساجد ، فيكتبون الأول فالأول حتى يخرج الإمام ، فإذا خرج الإمام ، طووا صحفهم ، ومن جاء بعد جاء لحق الله ، ولما كتب عليه ، ويحق على كل حالم أن يغتسل فيه ، كاغتساله من الجنابة ، والصدقة فيه أفضل من الصدقة في سائر الأيام ، ولم تطلع الشمس ولم تغرب على يوم كيوم الجمعة . قال ابن عباس : هذا حديث كعب ، وأبي هريرة ، وأنا أرى ، من كان لأهله طيب أن يمس منه يومئذ .
وفي حديث أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة ، وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة إلا هذين الثقلين من الجن والإنس " ، وهذا حديث صحيح . وذلك أنه اليوم الذي تقوم فيه الساعة ، ويطوى العالم ، وتخرب فيه الدنيا ، ويبعث فيه الناس إلى منازلهم من الجنة والنار .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:20 AM
التاسعة والعشرون : أنه اليوم الذي ادخره الله لهذه الأمة ، وأضل عنه أهل الكتاب قبلهم ، كما في الصحيح ، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما طلعت الشمس ، ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة ، هدانا الله له ، وضل الناس عنه ، فالناس لنا فيه تبع ، هو لنا ، ولليهود يوم السبت ، وللنصاري يوم الأحد " . وفي حديث آخر " ذخره الله لنا " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمر بن قيس ، عن محمد بن الأشعث ، عن عائشة قالت : بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ استأذن رجل من اليهود ، فأذن له ، فقال : السام عليك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : وعليك . قالت : فهممت أن أتكلم ، قالت : ثم دخل الثانية ، فقال مثل ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وعليك ، قالت : فهممت أن أتكلم ، ثم دخل الثالثة ، فقال : السام عليكم ، قالت ، فقلت : بل السام عليكم ، وغضب الله ، إخوان القردة والخنازير ، أتحيون رسول الله بما لم يحيه به الله عز وجل . قالت : فنظر إلي فقال : مه إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، قالوا قولاً فرددناه عليهم ، فلم يضرنا شيئاً ، ولزمهم إلى يوم القيامة ، إنهم لا يحسدوننا على شئ كما يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها ، وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها ، وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، عن النبى صلى الله عليه وسلم ، " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غداً ، والنصارى بعد غد " .
وفي بيد لغتان بالباء ، وهي المشهورة ، وميد بالميم ، حكاها أبوعبيد . وفي هذه الكلمة قولان ، أحدهما : أنها بمعنى غير وهو أشهر معنييها ، والثاني : بمعنى على وأنشد أبو عبيد شاهداً له :
عمداً فعلت ذاك بيد أني إخال لو هلكت لم ترني
ترني : تفعلي من الرنين .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:20 AM
الثلاثون : أنه خيرة الله من أيام الأسبوع ، كما أن شهر رمضان خيرته من شهور العام ، وليلة القدر خيرته من الليالي ، ومكة خيرته من الأرض ، ومحمد صلى الله عليه وسلم خيرته من خلقه .
قال أدم بن أبي إياس : حدثنا شيبان أبو معاوية ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبى صالح ، عن كعب الأحبار . قال : إن الله عز وجل اختار الشهور ، واختار شهر رمضان ، واختار الأيام ، واختار يوم الجمعة ، واختار الليالي ، واختار ليلة القدر ، واختار الساعات ، واختار ساعة الصلاة ، والجمعة تكفر ما بينها وبين الجمعة الأخرى ، وتزيد ثلاثاً ، ورمضان يكفر ما بينه وبين رمضان ، والحج يكفر ما بينه وبين الحج ، والعمرة تكفر ما بينها وبين العمرة ، ويموت الرجل بين حسنتين : حسنة قضاها ، وحسنة ينتظرها يعني صلاتين ، وتصفد الشياطين في رمضان ، وتغلق أبواب النار ، وتفتح فيه أبواب الجنة ، ويقال فيه : يا باغي الخير : هلم . رمضان أجمع ، وما من ليال أحب إلى الله العمل فيهن من ليالي العشر .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:21 AM
الحادية والثلاثون : إن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم ، وتوافيها في يوم الجمعة ، فيعرفون زوارهم ومن يمر بهم ، ويسلم عليهم ، ويلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام ، فهو يوم تلتقي فيه الأحياء والأموات ، فإذا قامت فيه الساعة ، التقى الأولون والآخرون ، وأهل الأرض وأهل السماء ، والرب والعبد ، والعامل وعمله ، والمظلوم وظالمه ، والشمس والقمر ، ولم تلتقيا قبل ذلك قط ، وهو يوم الجمع واللقاء ، ولهذا يلتقي الناس فيه في الدنيا أكثر من التقائهم في غيره ، فهو يوم التلاق . قال أبو التياح يزيد بن حميد . كان مطرف بن عبد الله يبادر فيدخل كل جمعة ، فأدلج حتى إذا كان عند المقابر يوم الجمعة ، قال : فرأيت صاحب كل قبر جالساً على قبره ، فقالوا : هذا مطرف يأتي الجمعة ، قال . فقلت لهم : و تعلمون عندكم الجمعة ؟ قالوا : نعم ، ونعلم ما تقول فيه الطير ، قلت : وما تقول فيه الطير ؟ قالوا : تقول : رب سلم سلم يوم صالح .
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المنامات وغيره ، عن بعض أهل عاصم الجحدري ، قال : رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته لسنتين ، فقلت : أليس قد مت ؟ قال : بلى ، قلت : فأين أنت ؟ قال : أنا والله في روضة من رياض الجنة ، أنا ونفر من أصحابي ، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني ، فنتلقى أخباركم . قلت : أجسامكم أم أرواحكم ؟ قال : هيهات بليت الأجسام ، وإنما تتلاقى الأرواح ، قال : قلت : فهل تعلمون بزيارتنا لكم ؟ قال : نعلم بها عشية الجمعة ، ويوم الجمعة كله ، وليلة السبت إلى طلوع الشمس . قال : قلت : فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال : لفضل يوم الجمعة وعظمته .
وذكر ابن أبي الدنيا أيضاً ، عن محمد بن واسع ، أنه كان يذهب كل غداة سبت حتى يأتي الجبانة ، فيقف على القبور ، فيسلم عليهم ، ويدعوا لهم ، ثم ينصرف . فقيل له : لو صيرت هذا اليوم يوم الإثنين . قال : بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة، ويوماً قبله ، ويوماً بعده .
وذكر عن سفيان الثوري ، قال : بلغني عن الضحاك ، أنه قال : من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس ، علم الميت بزيارته . فقيل له : كيف ذلك ؟ قال : لمكان يوم الجمعة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:21 AM
الثانية والثلاثون : أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم ، هذا منصوص أحمد ، قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : صيام يوم الجمعة ؟ فذكر حديث النهي عن أن يفرد ، ثم قال : إلا أن يكون في صيام كان يصومه ، وأما أن يفرد ، فلا . قلت : رجل كان يصوم يوماً ، ويفطر يوماً ، فوقع فطره يوم الخميس ، وصومه يوم الجمعة ، وفطره يوم السبت ، فصار الجمعة مفرداً ؟ قال : هذا إلا أن يتعمد صومه خاصة ، إنما كره أن يتعمد الجمعة .
وأباح مالك ، وأبو حنيفة صومه كسائر الأيام ، قال مالك : لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، وصيامه حسن ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، وأراه كان يتحراه . قال ابن عبد البر : اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم الجمعة ، فروى ابن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وقال : فلما رأيته مفطراً يوم الجمعة وهذا حديث صحيح . وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم الجمعة قط . ذكره ابن أبي شيبة ، عن حفص بن غياث ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عمير بن أبي عمير ، عن ابن عمر .
وروى ابن عباس ، أنه كان يصومه ويواظب عليه . وأما الذي ذكره مالك ، فيقولون : إنه محمد بن المنكدر . وقيل : صفوان بن سليم .
وروى الدراوردي ، عن صفوان بن سليم ، عن رجل من بني جشم ، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من صام يوم الجمعة ، كتب له عشرة أيام غرر زهر من أيام الآخرة لا يشاكلهن أيام الدنيا " .
والأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بر لا يمنع منه إلا بدليل لا معارض له .
قلت : قد صح المعارض صحة لا مطعن فيها البتة ، ففي الصحيحين ، عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابراً : أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال : نعم .
وفي صحيح مسلم ، "عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابر بن عبد الله ، وهو يطوف بالبيت : أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال : نعم ورب هذه البنية . "
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله ، أو يوماً بعده " . واللفظ للبخاري .
وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي ، قال : " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " .
وفي صحيح البخاري ، عن جويرية بنت الحارث ، "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهى صائمة ، فقال : أصمت أمس ؟ قالت : لا . قال : فتريدين أن تصومي غداً ؟ قالت : لا . قال : فأفطري " .
وفي مسند أحمد عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تصوموا يوم الجمعة وحده " .
وفي مسنده أيضاً عن جنادة الأزدي قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة في سبعة من الأزد ، أنا ثامنهم وهو يتغدي ، فقال : " هلموا إلى الغداء " فقلنا : يا رسول الله ! إنا صيام . فقال : " أصمتم أمس "؟ قلنا : لا . قال : " فتصومون غداً ؟ "قلنا : لا . قال : " فأفطروا ". قال : فأكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فلما خرج وجلس على المنبر ، دعا بإناء ماء ، فشرب وهو على المنبر ، والناس ينظرون إليه ، يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة .
وفي مسنده أيضاً ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوم الجمعة يوم عيد ، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده ".
وذكر ابن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمران بن ظبيان ، عن حكيم بن سعد ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : من كان منكم متطوعاً من الشهر أياماً ، فليكن في صومه يوم الخميس ، ولا يصم يوم الجمعة ، فإنه يوم طعام وشراب ، وذكر ، فيجمع الله له يومين صالحين : يوم صيامه ، ويوم نسكه مع المسلمين .
وذكر ابن جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : إنهم كرهوا صوم الجمعة ، ليقووا على الصلاة .
قلت : المأخذ في كراهته : ثلاثة أمور ، هذا أحدها ، ولكن يشكل عليه زوال الكراهية بضم يوم قبله ، أو بعده إليه .
والثاني : أنه يوم عيد ، وهو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم وقد أورد على هذا التعليل إشكالان . أحدهما : أن صومه ليس بحرام ، و صوم يوم العيد حرام . والثاني : إن الكراهة تزول بعدم إفراده ، وأجيب عن الإشكالين ، بأنه ليس عيد العام ، بل عيد الأسبوع ، والتحريم إنما هو لصوم عيد العام . وأما إذا صام يوماً قبله ، أو يوماً بعده ، فلا يكون قد صامه لأجل كونه جمعة وعيداً . فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه ، بل يكون داخلاً في صيامه تبعاً ، وعلى هذا يحمل ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده و النسائي ، والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود إن صح قال : قلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم جمعة . فإن صح هذا ، تعين حمله على أنه كان يدخل في صيامه تبعاً ، لا أنه كان يفرده لصحة النهي عنه . وأين أحاديث النهي الثابتة في الصحيحين ، من حديث الجواز الذي لم يروه أحد من أهل الصحيح ، وقد حكم الترمذي بغرابته ، فكيف تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة ، ثم يقدم عليها ؟!
والمأخذ الثالث : سد الذريعة من أن يلحق بالدين ما ليس فيه ، ويوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد عن الأعمال الدنيوية ، وينضم إلى هذا المعنى : أن هذا اليوم لما كان ظاهر الفضل على الأيام ، كان الداعي إلى صومه قوياً ، فهو في مظنة تتابع الناس في صومه ، واحتفالهم به ما لا يحتفلون بصوم يوم غيره ، وفي ذلك إلحاق بالشرع ما ليس منه . ولهذا المعنى - والله أعلم - نهى عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي ، لأنها من أفضل الليالي ، حتى فضلها بعضهم على ليلة القدر ، وحكيت رواية عن أحمد ، فهي في مظنة تخصيصها بالعبادة ، فحسم الشارع الذريعة ، وسدها بالنهي ، عن تخصيصها بالقيام . والله أعلم .
فإن قيل : ما تقولون في تخصيص يوم غيره بالصيام ؟ قيل : أما تخصيص ما خصصه الشارع ، كيوم الإثنين ، ويوم عرفة ، ويوم عاشوراء ، فسنة ، وأما تخصيص غيره ، كيوم السبت ، والثلاثاء ، والأحد ، والأربعاء ، فمكروه . وما كان منها أقرب إلى التشبه بالكفار لتخصيص أيام أعيادهم بالتعظيم والصيام ، فأشد كراهة ، وأقرب إلى التحريم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:21 AM
الثالثة الثلاثون : إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدإ والمعاد ، وقد شرع الله سبحانه وتعالى لكل أمة في الأسبوع يوماً يتفرغون فيه للعبادة ، ويجتمعون فيه لتذكر المبدإ والمعاد ، والثواب والعقاب ، ويتذكرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياماً بين يدي رب العالمين ، وكان أحق الأيام بهذا الغرض المطلوب اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق ، وذلك يوم الجمعة ، فادخره الله لهذه الأمة لفضلها وشرفها فشرع اجتماعهم في هذا اليوم لطاعته ، وقدر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته ، فهو يوم الاجتماع شرعاً في الدنيا ، وقدراً في الآخرة ، وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكون أهل الجنة في منازلهم ، وأهل النار في منازلهم ، كما ثبت عن ابن مسعود من غير وجه أنه قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في منازلهم ، وأهل النار في منازلهم ، وقرأ " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " (الفرقان : 24) وقرأ : " ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " ، وكذلك هي في قراءته . ولهذا كون الأيام سبعة إنما تعرفه الأمم التي لها كتاب ، فأما أمة لا كتاب لها ، فلا تعرف ذلك إلا من تلقاه منهم عن أمم الأنبياء ، فإنه ليس هنا علامة حسية يعرف بها كون الأيام سبعة ، بخلاف الشهر والسنة ، وفصولها ، ولما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وتعرف بذلك إلى عباده على ألسنة رسله وأنبيائه ، شرع لهم في الأسبوع يوماً يذكرهم فيه بذلك ، وحكمة الخلق وما خلقوا له ، وبأجل العالم ، وطي السماوات والأرض ، وعود الأمر كما بدأه سبحانه وعداً عليه حقاً ، وقولاً صدقاً ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي ( ألم تنزيل ) و ( هل أتى على الإنسان ) لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدإ والمعاد ، وحشر الخلائق ، وبعثهم من القبور إلى الجنة والنار ، لا لأجل السجدة كما يظنه من نقص علمه ومعرفته ، فيأتي بسجدة من سورة أخرى ، ويعتقد أن فجر يوم الجمعة فضل بسجدة ، وينكر على من لم يفعلها .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:22 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه
كان إذا خطب ، احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش ، يقول : " صبحكم ومساكم " ويقول : " بعثت أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى " . ويقول : " أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " . ثم يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، من ترك مالاً ، فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً ، فإلي وعلي" رواه مسلم .
وفي لفظ : كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، يحمد الله ويثني عليه ، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته فذكره .
وفي لفظ : يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول : " من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله " .
وفي لفظ للنسائي ، "وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " . وكان يقول في خطبته بعد التحميد والثناء والتشهد : " أما بعد " .
وكان يقصر الخطبة ، ويطيل الصلاة ، ويكثر الذكر ، ويقصد الكلمات الجوامع ، وكان يقول : " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته ، مئنة من فقهه " .
وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام ، وشرائعه ، ويأمرهم ، وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر ، أو نهي ، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين . ونهى المتخطي رقاب الناس عن ذلك ، وأمره بالجلوس .
وكان يقطع خطبته للحاجة تعرض ، أو السؤال من أحد من أصحابه ، فيجيبه ، ثم يعود إلى خطبته ، فيتمها .
وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة ، ثم يعود فيتمها ، كما نزل لأخذ الحسن والحسين رضي الله عنهما ، فأخذهما ، ثم رقي بهما المنبر ، فأتم خطبته .
وكان يدعو الرجل في خطبته : تعال يا فلان ، اجلس يا فلان ، صل يا فلان . وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته ، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة ، أمرهم بالصدقة ، وحضهم عليها .
وكان يشير بأصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه .
وكان يستسقي بهم إذا قحط المطر في خطبته .
وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس ، فإذا اجتمعوا ، خرج وحده من غير شاويش يصيح بين يديه ، ولا لبس طيلسان ، ولا طرحة ، ولا سواد ، فإذا دخل المسجد ، سلم عليهم ، فإذا صعد المنبر ، استقبل الناس بوجهه ، وسلم عليهم ، ولم يدع مستقبل القبلة ، ثم يجلس ، ويأخذ بلال في الأذان ، فإذا فرغ منه ، قام النبي صلى الله عليه وسلم ، فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة ، لا بإيراد خبر ولا غيره .
ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره ، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصاً قبل أن يتخذ المنبر ، وكان في الحرب يعتمد على قوس ، وفي الجمعة يعتمد على عصا . ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف ، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً ، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف ، فمن فرط جهله ، فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ، ولا قوس ، ولا غيره ، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً البتة ، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس .
وكان منبره ثلاث درجات ، وكان قبل اتخاذه يخطب إلى جذع يستند إليه ، فلما تحول إلى المنبر ، حن الجذع حنيناً سمعه أهل المسجد ، فنزل إليه صلى الله عليه وسلم وضمه قال أنس : حن لما فقد ما كان يسمع من الوحي ، وفقده التصاق النبي صلى الله عليه وسلم .
ولم يوضع المنبر في وسط المسجد ، وإنما وضع في جانبه الغربي قريباً من الحائط ، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة . وكان إذا جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة ، أو خطب قائماً في الجمعة ، استدار أصحابه إليه بوجوههم ، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم قبلهم في وقت الخطبة .
وكان يقوم فيخطب ، ثم يجلس جلسة خفيفة ، ثم يقوم ، فيخطب الثانية ، فإذا فرغ منها ، أخذ بلال في الإقامة . وكان يأمر الناس بالدنو منه ، وبالإنصات ، ويخبرهم أن الرجل إذا قال لصاحبه : أنصت فقد لغا . ويقول : " من لغا فلا جمعة له " . وكان يقول : " من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً ، والذي يقول له : أنصت ليست له جمعة " . رواه الإمام أحمد .
وقال أبي بن كعب : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ( تبارك) وهو قائم ، فذكرنا بأيام الله ، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني ، فقال : متى أنزلت هذه السورة ؟ فإني لم أسمعها إلى الآن ، فأشار إليه أن اسكت ، فلما انصرفوا ، قال : سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني ، فقال : إنه ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت ، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ذلك ، وأخبره بالذي قال له أبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق أبي " . ذكره ابن ماجه ، وسعيد بن منصور ، وأصله في مسند أحمد .
وقال صلى الله عليه وسلم : " يحضر الجمعة ثلاثة نفر : رجل حضرها يلغو وهو حظه منها ، ورجل حضرها يدعو ، فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه ، وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ، ولم يتخط رقبة مسلم ، ولم يؤذ أحداً ، فهي كفارة له إلى يوم الجمعة التي تليها ، وزيادة ثلاثة أيام ، وذلك أن الله عز وجل يقول : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " " ذكره أحمد وأبو داود .
وكان إذا فرغ بلال من الأذان ، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ، ولم يقم أحد يركع ركعتين البتة ، ولم يكن الأذان إلا واحداً ، وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد ، لا سنة لها قبلها ، وهذا أصح قولي العلماء ، وعليه تدل السنة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته ، فإذا رقي المنبر ، أخذ بلال في أذان الجمعة ، فإذا أكمله ، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل ، وهذا كان رأي عين ، فمتى كانوا يصلون السنة ؟! ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله عنه من الأذان ، قاموا كلهم ، فركعوا ركعتين ، فهو أجهل الناس بالسنة ، وهذا الذي ذكرناه من أنه لا سنة قبلها ، هو مذهب مالك ، وأحمد في المشهور عنه ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي .
والذين قالوا : إن لها سنة ، منهم من احتج أنها ظهر مقصورة ، فيثبت لها أحكام الظهر ، وهذه حجة ضعيفة جداً ، فإن الجمعة صلاة مستقلة بنفسها تخالف الظهر في الجهر ، والعدد ، والخطبة ، والشروط المعتبرة لها ، وتوافقها في الوقت ، وليس إلحاق مسألة النزاع بموارد الاتفاق أولى من إلحاقها بموارد الافتراق ، بل إلحاقها بموارد الافتراق أولى ، لأنها أكثر مما اتفقا فيه .
ومنهم من أثبت السنة لها هنا بالقياس على الظهر ، وهو أيضا قياس فاسد ، فإن السنة ما كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل ، أو سنة خلفائه الراشدين ، وليس في مسألتنا شئ من ذلك ، ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس ، لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم يفعله ولم يشرعه ، كان تركه هو السنة ، ونظير هذا ، أن يشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس ، فلذلك كان الصحيح أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة ، ولا لرمي الجمار ، ولا للطواف ، ولا للكسوف ، ولا للاستسقاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات .
ومنهم من احتج بما ذكره البخاري في صحيحه فقال : باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي قبل الظهر ركعتين ، وبعدها ركعتين ، وبعد المغرب ركعتين في بيته ، وقبل العشاء ركعتين ، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف ، فيصلي ركعتين وهذا لا حجة فيه ، ولم يرد به البخاري إثبات السنة قبل الجمعة ، وإنما مراده أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شئ ؟ ثم ذكر الحديث ، أي : أنه لم يرو عنه فعل السنة إلا بعدها ، ولم يرد قبلها شئ .
وهذا نظير ما فعل في كتاب العيدين ، فإنه قال : باب الصلاة قبل العيد وبعدها ، وقال أبو المعلى : سمعت سعيداً عن ابن عباس ، أنه كره الصلاة قبل العيد . ثم ذكر حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر ، فصلى ركعتين ، لم يصل قبلهما ولا بعدهما ومعه بلال الحديث . فترجم للعيد مثل ما ترجم للجمعة ، وذكر للعيد حديثاً دالاً على أنه لا تشرع الصلاة قبلها ولا بعدها ، فدل على أن مراده من الجمعة كذلك .
وقد ظن بعضهم أن الجمعة لما كانت بدلاً عن الظهر - وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها - دل على أن الجمعة كذلك ، وإنما قال : وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف بياناً لموضع صلاة السنة بعد الجمعة ، وأنه بعد الانصراف ، وهذا الظن غلط منه ، لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديث ابن عمر رضي الله عنه : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر ، وسجدتين بعد الظهر ، وسجدتين بعد المغرب ، وسجدتين بعد العشاء ، وسجدتين بعد الجمعة . فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاة مستقلة بنفسها غير الظهر ، وإلا لم يحتج إلى ذكرها لدخولها تحت اسم الظهر ، فلما لم يذكر لها سنة إلا بعدها، علم أنه لا سنة لها قبلها .
ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة وجابر ، قال : جاء سليك الغطفاي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له : " أصليت ركعتين قبل أن تجيء ؟ " قال : لا . قال : " فصل ركعتين وتجوز فيهما ". وإسناده ثقات .
قال أبو البركات ابن تيمية : وقوله : قبل أن تجيء يدل عن أن هاتين الركعتين سنة الجمعة ، وليستا تحية المسجد . قال : شيخنا حفيده أبو العباس : وهذا غلط ، والحديث المعروف في الصحيحين عن جابر ، "قال : دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال : أصليت قال : لا . قال : فصل ركعتين . وقال : إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب ، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ". فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث ، وأفراد ابن ماجه في الغالب غير صحيحة ، هذا معنى كلامه .
وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي : هذا تصحيف من الرواة ، إنما هو أصليت قبل أن تجلس فغلط فيه الناسخ . وقال : وكتاب ابن ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به ، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم ، فإن الحفاظ تداولوهما ، واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما ، قال : ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف .
قلت : ويدل على صحة هذا أن الذين اعتنوا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها ، وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها ، لم يذكر واحد منهم هذا الحديث في سنة الجمعة قبلها ، وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإمام على المنبر ، واحتجوا به على من منع من فعلها في هذه الحال ، فلو كانت هي سنة الجمعة ، لكان ذكرها هناك ، والترجمة عليها ، وحفظها ، وشهرتها أولى من تحية المسجد . ويدل عليه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحية المسجد . ولو كانت سنة الجمعة ، لأمر بها القاعدين أيضاً ، ولم يخص بها الداخل وحده . ومنهم من احتج بما رواه أبو داود في سننه ، قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ، ويصلي بعدها ركعتين في بيته ، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك . ولهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنة قبلها ، وإنما أراد بقوله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك : أنه كان يصلى الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يصليهما في المسجد ، وهذا هو الأفضل فيهما ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته . وفي السنن عن ابن عمر ، أنه إذا كان بمكة ، فصلى الجمعة ، تقدم ، فصلى ركعتين ، ثم تقدم فصلى أربعاً ، وإذا كان بالمدينة ، صلى الجمعة ، ثم رجع إلى بيته ، فصلى ركعتين ، ولم يصل بالمسجد ، فقيل له ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك . وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة ، فإنه تطوع مطلق ، وهذا هو الأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام ، كما تقدم من حديث أبي هريرة ، ونبيشة الهذلي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من اغتسل يوم الجمعة ، ثم أتى المسجد ، فصلى ما قدر له ، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ، ثم يصلي معه ، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ، وفضل ثلاثة أيام ". وفي حديث نبيشة الهذلي : " إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ، ثم أقبل الى المسجد لا يؤذي أحداً ، فإن لم يجد الإمام خرج ، صلى ما بدا له ، وإن وجد الإمام خرج ، جلس، فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه ، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها " هكذا كان هدي الصحابة رضي الله عنهم .
قال ابن المنذر : روينا عن ابن عمر : أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة . وعن ابن عباس ، أنه كان يصلي ثمان ركعات . وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق ، ولذلك اختلف في العدد المروي عنهم في ذلك ، وقال الترمذي في الجامع : وروي عن ابن مسعود ، أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. وإليه ذهب ابن المبارك والثوري .
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء النيسابوري : رأيت أبا عبد الله، إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول ، فإذا قاربت ، أمسك عن الصلاة حتى يؤذن المؤذن ، فإذا أخذ في الأذان ، قام فصلى ركعتين أو أربعاً ، يفصل بينهما بالسلام ، فإذا صلى الفريضة ، انتظر فى المسجد ، ثم يخرج منه ، فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع ، فيصلي فيه ركعتين ، ثم يجلس ، وربما صلى أربعاً ، ثم يجلس ، ثم يقوم ، فيصلي ركعتين أخريين ، فتلك ست ركعات على حديث علي ، وربما صلى بعد الست ستاً أخر ، أو أقل ، أو أكثر . وقد أخذ من هذا بعض أصحابه رواية : أن للجمعة قبلها سنة ركعتين أو أربعاً ، وليس هذا بصريح ، بل ولا ظاهر ، فإن أحمد كان يمسك عن الصلاة في وقت النهي ، فإذا زال وقت النهي ، قام فأتم تطوعه إلى خروج الإمام ، فربما أدرك أربعاً ، وربما لم يدرك إلا ركعتين .
ومنهم من احتج على ثبوت السنة قبلها ، بما رواه ابن ماجه في سننه حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية ، عن مبشر بن عبيد ، عن حجاج بن أرطاة ، عن عطية العوفي ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعاً ، لا يفصل بينها في شئ منها . قال ابن ماجه : باب الصلاة قبل الجمعة ، فذكره .
وهذا الحديث فيه عدة بلايا ، إحداها : بقية من الوليد : إمام المدلسين وقد عنعنه ، ولم يصرح بالسماع .
الثانية : مبشر بن عبيد ، المنكر الحديث . وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : شيخ كان يقال له : مبشر بن عبيد كان بحمص ، أظنه كوفياً ، روى عنه بقية ، وأبو المغيرة ، أحاديثه أحاديث موضوعة كذب . وقال الدارقطني : مبشر بن عبيد متروك الحديث ، أحاديثه لا يتابع عليها .
الثالثة : الحجاح بن أرطاة الضعيف المدلس .
الرابعة : عطية العوفي ، قال البخاري : كان هشيم يتكلم فيه ، وضعفه أحمد وغيره .
وقال البيهقي : عطية العوفي لا يحتج به ، ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث ، والحجاح بن أرطاة ، لا يحتج به . قال بعضهم : ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء ، لعدم ضبطهم وإتقانهم ، فقال : قبل الجمعة أربعاً ، وإنما هو بعد الجمعة ، فيكون موافقاً لما ثبت في الصحيح ونظير هذا : قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العمري : للفارس سهمان ، وللراجل سهم . قال الشافعي : كأنه سمع نافعاً يقول : للفرس سهمان ، وللراجل سهم ، فقال : للفارس سهمان ، وللراجل سهم . حتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد الله ، قال : وليس يشك أحد من أهل العلم في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ .
قلت : ونظير هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة لا تزال جهنم يلقى فيها ، وهي تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فيزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط ، قط . وأما الجنة : فينشئ الله لها خلقاً فانقلب على بعض الرواة فقال : أما النار ، فينشئ الله لها خلقاً .
قلت : ونظير هذا حديث عائشة " إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وهو في الصحيحين ، فانقلب على بعض الرواة ، فقال : ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال .
ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة " إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه " وأظنه وهم - والله أعلم - فيما قاله رسوله الصادق المصدوق ، "وليضع ركبتيه قبل يديه". كما قال وائل بن حجر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد ، وضع ركبتيه قبل يديه . وقال الخطابي وغيره : وحديث وائل بن حجر ، أصح من حديث أبي هريرة . وقد سبقت المسألة مستوفاة في هذا الكتاب والحمد لله .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة ، دخل إلى منزله ، فصلى ركعتين سنتها وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعاً . قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية : إن صلى في المسجد ، صلى أربعاً ، وإن صلى في بيته ، صلى ركعتين . قلت : وعلى هذا تدل الأحاديث ، وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه كان إذا صلى في المسجد ، صلى أربعاً ، وإذا صلى في بيته ، صلى ركعتين .
وفي الصحيحين : عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته .
وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " إذا صلى أحدكم الجمعة ، فليصل بعدها أربع ركعات " . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:22 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العيدين
كان صلى الله عليه وسلم يصلي العيدين في المصلى ، وهو المصلى الذي على باب المدينة الشرقي ، وهو المصلى الذي يوضع فيه محمل الحاج ، ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة واحدة أصابهم مطر ، فصلى بهم العيد في المسجد إن ثبت الحديث ، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه ، وهديه كان فعلهما في المصلى دائماً .
وكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه ، فكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة ، ومرة كان يلبس بردين أخضرين ، ومرة برداً أحمر ، وليس هو أحمر كما يظنه بعض الناس ، فإنه لو كان كذلك ، لم يكن برداً ، وإنما فيه خطوط حمر كالبرود اليمنية ، فسمي أحمر باعتبار ما فيه من ذلك . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من غير معارض النهي عن لبس المعصفر والأحمر ، وأمر عبد الله بن عمرو لما رأى عليه ثوبين أحمرين أن يحرقهما فلم يكن ليكره الأحمر هذه الكراهة الشديدة ثم يلبسه ، والذي يقوم عليه الدليل تحريم لباس الأحمر ، أو كراهيته كراهية شديدة .
وكان صلى الله عليه وسلم يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمرات ، ويأكلهن وتراً ، وأما في عيد الأضحى ، فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى ، فيأكل من أضحيته .
وكان يغتسل للعيدين ، صح الحديث فيه ، وفيه حديثان ضعيفان : حديث ابن عباس ، من رواية جبارة بن مغلس ، وحديث الفاكه بن سعد ، من رواية يوسف بن خالد السمتي . ولكن ثبت عن ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة ، أنه كان يغتسل يوم العيد قبل خروجه . وكان صلى الله عليه وسلم يخرح ماشياً ، والعنزة تحمل بين يديه ، فإذا وصل إلى المصلى ، نصبت بين يديه ليصلي إليها ، فإن المصلى كان إذ ذاك فضاء لم يكن فيه بناء ولا حائط ، وكانت الحربة سترته . وكان يؤخر صلاة عيد الفطر ، ويعجل الأضحى ، وكان ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة ، لا يخرج حتى تطلع الشمس ، ويكبر من بيته إلى المصلى .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى ، أخذ فى الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول : الصلاة جامعة ، والسنة : أنه لا يفعل شئ من ذلك .
ولم يكن هو ولا أصحابه يصلون إذا انتهوا إلى المصلى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها .
وكان يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، فيصلي ركعتين ، يكبر فى الأولى سبع تكبيرات متوالية بتكبيرة الافتتاح ، يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة ، ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات ، ولكن ذكر عن ابن مسعود أنه قال : يحمد الله ، ويثني عليه ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره الخلال . وكان ابن عمر مع تحريه للاتباع ، يرفع يديه مع كل تكبيرة .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتم التكبير ، أخذ فى القراءة ، فقرأ فاتحة الكتاب ، ثم قرأ بعدها ( ق والقرآن المجيد ) فى إحدى الركعتين ، وفى الأخرى ، ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . وربما قرأ فيهما ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، و( هل أتاك حديث الغاشية ) صح عنه هذا وهذا ، ولم يصح عنه غير ذلك .
فإذا فرغ من القراءة ، كبر وركع ، ثم إذا أكمل الركعة ، وقام من السجود ، كبر خمساً متوالية ، فإذا أكمل التكبير ، أخذ في القراءة ، فيكون التكبير أول ما يبدأ به في الركعتين ، والقراءة يليها الركوع ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه والى بين القراءتين ، فكبر أولاً ، ثم قرأ وركع ، فلما قام في الثانية ، قرأ وجعل التكبير بعد القراءة ، ولكن لم يثبت هذا عنه ، فإنه من رواية محمد بن معاوية النيسابوري . قال البيهقي : رماه غير واحد بالكذب .
وقد روى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة ، وفى الآخرة خمساً قبل القراءة . قال الترمذي : سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث ، قال : ليس في الباب شئ أصح من هذا ، وبه أقول ، وقال : وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده في هذا الباب ، هو صحيح أيضاً . قلت : يريد حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة ، سبعاً في الأولى ، وخمساً في الآخرة ، ولم يصل قبلها ولا بعدها . قال أحمد : وأنا أذهب إلى هذا . قلت : وكثير بن عبد الله بن عمرو هذا ضرب أحمد على حديثه في المسند وقال : لا يساوي حديثه شيئاً ، والترمذي تارة يصحح حديثه ، وتارة يحسنه ، وقد صرح البخاري بأنه أصح شئ في الباب ، مع حكمه بصحة حديث عمرو بن شعيب ، وأخبر أنه يذهب إليه . والله أعلم .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكمل الصلاة ، انصرف ، فقام مقابل الناس ، والناس جلوس على صفوفهم ، فيعظهم ويوصيهم ، ويأمرهم وينهاهم ، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه ، أو يأمر بشئ أمر به . ولم يكن هنالك منبر يرقى عليه ، ولم يكن يخرج منبر المدينة ، وإنما كان يخطبهم قائماً على الأرض ، قال جابر : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ، ثم قام متوكئاً على بلال ، فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس ، وذكرهم ، ثم مضى حتى أتى النساء ، فوعظهن وذكرهن ، متفق عليه .
وقال أبو سعيد الخدري : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى ، فأول ما يبدأ به الصلاة ، ثم ينصرف ، فيقوم مقابل الناس ، والناس جلوس على صفوفهم . . . الحديث . رواه مسلم .
وذكر أبو سعيد الخدري : أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد ، فيصلي بالناس ركعتين ، ثم يسلم ، فيقف على راحلته مستقبل الناس وهم صفوف جلوس ، فيقول : " تصدقوا " ، فأكثر من يتصدق النساء ، بالقرط والخاتم والشئ . فإن كانت له حاجة يريد أن يبعث بعثاً يذكره لهم ، وإلا انصرف .
وقد كان يقع لي أن هذا وهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما كان يخرج إلى العيد ماشياً ، والعنزة بين يديه ، وإنما خطب على راحلته يوم النحر بمنى ، إلى أن رأيت بقي بن مخلد الحافظ قد ذكر هذا الحديث في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا داود بن قيس ، حدثنا عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد من يوم الفطر ، فيصلي بالناس تينك الركعتين ، ثم يسلم ، فيستقبل الناس ، فيقول : تصدقوا . وكان أكثر من يتصدق النساء وذكر الحديث .
ثم قال : حدثنا أبو بكر بن خلاد ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا داود ، عن عياض ، عن أبي سعيد : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في يوم الفطر ، فيصلى بالناس ، فيبدأ بالركعتين ، ثم يستقبلهم وهم جلوس ، فيقول : تصدقوا فذكر مثله وهذا إسناد ابن ماجه إلا أنه رواه عن أبي كريب ، عن أبي أسامة ، عن داود . ولعله : ثم يقوم على رجليه ، كما قال جابر : قام متوكئاً على بلال ، فتصحف على الكاتب : براحلته . والله أعلم .
فإن قيل : فقد أخرجا في الصحيحين عن ابن عباس ، قال شهدت صلاة الفطر مع نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم ، فكلهم يصليها قبل الخطبة ، ثم يخطب ، قال : فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ، ثم أقبل يشقهم حتى جاء إلى النساء ومعه بلال ، فقال : " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا " ( الممتحنة : 12) . فتلا الآية حتى فرغ منها ، الحديث . وفي الصحيحين أيضاً ، عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ، فبدأ بالصلاة ، ثم خطب الناس بعد ، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، نزل فأتى النساء فذكرهن ، الحديث . وهو يدل على أنه كان يخطب على منبر ، أو على راحلته ، ولعله كان قد بني له منبر من لبن أو طين أو نحوه ؟
قيل : لا ريب في صحة هذين الحديثين ، ولا ريب أن المنبر لم يكن يخرج من المسجد ، وأول من أخرجه مروان بن الحكم ، فأنكر عليه ، وأما منبر اللبن والطين ، فأول من بناه كثير بن الصلت في إمارة مروان على المدينة ، كما هو في الصحيحين فلعله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في المصلى على مكان مرتفع ، أو دكان وهي التي تسمى مصطبة ، ثم ينحدر منه إلى النساء ، فيقف عليهن ، فيخطبهن ، فيعظهن ، ويذكرهن . والله أعلم .
وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد الله ، ولم يحفظ عنه في حديث واحد ، أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير ، وإنما روى ابن ماجه في سننه عن سعد القرظ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة ، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين . وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به . وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيدين والاستسقاء ، فقيل : يفتتحان بالتكبير ، وقيل : تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار ، وقيل : يفتتحان بالحمد . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وهو الصواب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله ، فهو أجذم " .
وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله .
ورخص صلى الله عليه وسلم لمن شهد العيد ، أن يجلس للخطبة ، وأن يذهب ، ورخص لهم إذا وقع العيد يوم الجمعة ، أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة .
وكان صلى الله عليه وسلم يخالف الطريق يوم العيد ، فيذهب في طريق ، ويرجع في آخر فقيل : ليسلم على أهل الطريقين ، وقيل : لينال بركته الفريقان ، وقيل : ليقضي حاجة من له حاجة منهما ، وقيل : ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق ، وقيل : ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله ، وقيام شعائره ، وقيل : لتكثر شهادة البقاع ، فإن الذاهب إلى المسجد والمصلى إحدى خطوتيه ترفع درجة ، والأخرى تحط خطيئة حتى يرجع إلى منزله ، وقيل هو الأصح : إنه لذلك كله ، ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها .
وروي عنه ، أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:23 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف
لما كسفت الشمس ، خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد مسرعاً فزعاً يجر رداءه ، وكان كسوفها في أول النهار على مقدار رمحين أو ثلاثة من طلوعها ، فتقدم ، فصلى ركعتين ، قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب ، وسورة طويلة ، جهر بالقراءة ، ثم ركع ، فأطال الركوع ، ثم رفع رأسه من الركوع ، فأطال القيام وهو دون القيام الأول ، وقال لما رفع رأسه : " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد " ، ثم أخذ في القراءة ، ثم ركع ، فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ، ثم رفع رأسه من الركوع ، ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود ، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الأولى ، فكان في كل ركعة ركوعان وسجودان ، فاستكمل في الركعتين أربع ركعات وأربع سجدات ، ورأى في صلاته تلك الجنة والنار ، وهم أن يأخذ عنقوداً من الجنة ، فيريهم إياه ، ورأى أهل العذاب في النار ، فرأى امرأة تخدشها هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً وعطشاً ، ورأى عمرو بن مالك يجر أمعاءه في النار ، وكان أول من غير دين إبراهيم ، ورأى فيها سارق الحاج يعذب ، ثم انصرف ، فخطب بهم خطبة بليغة ، حفظ منها قوله : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ، ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك ، فادعوا الله وكبروا ، وصلوا ، وتصدقوا يا أمة محمد ، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده ، أو تزني أمته ، يا أمة محمد ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً " .
وقال : " لقد رأيت في مقامي هذا كل شئ وعدتم به ، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أتقدم ، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت " .
وفي لفظ : ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع منها ، ورأيت أكثر أهل النار النساء . قالوا : وبم يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن . قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت منك شيئاً ، قالت : ما رأيت منك خيراً قط .
ومنها : " ولقد أوحي إلي أنكم تفتنوت في القبور مثل ، أو قريباً من فتنة الدجال ، يؤتى أحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو قال : الموقن ، فيقول : محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات والهدى ، فأجبنا ، وآمنا واتبعنا ، فيقال له : نم صالحاً فقد علمنا إن كنت لمؤمناً ، وأما المنافق أو قال : المرتاب، فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً ، قلته ".
وفي طريق أخرى لأحمد بن حنبل رحمه الله ، أنه صلى الله عليه وسلم لما سلم ، حمد الله ، وأثنى عليه ، وشهد أن لا إله إلا الله ، وأنه عبده ورسوله ، ثم قال : " أيها الناس ، أنشدكم بالله هل تعلمون أني قصرت في شئ من تبليغ رسالات ربي لما أخبرتموني بذلك ؟ فقام رجل ، فقال : نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ، ونصحت لأمتك ، وقضيت الذي عليك . ثم قال : أما بعد فإن رجالاً يزعمون أن كسوف هذه الشمس ، وكسوف هذا القمر ، وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض ، وإنهم قد كذبوا ، ولكنها آيات من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بها عباده ، فينظر من يحدث منهم توبة ، وايم الله الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم ، وإنه - والله أعلم - لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً آخرهم الأعور الدجال ، ممسوح العين اليسرى ، كأنها عين أبي تحيى لشيخ حينئذ من الأنصار ، بينه وبين حجرة عائشة ، وإنه متى يخرج ، فسوف يزعم أنه الله ، فمن آمن به وصدقه واتبعه ، لم ينفعه صالح من عمله سلف ، ومن كفر به وكذبه ، لم يعاقب بشئ من عمله سلف ، وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس ، وإنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس ، فيزلزلون زلزالاً شديداً ، ثم يهلكم الله عز وجل وجنوده ، حتى إن جذم الحائط أو قال : أصل الحائط ، وأصل الشجرة لينادي : يا مسلم ، يا مؤمن ، هذا يهودي ، أو قال : هذا كافر ، فتعال فاقتله قال : ولن يكون ذلك حتى تروا أموراً يتفاقم بينكم شأنها في أنفسكم ، وتساءلون بينكم : هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكراً : وحتى تزول جبال عن مراتبها ، ثم على أثر ذلك القبض " .
فهذا الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم من صفة صلاة الكسوف وخطبتها . وقد روي عنه أنه صلاها على صفات أخر .
منها : كل ركعة بثلاث ركوعات .
ومنها : كل ركعة بأربع ركوعات .
ومنها : إنها كإحدى صلاة صليت كل ركعة بركوع واحد ، ولكن كبار الأئمة ، لا يصححون ذلك ، كالإمام أحمد ، والبخاري ، والشافعي ، ويرونه غلطاً . قال الشافعي وقد سأله سائل ، فقال : روى بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركعات في كل ركعة ، قال الشافعي : فقلت له : أتقول به أنت ؟ قال : لا ، ولكن لم لم تقل به أنت وهو زيادة على حديثكم ؟ يعني حديث الركوعين فى الركعة ، فقلت : هو من وجه منقطع ، ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد ، ووجه نراه - والله أعلم - غلطاً ، قال البيهقي : أراد بالمنقطع قول عبيد بن عمير : حدثني من أصدق ، قال عطاء : حسبته يريد عائشة . . . الحديث ، وفيه : فركع في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربع سجدات . وقال قتادة : عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عنها : ست ركعات في أربع سجدات . فعطاء ، إنما أسنده عن عائشة بالظن والحسبان ، لا باليقين ، وكيف يكون ذلك محفوظاً عن عائشة ، وقد ثبت عن عروة ، وعمرة ، عن عائشة خلافه وعروة وعمرة أخص بعائشة وألزم لها من عبيد وعمير وهما اثنان ، فروايتهما أولى أن تكون هي المحفوظة . قال : وأما الذي يراه الشافعي غلطاً ، فأحسبه حديث عطاء عن جابر : " انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الناس : إنما انكسفت الشمس لموت إبراهيم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فصلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات "الحديث .
قال البيهقي : من نظر في قصة هذا الحديث ، وقصة حديث أبي الزبير ، علم أنهما قصة واحدة ، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها مرة واحدة ، وذلك في يوم توفي ابنه إبراهيم عليه السلام .
قال : ثم وقع الخلاف بين عبد الملك يعني ابن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر ، وبين هشام الدستوائي ، عن أبي الزبير ، عن جابر في عدد الركوع في كل ركعة ، فوجدنا رواية هشام أولى ، يعني أن في كل ركعة ركوعين فقط ، لكونه مع أبي الزبير أحفظ من عبد الملك ، ولموافقة روايته في عدد الركوع رواية عمرة وعروة عن عائشة ، ورواية كثير بن عباس ، وعطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، ورواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو ، ثم رواية يحيى بن سليم وغيره ، وقد خولف عبد الملك في روايته عن عطاء ، فرواه ابن جريج وقتادة ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير : ست ركعات في أربع سجدات ، فرواية هشام عن أبي الزبير عن جابر التي لم يقع فيها الخلاف ويوافقها عدد كثير أولى من روايتي عطاء اللتين إنما إسناد أحدهما بالتوهم ، والأخرى ينفرد بها عنه عبد الملك بن أبي سليمان ، الذي قد أخذ عليه الغلط في غير حديث .
قال : وأما حديث حبيب بن أبي ثابت ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه صلى في كسوف ، فقرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم سجد قال : والأخرى مثلها ، فرواه مسلم فى صحيحه وهو مما تفرد به حبيب بن أبي ثابت ، وحبيب وإن كان ثقة ، فكان يدلس ، ولم يبين فيه سماعه من طاووس ، فيشبه أن يكون حمله عن غير موثوق به ، وقد خالفه في رفعه ومتنه سليمان المكي الأحول ، فرواه عن طاووس ، عن ابن عباس من فعله ثلاث ركعات في ركعة . وقد خولف سليمان أيضاً في عدد الركوع ، فرواه جماعة عن ابن عباس من فعله ، كما رواه عطاء بن يسار وغيره عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني في كل ركعة ركوعان . قال : وقد أعرض محمد بن إسماعيل البخاري عن هذه الروايات الثلاث ، فلم يخرج شيئاً منها في الصحيح لمخالفتهن ما هو أصح إسناداً ، وأكثر عدداً ، وأوثق رجالاً ، وقال البخاري فى رواية أبي عيسى الترمذي عنه : أصح الروايات عندي في صلاة الكسوف أربع ركعات في أربع سجدات .
قال البيهقي : وروي عن حذيفة مرفوعاً " أربع ركعات في كل ركعة "، وإسناده ضعيف .
وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً " خمس ركوعات في كل ركعة " . وصاحبا الصحيح لم يحتجا بمثل إسناد حديثه .
قال : وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات ، وحملوها على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها مراراً ، وأن الجميع جائز ، فممن ذهب إليه إسحاق بن راهويه ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وأبو بكر بن إسحاق الضبعي ، وأبو سليمان الخطابي ، واستحسنه ابن المنذر . والذي ذهب إليه البخاري والشافعي من ترجيح الأخبار أولى لما ذكرنا من رجوع الأخبار إلى حكاية صلاته صلى الله عليه وسلم يوم توفي ابنه .
قلت : والمنصوص عن أحمد أيضاً أخذه بحديث عائشة وحده في كل ركعة ركوعان وسجودان . قال في رواية المروزي : وأذهب إلى أن صلاة الكسوف أربع ركعات ، وأربع سجدات ، في كل ركعة ركعتان وسجدتان ، وأذهب إلى حديث عائشة ، أكثر الأحاديث على هذا . وهذا اختيار أبي بكر وقدماء الأصحاب ، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية . وكان يضعف كل ما خالفه من الأحاديث ، ويقول : هي غلط ، وإنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم . والله أعلم .
وأمر صلى الله عليه وسلم في الكسوف بذكر الله ، والصلاة ، والدعاء ، والاستغفار والصدقة ، والعتاقة ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:23 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، انه استسقى على وجوه .
أحدها : يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته ، وقال : " اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللقم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا " .
الوجه الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون فيه إلى المصلى ، فخرج لما طلعت الشمس متواضعاً ، متبذلاً ، متخشعاً ، مترسلاً ، متضرعاً ، فلما وافى المصلى ، صعد المنبر - إن صح ، وإلا ففي القلب منه شئ - فحمد الله وأثنى عليه وكبره ، وكان مما حفظ من خطبته ودعائه : " الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، لا إله إلا الله ، يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، تفعل ما تريد ، اللهم لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث ، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا ، وبلاغا إلى حين " . ثم رفع يديه ، وأخذ في التضرع ، والابتهال ، والدعاء ، وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ، ثم حول إلى الناس ظهره ، واستقبل القبلة ، وحول إذ ذاك رداءه وهو مستقبل القبلة ، فجعل الأيمن على الأيسر ، والأيسر على الأيمن ، وظهر الرداء لبطنه ، وبطنه لظهره ، وكان الرداء خميصة سوداء ، وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة ، والناس كذلك ، ثم نزل فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداء البتة ، جهر فيهما بالقراءة ، وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب : ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، وفي الثانية : ( هل أتاك حديث الغاشية ).
الوجه الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى على منبر المدينة استسقاء مجرداً في غير يوم جمعة ، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء صلاة .
الوجه الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وهو جالس في المسجد ، فرفع يديه ، ودعا الله عز وجل ، فحفظ من دعائه حينئد : " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً طبقاً عاجلاً غير رائث ، نافعاً غير ضار ".
الوجه الخامس : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء ، وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم باب السلام نحو قذفة حجر ، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد .
الوجه السادس : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء ، فأصاب المسلمين العطش ، فشكوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعض المنافقين : لو كان نبياً ، لاستسقى لقومه ، كما استسقى موسى لقومه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أوقد قالوها ؟ عسى ربكم أن يسقيكم ، ثم بسط يديه ودعا ، فما رد يديه من دعائه ، حتى أظلهم السحاب ، وأمطروا ، فأفعم السيل الوادي ، فشرب الناس ، فارتووا" . وحفظ من دعائه في الاستسقاء :"اللهم اسق عبادك وبهائمك ، وانشر رحمتك ، وأحي بلدك الميت " ، " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً ، مريعاً ، نافعاً غير ضار ، عاجلاً غير آجل" . وأغيث صلى الله عليه وسلم في كل مرة استسقى فيها .
واستسقى مرة ، فقام إليه أبو لبابة فقال : يا رسول الله ! ان التمر في المرابد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عرياناً ، فيسد ثعلب مربده بإزاره "، فأمطرت ، فاجتمعو إلى أبي لبابة ، فقالوا : إنها لن تقلع حتى تقوم عرياناً، فتسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ، فاستهلت السماء .
ولما كثر المطر ، سألوه الاستصحاء ، فاستصحى لهم ، وقال : " اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والجبال ، والظراب ، وبطون الأودية ، ومنابت الشجر " .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى مطراً ، قال : " اللهم صيباً نافعاً " .
وكان يحسر ثوبه حتى يصيبه من المطر ، فسئل عن ذلك ، فقال : " لأنه حديث عهد بربه ".
قال الشافعي رحمه الله : أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل قال : " اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهوراً ، فنتطهر منه ، ونحمد الله عليه " .
وأخبرني من لا أتهم ، عن إسحاق بن عبد الله أن عمر كان إذا سال السيل ذهب بأصحابه إليه ، وقال : ما كان ليجيء من مجيئه أحد إلا تمسحنا به .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيم والريح ، عرف ذلك في وجهه ، فأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت ، سري عنه ، وذهب عنه ذلك ، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب . قال الشافعي : وروي عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعاً أنه كان إذا استسقى قال : " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً غدقاً مجللاً عاماً طبقاً سحاً دائماً ، اللهم اسقنا الغيث ، ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك ، اللهم أنبت لنا الزرع ، وأدر لنا الضرع ، واسقنا من بركات السماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض ، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري ، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك ، اللهم إنا نستغفرك ، إنك كنت غفاراً ، فأرسل السماء علينا مدراراً " .
قال الشافعي رحمه الله : وأحب أن يدعو الإمام بهذا ، قال : وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمطر في أول مطرة حتى يصيب جسده . قال : وبلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح وقد مطر الناس ، قال : مطرنا بنوء الفتح ، ثم يقرأ : " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " (فاطر :2) .
قال : وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر ، عن مكحول ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش ، وإقامة الصلاة ، ونزول الغيث " .
وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند : نزول الغيث ، وإقامة الصلاة . قال البيهقي : وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " الدعاء لا يرد عند النداء ، وعند البأس ، وتحت المطر " . وروينا عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تفتح أبواب السماء ، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن : عند التقاء الصفوف ، وعند نزول الغيث ، وعند إقامة الصلاة ، وعند رؤية الكعبة " .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:24 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته فيه
كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرة بين أربعة أسفار : سفره لهجرته ، وسفره للجهاد وهو أكثرها ، وسفره للعمرة ، وسفره للحج . وكان إذا أراد سفراً ، أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها ، سافر بها معه ، ولما حج ، سافر بهن جميعاً .
وكان إذا سافر ، خرج من أول النهار ، وكان يستحب الخروج يوم الخميس ، ودعا الله تبارك وتعالى أن يبارك لأمته في بكورها.
وكان إذا بعث سرية أو جيشاً ، بعثهم من أول النهار ، وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم . ونهى أن يسافر الرجل وحده ، وأخبر أن الراكب شيطان ، والراكبان شيطانان ، والثلاثة ركب .
وذكر عنه أنه كان يقول حين ينهض للسفر " اللهم إليك توجهت ، وبك اعتصمت ، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم به ، اللهم زودني التقوى ، واغفر لي ذنبي ، ووجهني للخير أينما توجهت " . وكان إذا قدمت إليه دابته ليركبها ، يقول : " بسم الله حين يضع رجله الركاب ، وإذا استوى على ظهرها ، قال : الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا الى ربنا لمنقلبون ، ثم يقول : الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله ، ثم يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، ثم يقول : سبحانك إني ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".
وكان يقول : " اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا سفرنا هذا ، واطو عنا بعده ، اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكابة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والمال " وإذا رجع ، قالهن ، وزاد فيهن : آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون .
وكان هو وأصحابه إذا علوا الثنايا ، كبروا ، وإذا هبطوا الأودية ، سبحوا .
وكان إذا أشرف على قرية يريد دخولها يقول " اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما ذرين ، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، وأعوذ بك من شرها ، وشر أهلها وشر ما فيها ".
وذكر عنه أنه كان يقول : " اللهم إني أسألك من خير هذه القرية وخير ما جمعت فيها ، وأعوذ بك من شرها وشر ما جمعت فيها، اللهم ارزقنا جناها ، وأعذنا من وباها ، وحببنا إلى أهلها ، وحبب صالحي أهلها إلينا " .
وكان يقصر الرباعية ، فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة ، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة ، وأما حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ، ويتم ، ويفطر ويصوم ، فلا يصح . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى ، وقد روي : كان يقصر وتتم ، الأول بالياء آخر الحروف ، والثاني بالتاء المثناة من فوق ، وكذلك يفطر ويصوم ، أي : تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين ، قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه ، فتصلي خلاف صلاتهم ، كيف والصحيح عنها أنها قالت : إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، زيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه .
قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس وغيره : إنها تأولت كما تأول عثمان وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائماً ، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثاً ، وقال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي ، فغلط بعض الرواة ، فقال: كان يقصر ويتم ، أي : هو .
والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه ، فقيل : ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر ، فإذا زال الخوف ، زال سبب القصر ، وهذا التأويل غير صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمناً وكان يقصر الصلاة ، والآية قد أشكلت على عمر وعلى غيره ، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجابه بالشفاء وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة ، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد ، وإن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف ، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم ، أو رفع له ، وقد يقال : إن الآية اقتضت قصراً يتناول قصر الأركان بالتخفيف ، وقصر العدد بنقصان ركعتين ، وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض ، والخوف ، فإذا وجد الأمران ، أبيح القصران ، فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها ، وإن انتفى الأمران ، فكانوا آمنين مقيمين ، انتفى القصران ، فيصلون صلاة تامة كاملة ، وإن وجد أحد السببين ، ترتب عليه قصره وحده ، فإذا وجد الخوف والإقامة ، قصرت الأركان ، واستوفي العدد ، وهذا نوع قصر ، وليس بالقصر المطلق في الآية ، فإن وجد السفر والأمن ، قصر العدد واستوفي الأركان ، وسميت صلاة أمن ، وهذا نوع قصر ، وليس بالقصر المطلق ، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد ، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها ، وأنها لم تدخل في قصر الآية ، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين ، والثاني يدل عليه كلام الصحابة ، كعائشة وابن عباس وغيرهما ، قالت عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، زيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر . فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع ، وإنما هي مفروضة كذلك ، وأن فرض المسافر ركعتان . وقال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة متفق على حديث عائشة ، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس .
وقال عمر رضي الله عنه : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان ، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد خاب من افترى . وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه ، وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ما بالنا نقصر وقد أمنا ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صدقة تصدق بها الله عليكم ، فاقبلوا صدقته " .
ولا تناقض بين حديثيه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ، ودينه اليسر السمح ، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس ، فقال : صلاة السفر ركعتان ، تمام غير قصر . وعلى هذا ، فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح ، فإن شاء المصلي ، فعله ، وإن شاء ، أتم .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ، ولم يربع قط إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف ، كما سنذكره هناك ، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى .
وقال أنس : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة . متفق عليه.
ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان . متفق عليه . ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما ، بل الأولى على قول ، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان في السفر لا يزيد على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان . يعني في صدر خلافة عثمان ، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته ، وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه . وقد خرج لفعله تأويلات ،
أحدها : أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة ، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع ، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر ، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا حديثي عهد بالإسلام ، والعهد بالصلاة قريب ، ومع هذا ، فلم يربع بهم النبي صلى الله عليه وسلم .
==>>>يتبع
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:24 AM
التأويل الثاني : أنه كان إماماً للناس ، والإمام حيث نزل ، فهو عمله ومحل ولايته ، فكأنه وطنه ، ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك ، وكان هو الإمام المطلق ، ولم يربع .
التأويل الثالث : أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كانت فضاء ، ولهذا قيل له : يا رسول الله ألا نبني لك بمنى بيتاً يظلك من الحر ؟ فقال :" لا منى مناخ من سبق ". فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر . ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصر الصلاة .
التأويل الرابع : أنه أقام بها ثلاثاً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً " فسماه مقيماً ، والمقيم غير مسافر ، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر ، وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشراً يقصر الصلاة ، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة .
التأويل الخامس : أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى ، واتخاذها دار الخلافة ، فلهذا أتم ، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة ، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى ، فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين ، وقد منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكهم ، ورخص لهم فيها ثلاثة أيام فقط ، فلم يكن عثمان ليقيم بها ، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وإنما رخص فيها ثلاثاً وذلك لأنهم تركوها لله ، وما ترك لله ، فإنه لا يعاد فيه ، ولا يسترجع ، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته ، وقال لعمر : " لا تشترها ، ولا تعد في صدقتك " . فجعله عائدأ في صدقته مع أخذها بالثمن .
التأويل السادس : أنه كان قد تأهل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع ، وتزوج فيه ، أو كان له به زوجة ، أتم ، يروى في ذلك حديث مرفوع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي ، عن ابن أبي ذباب ، عن أبيه قال : صلى عثمان بأهل منى أربعاً وقال : يا أيها الناس ! لما قدمت تأهلت بها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تأهل الرجل ببلدة ، فإنه يصلي بها صلاة مقيم ". رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده أيضاً ، وقد أعله البيهقي بانقطاعه ، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم . قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج ، لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك ، وأصحابهما ، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان .
وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين ، فحيث نزلت كان وطنها ، وهو أيضاً اعتذار ضعيف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضاً ، وأمومة أزواجه فرع عن أبوته ، ولم يكن يتم لهذا السبب . وقد روى هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنها كانت تصلي في السفر أربعاً ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ، فقالت : يا ابن أختي ! إنه لا يشق علي . قال الشافعي رحمه الله : لو كان فرض المسافر ركعتين ، لما أتمها عثمان ، ولا عائشة ، ولا ابن مسعود ، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم ، وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتم وقصر ، ثم روي عن إبراهيم بن محمد ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة قالت : كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، قصر الصلاة في السفر وأتم .
قال البيهقي : وكذلك رواه المغيرة بن زياد ، عن عطاء ، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي ، عن الدارقطني ، عن المحاملي ، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عمر بن سعيد ، عن عطاء ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يقصر في الصلاة ويتم ، ويفطر ، ويصوم .
قال الدارقطني : وهذا إسناد صحيح . ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري ، عن عباس الدوري ، أنبأنا أبو نعيم ، حدثنا العلاء بن زهير ، حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، عن عائشة ، أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة ، قالت : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ، قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت . قال . أحسنت يا عائشة .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ، ثم تتم هي وحدها بلا موجب . كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر . فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله ، وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
قال الزهري لعروة لما حدثه عنها بذلك : فما شأنها كانت تتم الصلاة ؟ فقال : تأولت كما تأول عثمان . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ، ولا أبو بكر ، ولا عمر . أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم ، وهي تراهم يقصرون ؟ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم ، فإنها أتمت كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلاً ، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم .
وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر ، وصلاة الخوف في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر في القرآن ؟ فقال له ابن عمر : يا أخي ! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ، ولا نعلم شيئاً ، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل .
وقد قال أنس : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة .
وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبا بكر وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم ، وهذه كلها أحاديث صحيحة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:25 AM
فصل في هديه في التطوع في السفر
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصار على الفرض ، ولم يحفظ عنه أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها ، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر ، فإنه لم يكن ليدعهما حضراً ، ولا سفراً . قال ابن عمر وقد سئل عن ذلك : فقال : صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم أره يسبح في السفر ، وقال الله عز وجل : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ( الأحزاب :21) ومراده بالتسبيح : السنة الراتبة ، وإلا فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه . وفى الصحيحين ، عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت ، يومىء إيماء صلاة الليل ، إلا الفرائض ويوتر على راحلته .
قال الشافعي رحمه الله : وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يتنفل ليلاً ، وهو يقصر ، وفي الصحيحين : عن عامر بن ربيعة ، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته . فهذا قيام الليل .
وسئل الإمام أحمد رحمه الله ، عن التطوع في السفر ؟ فقال : أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس ، وروي عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون ، فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها ، وروي هذا عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وجابر ، وأنس ، وابن عباس ، وأبي ذر .
وأما ابن عمر ، فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها ، إلا من جوف الليل مع الوتر ، وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئاً ، ولكن لم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها ، فهو كالتطوع المطلق ، لا أنه سنة راتبة للصلاة ، كسنة صلاة الإقامة ، ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفاً على المسافر ، فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها وقد خفف الفرض إلى ركعتين ، فلو لا قصد التخفيف على المسافر ، وإلا كان الإتمام أولى به ، ولهذا قال عبد الله بن عمر : لو كنت مسبحاً ، لأتممت ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه صلى يوم الفتح ثمان ركعات ضحى ، وهو إذ ذاك مسافر .
وأما ما رواه أبو داود والترمذي في السنن ، من حديث الليث ، عن صفوان بن سليم ، عن أبي بسرة الغفاري ، عن البراء بن عازب ، قال : سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفراً ، فلم أره ترك ركعتين عند زيغ الشمس قبل الظهر . قال الترمذي : هذا حديث غريب . قال : وسألت محمداً عنه ، فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد ، ولم يعرف اسم أبي بسرة ورآه حسناً . وبسرة : بالباء الموحدة المضمومة ، وسكون السين المهملة .
وأما حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، فرواه البخاري في صحيحه ولكنه ليس بصريح في فعله ذلك في السفر ، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإقامة ، والرجال أعلم بسفره من النساء ، وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين ، ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئاً . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:26 AM
فصل في هديه في التطوع على الراحلة
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم صلاة التطوع على راحلته حيث توجهت به ، وكان يومىء إيماء برأسه في ركوعه ، وسجوده ، وسجوده أخفض من ركوعه ، وروى أحمد وأبو داود عنه ، من حديث أنس ، أنه كان يستقبل بناقته القبلة عند تكبيرة الافتتاح ، ثم يصلي سائر الصلاة حيث توجهت به . وفي هذا الحديث نظر ، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته ، أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به ، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها ، كعامر بن ربيعة ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا ، والله أعلم .
وصلى على الراحلة ، وعلى الحمار إن صح عنه ، وقد رواه مسلم فى صحيحه من حديث ابن عمر .
وصلى الفرض بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبر بذلك ، وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهي إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته ، والسماء من فوقهم ، والبلة من أسفل منهم ، فحضرت الصلاة ، فأمر المؤذن فأذن ، وأقام ، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته ، فصلى بهم يومى إيماء ، فجعل السجود أخفض من الركوع . قال الترمذي : حديث غريب ، تفرد به عمر بن الرماح ، وثبت ذلك عن أنس من فعله .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:26 AM
فصل في هديه في الجمع بين الصلاتين
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل ، فجمع بينهما ، فإن زالت الشمس قبل أن يرتحل ، صلى الظهر ، ثم ركب . وكان إذا أعجله السير ، أخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء . وقد روي عنه في غزوة تبوك ، أنه كان إذا زاغت الشمس قبل أت يرتحل ، جمع بين الظهر والعصر ، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخر الظهر حتى ينزل للعصر ، فيصليهما جميعاً ، وكذلك في المغرب والعشاء ، لكن اختلف في هدا الحديث ، فمن مصحح له ، ومن محسن ، ومن قادح فيه ، وجعله موضوعاً كالحاكم ، وإسناده على شرط الصحيح ، لكن رمي بعلة عجيبة ، قال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ بن جبل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر ، ويصليهما جميعاً ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس ، صلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب ، أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب ، عجل العشاء فصلاها مع المغرب . قال الحاكم : هذا الحديث رواته أئمة ثقات ، وهو شاذ الإسناد والمتن ، ثم لا نعرف له علة نعله بها . فلو كان الحديث عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، لعللنا به الحديث . ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، لعللنا به ، فلما لم نجد له العلتين ، خرج عن أن يكون معلولاً ، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل ، ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل ، فقلنا : الحديث شاذ . وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال : كان قتيبة بن سعيد يقول لنا : على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي خيثمة ، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث ، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجباً من إسناده ومتنه ، ثم لم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث علة ، ثم قال : فنظرنا فإذا الحديث موضوع ، وقتيبة ثقة مأمون ، ثم ذكر بإسناده إلى البخاري . قال: قلت لقتيبة بن سعيد : مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ؟ قال : كتبته مع خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني . قال البخاري : وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ .
قلت : وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم ، فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي ، حدثنا المفضل بن فضالة ، عن الليث ، بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ فذكره . . . فهذا المفضل قد تابع قتيبة ، وإن كان قتيبة أجل من المفضل وأحفظ ، لكن زال تفرد قتيبة به ، ثم إن قتيبة صرح بالسماع فقال : حدثنا ولم يعنعن ، فكيف يقدح في سماعه ، مع أنه بالمكان الذي جعله الله به من الأمانة ، والحفظ ، والثقة ، والعدالة . وقد روى إسحاق بن راهويه : حدثنا شبابة ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان إذا كان في سفر ، فزالت الشمس ، صلى الظهر والعصر ، ثم ارتحل . وهذا إسناد كما ترى ، وشبابة : هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه ، وقد روى له مسلم في صحيحه عن الليث بن سعد بهذا الإسناد ، على شرط الشيخين ، وأقل درجاته أن يكون مقوياً لحديث معاذ ، وأصله في الصحيحين لكن ليس فيه جمع التقديم . ثم قال أبو داود : وروى هشام ، عن عروة ، عن حسين بن عبد لله ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو حديث المفضل ، يعني حديث معاذ في الجمع والتقديم ، ولفظه : عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن كريب ، عن ابن عباس ، أنه قال : ألا أخبركم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في السفر ؟ كان إذا زالت الشمس وهو في منزله ، جمع بين الظهر والعصر في الزوال ، وإذا سافر قبل أن تزول الشمس ، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر ، قال : وأحسبه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك ، ورواه الشافعي من حديث ابن أبي يحيى ، عن حسين ، ومن حديث ابن عجلان بلاغاً عن حسين .
قال البيهقي : هكذا رواه الأكابر ، هشام بن عروة وغيره ، عن حسين بن عبد الله . ورواه عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن حسين ، عن عكرمة ، وعن كريب كلاهما عن ابن عباس ، ورواه أيوب عن أبي قلابة ، عن ابن عباس ، قال : ولا أعلمه إلا مرفوعاً .
وقال إسماعيل بن إسحاق : حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس ، قال : حدثني أخي ، عن سليمان بن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن كريب عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير ، فراح قبل أن تزيغ الشمس ، ركب فسار ، ثم نزل ، فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا لم يرح حتى تزيغ الشمس ، جمع بين الظهر والعصر ، ثم ركب ، وإذا أراد أن يركب ودخلت صلاة المغرب ، جمع بين المغرب وبين صلاة العشاء .
قال أبو العباس بن سريج : روى يحيى بن عبد الحميد ، عن أبي خالد الأحمر ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يرتحل حتى تزيغ الشمس ، صلى الظهر والعصر جميعاً ، فإذا لم تزغ ، أخرها حتى يجمع بينهما في وقت العصر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ، ليتصل وقت الدعاء ، ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة ، فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى .
قال الشافعي : وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر لأن يتصل له الدعاء ، فلا يقطعه بصلاة العصر ، وأرفق بالمزدلفة أن يتصل له المسير ، ولا يقطعه بالنزول للمغرب ، لما في ذلك من التضييق على الناس . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:27 AM
فصل في هديه في عدم الجمع راكباً في سفره
فصل
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الجمع راكباً في سفره ، كما يفعله كثير من الناس ، ولا الجمع حال نزوله أيضاً ، وإنما كان يجمع إذا جد به السير ، وإذا سار عقيب الصلاة ، كما ذكرنا في قصة تبوك ، وأما جمعه وهو نازل غير مسافر ، فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة لأجل اتصال الوقوف ، كما قال الشافعي رحمه الله وشيخنا ، ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفة ، وجعله من تمام النسك ، ولا تأثير للسفر عنده فيه . وأحمد ، ومالك ، والشافعي ، جعلوا سببه السفر ، ثم اختلفوا ، فجعل الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه التأثير للسفر الطويل ، ولم يجوزاه لأهل مكة ، وجوز مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه لأهل مكة الجمع ، والقصر بعرفة ، واختارها شيخنا وأبو الخطاب في عباداته ، ثم طرد شيخنا هذا ، وجعله أصلاً في جواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره ، كما هو مذهب كثير من السلف ، وجعله مالك وأبو الخطاب مخصوصاً بأهل مكة . ولم يحد صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر ، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض ، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر ، وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم ، أو اليومين ، أو الثلاثة ، فلم يصح عنه منها شئ البتة ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:28 AM
فصل في هديه في قراءة القرآن واستماعه وخشوعه
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن ، واستماعه ، وخشوعه ، وبكائه عند قراءته ، واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك
كان له صلى الله عليه وسلم حزب يقرؤه ، ولا يخل به ، وكانت قراءته ترتيلاً لا هذاً ولا عجلة ، بل قراءة مفسرة حرفاً حرفاً . وكان يقطع قراءته آية آية ، وكان يمد عند حروف المد ، فيمد ( الرحمن ) ويمد ( الرحيم ) ، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته ، فيقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "، وربما كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ، ونفثه " . وكان تعوذه قبل القراءة .
وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره ، وأمر عبد الله بن مسعود ، فقرأ عليه وهو يسمع . وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه ، حتى ذرفت عيناه .
وكان يقرأ القرآن قائماً ، وقاعداً ، ومضطجعاً ، ومتوضئاً ، ومحدثاً ، ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة .
وكان صلى الله عليه وسلم يتغنى به ، ويرجع صوته به أحياناً كما رجع يوم الفتح في قراءته " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " . وحكى عبد الله بن مغفل ترجيعه ، آ آ آ ثلاث مرات ، ذكره البخاري .
وإذا جمعت هذه الأحاديث إلى قوله : " زينوا القرآن بأصواتكم ". وقوله : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " . وقوله : " ما أذن الله لشئ ، كأذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن " . علمت أن هذا الترجيع منه صلى الله عليه وسلم ، كان اختياراً لا اضطراراً لهز الناقة له ، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة ، لما كان داخلاً تحت الاختيار ، فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه ويفعله اختياراً ليؤتسى به ، وهو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته ، ثم يقول : كان يرجع في قراءته ، فنسب الترجيع إلى فعله . ولو كان من هز الراحلة ، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعاً .
وقد استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري ، فلما أخبره بذلك ، قال : لو كنت أعلم أنك تسمعه ، لحبرته لك تحبيراً . أي : حسنته وزينته بصوتي تزييناً ، وروى أبو داود في سننه عن عبد الجبار بن الورد ، قال : سمعت ابن أبي مليكة يقول : قال عبد الله بن أبي يزيد : مر بنا أبو لبابة ، فاتبعناه حتى دخل بيته ، فإذا رجل رث الهيئة ، فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن ". قال : فقلت لابن أبي مليكة : يا أبا محمد ! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ؟ قال : يحسنه ما استطاع .
قلت : لا بد من كشف هذه المسألة ، وذكر اختلاف الناس فيها ، واحتجاج كل فريق ، وما لهم وعليهم في احتجاجهم ، وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته ، فقالت طائفة : تكره قراءة الألحان ، وممن نص على ذلك أحمد ومالك وغيرهما ، فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان : ما تعجبني وهو محدث . وقال في رواية المروزي : القراءة بالألحان بدعة لا تسمع ، وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب : قراءة الألحان بدعة ، وقال في رواية ابنه عبد الله ، ويوسف بن موسى ، ويعقوب بن بختان ، والأثرم ، وإبراهيم بن الحارث : القراءة بالألحان لا تعجبني إلا أن يكون ذلك حزناً ، فيقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى ، وقال في رواية صالح : " زينوا القرآن بأصواتكم " ، معناه : أن يحسنه ، وقال في رواية المروزي : "ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن " وفي رواية قوله : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن" ، فقال : كان ابن عيينة يقول : يستغني به . وقال الشافعي : يرفع صوته ، وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها ، فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان ، وأنكر الأحاديث التي يحتج بها في الرخصة في الألحان . وروى ابن القاسم ، عن مالك ، أنه سئل عن الألحان في الصلاة ، فقال : لا تعجبني ، وقال : إنما هو غناء يتغنون به ، ليأخذوا عليه الدراهم ، وممن رويت عنه الكراهة ، أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والقاسم بن محمد ، والحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي . وقال عبد الله بن يزيد العكبري : سمعت رجلاً يسأل أحمد ، ما تقول في القراءة بالألحان ؟ فقال : ما اسمك ؟ قال محمد : قال : أيسرك أن يقال لك : يا موحمد ممدوداً ، قال القاضي أبو يعلى : هذه مبالغة في الكراهة . وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي : أوصى إلي رجل بوصية ، وكان فيما خلف جارية تقرأ بالألحان ، وكانت أكثر تركته أو عامتها ، فسألت أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين ، وأبا عبيد ، كيف أبيعها ؟ فقالوا : بعها ساذجة ، فأخبرتهم بما في بيعها من النقصان ، فقالوا : بعها ساذجة ، قال القاضي : وإنما قالوا ذلك ، لأن سماع ذلك منها مكروه ، فلا يجوز أن يعاوض عليه كالغناء .
قال ابن بطال : وقالت طائفة : التغني بالقرآن ، هو تحسين الصوت به ، والترجيع بقراءته ، قال : والتغني بما شاء من الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك ، والنضر بن شميل ، قال : وممن أجاز الألحان في القرآن : ذكر الطبري ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كان يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا ، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن ، وقال : من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى ، فليفعل ، وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، فقال له عمر : اعرض علي سورة كذا ، فعرض عليه ، فبكى عمر ، وقال : ما كنت أظن أنها نزلت ، قال : وأجازه ابن عباس ، وابن مسعود ، وروي عن عطاء بن أبي رباح ، قال : وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد ، يتتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان . وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه : أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان . وقال محمد بن عبد الحكم : رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري .
قالا المجوزون - واللفظ لابن جرير - : الدليل : على أن معنى الحديث تحسين الصوت ، والغناء المعقول الذي هو تحزين القارىء سامع قراءته ، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه - : ما روى سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما أذن الله لشئ ما أذن لنبى حسن الترنم بالقرآن " ومعقول عند ذوى الحجا ، أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به . وروي في هذا الحديث "ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به " . قال الطبري : وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا ، قال : ولو كان كما قال ابن عيينة ، يعني : يستغني به عن غيره ، لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى ، والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع ، قال الشاعر :
تغن بالشعر إما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار
قال : وأما ادعاء الزاعم ، أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب ، فلم نعلم أحداً قال به من أهل العلم بكلام العرب .
وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى :
وكنت امرءاً زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن
وزعم أنه أراد بقوله : طويل التغني : طويل الاستغناء ، فإنه غلط منه ، وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع : الإقامة من قول العرب : غني فلان بمكان كذا : إذا أقام به ، ومنه قوله تعالى : " كأن لم يغنوا فيها " ( الأعراف : 92) ، واستشهاده بقول الآخر :
كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا
فإنه إغفال منه ، وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنى : إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه ، كما يقال : تضارب الرجلان ، إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه ، وتشاتما ، وتقاتلا . ومن قال : هذا في فعل اثنين ، لم يجز أن يقول مثله في الفعل الواحد ، فيقول : تغانى زيد ، وتضارب عمرو ، وذلك غير جائز أن يقول : تغنى زيد بمعنى استغنى ، إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء ، وهو غير مستغن ، كما يقال : تجلد فلان : إذا أظهر جلداً من نفسه ، وهو غير جليد ، وتشجع ، وتكرم ، فإن وجه موجه التغني بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده من مفهوم كلام العرب ، كانت المصيبة في خطئه في ذلك أعظم ، لأنه يوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذكره لم يأذن لنببه أن يستغني بالقرآن ، وإنما أذن له أن يظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال ، وهذا لا يخفى فساده . قال : ومما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضاً أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن ، إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة ، وإن كان كذلك ، فهو غلط من وجهين ، أحدهما : من اللغة ، والثاني : من إحالة المعنى عن وجهه . أما اللغة ، فإن الأذن مصدر قوله : أذن فلان لكلام فلان ، فهو يأذن له : إذا استمع له وأنصت ، كما قال تعالى : " وأذنت لربها وحقت " ( الإنشقاق : 2 ) ، بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك ، كما قال عدي بن زيد : إن همي في سماع وأذن بمعنى ، في سماع واستماع . فمعنى قوله : ما أذن الله لشئ ، إنما هو : ما استمع الله لشئ من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن . وأما الإحالة في المعنى ، فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له ، انتهى كلام الطبري .
قال أبو الحسن بن بطال : وقد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضاً ، بما رواه ابن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثني موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلموا القرآن وتغنوا به ، واكتبوه ، فوالذي نفسي بيده ، لهو أشد تفصياً من المخاض من العقل " . قال : وذكر عمر بن شبة ، قال : ذكر لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله يتغنى بالقرآن يستغني به ، فقال : لم يصنع ابن عيينة شيئاً ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، قال : كانت لداود نبي الله صلى الله عليه وسلم معزفة يتغنى عليها يبكي ويبكي . وقال ابن عباس : إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحناً ، تكون فيهن ، ويقرأ قراءة يطرب منها الجموع . وسئل الشافعي رحمه الله ، عن تأويل ابن عيينة فقال : نحن أعلم بهذا ، لو أراد به الاستغناء ، لقال : من لم يستغن بالقرآن ، ولكن لما قال : يتغنى بالقرآن ، علمنا أنه أراد به التغني .
قالوا : ولأن تزيينه ، وتحسين الصوت به ، والتطريب بقراءته أوقع في النفوس ، وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه ، ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع ، ومعانيه إلى القلوب ، وذلك عون على المقصود ، وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء ، وبمنزلة الأفاويه والطيب الذي يجعل في الطعام ، لتكون الطبيعة أدعى له قبولاً ، وبمنزلة الطيب والتحلي ، وتجمل المرأة لبعلها ، ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح . قالوا : ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء ، فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن ، كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه ، وكما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد والتوكل ، وعن السفاح بالنكاح ، وعن القمار بالمراهنة بالنصال وسباق الخيل ، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني ، ونظائره كثيرة جداً .
قالوا : والمحرم ، لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة ، أو خالصة ، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئاً من ذلك ، فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه ، ولا في تحول بين السامع وبين فهمه ، ولو كانت متضمنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها ، لأخرجت الكلمة عن موضعها ، وحالت بين السامع وبين فهمها ، ولم يدر ما معناها ، والواقع بخلاف ذلك .
قالوا : وهذا التطريب والتلحين ، أمر راجع إلى كيفية الأداء ، وتارة يكون سليقة وطبيعة ، وتارة يكون تكلفاً وتعملاً ، وكيفيات الأداء لا تخرج الكلام عن وضع مفرداته ، بل هي صفات لصوت المؤدي ، جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وإمالته ، وجارية مجرى مدود القراء الطويلة والمتوسطة ، لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف ، وكيفيات الألحان والتطريب ، متعلقة بالأصوات ، والآثار في هذه الكيفيات ، لا يمكن نقلها ، بخلاف كيفيات أداء الحروف ، فلهذا نقلت تلك بألفاظها ، ولم يمكن نقل هذه بألفاظها ، بل نقل منها ما أمكن نقله ، كترجيع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح بقوله : آ آ آ . قالوا : والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين : مد وترجيع ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد الرحمن ويمد الرحيم ، وثبت عنه الترجيع كما تقدم .
قال المانعون من ذلك : الحجة لنا من وجوه . أحدها : ما رواه حذيفة بن اليمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق ، فإنه سيجئ من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم ، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم " . رواه أبو الحسن رزين في تجريد الصحاح ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في نوادر الأصول . واحتج به القاضي أبو يعلى في الجامع ، واحتج معه بحديث آخر ، أنه صلى الله عليه وسلم ذكر شرائط الساعة ، وذكر أشياء ، منها : " أن يتخذ القرآن مزامير ، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء" . قالوا : وقد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء ، فقيل له : إقرأ ، فرفع صوته وطرب ، وكان رفيع الصوت ، فكشف أنس عن وجهه ، وكان على وجهه خرقة سوداء ، وقال : يا هذا ! ماهكذا كانوا يفعلون ، وكان إذا رأى شيئاً ينكره ، رفع الخرقة عن وجهه . قالوا : وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب ، كما روى ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم :" إن الأذان سهل سمح ، فإن كان أذانك سهلاً سمحاً ، وإلا فلا تؤذن " رواه الدارقطني . وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أبيه ، قال : كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المد ، ليس فيها ترجيع . قالوا : والترجيع والتطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز ، ومد ما ليس بممدود ، وترجيع الألف الواحد ألفات ، والواو واوات ، والياء ياءآت ، فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن ، وذلك غير جائز ، قالوا : ولا حد لما يجوز من ذلك ، وما لا يجوز منه ، فإن حد بحد معين ، كان تحكماً في كتاب الله تعالى ودينه ، وإن لم يحد بحد ، أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات ، وكثرة الترجيعات ، والتنويع في أصناف الإيقاعات والألحان المشبهة للغناء ، كما يفعل أهل الغناء بالأبيات ، وكما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز ، ويفعله كثير من قراء الأصوات ، مما يتضمن تغيير كتاب الله والغناء به على نحو ألحان الشعر والغناء ، ويوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء ، اجتراء على الله وكتابه ، وتلاعباً بالقرآن ، وركوناً إلى تزيين الشيطان ، ولا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام ، ومعلوم : أن التطريب والتلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريباً ، فالمنع منه ، كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام ، فهذا نهاية اقدام الفريقين ، ومنتهى احتجاج الطائفتين .
وفصل النزاع ، أن يقال : التطريب والتغني على وجهين ، أحدهما : ما اقتضته الطبيعة ، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم ، بل إذا خلي وطبعه ، واسترسلت طبيعته ، جاءت بذلك التطريب والتلحين ، فذلك جائز ، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين ، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم :" لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً " والحزين ومن هاجه الطرب ، والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة ، و لكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع ، وعدم التكلف والتصنع فيه ، فهو مطبوع لا متطبع وكلف لا متكلف ، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه ، وهو التغني الممدوح المحمود ، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع ، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها .
الوجه الثاني : ما كان من ذلك صناعة من الصنائع ، وليس في الطبع السماحة به ، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن ، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة ، والمركبة على إيقاعات مخصوصة ، وأوزان مخترعة ، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف ، فهذه هي التي كرهها السلف ، وعابوها ، وذموها ، ومنعوا القراءة بها ، وأنكروا على من قرأ بها ، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه ، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ، ويتبين الصواب من غيره ، وكل من له علم بأحوال السلف ، يعلم قطعاً أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة ، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة ، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ، ويسوغوها ، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب ، ويحسنون أصواتهم بالقرآن ، ويقرؤونه بشجى تارة ، وبطرب تارة ، وبشوق تارة ، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له ، بل أرشد إليه وندب إليه ، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به ، وقال : " ليس منا من لم يتغن بالقرأن " وفيه وجهان : أحدهما : أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله ، والثاني : أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:29 AM
فصل في هديه في عيادة المرضى
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في عيادة المرضى
كان صلى الله عليه وسلم يعود من مرض من أصحابه ، وعاد غلاماً كان يخدمه من أهل الكتاب ، وعاد عمه وهو مشرك ، وعرض عليهما الإسلام ، فأسلم اليهودي ، ولم يسلم عمه .
وكان يدنو من المريض ، ويجلس عند رأسه ، ويسأله عن حاله ، فيقول : كيف تجدك ؟
وذكر أنه كان يسأل المريض عما يشتهيه ، فيقول : هل تشتهي شيئا ؟ فإن اشتهى شيئاً وعلم أنه لا يضره ، أمر له به . وكان يمسح بيده اليمنى على المريض ، ويقول : " اللهم رب الناس ، أذهب البأس ، واشفه أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً " .
وكان يقول : " امسح البأس رب الناس ، بيدك الشفاء ، لا كاشف له إلا أنت " .
وكان يدعو للمريض ثلاثاً كما قاله لسعد :" اللهم اشف سعداً ، اللهم اشف سعداً ، اللهم اشف سعداً ".
وكان إذا دخل على المريض يقول له : " لابأس طهور إن شاء الله ". وربما كان يقول : " كفارة وطهور " . وكان يرقي من به قرحة ، أو جرح ، أو شكوى ، فيضع سبابته بالأرض ، ثم يرفعها ويقول :" بسم الله ، تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا ، بإذن ربنا ". هذا في الصحيحين ، وهو يبطل اللفظة التي جاءت في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب وأنهم لا يرقون ولا يسترقون . فقوله في الحديث :" لا يرقون" غلط من الراوي ، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول ذلك . قال : وإنما الحديث "هم الذين لا يسترقون " . قلت : وذلك لأن هؤلاء دخلوا الجنة بغير حساب ، لكمال توحيدهم ، ولهذا نفى عنهم الاسترقاء ، وهو سؤال الناس أن يرقوهم . ولهذا قال : " وعلى ربهم يتوكلون " ، فلكمال توكلهم على ربهم ، وسكونهم إليه ، وثقتهم به ، ورضاهم عنه ، وإنزال حوائجهم به ، لا يسألون الناس شيئاً ، لا رقية ولا غيرها، ولا يحصل لهم طيرة تصدهم عما يقصدونه ، فإن الطيرة تنقص التوحيد وتضعفه . قال : والراقي متصدق محسن ، والمسترقي سائل ، والنبي صلى الله عليه وسلم رقى ، ولم يسترق ، وقال : "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" .
فإن قيل : فما تصنعون بالحديث الذي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أوى إلى فراشه ، جمع كفيه ثم نفث فيهما ، فقرأ " قل هو الله أحد " ، و " قل أعوذ برب الفلق " ، و " قل أعوذ برب الناس " ، ويمسح بهما ما استطاع من جسده ، ويبدأ بهما على رأسه ووجه ما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات قالت عائشة : فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يأمرني أن أفعل ذلك به .
فالجواب : أن هذا الحديث قد روي بثلاثة ألفاظ . أحدها : هذا . والثاني : أنه كان ينفث على نفسه ، والثالث : قالت : كنت أنفث عليه بهن ، وأمسح بيد نفسه لبركتها ، وفي لفظ رابع : كان إذا اشتكى ، يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، وهذه الألفاظ يفسر بعضها بعضاً . وكان صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه ، وضعفه ووجعه يمنعه من إمرار يده على جسده كله . فكان يأمر عائشة أن تمر يده على جسده بعد نفثه هو ، وليس ذلك من الاسترقاء في شئ ، وهي لم تقل : كان يأمرني أن أرقيه ، وإنما ذكرت المسح بيده بعد النفث على جسده ، ثم قالت : كان يأمرني أن أفعل ذلك به، أي : أن أمسح جسده بيده ، كما كان هو يفعل .
ولم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام أن يخص يوماً من الأيام بعيادة المريض ، ولا وقتاً من الأوقات ، بل شرع لأمته عيادة المرضى ليلاً ونهاراً ، وفي سائر الأوقات . وفي المسند عنه : " إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرفة الجنة حتى يجلس ، فإذا جلس ، غمرته الرحمة ، فإن كان غدوة ، صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي ، وإن كان مساء ، صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح ". وفي لفظ " ما من مسلم يعود مسلماً إلا بعث الله له سبعين ألف ملك يصلون عليه أي ساعة من النهار كانت حتى يمسي ، وأي ساعة من الليل كانت حتى يصبح " .
وكان يعود من الرمد وغيره ، وكان أحياناً يضع يده على جبهة المريض ، ثم يمسح صدره وبطنه ويقول : "اللهم اشفه" وكان يمسح وجهه أيضاً .
وكان إذا يئس من المريض قال : " إنا لله وإنا إليه راجعون ".
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:30 AM
فصل في هديه في الجنائز والصلاة عليها
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز والصلاة عليها ، واتباعها ، ودفنها ، وما كان يدعو به للميت في صلاة الجنازة وبعد الدفن وتوابع ذلك
كان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي ، مخالفاً لهدي سائر الأمم ، مشتملاً على الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده ، وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه ، وعلى إقامة عبودية الحي لله وحده فيما يعامل به الميت . وكان من هديه في الجنائز إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال ، والإحسان إلى الميت ، وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها ، ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفاً يحمدون الله ويستغفرون له ، ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه ، ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه حفرته ، ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه ، ثم يتعاهده بالزيارة له في قبره ، والسلام عليه ، والدعاء له كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا .
فأول ذلك : تعاهده في مرضه ، وتذكيره الآخرة ، وأمره بالوصية ، والتوبة ، وأمر من حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه ، ثم النهي عن عادة الأمم التي لا تؤمن بالبعث والنشور ، من لطم الخدود ، وشق الثياب ، وحلق الرؤوس ، ورفع الصوت بالندب ، والنياحة وتوابع ذلك .
وسن الخشوع للميت ، والبكاء الذي لا صوت معه ، وحزن القلب ، وكان يفعل ذلك ويقول : " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب " .
وسن لأمته الحمد والاسترجاع ، والرضى عن الله ، ولم يكن ذلك منافياً لدمع العين وحزن القلب ، ولذلك كان أرضى الخلق عن الله في قضائه ، وأعظمهم له حمداً ، وبكى مع ذلك يوم موت ابنه إبراهيم رأفة منه ، ورحمة للولد ، ورقة عليه ، والقلب ممتلئ بالرضى عن الله عز وجل وشكره ، واللسان مشتغل بذكره وحمده .
ولما ضاق هذا المشهد والجمع بين الأمرين على بعض العارفين يوم مات ولده ، جعل يضحك ، فقيل له : أتضحك في هذه الحالة ؟ قال : إن الله تعالى قضى بقضاء ، فأحببت أن أرضى بقضائه ، فأشكل هذا على جماعة من أهل العلم ، فقالوا : كيف يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم وهو أرضى الخلق عن الله ، ويبلغ الرضى بهذا العارف إلى أن يضحك ، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هدي نبينا صلى الله عليه وسلم كان أكمل من هدي هذا العارف ، فإنه أعطى العبودية حقها ، فاتسع قلبه للرضى عن الله ، ولرحمة الولد ، والرقة عليه ، فحمد الله ، ورضي عنه في قضائه ، وبكى رحمة ورأفة ، فحملته الرأفة على البكاء ، وعبوديته لله ، ومحبته له على الرضى والحمد ، وهذا العارف ضاق قلبه عن اجتماع الأمرين ، ولم يتسع باطنه لشهودهما والقيام بهما ، فشغلته عبودية الرضى عن عبودية الرحمة والرأفة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:31 AM
فصل في هديه الإسراع بتجهيز الميت
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الإسراع بتجهيز الميت إلى الله ، وتطهيره ، وتنظيفه ، وتطييبه ، وتكفينه في الثياب البيض ، ثم يؤتى به إليه ، فيصلي عليه بعد أن كان يدعى إلى الميت عند احتضاره ، فيقيم عنده حتى يقضي ، ثم يحضر تجهيزه ، ثم يصلي عليه ، ويشيعه إلى قبره ، ثم رأى الصحابة أن ذلك يشق عليه ، فكانوا إذا قضى الميت ، دعوه ، فحضر تجهيزه ، وغسله ، وتكفينه . ثم رأوا أن ذلك يشق عليه ، فكانوا هم يجهزون ميتهم ، ويحملونه إليه صلى الله عليه وسلم على سريره ، فيصلي عليه خارج المسجد .
ولم يكن من هديه الراتب الصلاة عليه في المسجد ، وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد ، وربما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد ، كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد . ولكن لم يكن ذلك سنته وعادته ، وقد روى أبو داود في سننه من حديث صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له ". وقد اختلف في لفظ الحديث ، فقال الخطيب في روايته لكتاب السنن : في الأصل " فلا شئ عليه " وغيره يرويه "فلا شئ له " وقد رواه ابن ماجه في سننه ولفظه : "فليس له شئ ". ولكن قد ضعف الإمام أحمد وغيره هذا الحديث ، قال الإمام أحمد : هو مما تفرد به صالح مولى التوأمة ، وقال البيهقي : هذا حديث يعد في أفراد صالح ، وحديث عائشة أصح منه ، وصالح مختلف فى عدالته ، كان مالك يجرحه ، ثم ذكر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، أنه صلى عليهما في المسجد .
قلت : وصالح ثقة في نفسه ، كما قال عباس الدوري عن ابن معين : هو ثقة في نفسه . وقال ابن أبي مريم ويحيى : ثقة حجة ، فقلت له : إن مالكاً تركه ، فقال : إن مالكاً أدركه بعد أن خرف ، والثوري إنما أدركه بعد أن خرف ، فسمع منه ، لكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف . وقال علي بن المديني : هو ثقة إلا أنه خرف وكبر فسمع منه الثوري بعد الخرف وسماع ابن أبي ذئب منه قبل ذلك . وقال ابن حبان : تغير في سنة خمس وعشرين ومائة ، وجعل يأتي بما يشبه الموضوعات عن الثقات ، فاختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز ، فاستحق الترك انتهى كلامه .
وهذا الحديث : حسن ، فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه ، وسماعه منه قديم قبل اختلاطه ، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حدث به قبل الاختلاط . وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة هذا ، وحديث عائشة مسلكاً آخر ، فقال : صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة ، وترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة ، وما كانوا ليفعلوه إلا لما علموا خلاف ما نقلت . ورد ذلك على الطحاوي جماعة ، منهم : البيهقي وغيره . قال البيهقي : ولو كان عند أبي هريرة نسخ ما روته عائشة ، لذكره يوم صلي على أبي بكر الصديق في المسجد ، ويوم صلي على عمر بن الخطاب فى المسجد ، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد ، ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر ، وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز ، فلما روت فيه الخبر ، سكتوا ولم ينكروه ، ولا عارضوه بغيره .
قال الخطابي : وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلي عليهما في المسجد ، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما ، وفي تركهم الإنكار الدليل على جوازه ، قال : ويحتمل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت ، متأولاً على نقصان الأجر ، وذلك أن من صلى عليها في المسجد ، فالغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه ، وأن من سعى إلى الجنازة ، فصلى عليها بحضرة المقابر ، شهد دفنه ، وأحرز أجر القيراطين ، وقد يؤجر أيضاً على كثرة خطاه ، وصار الذي يصلي عليه في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من يصلي عليه خارج المسجد . وتأولت طائفة معنى قوله : " فلا شئ له " ، أي فلا شئ عليه ، ليتحد معنى اللفظين ، ولا يتناقضان كما قال تعالى : " وإن أسأتم فلها " ( الإسراء : 7) ، أي : فعليها ، فهذه طرق الناس في هذين الحديثين .
والصواب ما ذكرناه أولاً ، وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر ، وكلا الأمرين جائز ، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:32 AM
فصل في هديه تسجية الميت إذا مات
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تسجية الميت إذا مات ، وتغميض عينيه ، وتغطية وجهه وبدنه ، وكان ربما يقبل الميت كما قبل عثمان بن مظعون وبكى . وكذلك الصديق أكب عليه ، فقبله بعد موته صلى الله عليه وسلم .
وكان يأمر بغسل الميت ثلاثاً أو خمساً ، أو أكثر بحسب ما يراه الغاسل ، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة ، وكان لا يغسل الشهداء قتلى المعركة ، وذكر الإمام أحمد ، أنه نهى عن تغسيلهم ، وكان ينزع عنهم الجلود والحديد ويدفنهم في ثيابهم ، ولم يصل عليهم .
وكان إذا مات المحرم ، أمر أن يغسل بماء وسدر ، ويكفن في ثوبيه وهما ثوبا إحرامه : إزاره ورداؤه ، وينهى عن تطييبه وتغطية رأسه وكان يأمر من ولي الميت أن يحسن كفنه ، ويكفنه في البياض ، وينهى عن المغالاة في الكفن ، وكان إذا قصر الكفن عن ستر جميع البدن ، غطى رأسه ، وجعل على رجليه من العشب .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:32 AM
فصل في هديه إذا قدم إليه ميت يصلى عليه سأل
فصل
وكان إذا قدم إليه ميت يصلي عليه ، سأل : هل عليه دين ، أم لا ؟ فإن لم يكن عليه دين ، صلى عليه ، وإن كان عليه دين ، لم يصل عليه ، وأذن لأصحابه أن يصلوا عليه ، فإن صلاته شفاعة ، وشفاعته موجبة ، والعبد مرتهن بدينه ، ولا يدخل الجنة حتى يقضى عنه ، فلما فتح الله عليه ، كان يصلي على المدين ، ويتحمل دينه ، ويدع ماله لورثته .
فإذا أخذ في الصلاة عليه ، كبر وحمد الله وأثنى عليه ، وصلى ابن عباس على جنازة ، فقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب جهراً ، وقال : " لتعلموا أنها سنة " وكذلك قال أبو أمامة بن سهل : إن قراءة الفاتحة في الأولى سنة . ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه أمر أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب . ولا يصح إسناده . قال شيخنا : لا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ، بل هي سنة ، وذكر أبو أمامة بن سهل ، عن جماعة من الصحابة ، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة .
وروى يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، أنه سأل عبادة بن الصامت عن الصلاة على الجنازة فقال : أنا والله أخبرك : تبدأ فتكبر ، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : اللهم إن عبدك فلاناً كان لا يشرك بك وأنت أعلم به ، إن كان محسناً ، فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئاً ، فتجاوز عنه ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تضلنا بعده .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:33 AM
فصل في مقصود الصلاة على الجنازة
فصل
ومقصود الصلاة على الجنازة : هو الدعاء للميت ، لذلك حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ونقل عنه ما لم ينقل من قراءة الفاتحة والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم .
فحفظ من دعائه : " اللهم اغفر له ، وارحمه ، وعافه ، واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار " .
وحفظ من دعائه : " اللهم اغفر لحينا ، وميتنا ، وصغيرنا ، وكبيرنا ، وذكرنا ، وأنثانا ، وشاهدنا وغائبنا ، اللهم من أحييته منا ، فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا ، فتوفة على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده " .
وحفظ من دعائه : " اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك ، فقه من فتنة القبر ، ومن عذاب النار ، فأنت أهل الوفاء والحق ، فاغفر له وارحمه ، إنك أنت الغفور الرحيم " .
وحفظ من دعائه أيضاً : " اللهم أنت ربها ، وأنت خلقتها ، وأنت رزقتها ، وأنت هديتها للإسلام ، وأنت قبضت روحها ، وتعلم سرها وعلانيتها ، جئنا شفعاء فاغفر لها " . وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإخلاص الدعاء للميت ، وكان يكبر أربع تكبيرات ، وصح عنه أنه كبر خمساً ، وكان الصحابة بعده يكبرون أربعاً ، وخمساً ، وستاً ، فكبر زيد بن أرقم خمساً ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبرها ، ذكره مسلم .
وكبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سهل بن حنيف ستاً ، وكان يكبر على أهل بدر ستاً ، وعلى غيرهم من الصحابة خمساً ، وعلى سائر الناس أربعاً . ذكره الدارقطني .
وذكر سعيد بن منصور ، عن الحكم بن عتيبة أنه قال : كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً ، وستاً ، وسبعاً . وهذه آثار صحيحة ، فلا موجب للمنع منها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع مما زاد على الأربع ، بل فعله هو وأصحابه من بعده .
والذين منعوا من الزيادة على الأربع ، منهم من احتج بحديث ابن عباس ، أن آخر جنازة صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، كبر أربعاً . قالوا : وهذا آخر الأمرين ، وإنما يؤخذ بالآخر ، فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم هذا . وهذا الحديث ، قد قال الخلال في العلل : أخبرني حرب : قال : سئل الإمام أحمد عن حديث أبي المليح ، عن ميمون ، عن ابن عباس ، فذكر الحديث . فقال أحمد : هذا كذب ليس له أصل ، إنما رواه محمد بن زياد الطحان وكان يضع الحديث . واحتجوا بأن ميمون بن مهران ، روى عن ابن عباس ، أن الملائكة لما صلت على آدم عليه الصلاة والسلام ، كبرت عليه أربعاً ، وقالوا : تلك سنتكم يا بني آدم . وهذا الحديث قد قال في الأثرم : جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة ، فسمعت أبا عبد الله قال : رأيت أحاديثه موضوعة ، فذكر منها عن أبي المليح ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، أن الملائكة لما صلت على آدم ، كبرت عليه أربعاً ، واستعظمه أبو عبد الله وقال : أبو المليح كان أصح حديثاً وأتقى لله من أن يروي مثل هذا . واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث يحيى ، عن أبي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن الملائكة لما صلت على آدم ، فكبرت عليه أربعاً ، وقالت : هذه سنتكم يا بني آدم ، وهذا لا يصح . وقد روي مرفوعاً وموقوفاً .
وكان أصحاب معاذ يكبرون خمساً ، قال علقمة : قلت لعبد الله : إن ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشام ، فكبروا على ميت لهم خمساً ، فقال عبد الله : ليس على الميت في التكبير وقت ، كبر ما كبر الإمام ، فإذا انصرف الإمام فانصرف .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:35 AM
فصل في هديه في التسليم من صلاة الجنازة
فصل
وأما هديه صلى الله عليه وسلم في التسليم من صلاة الجنازة . فروي عنه : إنه كان يسلم واحدة . وروي عنه : أنه كان يسلم تسليمتين . فروى البيهقي وغيره ، من حديث المقبري ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ، فكبر أربعاً ، وسلم تسليمة واحدة . لكن قال الإمام أحمد فى رواية الأثرم : هذا الحديث عندي موضوع ، ذكره الخلال في العلل . وقال إبرهيم الهجري : حدثنا عبد الله بن أبي أوفى : إنه صلى على جنازة ابنته ، فكبر أربعاً ، فمكث ساعة حتى ظننا أنه يكبر خمساً ، ثم سلم عن يمينه وعن شماله ، فلما انصرف ، قلنا له : ما هذا ؟ فقال : إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ، أو هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن مسعود : ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يفعلهن تركهن الناس ، إحداهن : التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة ، ذكرهما البيهقي . ولكن إبراهيم بن مسلم العبدي الهجري ، ضعفه يحيى بن معين ، والنسائي ، وابن حاتم ، وحديثه هذا، قد رواه الشافعي في كتاب حرملة عن سفيان عنه وقال : كبر عليهما أربعاً ، ثم قام ساعة ، فسبح به القوم فسلم ، ثم قال : كنتم ترون أن أزيد على أربع ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أربعاً ، ولم يقل : ثم سلم عن يمينه وشماله . ورواه ابن ماجه من حديث المحاربي عنه كذلك ، ولم يقل : ثم سلم عن يمينه وشماله .
وذكر السلام عن يمينه وعن شماله انفرد بها شريك عنه . قال البيهقي : ثم عزاه للنبي صلى الله عليه وسلم في التكبير فقط ، أو في التكبير وغيره .
قلت : والمعروف عن ابن أبي أوفى خلاف ذلك ، أنه كان يسلم واحدة ، ذكره الإمام أحمد عنه . قال أحمد بن القاسم ، قيل لأبي عبد الله ، أتعرف عن أحد من الصحابة أنه كان يسلم على الجنازة تسليمتين ؟ قال : لا ، ولكن عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفيفة عن يمينه ، فذكر ابن عمر ، وابن عباس ، وأبا هريرة ، وواثلة بن الأسقع ، وابن أبي أوفى ، وزيد بن ثابت . وزاد البيهقي : علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وأبا أمامة بن سهل بن حنيف ، فهؤلاء عشرة من الصحابة ، وأبو أمامة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وسماه باسم جده لأمه أبي أمامة : أسعد بن زرارة ، وهو معدود في الصحابة ومن كبار التابعين .
وأما رفع اليدين ، فقال الشافعي : ترفع للأثر ، والقياس على السنة فى الصلاة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في كل تكبيرة كبرها في الصلاة وهو قائم .
قلت : يريد بالأثر ما رواه عن ابن عمر ، وأنس بن مالك ، أنهما كانا يرفعان أيديهما كلما كبرا على الجنازة ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يرفع يديه في أول التكبير ، ويضع اليمنى على اليسرى ، ذكره البيهقي في السنن .
وفي الترمذي من حديث أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وضع يده اليمنى على يده اليسرى في صلاة الجنازة ، وهو ضعيف بيزيد بن سنان الرهاوي .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:36 AM
فصل في هديه في الصلاة على القبر
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة على الجنازة ، صلى على القبر ، فصلى مرة على قبر بعد ليلة ، ومرة بعد ثلاث ، ومرة بعد شهر ، ولم يوقت في ذلك وقتاً .
قال أحمد رحمه الله : من يشك في الصلاة على القبر ؟! ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا فاتته الجنازة ، صلى على القبر من ستة أوجه كلها حسان ، فحد الإمام أحمد الصلاة على القبر بشهر ، إذ هو أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعده ، وحده الشافعي رحمه الله ، بما إذا لم يبل الميت ، ومنع منها مالك وأبو حنيفة رحمهما الله إلا للولي إذا كان غائباً .
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يقوم عند رأس الرجل ووسط المرأة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:36 AM
فصل في هديه في الصلاة على الطفل
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الطفل ، فصح عنه أنه قال : " الطفل يصلى عليه " .
وفي سنن ابن ماجه مرفوعاً ، " صلوا على أطفالكم ، فإنهم من أفراطكم " . قال أحمد بن أبي عبدة : سألت أحمد : متى يجب أن يصلى على السقط ؟ قال : إذا أتى عليه أربعة أشهر ، لأنه ينفخ فيه الروح .
قلت : فحديث المغيرة بن شعبة " الطفل يصلى عليه" ؟ قال : صحيح مرفوع ، قلت : ليس في هذا بيان الأربعة الأشهر ولا غيرها ؟ قال: قد قاله سعيد بن المسيب .
فإن قيل : فهل صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم يوم مات ؟ قيل : قد اختلف في ذلك ، فروى أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت : مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهراً ، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثني أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة ، عن عائشة .... فذكره . وقال أحمد في رواية حنبل : هذا حديث منكر جداً ، ووهى ابن إسحاق .
وقال الخلال : وقرئ على عبد الله : حدثني أبي ، حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا جابر الجعفي ، عن عامر، عن البراء بن عازب ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ومات وهو ابن ستة عشر شهراً .
وذكر أبو داود عن البهي ، قال : لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقاعد . وهو مرسل ، والبهي اسمه عبد الله بن يسار كوفي .
وذكر عن عطاء بن أبي رباح ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم وهو ابن سبعين ليلة . وهذا مرسل وهم فيه عطاء ، فإنه قد كان تجاوز السنة .
فاختلف الناس في هذه الآثار ، فمنهم من أثبت الصلاة عليه ، ومنع صحة حديث عائشة ، كما قال الإمام أحمد وغيره : قالوا : وهذه المراسيل ، مع حديث البراء ، يشد بعضها بعضاً ، ومنهم من ضعف حديث البراء بجابر الجعفي ، وضعف هذه المراسيل وقال : حديث ابن إسحاق أصح منها .
ثم اختلف هؤلاء في السبب الذي لأجله لم يصل عليه ، فقالت طائفة : استغنى ببنوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قربة الصلاة التي هي شفاعة له ، كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه .
وقالت طائفة أخرى : إنه مات يوم كسفت الشمس ، فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه . وقالت طائفة : لا تعارض بين هذه الآثار ، فإنه أمر بالصلاة عليه ، فقيل : صلي عليه ، ولم يباشرها بنفسه لاشتغاله بصلاة الكسوف ، وقيل : لم يصل عليه ، وقالت فرقة : رواية المثبت أولى ، لأن معه زيادة علم ، وإذا تعارض النفي والإثبات ، قدم الإثبات .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:37 AM
فصل في تركه الصلاة على قاتل نفسه وعلى الغال وذكر الصلاة على المرجوم
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أنه لا يصلي على من قتل نفسه ، ولا على من غل من الغنيمة .
واختلف عنه في الصلاة على المقتول حداً ، كالزاني المرجوم ، فصح عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية التي رجمها ، فقال عمر : تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ فقال : " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى " . ذكره مسلم .
وذكر البخاري في صحيحه ، قصة ماعز بن مالك وقال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وصلى عليه وقد اختلف على الزهري في ذكر الصلاة عليه ، فأثبتها محمود بن غيلان ، عن عبد الرزاق عنه ، وخالفه ثمانية من أصحاب عبد الرزاق ، فلم يذكروها ، وهم : إسحاق بن راهويه ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، ونوح بن حبيب ، والحسن بن علي ، ومحمد بن المتوكل ، وحميد بن زنجويه ، و أحمد بن منصور الرمادي .
قال البيهقى : وقول محمود بن غيلان : إنه صلى عليه ، خطأ لإجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه ، ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه .
وقد اختلف في قصة ماعز بن مالك ، فقال أبو سعيد الخدري : ما استغفر له ولا سبه ، وقال بريدة بن الحصيب : إنه قال : " استغفزوا لماعز بن مالك " . فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك . ذكرهما مسلم . وقال جابر : فصلى عليه ، ذكره البخاري ، وهو حديث عبد الرزاق المعلل ، وقال أبو برزة الأسلمي : لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينه عن الصلاة عليه ، ذكره أبو داود . قلت : حديث الغامدية ، لم يختلف فيه أنه صلى عليها . و حديث ماعز ، إما أن يقال : لا تعارض بين ألفاظه ، فإن الصلاة فيه : هي دعاؤه له بأن يغفر الله له ، وترك الصلاة فيه هي تركه الصلاة على جنازته تأديباً وتحذيراً ، وإما أن يقال : إذا تعارضت ألفاظه ، عدل عنه إلى حديث الغامدية .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:38 AM
فصل في هديه في المشي أمام الجنازة
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى على ميت ، تبعه إلى المقابر ماشياً أمامه .
وهذه كانت سنة خلفائه الراشدين من بعده ، وسن لمن تبعها إن كان راكباً أن يكون وراءها ، وإن كان ماشياً أن يكون قريباً منها ، إما خلفها ، أو أمامها ، أو عن يمينها ، أو عن شمالها . وكان يأمر بالإسراع بها ، حتى إن كانوا ليرملون بها رملاً ، وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة ، فبدعة مكروهة مخالفة للسنة ، ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب واليهود . وكان أبو بكرة يرفع السوط على من يفعل ذلك ، ويقول : لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملاً .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة ، فقال : " ما دون الخبب " . رواه أهل السنن وكان يمشي إذا تبع الجنازة ويقول : " لم أكن لأركب والملائكة يمشون " . فإذا انصرف عنها ، فربما مشى ، وربما ركب .
وكان إذا تبعها ، لم يجلس حتى توضع ، وقال : " إذا تبعتم الجنازة ، فلا تجلسوا حتى توضع " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والمراد : وضعها بالأرض . قلت : قال أبو داود : روى هذا الحديث الثوري ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة . قال : وفيه " حتى توضع بالأرض " ورواه أبو معاوية ، عن سهيل وقال : " حتى توضع في اللحد ". قال : وسفيان أحفظ من أبي معاوية ، وقد روى أبو داود والترمذي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد . لكن في إسناده بشر بن رافع ، قال الترمذي : ليس بالقوي في الحديث ، وقال البخاري : لا يتابع على حديثه ، وقال أحمد : ضعيف ، وقال ابن معين : حدث بمناكير ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال ابن حبان : يروى أشياء موضوعة كأنه المتعمد لها .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:38 AM
فصل في هديه في الصلاة على الغائب وذكر الاختلاف فيه
فصل
ولم يكن من هديه وسنته صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل ميت غائب .
فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غيب ، فلم يصل عليهم ، وصح عنه : أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت ، فاختلف الناس في ذلك على ثلاثة طرق ، أحدها : أن هذا تشريع منه ، وسنة للأمة الصلاة على كل غائب ، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وقال أبو حنيفة ومالك : هذا خاص به ، وليس ذلك لغيره ، قال أصحابهما : ومن الجائز أن يكون رفع له سريره فصلى عليه وهو يرى صلاته على الحاضر المشاهد ، وإن كان على مسافة من البعد ، والصحابة وإن لم يروه ، فهم تابعون للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة . قالوا : ويدل على هذا ، أنه لم ينقل عنه أنه كان يصلي على كل الغائبين غيره ، وتركه سنة، كما أن فعله سنة ، ولا سبيل لأحد بعده إلى أن يعاين سرير الميت من المسافة البعيدة ، ويرفع له حتى يصلي عليه ، فعلم أن ذلك مخصوص به . وقد روى عنه ، أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو غائب ، ولكن لا يصح ، فإن في إسناده العلاء بن زيد ، ويقال : ابن زيدل ، قال علي بن المديني : كان يضع الحديث ، ورواه محبوب بن هلال ، عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس . قال البخاري : لا يتابع عليه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الصواب : أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه ، صلي عليه صلاة الغائب ، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه ، وإن صلي عليه حيث مات ، لم يصل عليه صلاة الغائب ، لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، صلى على الغائب ، وتركه ، وفعله ، وتركه سنة ، وهذا له موضع ، وهذا له موضع، والله أعلم ، والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد ، وأصحها : هذا التفصيل ، والمشهور عند أصحابه : الصلاة عليه مطلقاً .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:40 AM
فصل في هديه في القيام للجنازة
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قام للجنازة لما مرت به ، وأمر بالقيام لها ، وصح عنه أنه قعد ، فاختلف في ذلك ، فقيل : القيام منسوخ ، والقعود آخر الأمرين ، وقيل : بل الأمران جائزان ، وفعله بيان للاستحباب ، وتركه بيان للجواز ، وهذا أولى من ادعاء النسخ .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:42 AM
فصل في هديه في الأوقات المكروهة لدفن الميت
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، ألا يدفن الميت عند طلوع الشمس ، ولاعند غروبها ، ولا حين يقوم قائم الظهيرة . وكان من هديه اللحد وتعميق القبر وتوسيعه من عند رأس الميت ورجليه ، ويذكر عنه ، أنه كان إذا وضع الميت في القبر قال : " بسم الله ، وبالله ، وعلى ملة رسول الله " . وفي رواية : "بسم الله ، وفي سبيل الله ، وعلى ملة رسول الله" . ويذكر عنه أيضاً أنه كان يحثوا التراب على قبر الميت إذا دفن من قبل رأسه ثلاثاً .
وكان إذا فرغ من دفن الميت قام على قبره هو وأصحابه ، وسأل له التثبيت ، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت .
ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر ، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم ، وأما الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره ، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل : يافلان ، فإنه يسمعه ولا يجيب ، ثم يقول : يا فلان بن فلانة ، فإنه يستوي قاعداً ، ثم يقول : يا فلان بن فلانة ، فإنه يقول : أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون ، ثم يقول : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنك رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وبالقرآن إماماً ، فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول : انطلق بنا ما نقعد عند من لقن حجته ، فيكون الله حجيحه دونهما . فقال رجل : يا رسول الله ! فإن لم يعرف أمه ؟ قال : فينسبه إلى حواء: يا فلان بن حواء " . فهذا حديث لا يصح رفعه ، ولكن قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول : يا فلان بن فلانة ، اذكر ما فارقت عليه الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله . فقال : ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام ، حين مات أبو المغيرة ، جاء إنسان فقال ذلك ، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن أشياخهم ، أنهم كانوا يفعلونه ، وكان ابن عياش يروي فيه .
قلت : يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة .
وقد ذكر سعيد بن منصور في سننه عن راشد بن سعد ، وضمرة بن حبيب ، وحكيم بن عمير ، قالوا : إذا سوي على الميت قبره ، وانصرف الناس عنه ، فكانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره : يا فلان ! قل : لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات ، يا فلان ! قل : ربي الله وديني الإسلام ، نبيي محمد ، ثم ينصرف .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:43 AM
فصل في هديه في عدم تعلية القبور وتشييدها
فصل
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ، تعلية القبور ولا بناؤها بآجر ، ولا بحجر ولبن ، ولا تشيدها ، ولا تطيينها ، ولا بناء القباب عليها ، فكل هذا بدعة مكروهة ، مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم . وقد بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن ، ألا يدع تمثالاً إلا طمسه ، ولا قبراً مشرفاً إلا سواه ، فسنته صلى الله عليه وسلم تسوية هذه القبور المشرفة كلها ، ونهى أن يجصص القبر ، وأن يبنى عليه ، وأن يكتب عليه .
وكانت قبور أصحابه لا مشرفة ، ولا لاطئة ، وهكذا كان قبره الكريم ، وقبر صاحبيه ، فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء لا مبني ولا مطين ، وهكذا كان قبر صاحبيه . وكان يعلم قبر من يريد تعرف قبره بصخرة .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:43 AM
فصل في النهي عن اتخاذ القبور مساجد
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ، وإيقاد السرج عليها ، واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله ، ونهى عن الصلاة إلى القبور ، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيداً ، ولعن زورات القبور . وكان هديه أن لا تهان القبور وتوطأ ، وألا يجلس عليها ، ويتكأ عليها ، ولا تعظم بحيث تتخذ مساجد فيصلى عندها وإليها ، وتتخذ أعياداً وأوثاناً .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:43 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور
كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم ، والترحم عليهم ، والاستغفار لهم ، وهذه هي الزيارة التي سنها لأمته ، وشرعها لهم ، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية " .
وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتها ، من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت ، من الدعاء والترحم ، والاستغفار . فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به ، والإقسام على الله به ، وسؤاله الحوائج ، والاستعانة به ، والتوجه إليه ، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم ، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت ، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم ، وإلى الميت ، وهم ثلاثة أقسام : إما أن يدعوا الميت ، أو يدعوا به ، أو عنده ، ويرون الدعاء عنده أوجب وأولى من الدعاء في المساجد ، ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، تبين له الفرق بين الأمرين وبالله التوفيق .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:44 AM
فصل في التعزية وعدم الاجتماع لها
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، تعزية أهل الميت ، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ، ويقرأ له القرآن ، لا عند قبره ولا غيره ، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة .
وكان من هديه : السكون والرضى بقضاء الله ، والحمد لله ، و الاسترجاع ، ويبرأ ممن خرق لأجل المصيبة ثيابه ، أو رفع صوته بالندب والنياحة ، أو حلق لها شعره . وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يتكلفون الطعام للناس ، بل أمر أن يصنع الناس لهم طعاماً يرسلونه إليهم وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم ، والحمل عن أهل الميت ، فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس .
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، ترك نعي الميت ، بل كان ينهى عنه ، و يقول : هو من عمل الجاهلية ، وقد كره حذيفة أن يعلم به أهله الناس إذا مات وقال : أخاف أن يكون من النعي .
اسير الصحراء
04-29-2006, 01:44 AM
فصل في صلاة الخوف
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، في صلاة الخوف ، ان أباح الله سبحانه وتعالى قصر أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر ، وقصر العدد وحده إذا كان سفر لا خوف معه ، وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه وهذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم ، وبه تعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف .
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف ، إذا كان العدو بينه وبين القبلة ، أن يصف المسلمين كلهم خلفه ، ويكبر ويكبرون جميعاً، ثم يركع فيركعون جميعاً ، ثم يرفع ويرفعون جميعاً معه ، ثم ينحدر بالسجود والصف الذي يليه خاصة ، ويقوم الصف المؤخر مواجه العدو ، فإذا فرغ من الركعة الأولى ، ونهض إلى الثانية ، سجد الصف المؤخر بعد قيامه سجدتين ، ثم قاموا ، فتقدموا إلى مكان الصف الأول ، وتأخر الصف الأول مكانهم لتحصل فضيلة الصف الأول للطائفتين ، وليدرك الصف الثاني مع النبي صلى الله عليه وسلم السجدتين في الركعة الثانية ، كما أدرك الأول معه السجدتين في الأولى ، فتستوي الطائفتان فيما أدركوا معه ، وفيما قضوا لأنفسهم ، وذلك غاية العدل ، فإذا ركع ، صنع الطائفتان كما صنعوا أول مرة فإذا جلس للتشهد ، سجد الصف المؤخر سجدتين ، ولحقوه في التشهد ، فيسلم بهم جميعاً . وإن كان العدو في غير جهة القبلة ، فإنه كان تارة يجعلهم فرقتين : فرقة بإزاء العدو ، وفرقة تصلي معه ، فتصلي معه إحدى الفرقتين ركعة ، ثم تنصرف في صلاتها إلى مكان الفرقة الأخرى ، وتجي الأخرى إلى مكان هذه ، فتصلي معه الركعة الثانية ، ثم تسلم ، وتقضي كل طائفة ركعة ركعة بعد سلام الإمام .
وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ، ثم يقوم إلى الثانية ، وتقضي هي ركعة وهو واقف ، وتسلم قبل ركوعه ، وتأتي الطائفة الأخرى ، فتصلي معه الركعة الثانية ، فإذا جلس في التشهد ، قامت ، فقضت ركعة وهو ينتظرها في التشهد ، فإذا تشهدت ، يسلم بهم .
وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين ، فتسلم قبله ، وتأتي الطائفة الأخرى ، فيصلي بهم الركعتين الأخيرتين ، ويسلم بهم ، فتكون له أربعاً ، ولهم ركعتين ركعتين . وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين ، ويسلم بهم ، وتأتي الأخرى ، فيصلي بهم ركعتين ، ويسلم فيكون قد صلى بهم بكل طائفة صلاة .
وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ، فتذهب ولا تقضي شيئاً ، وتجيئ الأخرى ، فيصلي بهم ركعة ، ولا تقضي شيئاً ، فيكون له ركعتان ، ولهم ركعة ركعة ، وهذه الأوجه كلها تجوز الصلاة بها .
قال الإمام أحمد : كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف ، فالعمل به جائز .
وقال : ستة أوجه أو سبعة ، تروى فيها ، كلها جائزة ، وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : تقول بالأحاديث كلها ، كل حديث في موضعه ، أو تختاز واحداً منها ؟ قال : أنا أقول : من ذهب إليها كلها ، فحسن . وظاهر هذا ، أنه جوز أن تصلي كل طائفة معه ركعة ركعة ، ولا تقضي شيئاً ، وهذا مذهب ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وطاووس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والحكم ، وإسحاق بن راهويه . قال صاحب المغني : وعموم كلام أحمد يقتضي جواز ذلك ، وأصحابنا ينكرونه .
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف صفات أخر ، ترجع كلها إلى هذه وهذه أصولها ، وربما اختلف بعض ألفاظها ، وقد ذكرها بعضهم عشر صفات ، وذكرها أبو محمد بن حزم نحو خمس عشرة صفة ، والصحيح : ما ذكرناه أولاً ، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة ، جعلوا ذلك وجوهاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من اختلاف الرواة . والله أعلم .
بعونه تعالى وتوفيقه تم الجزء الأول من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الثاني وأوله فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والزكاة
kiss 1987
04-29-2006, 09:50 AM
وااااااااااااااااااااااااااو
معلومااااااااااااااااااااااات
ماااااااااااااااااااااااااااااا
تتفوتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتتت
اسير الصحراء
04-30-2006, 12:55 AM
"
"
"
"
"
((( زاد المعاد الجزء الثاني )))
"
"
"
"
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:00 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والزكاة هديه في الزكاة ، أكمل هدي في وقتها، وقدرها، ونصابها، ومن تجب عليه ، ومصرفها . وقد راعى فيها مصلحة أرباب الأموال ، ومصلحة المساكين ، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه ، وقيد النعمة بها على الأغنياء، فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاته ، بل يحفظه عليه وينميه له ، ويدفع عنه بها الآفات ، ويجعلها سوراً عليه ، وحصناً له ، وحارساً له .
ثم إنه جعلها في أربعة أصناف من المال : وهي أكثر الأموال دوراناً بين الخلق ، وحاجتهم إليها ضرورية .
أحدها : الزرع ، والثمار .
الثاني : بهيمة الأنعام : الإبل ، والبقر، والغنم .
الثالث : الجوهران اللذان بهما قوام العالم ، وهما الذهب والفضة .
الرابع : أموال التجارة على اختلاف أنواعها .
ثم إنه أوجبها مرة كل عام ، وجعل حول الزروع والثمار عند كمالها واستوائها ، وهذا أعدل ما يكون ، إذ وجوبها كل شهر أو كل جمعة يضر بأرباب الأموال ، ووجوبها في العمر مرة مما يضر بالمساكين ، فلم يكن أعدل من وجوبها كل عام مرة .
ثم إنه فاوت بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها ، وسهولة ذلك ، ومشقته ، فأوجب الخمس فيما صادفه الإنسان مجموعاً محصلاً من الأموال ، وهو الركاز . ولم يعتبر له حولاً ، بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به .
وأوجب نصفه وهو العشر فيما كانت مشقة تحصيله وتعبه وكلفته فوق ذلك ، وذلك في الثمار والزروع التي يباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها ، ويتولى الله سقيها من عنده بلا كلفة من العبد، ولا شراء ماء ، ولا إثارة بئر ودولاب .
وأوجب نصف العشر، فيهما تولى العبد سقيه بالكلفة ، والدوالي والنواضح ، وغيرها .
وأوجب نصف ذلك ، وهو ربع العشر، فيما كان النماء فيه موقوفاً على عمل متصل من رب المال ، بالضرب في الأرض تارة ، وبالإدارة تارة ، أخرى ولا ريب أن تكلفة هذا أعظم من كلفة الزرع والثمار، وأيضاً فإن نمو الزرع والثمار أظهر وأكثر من نمو التجارة ، فكان واجبها أكثر من واجب التجارة ، وظهور النمو فيما يسقى بالسماء والأنهار، أكثر مما يسقى بالدوالي والنواضح ، وظهوره فيما وجد محصلاً مجموعاً ، كالكنز، أكثر وأظهر من الجميع . ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساة كل مال وإن قل ، جعل للمال الذي تحتمله المواساة نصباً مقدرة المواساة فيها ، لا تجحف بأرباب الأموال ، وتقع موقعها من المساكين ، فجعل للورق مائتي درهم ، وللذهب عشرين مثقالاً ، وللحبوب والثمار خمسة أوسق ، وهي خمسة أحمال من أحمال إبل العرب ، وللغنم أربعين شاة، وللبقر ثلاثين بقرة ، وللإبل خمساً ، لكن لما كان نصابها لا يحتمل المواساة من جنسها ، أوجب فيها شاة . فإذا تكررت الخمس خمس مرات وصارت خمساً وعشرين ، احتمل نصابها واحداً منها ، فكان هو الواجب .
ثم إنه لما قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان ، بحسب كثرة الإبل وقلتها من ابن مخاض ، وبنت مخاض ، وفوقه ابن لبون ، وبنت لبون ، وفوقه الحق والحقة ، وفوقه الجذع والجذعة ، وكلما كثرت الإبل ، زاد السن إلى أن يصل السن إلى منتهاه ، فحينئذ جعل زيادة عدد الواجب في مقابلة زيادة عدد المال .
فاقتضت حكمته أن جعل في الأموال قدراً يحتمل المواساة ، ولا يجحف بها ، ويكفي المساكين ، ولا يحتاجون معه إلى شيء ، ففرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء ، فوقع الظلم من الطائفتين ، الغني يمنع ما وجب عليه ، والآخذ يأخذ ما لا يستحقه ، فتولد من بين الطائفتين ضرر عظيم على المساكين وفاقة شديدة ، أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف في المسألة، والرب سبحانه تولى قسم الصدقة ، وجزأها ثمانية أجزاء ، يجمعها صنفان من الناس ، أحدهما : من يأخذ لحاجة ، فيأخذ بحسب شدة الحاجة ، وضعفها ، وكثرتها ، وقلتها وهم الفقراء والمساكين ، وفي الرقاب ، وابن السبيل . والثاني : من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، والغارمون لإصلاح ذات البين ، والغزاة في سبيل الله ، فإن لم يكن الآخذ محتاجاً، ولا فيه منفعة للمسلمين ، فلا سهم له في الزكاة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:01 AM
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة ، أعطاه ، وإن سأله أحد من أهل الزكاة ولم يعرف حاله ، أعطاه بعد أن يخبره أنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب . وكان يأخذها من أهلها ، ويضعها في حقها .
وكان من هديه ، تفريق الزكاة على المستحقين الذين في بلد المال ، وما فضل عنهم منها حملت إليه ، ففرقها هو صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كان يبعث سعاته إلى البوادي ، ولم يكن يبعثهم إلى القرى ، بل أمر معاذ بن جبل أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ، ويعطيها فقراءهم ، ولم يأمره بحملها إليه .
ولم يكن من هديه أن يبعث سعاته إلا إلى أهل الأموال الظاهرة من المواشي والزرع والثمار، وكان يبعث الخارص فيخرص على أرباب النخيل تمر نخيلهم ، وينظر كم يجيء منه وسقاً ، فيحسب عليهم من الزكاة بقدره ، وكان يأمر الخارص أن يدع لهم الثلث أو الربع ، فلا يخرصه عليهم لما يعرو النخيل من النوائب ، وكان هذا الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتصرم ، وليتصرف فيها أربابها بما شاؤوا، ويضمنوا قدر الزكاة، ولذلك كان يبعث الخارص إلى من ساقاه من أهل خيبر وزارعه ، فيخرص عليهم الثمار والزروع ، ويضمنهم شطرها ، وكان يبعث إليهم عبد الله بن رواحة ، فأرادوا أن يرشوه ، فقال عبد الله : تطعموني السحت ؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ، ولأنتم أبغض ، إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي لك وحبي إياه ، أن لا أعدل عليكم ، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض .
ولم يكن من هديه أخذ الزكاة من الخيل ، والرقيق ، ولا البغال ، ولا الحمير ، ولا الخضراوات ولا المباطخ والمقاتي والفواكه التي لا تكال ولا تدخر إلا العنب والرطب فإنه كان يأخذ الزكاة منه جملة ولم يفرق بين ما يبس منه وما لم ييبس .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:01 AM
فصل في زكاة العسل و ماورد فيه
فصل
واختلف عنه صلى الله عليه وسلم في العسل ، فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له ، وكان سأله أن يحمي وادياً يقال له : سلبة ، "فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي" ، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كتب إليه سفيان بن وهب يسألنى عن ذلك ، فكتب عمر : إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله ، فاحم له سلبة ، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء .
وفي رواية في هذا الحديث "من كل عشر قرب قربة" .
وروى ابن ماجه في سننه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أنه أخذ من العسل العشر. وفي مسند الإمام أحمد ، عن أبي سيارة المتعي ، قال : قلت: يا رسول الله إن لي نحلاً. قال : " أد العشر" قلت : يا رسول الله إحمها لي ، فحماها لي .
وروى عبد الرزاق ، عن عبد الله بن محرر عن الزهري ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن ، "أن يؤخذ من العسل العشر".
قال الشافعي : أخبرنا أنس بن عياض ، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب ، عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب ، قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلمت ثم قلت : يا رسول الله اجعل لقومي من أموالهم ما أسلموا عليه ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعملني عليهم ، ثم استعملنى أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما . قال : وكان سعد من أهل السراة، قال : فكلمت قومي في العسل ، لهم : فيه زكاة ، فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى . فقالوا: كم ترى؟ قلت : فأخذت منهم العشر، فلقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخبرته بما كان . قال : فقبضه عمر، ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين . ورواه الإمام أحمد ، ولفظه للشافعي . واختلف أهل العلم في هذه الأحاديث وحكمها، فقال البخاري : ليس في زكاة العسل شيء يصح ، وقال الترمذي : لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير شيء . وقال ابن المنذر: ليس في وجوب صدقة العسل حديث يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماع ، فلا زكاة فيه ، وقال الشافعي : الحديث في أن في العسل العشر ضعيف ، وفي أنه لا يؤخذ منه العشر ضعيف إلا عن عمر بن عبد العزيز .
قال هؤلاء : وأحاديث الوجوب كلها معلولة، أما حديث ابن عمر، فهو من رواية صدقة بن عبد الله بن موسى بن يسار، عن نافع عنه ، وصدقة ، ضعفه الإمام أحمد، ويحيى بن معين ، وغيرهما، وقال البخاري : هو عن نافع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل ، وقال النسائي : صدقة ليس بشيء ، وهذا حديث منكر .
وأما حديث أبي سيارة المتعي ، فهو من رواية سليمان بن موسى عنه ، قال البخاري : سليمان بن موسى لم يدرك أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما حديث عمرو بن شعيب الآخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من العسل العشر، ففيه أسامة بن زيد بن أسلم يرويه عن عمرو، وهو ضعيف عندهم ، قال ابن معين : بنو زيد ثلاثتهم ليسوا بشيء ، وقال الترمذي : ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة . وأما حديث الزهري ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة : فما أظهر دلالته لو سلم من عبد الله بن محرر راويه عن الزهري ، قال البخاري في حديثه هذا: عبد الله بن محرر متروك الحديث ، وليس في زكاة العسل شيء يصح . وأما حديث الشافعي رحمه الله : فقال البيهقي : رواه الصلت بن محمد، عن أنس بن عياض ، عن الحارث بن عبد الرحمن (وهو ابن أبي ذباب )، عن منير بن عبد الله ، عن أبيه ، عن سعد بن أبي ذباب ، وكذلك رواه صفوان بن عيسى، عن الحارث بن أبي ذباب . قال البخاري : عبد الله والد منير، عن سعد بن أبي ذباب ، لم يصح حديثه ، وقال علي بن المديني : منير هذا لا نعرفه إلا في هذا الحديث ، كذا قال لي . قال الشافعي : وسعد بن أبي ذباب ، يحكي ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأخذ الصدقة من العسل ، وإنما هو شيء رآه فتطوع له بأهله . قال الشافعي : واختياري أن لا يؤخذ منه ، لأن السنن والآثار ثابتة فيما يؤخذ منه ، وليست ثابتة فيه فكأنه عفو.
وقد روى يحيى بن آدم ، حدثنا حسين بن زيد، عن جعفر بن محمد أبيه ، عن علي رضي الله عنه قال : ليس في العسل زكاة .
قال يحيى: وسئل حسن بن صالح عن العسل ؟ فلم يرفيه شيئاً.
وذكر عن معاذ أنه لم يأخذ من العسل شيئاً . قال الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس ، عن معاذ بن جبل ، أنه أتى بوقص البقر والعسل ، فقال معاذ : كلاهما لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء .
وقال الشافعي : أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر، قال : جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أبي وهو بمنى، أن لا يأخذ من الخيل ولا من العسل صدقة . وإلى هذا ذهب مالك ، والشافعي .
وذهب أحمد وأبو حنيفة، وجماعة، إلى أن في العسل زكاة، ورأو أن هذه الآثار يقوي بعضها بعضاً، وقد تعددت مخارجها، واختلفت طرقها ، ومرسلها يعضد بمسندها . وقد سئل أبو حاتم الرازي ، عن عبد الله والد منير سعد بن أبي ذباب ، يصح حديثه ؟ قال : نعم . قال هؤلاء: ولأنه يتولد من نور الشجر والزهر، ويكال ويدخر، فوجبت فيه الزكاة كالحبوب والثمار . قالوا : والكلفة في أخذه دون الكلفة في الزرع والثمار ، ثم قال أبو حنيفة : إنما يجب فيه العشر إذا أخذ من أرض العشر، فإن أخذ من أرض الخراج ، لم يجب فيه شيء عنده ، لأن أرض الخراج قد وجب على مالكها الخراج لأجل ثمارها وزرعها ، فلم يجب فيها حق آخر لأجلها وأرض العشر لم يجب في ذمته حق عنها، فلذلك وجب الحق فيما يكون منها .
وسوى الإمام أحمد بين الأرضين في ذلك ، وأوجبه فيما أخذ من ملكه أو موات ، عشرية كانت الأرض أو خراجية . ثم اختلف الموجبون له : هل له نصاب أم لا ؟ على قولين . أحدهما: أنه يجب في قليله وكثيره ، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ، والثاني : أن له نصاباً معيناً ، ثم اختلف في قدره ، فقال أبو يوسف : هو عشرة أرطال .
وقال محمد بن الحسن : هو خمسة أفراق ، والفرق ستة وثلاثون رطلاً بالعراقي . وقال أحمد : نصابه عشرة أفراق ، ثم اختلف أصحابه في الفرق ، على ثلاثة أقوال . أحدها : إنه ستون رطلاً ، والثاني : إنه ستة وثلاثون رطلاً .
والثالث : ستة عشر رطلاً ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:02 AM
فصل فيما كان يدعو به لمن جاءه بالزكاة
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرجل بالزكاة، دعا له . فتارة يقول : "اللهم بارك فيه وفي إبله ". وتارة يقول : "اللهم صل عليه ". ولم يكن من هديه أخذ كرائم الأموال في الزكاة ، بل وسط المال ، ولهذا "نهى معاذاً عن ذلك" .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:02 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر
فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلم ، وعلى من يمونه من صغير وكبير، ذكر وأنثى ، حر وعبد ، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من أقط ، أو صاعاً من زبيب .
وروي عنه : أو صاعاً من دقيق ، وروي عنه : نصف صاع من بر.
والمعروف : أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بر مكان الصاع من هذه الأشياء ، ذكره أبو داود .
وفي الصحيحين أن معاوية هو الذي قوم ذلك وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ، ومسندة ، يقوي بعضها بعضاً . فمنها: حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صاع من بر أو قمح على كل اثنين " رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وقال عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فتح مكة، "ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ، ذكر أو أنثى، حر أو عبد ، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه صاعاً من طعام ". قال الترمذي : حديث حسن غريب .
وروى الدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمرو بن حزم في زكاة الفطر بنصف صاع من حنطة .
وفيه سليمان بن موسى، وثقه بعضهم وتكلم فيه بعضهم .
قال الحسن البصري : خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال : "أخرجوا صدقة صومكم ، فكأن الناس لم يعلموا . فقال : من ها هنا من أهل المدينة ؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعلمون ، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعاً من تمر، أو شعير، أو نصف صاع من قمح على كل حر ، أو مملوك ، ذكر أو أنثى ، صغير أو كبير ، فلما قدم علي رضي الله عنه رأى رخص السعر قال : قد أوسع الله عليكم ، فلو جعلتموه صاعاً من كل شيىء ". رواه أبو داود وهذا لفظه ، والنسائي وعنده : فقال علي : أما إذ أوسع الله عليكم فأوسعوا، إجعلوها صاعاً من بر وغيره . وكان شيخنا رحمه الله : يقوي هذا المذهب ويقول : هو قياس قول أحمد في الكفارات ، أن الواجب فيها من البر نصف الواجب من غيره .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:03 AM
فصل في بيان اخراج هذه الصدقة
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إخراج هذه الصدقة قبل صلاة العيد ، وفي السنن عنه أنه قال : "من أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ".
وفي الصحيحين ، عن ابن عمر، قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة . ومقتضى هذين الحديثين ، أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وأنها تفوت ، بالفراغ من الصلاة، وهذا هو الصواب ، فإنه لا معارض لهذين الحديثين ولا ناسخ ، ولا إجماع يدفع القول بهما ، وكان شيخنا يقوي ذلك وينصره ، ونظيره ترتيب الأضحية على صلاة الإمام ، لا على وقتها ، وأن من ذبح قبل صلاة الإمام ، لم تكن ذبيحته أضحية بل شاة لحم . وهذا أيضاً هو الصواب في المسألة الأخرى، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضعين .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:04 AM
فصل في تخصيص المسكين بصدقة الفطر
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، تخصيص المساكين بهذه الصدقة ، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة، ولا أمر بذلك ، ولا فعله أحد من أصحابه ، ولا من بعدهم ، بل أحد القولين عندنا : إنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة ، وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية.
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:05 AM
فصل في هديه في صدقة التطوع
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع
كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده ، وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى ، ولا يستقله ، وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه ، قليلاً كان أو كثيراً ، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه ، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه ، وكان أجود الناس بالخير ، يمينه كالريح المرسلة .
وكان إذا عرض له محتاج ، آثره على نفسه ، تارة بطعامه ، وتارة بلباسه . وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته ، فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة، وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعاً ، كما فعل ببعير جابر. وتارة كان يقترض الشيء ، فيرد أكثر منه ، وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء ، فيعطي أكثر من ثمنه ، ويقبل الهدية ويكافىء عليها بأكثر منها أو بأضعافها، تلطفاً وتنوعاً في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن ، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه، وبحاله ، وبقوله ، فيخرح ما عنده ، ويأمر بالصدقة ويحض عليها ، ويدعو إليها بحاله وقوله ، فإذا رآه البخيل الشحيح ، دعاه حاله إلى البذل والعطاء ، وكان من خالطه وصحبه ، ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى .
وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والصروف ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدراً، وأطيبهم نفساً ، وأنعمهم قلباً ، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدر، وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالنبوة والرسالة ، وخصائصها وتوابعها ، وشرح صدره حساً وإخراج حظ الشيطان منه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:05 AM
فصل في أسباب شرح الصدور وحصولها على الكمال له صلى الله عليه وسلم
فأعظم أسباب شرح الصدر : التوحيد وعلى حسب كماله ، وقوته ، وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه . قال الله تعالى : " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " [ الزمر: 22 ] . وقال تعالى : " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء " [الأنعام : 25 ].
فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه ، ومنها : النور الذي يقذفه الله في قلب العبد ، وهو نور الإيمان ، فإنه يشرح الصدر ويوسعه ، ويفرح القلب . فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ، ضاق وحرج ، وصار في أضيق سجن وأصعبه .
وقد روى الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "إذا دخل النور القلب ، انفسح وانشرح . قالوا : وما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله ". فيصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، وكذلك النور الحسي ، والظلمة الحسية ، هذه تشرح الصدر ، وهذه تضيقه .
ومنها : العلم ، فإنه يشرح الصدر، ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس ، فكلما اتسع علم العبد ، انشرح صدره واتسع ، وليس هذا لكل عالم ، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع ، فأهله أشرح الناس صدراً ، وأوسعهم قلوباً ، وأحسنهم أخلاقاً ، وأطيبهم عيشاً.
ومنها : الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ، ومحبته بكل القلب ، والإقبال عليه ، والتنعم بعبادته ، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك . حتى إنه ليقول أحياناً : إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة، فإني إذاً في عيش طيب ، وللمحبة تأثير عجيب في إنشراح الصدر، وطيب النفس ، ونعيم القلب ، لا يعرفه إلا من له حس به ، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح ، ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن ، فرؤيتهم قذى عينه ، ومخالطتهم حمى روحه .
ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى، وتعلق القلب بغيره ، والغفلة عن ذكره ، ومحبة سواه ، فإن من أحب شيئا غير الله ، عذب به ، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه ، ولا أكسف بالاً ، ولا أنكد عيشاً ، ولا أتعب قلباً ، فهما محبتان ، محبة هي جنة الدنيا ، وسرور النفس ولذة القلب ، ونعيم الروح ، وغذاؤها ، ودواوها ، بل حياتها وقرة عينها ، وهي محبة الله وحده بكل القلب ، وانجذاب قوى الميل ، والإرادة ، والمحبة كلها إليه .
ومحبة هي عذاب الروح ، وغم النفس ، وسجن القلب ، وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكد والعناء وهي محبة ما سواه سبحانه .
ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكره على كل حال ، وفي كل موطن، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب ، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه .
ومنها : الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال ، والجاه ، والنفع بالبدن ، وأنواع الإحسان ، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً ، وأنعمهم قلباً ، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً ، وأنكدهم عيشاً ، وأعظمهم هماً وغماً . "وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح مثلاً للبخيل والمتصدق ، كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد ، كلما هم المتصدق بصدقة ، اتسعت عليه وانبسطت ، حتى يجر ثيابه ويعفي أثره ، وكلما هم البخيل بالصدقة، لزمت كل حلقة مكانها، ولم تتسع عليه ". فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق ، وانفساح قلبه ، ومثل ضيق صدر البخيل وانحصار قلبه .
ومنها الشجاعة ، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان ، متسع القلب ، والجبان : أضيق الناس صدراً، وأحصرهم قلباً ، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له ، ولا نعيم إلا من جنس ما للحيوان البهيمي ، وأما سرور الروح ، ولذتها ونعيمها ، وابتهاجها، فمحرم على كل جبان ، كما هو محرم على كل بخيل ، وعلى كل معرض عن الله سبحانه ، غافل عن ذكره ، جاهل به وبأسمائه تعالى وصفاته ، ودينه ، متعلق القلب بغيره . وإن هذا النعيم والسرور، يصير في القبر رياضاً وجنة، وذلك الضيق والحصر، ينقلب في القبر عذاباً وسجناً . فحال العبد في القبر، كحال القلب في الصدر، نعيماً وعذاباً وسجناً وانطلاقاً ، ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارض ، ولا بضيق صدر هذا لعارض ، فإن العوارض تزول بزوال أسبابها، وإنما المعول على الصفة التي قامت بالقلب توجب انشراحه وحبسه ، فهي الميزان والله المستعان .
ومنها بل من أعظمها: إخراح دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه ، وتحول بينه وبين حصول البرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره ، ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه ، لم يحظ من انشراح صدره بطائل ، وغايته أن يكون له مادتان تعتوران على قلبه ، وهو للمادة الغالبة عليه منهما .
ومنها : ترك فضول النظر ، والكلام ، والاستماع ، والمخالطة ، والأكل ، والنوم ، فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً ، وهموماً في القلب ، تحصره وتحبسه ، وتضيقه ، ويتعذب بها ، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها ، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم ، وما أنكد عيشه وما أسوأ حاله ، وما أشد حصر قلبه ، ولا إله إلا الله ، ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم ، وكانت همته دائرة عليها ، حائمة حولها، فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى: " إن الأبرار لفي نعيم " [ الإنفطار 13 ] ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: " إن الفجار لفي جحيم " [الانفطار : 14 ] ، وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى.
والمقصودة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر ، واتساع القلب ، وقرة العين ، وحياة الروح ، فهو أكمل الخلق في هذا الشرح والحياة ، وقرة العين مع ما خص به من الشرح الحسي ، وأكمل متابعة له ، أكملهم انشراحاً ولذة وقرة عين ، وعلى حسب متابعته ينال العبد انشراح صدره ، وقرة عينه ، ولذة روحه ما ينال ، فهو صلى الله عليه وسلم في ذروة الكمال من شرح الصدر ، ورفع الذكر ، ووضع الوزر ، ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتباعه ، والله المستعان .
وهكذا لأتباعه نصيب من حفظ الله لهم ، وعصمته إياهم ، ودفاعه عنهم ، وإعزازه لهم ، ونصره لهم ، بحسب نصيبهم من المتابعة ، فمستقل ، ومستكثر . فمن وجد خيراً ، فليحمــد الله . ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:06 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام
لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات ، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية ، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين . وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والضراب وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه ، وتلجم بلجامه ، فهو لجام المتقين ، وجنة المحاربين ، ورياضة الأبرار والمقربين ، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ، فإن الصائم لا يفعل شيئاً. وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده ، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته ، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه ، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة ، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده ، فهو أمر لايطلع عليه بشر ، وذلك حقيقة الصوم . وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات ، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " [ البقرة : 158 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الصوم جنة" . وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ، ولا قدرة له عليه بالصيام ، وجعله وجاء هذه الشهوة .
والمقصود : أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، شرعه الله لعباده رحمة بهم ، وإحسانا إليهم ، وحمية لهم وجنة .
وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي ، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس . ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة ، وألفت أوامر القرآن ، فنقلت إليه بالتدريج .
وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم صام تسع رمضانات ، وفرض أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكيناً ، ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم ، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام ، فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً ، ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا ويقضيا ، وللحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك ، فإن خافتا على ولديهما، زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم ، فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض ، وإنما كان مع الصحة ، فجبر بإطعام المسكين كفطر الصحيح في أول الإسلام .
وكان للصوم رتب ثلاث ، أحداها : إيجابه بوصف التخيير .
والثانية : تحتمه ، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه
الطعام والشراب إلى الليلة القابلة ، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة ، وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:07 AM
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ، الإكثار من العبادات فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن في رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ، وكان أجود الناس ، وأجود ما يكون في رمضان ، يكثر فيه من الصدقة والإحسان ، وتلاوة القرآن والصلاة ، والذكر ، والإعتكاف .
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة ، وكان ينهى أصحابه عن الوصال ، فيقولون له : إنك تواصل ، فيقول: "لست كهيئتكم إني أبيت - وفي رواية : إني أظل -عند ربي يطعمي ويسقيني ".
وقد اختلف الناس في هذا الطعام والشراب المذكورين على قولين .
أحدهما : أنه طعام وشراب حسي للفم ، قالوا : وهذه حقيقة اللفظ ، ولا موجب للعدول عنها .
الثاني : أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه ، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته ، وقرة عينه بقربه ، وتنعمه بحبه ، والشوق إليه ، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ، ونعيم الأرواح ، وقرة العين ، وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه ، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان، كما قيل :
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عـن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نورتستضيء بـــه ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السيرأوعدها روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق ، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه محبوبه ، وتنعم بقربه ، والرضى عنه ، وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ، ومحبوبه حفي به ، معتن بأمره ، مكرم له غاية مع الإكرام مع المحبة التامة له ، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ، ولا أعظم ولا أجمل ، ولا أكمل ، ولا أعظم إحساناً إذا امتلأ قلب المحب بحبه ، وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه ، وتمكن حبه منه أعظم تمكن ، وهذا حاله مع حبيبه ، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً ؟ ولهذا قال : " إني أظل عند ربي يطعمنى ويسقيني " . ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم ، لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً ، وأيضاً فلو كان ذلك في الليل ، لم يكن مواصلاً ، ولقال لأصحابه إذا قالوا له : إنك تواصل : لست أواصل . ولم يقل : لست كهيئتكم ، بل أقرهم على نسبة الوصال إليه ، وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك ، بما بينه من الفارق ، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان ، فواصل الناس فنهاهم ، فقيل له : أنت تواصل . فقال : "إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى" .
وسياق البخاري لهذا الحديث : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، فقالوا : إنك تواصل . قال : " إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى " وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال . فقال رجل من المسلمين : إنك يا رسول الله تواصل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأيكم مثلي ، إني أبيت يطعمني ويسقيني" .
وأيضاً: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الوصال ، فأبوا أن ينتهوا ، واصل بهم يوماً ، ثم يوماً ، ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر الهلال ، لزدتكم " . كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا عن الوصال .
وفي لفظ آخر "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم إني لست مثلكم " أو قال : "إنكم لستم مثلي ، فإني أظل يطعمني ربي ويسقيني " فأخبر أنه يطعم ويسقى، مع كونه مواصلاً ، وقد فعل فعلهم منكلاً بهم ، معجزاً لهم فلو كان يأكل ويشرب ، لما كان ذلك تنكيلاً، ولا تعجيزاً ، بل ولا وصالاً ، وهذا بحمد الله واضح .
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة للأمة ، وأذن فيه إلى السحر، وفي صحيح البخاري ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" .
فإن قيل : فما حكم هذه المسألة، وهل الوصال جائز أو محرم أو مكروه ؟ قيل: اختلف الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه جائز إن قدر عليه ، وهو مروي عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ، وكان ابن الزبير يواصل الأيام ، ومن حجة أرباب هذا القول ، أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بالصحابة مع نهيه لهم عن الوصال ، كما في الصحيحين ، من
حديث أبي هريرة، "أنه نهى عن الوصال وقال : إني لست كهيئتكم فلما أبوا أن ينتهوا، واصل بهم يوماً ، ثم يوماً "فهذا وصاله بهم بعد نهيه عن الوصال ، ولو كان النهي للتحريم ، لما أبوا أن ينتهوا ، ولما أقرهم عليه بعد ذلك . قالوا : فلما فعلوه بعد نهيه وهو يعلم ويقرهم ، علم أنه أراد الرحمة بهم ، والتخفيف عنهم ، وقد قالت عائشة : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم" . متفق عليه . وقالت طائفة أخرى: لا يجوز الوصال ، منهم : مالك ، وأبوحنيفة ، والشافعي ، والثوري ، رحمهم الله ، قال ابن عبد البر : وقد حكاه عنهم : إنهم لم يجيزوه لأحد، قلت : الشافعي رحمه الله ، نص على كراهته ، واختلف أصحابه هل هي كراهة تحريم أو تنزيه ؟ على وجهين ، واحتج المحرمون بنهي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والنهي يقتضي التحريم . قالوا: وقول عائشة : رحمة لهم لا يمنع أن يكون للتحريم ، بل يؤكده ، فإن من رحمته بهم أن حرمه عليهم ، بل سائر مناهيه للأمة رحمة وحمية وصيانة . قالوا : وأما مواصلته بهم بعد نهيه ، فلم يكن تقريراً لهم ، كيف وقد نهاهم ، ولكن تقريعاً وتنكيلاً ، فاحتمل منهم الوصال بعد نهيه لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم ، وبيان الحكمة في نهيهم عنه بظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها، فإذا ظهرت لهم مفسدة الوصال ، وظهرت حكمة النهي عنه ، كان ذلك أدعى إلى قبولهم ، وتركهم له ، فإنهم إذا ظهر لهم ما في الوصال ، وأحسوا منه الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم وأرجح من من وظائف الدين من القوة في أمر الله ، والخشوع في فرائضه ، والإتيان بحقوقها الظاهرة ، والباطنة ، والجوع الشديد ، ينافي ذلك ، ويحول بين العبد وبينه ، تبين لهم حكمة النهي عن الوصال والمفسدة التي فيه لهم دونه صلى الله عليه وسلم . قالوا : وليس إقراره لهم على الوصال لهذه المصلحة الراجحة بأعظم من إقرار الأعرابي على البول في المسجد لمصلحة التأليف ، ولئلا ينفر عن الإسلام ، ولا بأعظم من إقراره المسيء في صلاته على الصلاة التي أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنها ليست بصلاة، وأن فاعلها غير مصل ، بل هي صلاة باطلة في دينه فأقره عليها لمصلحة تعليمه وقبوله بعد الفراغ ، فإنه أبلغ في التعليم والتعلم ، قالوا : وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتبوه " .
قالوا : وقد ذكر في الحديث ما يدل على أن الوصال من خصائصه . فقال : "إني لست كهيئتكم " ولو كان مباحاً لهم ، لم يكن من خصائصه . قالوا: وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .
وفي الصحيحين نحوه من حديث عبد الله بن أبي أوفى . قالوا: فجعله حكماً بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر، وذلك يحيل الوصال شرعاً.
قالوا : وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا تزال أمتي على الفطرة ، أو لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر " . وفي السنن عن أبي هريرة عنه ، "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر ، إن اليهود والنصارى يؤخرون " .
وفي السنن عنه ، قال : قال الله عز وجل : "أحب عبادي إلي أعجلكم فطراً" . وهذا يقتضي كراهة تأخير الفطر، فكيف تركه ، وإذا كان مكروهاً ، لم يكن عبادة ، فإن أقل درجات العبادة أن تكون مستحبة .
والقول الثالث وهو أعدل الأقوال : أن الوصال يجوز من سحر إلى سحر ، وهذا هو المحفوظ عن أحمد، وإسحاق ، لحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" رواه البخاري . وهو أعدل الوصال وأسهله على الصائم ، وهو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخر، فالصائم له في اليوم والليلة أكلة ، فإذا أكلها في السحر ، كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:07 AM
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة ، أو بشهادة شاهد واحد ، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام مرة بشهادة أعرابي ، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة . فإن كان ذلك إخباراً ، فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة ، فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة . فإن لم تكن رؤية ، ولا شهادة ، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً .
وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب ، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ، ثم صامه . ولم يكن يصوم يوم الإغمام ، ولا أمر به ، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم ، وكان يفعل كذلك ، فهذا فعله ، وهذا أمره ، ولا يناقض هذا قوله : "فإن غم عليكم فاقدروا له "، فإن القدر: هو الحساب المقدر، والمراد به الإكمال كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري " فأكملوا عدة شعبان " . وقال : "لا تصوموا حتى تروه ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " . والذي أمر بإكمال عدته ، هو الشهر الذي يغم ، وهو عند صيامه وعند الفطر منه ، وأصرح من هذا قوله : "الشهر تسعة وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة" . وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه وإلى آخره بمعناه ، فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه ، واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى . وقال : "الشهر ثلاثون والشهر تسعة وعشرون ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ".
وقال : "لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غمامة فأكملوا ثلاثين " .
وقال : "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة " .
وقالت عائشة رضي الله عنها ، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ، ثم يصوم لرؤيته ، فإن غم عليه ، عد شعبان ثلاثين يوماً ثم صام" . صححه الدارقطني وابن حبان . وقال : "صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ، فاقدروا ثلاثين " .
وقال : " لا تصوموا حتى تروه ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن أغمي عليكم ، فاقدروا له " .
وقال : "لا تقدموا رمضان " . وفي لفظ : "لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم ، أو يومين ، إلا رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه " .
والدليل على أن يوم الإغمام داخل في هذا النهي ، حديث ابن عباس يرفعه : "لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن حالت دونه غمامة ، فأكملوا ثلاثين " ذكره ابن حبان في صحيحه . فهذا صريح في أن صوم يوم الإغمام من غير رؤية ، ولا إكمال ثلاثين صوم قبل رمضان . وقال : "لا تقدموا الشهر إلا أن تروا الهلال ، أو تكملوا العدة ، ولا تفطروا حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة ".
وقال : "صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرويته ، فإن حال بينكم وبينه سحاب: فأكملوا العدة ثلاثين ، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح . وفي النسائي : من حديث يونس ، عن سماك ، عن عكرمة، عن ابن عباس يرفعه : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ، فعدوا ثلاثين يوماً ، ثم صوموا ، ولا تصوموا قبله يوماً ، فإن حال بينكم وبينه سحاب ، فأكملوا العدة عدة شعبان ".
وقال سماك : "عن عكرمة: عن ابن عباس : تمارى الناس في رؤية هلال رمضان ، فقال بعضهم : اليوم . وقال بعضهم : غداً . فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتشهد أن لا اله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً ، فنادى في الناس صوموا ، ثم قال : صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً، ثم صوموا ، ولا تصوموا قبله يوماً ".
وكل هذه الأحاديث صحيحة، فبعضها في الصحيحين وبعضها في صحيح ابن حبان ، والحاكم ، وغيرهما ، وإن كان قد أعل بعضها بما لا يقدح في صحة الاستدلال بمجموعها، وتفسير بعضها ببعض ، واعتبار بعضها ببعض ، وكلها يصدق بعضها بعضاً، والمراد منها متفق عليه . فإن قيل : فإذا كان هذا هديه صلى الله عليه وسلم ، فكيف خالفه عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وأبو هريرة ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، والحكم بن أيوب الغفاري ، وعائشة وأسماء ابنتا أبي بكر، وخالفه سالم بن عبد الله ، ومجاهد ، وطاووس ، وأبو عثمان النهدي ، ومطرف بن الشخير، وميمون بن مهران ، وبكر بن عبد الله المزني ، وكيف خالفه إمام أهل الحديث والسنة، أحمد بن حنبل ، ونحن نوجدكم أقوال هؤلاء مسندة ؟ فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال الوليد بن مسلم : أخبرنا ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، أن عمر بن الخطاب كان يصوم إذا كانت السماء في تلك الليلة مغيمة ويقول : ليس هذا بالتقدم ولكنه التحري .
وأما الرواية عن علي رضي الله عنه ، فقال الشافعي : أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن أمه فاطمة بنت حسين ، أن علي بن أبي طالب قال : لأن أصوم يوماً من شعبان ، أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان .
وأما الرواية عن ابن عمر، ففي كتاب عبد الرزاق : أخبرنا معمر، عن أيوب ، عن ابن عمر قال : كان إذا كان سحاب أصبح صائماً ، وإن لم يكن سحاب ، أصبح مفطراً .
وفي الصحيحين عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتموه ، فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا، وإن غم عليكم فاقدروا له ". زاد الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح ، عن نافع قال : كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوماً ، يبعث من ينظر، فإن رأى ، فذاك ، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر، أصبح مفطراً ، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً .
وأما الرواية عن أنس رضي الله عنه : فقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ابراهيم ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : رأيت الهلال إما الظهر، وإما قريباً منه ، فأفطر ناس من الناس ، فأتينا أنس بن مالك ، فأخبرناه برؤية الهلال وبإفطار من أفطر، فقال : هذا اليوم يكمل لي أحد وثلاثون يوماً ، وذلك لأن الحكم بن أيوب ، أرسل إلي قبل صيام الناس : إني صائم غداً، فكرهت الخلاف عليه ، فصمت وأنا متم يومي هذا إلى الليل .
وأما الروايه عن معاوية، فقال أحمد: حدثنا المغيرة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، قال : حدثني مكحول ويونس بن ميسرة بن حلبس ، أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول : لأن أصوم يوماً من شعبان ، أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان .
وأما الرواية عن عمرو بن العاص . فقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن عمرو بن العاص ، أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان .
وأما الرواية عن أبي هريرة، فقال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي مريم مولى أبي هريرة قال : سمعت أبا هريرة يقول : لأن أتعجل في صوم رمضان بيوم ، أحب إلي من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني ، وإذا تأخرت فاتني .
وأما الرواية عن عائشة رضي الله عنها ، فقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة عن يزيد بن خمير، عن الرسول الذي أتى عائشة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان قال : قالت عائشة : لأن أصوم يوماً من شعبان ، أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان .
وأما الرواية عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فقال سعيد أيضاً: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر قالت : ما غم هلال رمضان إلا كانت أسماء متقدمة بيوم ، وتأمر بتقدمه .
وقال أحمد: حدثنا روح بن عباد، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة ، عن أسماء ، أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان .
وكل ما ذكرناه عن أحمد، فمن مسائل الفضل بن زياد عنه .
وقال في رواية الأثرم : إذا كان في السماء سحابة أو علة، أصبح صائماً، وإن لم يكن في السماء علة ، أصبح مفطراً، وكذلك نقل عنه ابناه صالح ، وعبد الله ، والمروزي ، والفضل بن زياد ، وغيرهم .
فالجواب من وجوه .
أحدهما: أن يقال : ليس فيما ذكرتم عن الصحابة أثر صالح صريح في وجوب صومه حتى يكون فعلهم مخالفاً لهديه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما غاية المنقول عنهم صومه احتياطاً ، وقد صرح أنس بأنه إنما صامه كراهة للخلاف على الأمراء ، ولهذا قال الإمام أحمد في رواية : الناس تبع للإمام في صومه وإفطاره ، والنصوص التي حكيناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله ، إنما تدل على أنه لا يجب صوم يوم الإغمام ، ولا تدل على تحريمه ، فمن أفطره ، أخذ بالجواز ، ومن صامه ، أخذ بالاحتياط .
الثاني : أن الصحابة كان بعضهم يصوم كما حكيتم ، وكان بعضهم لا يصومه ، وأصح وأصرح من روي عنه صومه ، عبد الله بن عمر ، قال ابن عبد البر: وإلى قوله ذهب طاووس اليماني ، وأحمد بن حنبل ، وروي مثل ذلك عن عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ، ولا أعلم أحداً ذهب مذهب ابن عمر غيرهم ، قال : وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك ، عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس بن مالك رضي الله عنهم قلت : المنقول عن علي ، وعمر، وعمار ، وحذيفة، وابن مسعود، المنع من صيام آخر يوم من شعبان تطوعاً، وهو الذي قال فيه عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم .
فأما صوم يوم الغيم احتياطاً على أنه إن كان من رمضان ، فهو فرضه وإلا فهو تطوع . فالمنقول عن الصحابة، يقتضي جوازه ، وهو الذي كان يفعله ابن عمر، وعائشة . هذا مع رواية عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غم هلال شعبان ، عد ثلاثين يوماً ثم صام . وقد رد حديثها هذا ، بأنه لو كان صحيحاً، لما خالفته وجعل صيامها علة في الحديث ، وليس الأمر كذلك ، فإنها لم توجب صيامه وإنما صامته احتياطاً، وفهمت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن الصيام لا يجب حتى تكتمل العدة، ولم تفهم هي ولا ابن عمر، أنه لا يجوز .
وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وبه تجتمع الأحاديث والآثار ، ويدل عليه ، ما رواه معمر، عن أيوب عن نافع ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان : " إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوماً " . ورواه ابن أبي رواد ، عن نافع عنه :" فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " .
وقال مالك وعبيد الله عن نافع عنه : " فاقدروا له " . فدل على أن ابن عمر ، لم يفهم من الحديث وجوب إكمال الثلاثين ، بل جوازه ، فإنه إذا صام يوم الثلاثين ، فقد أخذ بأحد الجائزين احتياطاً، ويدل على ذلك ، أنه رضي الله عنه ، لو فهم من قوله صلى الله عليه وسلم:" اقدروا له تسعاً وعشرين ، ثم صوموا" كما يقوله الموجبون لصومه ، لكان يأمر بذلك أهله وغيرهم ، ولم يكن يقتصر على صومه فى خاصة نفسه ، ولا يأمر به ، ويبين أن ذلك هو الواجب على الناس .
وكان ابن عباس رضي الله عنه ، لا يصومه ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم ، فأكملوا العدة ثلاثين " .
وذكر مالك في موطئه هذا بعد أن ذكر حديث ابن عمر ، كأنه جعله مفسراً لحديث ابن عمر، وقوله : "فاقدروا له ".
وكان ابن عباس يقول : عجبت ممن يتقدم الشهر بيوم أو يومين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين " كأنه ينكر على ابن عمر .
وكذلك كان هذان الصاحبان الإمامان ، أحدهما يميل إلى التشديد، والآخر إلى الترخيص ، وذلك في غير مسألة. وعبدالله بن عمر: كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة، فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك ، وكان إذا مسح رأسه ، أفرد أذنيه بماء جديد، وكان يمنع من دخول الحمام ، وكان إذا دخله ، اغتسل منه ، وابن عباس : كان يدخل الحمام ، وكان ابن عمر يتيمم بضربتين : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ، ولا يقتصر على ضربة واحدة ، ولا على الكفين ، وكان ابن عباس يخالفه ، ويقول : التيمم ضربة للوجه والكفين ، وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ، ويفتي بذلك ، وكان إذا قبل أولاده ، تمضمض ، ثم صلى، وكان ابن عباس يقول : ما أبالي قبلتها أو شممت ريحاناً .
وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يتمها ثم يصلي الصلاة التي ذكرها، ثم يعيد الصلاة الي كان فيها، وروى أبو يعلى الموصلي في ذلك حديث مرفوعاً في مسنده والصواب : أنه موقوف على ابن عمر . قال البيهقي : وقد روي عن ابن عمر مرفوعاً ولا يصح ، قال : وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً ، ولا يصح . والمقصود : أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط .
وقد روى معمر، عن أيوب ، عن نافع عنه ، أنه كان إذا أدرك مع الإمام ركعة أضاف إليها أخرى ، فإذا فرغ من صلاته ، سجد سجدتي السهو . قال الزهري : ولا أعلم أحداً فعله غيره .
قلت : وكأن هذا السجود لما حصل له من الجلوس عقيب الركعة ، وإنما محله عقيب الشفع .
ويدل على أن الصحابة لم يصوموا هذا اليوم على سبيل الوجوب ، أنهم قالوا : لأن نصوم يوماً من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوماً من رمضان ، ولو كان هذا اليوم من رمضان حتماً عندهم ، لقالوا : هذا اليوم من رمضان ، فلا يجوز لنا فطره . والله أعلم .
ويدل على أنهم إنما صاموه استحباباً وتحرياً، ما روي عنهم من فطره بياناً للجواز، فهذا ابن عمر قد قال حنبل في مسائله : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي قال : سمعت ابن عمر يقول : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه .
قال حنبل : وحدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبيدة بن حميد قال : أخبرنا عبد العزيز بن حكيم قال : سألوا ابن عمر . قالوا : نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء ؟ فقال : أف ، أف ، صوموا مع الجماعة . فقد صح عن ابن عمر، أنه قال : لا يتقدمن الشهر منكم أحد، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "صوموا لرؤية الهلال ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ، فعدوا ثلاثين يوماً ".
وكذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " إذا رأيتم الهلال ، فصوموا لرؤيته ، وإذا رأيتموه ، فأفطروا ، فإن غم عليكم ، فأكملوا العدة " .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : "فإن غم عليكم ، فعدوا ثلاثين يوماً " .
فهذه الآثار إن قدر إنها معارضة لتلك الآثار التي رويت عنهم في الصوم ، فهده أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظاً ومعنى، وإن قدر أنها لا تعارض بينها ، فهاهنا طريقتان من الجمع ، إحداهما : حملها على غير صورة الإغمام ، أوعلى الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم .
والثانية : حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحباباً لا وجوباً ، وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب ، وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة النصوص ، وقواعد الشرع ، وفيها السلامة من التفريق بين يومين متساويين في الشك ، فيجعل أحدهما يوم شك ، والثاني يوم يقين ، مع حصول الشك فيه قطعاً، وتكليف العبد اعتقاد كونه من رمضان قطعاً، مع شكه هل هو منه ، أم لا ؟ تكليف بما لا يطاق ، وتفريق بين المتماثلين ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:08 AM
فصل وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة ، أو بشهادة شاهد واحد ، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام مرة بشهادة أعرابي ، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة . فإن كان ذلك إخباراً ، فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة ، فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة . فإن لم تكن رؤية ، ولا شهادة ، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً .
وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب ، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ، ثم صامه . ولم يكن يصوم يوم الإغمام ، ولا أمر به ، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم ، وكان يفعل كذلك ، فهذا فعله ، وهذا أمره ، ولا يناقض هذا قوله : "فإن غم عليكم فاقدروا له "، فإن القدر: هو الحساب المقدر، والمراد به الإكمال كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري " فأكملوا عدة شعبان " . وقال : "لا تصوموا حتى تروه ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " . والذي أمر بإكمال عدته ، هو الشهر الذي يغم ، وهو عند صيامه وعند الفطر منه ، وأصرح من هذا قوله : "الشهر تسعة وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة" . وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه وإلى آخره بمعناه ، فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه ، واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى . وقال : "الشهر ثلاثون والشهر تسعة وعشرون ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ".
وقال : "لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غمامة فأكملوا ثلاثين " .
وقال : "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة " .
وقالت عائشة رضي الله عنها ، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ، ثم يصوم لرؤيته ، فإن غم عليه ، عد شعبان ثلاثين يوماً ثم صام" . صححه الدارقطني وابن حبان . وقال : "صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ، فاقدروا ثلاثين " .
وقال : " لا تصوموا حتى تروه ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن أغمي عليكم ، فاقدروا له " .
وقال : "لا تقدموا رمضان " . وفي لفظ : "لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم ، أو يومين ، إلا رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه " .
والدليل على أن يوم الإغمام داخل في هذا النهي ، حديث ابن عباس يرفعه : "لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن حالت دونه غمامة ، فأكملوا ثلاثين " ذكره ابن حبان في صحيحه . فهذا صريح في أن صوم يوم الإغمام من غير رؤية ، ولا إكمال ثلاثين صوم قبل رمضان . وقال : "لا تقدموا الشهر إلا أن تروا الهلال ، أو تكملوا العدة ، ولا تفطروا حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة ".
وقال : "صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرويته ، فإن حال بينكم وبينه سحاب: فأكملوا العدة ثلاثين ، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح . وفي النسائي : من حديث يونس ، عن سماك ، عن عكرمة، عن ابن عباس يرفعه : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ، فعدوا ثلاثين يوماً ، ثم صوموا ، ولا تصوموا قبله يوماً ، فإن حال بينكم وبينه سحاب ، فأكملوا العدة عدة شعبان ".
وقال سماك : "عن عكرمة: عن ابن عباس : تمارى الناس في رؤية هلال رمضان ، فقال بعضهم : اليوم . وقال بعضهم : غداً . فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتشهد أن لا اله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً ، فنادى في الناس صوموا ، ثم قال : صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً، ثم صوموا ، ولا تصوموا قبله يوماً ".
وكل هذه الأحاديث صحيحة، فبعضها في الصحيحين وبعضها في صحيح ابن حبان ، والحاكم ، وغيرهما ، وإن كان قد أعل بعضها بما لا يقدح في صحة الاستدلال بمجموعها، وتفسير بعضها ببعض ، واعتبار بعضها ببعض ، وكلها يصدق بعضها بعضاً، والمراد منها متفق عليه . فإن قيل : فإذا كان هذا هديه صلى الله عليه وسلم ، فكيف خالفه عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وأبو هريرة ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، والحكم بن أيوب الغفاري ، وعائشة وأسماء ابنتا أبي بكر، وخالفه سالم بن عبد الله ، ومجاهد ، وطاووس ، وأبو عثمان النهدي ، ومطرف بن الشخير، وميمون بن مهران ، وبكر بن عبد الله المزني ، وكيف خالفه إمام أهل الحديث والسنة، أحمد بن حنبل ، ونحن نوجدكم أقوال هؤلاء مسندة ؟ فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال الوليد بن مسلم : أخبرنا ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، أن عمر بن الخطاب كان يصوم إذا كانت السماء في تلك الليلة مغيمة ويقول : ليس هذا بالتقدم ولكنه التحري .
وأما الرواية عن علي رضي الله عنه ، فقال الشافعي : أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن أمه فاطمة بنت حسين ، أن علي بن أبي طالب قال : لأن أصوم يوماً من شعبان ، أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان .
وأما الرواية عن ابن عمر، ففي كتاب عبد الرزاق : أخبرنا معمر، عن أيوب ، عن ابن عمر قال : كان إذا كان سحاب أصبح صائماً ، وإن لم يكن سحاب ، أصبح مفطراً .
وفي الصحيحين عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتموه ، فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا، وإن غم عليكم فاقدروا له ". زاد الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح ، عن نافع قال : كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوماً ، يبعث من ينظر، فإن رأى ، فذاك ، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر، أصبح مفطراً ، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً .
وأما الرواية عن أنس رضي الله عنه : فقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ابراهيم ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : رأيت الهلال إما الظهر، وإما قريباً منه ، فأفطر ناس من الناس ، فأتينا أنس بن مالك ، فأخبرناه برؤية الهلال وبإفطار من أفطر، فقال : هذا اليوم يكمل لي أحد وثلاثون يوماً ، وذلك لأن الحكم بن أيوب ، أرسل إلي قبل صيام الناس : إني صائم غداً، فكرهت الخلاف عليه ، فصمت وأنا متم يومي هذا إلى الليل .
وأما الروايه عن معاوية، فقال أحمد: حدثنا المغيرة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، قال : حدثني مكحول ويونس بن ميسرة بن حلبس ، أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول : لأن أصوم يوماً من شعبان ، أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان .
وأما الرواية عن عمرو بن العاص . فقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن عمرو بن العاص ، أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان .
وأما الرواية عن أبي هريرة، فقال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي مريم مولى أبي هريرة قال : سمعت أبا هريرة يقول : لأن أتعجل في صوم رمضان بيوم ، أحب إلي من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني ، وإذا تأخرت فاتني .
وأما الرواية عن عائشة رضي الله عنها ، فقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة عن يزيد بن خمير، عن الرسول الذي أتى عائشة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان قال : قالت عائشة : لأن أصوم يوماً من شعبان ، أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان .
وأما الرواية عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فقال سعيد أيضاً: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر قالت : ما غم هلال رمضان إلا كانت أسماء متقدمة بيوم ، وتأمر بتقدمه .
وقال أحمد: حدثنا روح بن عباد، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة ، عن أسماء ، أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان .
وكل ما ذكرناه عن أحمد، فمن مسائل الفضل بن زياد عنه .
وقال في رواية الأثرم : إذا كان في السماء سحابة أو علة، أصبح صائماً، وإن لم يكن في السماء علة ، أصبح مفطراً، وكذلك نقل عنه ابناه صالح ، وعبد الله ، والمروزي ، والفضل بن زياد ، وغيرهم .
فالجواب من وجوه .
أحدهما: أن يقال : ليس فيما ذكرتم عن الصحابة أثر صالح صريح في وجوب صومه حتى يكون فعلهم مخالفاً لهديه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما غاية المنقول عنهم صومه احتياطاً ، وقد صرح أنس بأنه إنما صامه كراهة للخلاف على الأمراء ، ولهذا قال الإمام أحمد في رواية : الناس تبع للإمام في صومه وإفطاره ، والنصوص التي حكيناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله ، إنما تدل على أنه لا يجب صوم يوم الإغمام ، ولا تدل على تحريمه ، فمن أفطره ، أخذ بالجواز ، ومن صامه ، أخذ بالاحتياط .
الثاني : أن الصحابة كان بعضهم يصوم كما حكيتم ، وكان بعضهم لا يصومه ، وأصح وأصرح من روي عنه صومه ، عبد الله بن عمر ، قال ابن عبد البر: وإلى قوله ذهب طاووس اليماني ، وأحمد بن حنبل ، وروي مثل ذلك عن عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ، ولا أعلم أحداً ذهب مذهب ابن عمر غيرهم ، قال : وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك ، عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس بن مالك رضي الله عنهم قلت : المنقول عن علي ، وعمر، وعمار ، وحذيفة، وابن مسعود، المنع من صيام آخر يوم من شعبان تطوعاً، وهو الذي قال فيه عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم .
فأما صوم يوم الغيم احتياطاً على أنه إن كان من رمضان ، فهو فرضه وإلا فهو تطوع . فالمنقول عن الصحابة، يقتضي جوازه ، وهو الذي كان يفعله ابن عمر، وعائشة . هذا مع رواية عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غم هلال شعبان ، عد ثلاثين يوماً ثم صام . وقد رد حديثها هذا ، بأنه لو كان صحيحاً، لما خالفته وجعل صيامها علة في الحديث ، وليس الأمر كذلك ، فإنها لم توجب صيامه وإنما صامته احتياطاً، وفهمت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن الصيام لا يجب حتى تكتمل العدة، ولم تفهم هي ولا ابن عمر، أنه لا يجوز .
وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وبه تجتمع الأحاديث والآثار ، ويدل عليه ، ما رواه معمر، عن أيوب عن نافع ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان : " إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوماً " . ورواه ابن أبي رواد ، عن نافع عنه :" فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " .
وقال مالك وعبيد الله عن نافع عنه : " فاقدروا له " . فدل على أن ابن عمر ، لم يفهم من الحديث وجوب إكمال الثلاثين ، بل جوازه ، فإنه إذا صام يوم الثلاثين ، فقد أخذ بأحد الجائزين احتياطاً، ويدل على ذلك ، أنه رضي الله عنه ، لو فهم من قوله صلى الله عليه وسلم:" اقدروا له تسعاً وعشرين ، ثم صوموا" كما يقوله الموجبون لصومه ، لكان يأمر بذلك أهله وغيرهم ، ولم يكن يقتصر على صومه فى خاصة نفسه ، ولا يأمر به ، ويبين أن ذلك هو الواجب على الناس .
وكان ابن عباس رضي الله عنه ، لا يصومه ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم ، فأكملوا العدة ثلاثين " .
وذكر مالك في موطئه هذا بعد أن ذكر حديث ابن عمر ، كأنه جعله مفسراً لحديث ابن عمر، وقوله : "فاقدروا له ".
وكان ابن عباس يقول : عجبت ممن يتقدم الشهر بيوم أو يومين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين " كأنه ينكر على ابن عمر .
وكذلك كان هذان الصاحبان الإمامان ، أحدهما يميل إلى التشديد، والآخر إلى الترخيص ، وذلك في غير مسألة. وعبدالله بن عمر: كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة، فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك ، وكان إذا مسح رأسه ، أفرد أذنيه بماء جديد، وكان يمنع من دخول الحمام ، وكان إذا دخله ، اغتسل منه ، وابن عباس : كان يدخل الحمام ، وكان ابن عمر يتيمم بضربتين : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ، ولا يقتصر على ضربة واحدة ، ولا على الكفين ، وكان ابن عباس يخالفه ، ويقول : التيمم ضربة للوجه والكفين ، وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ، ويفتي بذلك ، وكان إذا قبل أولاده ، تمضمض ، ثم صلى، وكان ابن عباس يقول : ما أبالي قبلتها أو شممت ريحاناً .
وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يتمها ثم يصلي الصلاة التي ذكرها، ثم يعيد الصلاة الي كان فيها، وروى أبو يعلى الموصلي في ذلك حديث مرفوعاً في مسنده والصواب : أنه موقوف على ابن عمر . قال البيهقي : وقد روي عن ابن عمر مرفوعاً ولا يصح ، قال : وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً ، ولا يصح . والمقصود : أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط .
وقد روى معمر، عن أيوب ، عن نافع عنه ، أنه كان إذا أدرك مع الإمام ركعة أضاف إليها أخرى ، فإذا فرغ من صلاته ، سجد سجدتي السهو . قال الزهري : ولا أعلم أحداً فعله غيره .
قلت : وكأن هذا السجود لما حصل له من الجلوس عقيب الركعة ، وإنما محله عقيب الشفع .
ويدل على أن الصحابة لم يصوموا هذا اليوم على سبيل الوجوب ، أنهم قالوا : لأن نصوم يوماً من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوماً من رمضان ، ولو كان هذا اليوم من رمضان حتماً عندهم ، لقالوا : هذا اليوم من رمضان ، فلا يجوز لنا فطره . والله أعلم .
ويدل على أنهم إنما صاموه استحباباً وتحرياً، ما روي عنهم من فطره بياناً للجواز، فهذا ابن عمر قد قال حنبل في مسائله : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي قال : سمعت ابن عمر يقول : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه .
قال حنبل : وحدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبيدة بن حميد قال : أخبرنا عبد العزيز بن حكيم قال : سألوا ابن عمر . قالوا : نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء ؟ فقال : أف ، أف ، صوموا مع الجماعة . فقد صح عن ابن عمر، أنه قال : لا يتقدمن الشهر منكم أحد، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "صوموا لرؤية الهلال ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ، فعدوا ثلاثين يوماً ".
وكذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " إذا رأيتم الهلال ، فصوموا لرؤيته ، وإذا رأيتموه ، فأفطروا ، فإن غم عليكم ، فأكملوا العدة " .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : "فإن غم عليكم ، فعدوا ثلاثين يوماً " .
فهذه الآثار إن قدر إنها معارضة لتلك الآثار التي رويت عنهم في الصوم ، فهده أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظاً ومعنى، وإن قدر أنها لا تعارض بينها ، فهاهنا طريقتان من الجمع ، إحداهما : حملها على غير صورة الإغمام ، أوعلى الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم .
والثانية : حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحباباً لا وجوباً ، وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب ، وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة النصوص ، وقواعد الشرع ، وفيها السلامة من التفريق بين يومين متساويين في الشك ، فيجعل أحدهما يوم شك ، والثاني يوم يقين ، مع حصول الشك فيه قطعاً، وتكليف العبد اعتقاد كونه من رمضان قطعاً، مع شكه هل هو منه ، أم لا ؟ تكليف بما لا يطاق ، وتفريق بين المتماثلين ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:10 AM
فصل في هديه في قبول شهادة الرؤيا
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، أمر الناس بالصوم بشهادة الرجل الواحد المسلم ، وخروجهم منه بشهادة اثنين .
وكان من هديه إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد ، أن يفطر ، ويأمرهم بالفطر، ويصلي العيد من الغد في وقتها . وكان يعجل الفطر، ويحض عليه ، ويتسحر ، ويحث على السحور ويؤخره ، ويرغب في تأخيره .
وكان يحض على الفطر بالتمر ، فإن لم يجد، فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم ، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة ، أدعى إلى قبوله ، وانتفاع القوى به ، ولا سيما القوة الباصرة، فإنها تقوى به، وحلاوة المدينة التمر ، ومرباهم عليه ، وهو عندهم قوت ، وأدم ، ورطبه فاكهة . وأما الماء، فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس . فإذا رطبت بالماء ، كمل انتفاعها بالغذاء بعده . ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع ، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده ، هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:10 AM
فصل في هديه في الفطر
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي ، وكان فطره على رطبات إن وجدها، فإن لم يجدها، فعلى تمرات ، فإن لم يجد، فعلى حسوات من ماء . ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول عند فطره : "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ، فتقبل منا، إنك أنت السميع العليم ". ولا يثبت .
رروي عنه أيضاً ، أنه كان يقول : "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت " .
ذكره أبو داود عن معاذ بن زهرة ، أنه بلغه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك .
وروي عنه ، أنه كان يقول ، إذا أفطر : " ذهب الظمأ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" ذكره أبو داود من حديث الحسين بن واقد، عن مروان بن سالم المقفع ، عن ابن عمر.
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم : "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" . رواه ابن ماجه . وصح عنه أنه قال : "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من ها هنا ، فقد أفطر الصائم ". وفسر بأنه قد أفطر حكماً، وإن لم ينوه ، وبأنه قد دخل وقت فطره ، كأصبح وأمسى ، ونهى الصائم عن الرفث ، والصخب والسباب ، وجواب السباب فأمره أن يقول لمن سابه : إني صائم ، فقيل : يقوله بلسانه وهو أظهر، وقيل : بقلبه تذكيراً لنفسه بالصوم ، وقيل : يقوله في الفرض بلسانه ، وفي التطوع في نفسه ، لأنه أبعد عن الرياء .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:11 AM
فصل في الصوم في السفر
فصل
وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فصام وأفطر، وخير الصحابة بين الأمرين . وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله . فلو اتفق مثل هذا في الحضر وكان في الفطر قوة لهم على لقاء العدو فهل لهم الفطر؟ فيه قولان ، أصحهما دليلاً : أن لهم ذلك وهو اختيار ابن تيمية ، وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق ، ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحالة ، فإنها أحق بجوازه ، لأن القوة هناك تختص بالمسافر، والقوة هنا له وللمسلمين ، ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر، ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر، ولأن الله تعالى قال : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " . الأنفال : [60] . والفطر عند اللقاء، من أعظم أسباب القوة .
والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر القوة، بالرمي . وهو لا يتم ولا يحصل به مقصوده ، إلا بما يقوي ويعين عليه من الفطر والغذاء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم : "إنكم قد دنوتم من غدوكم ، والفطر أقوى لكم " . وكانت رخصة ثم نزلوا منزلاً آخر فقال : "إنكم مصبحو عدوكم ، والفطر أقوى لكم ، فأفطروا" فكانت عزمة [فأفطرنا] فعلل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو، وهذا سبب آخر غير السفر، والسفر مستقل بنفسه ، ولم يذكر في تعليله ، ولا أشار إليه ، فالتعليل به اعتباراً لما ألغاه الشارع في هذا الفطر الخاص ، وإلغاء وصف القوة التي يقاوم بها العدو، واعتبار السفر المجرد إلغاء لما اعتبره الشارع وعلل به .
وبالجملة : فتنبيه الشارع وحكمته ، يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة، ونبه عليها، وصرح بحكمها، وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها . ويدل عليه ، ما رواه عيسى بن يونس ، عن شعبة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم فتح مكة : "إنه يوم قتال فأفطروا" . تابعه سعيد بن الربيع ، عن شعبة . فعلل بالقتال ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء ، وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال . وأما إذا تجرد السفر عن الجهاد ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في الفطر : هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها ، فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:11 AM
فصل ولم يكن من هديه تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد
فصل
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء. وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال ، وقال لمن صام : قد رغبوا عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
وكان الصحابة حين ينشؤن السفر ، يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، كما قال عبيد بن جبر : ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان ، فلم تجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة . قال : اقترب . قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ رواه أبو داود وأحمد . ولفظ أحمد : ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة ، فلما دنونا من مرساها ، أمر بسفرته ، فقربت ، ثم دعاني إلى الغداء وذلك في رمضان . فقلت : يا أبا بصرة والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد ؟ قال : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : لا. قال : فكل . قال : فلم نزل مفطرين حتى بلغنا .
وقال محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً ، وقد رحلت له راحلته ، وقد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل ، فقلت له : سنة ؟ قال : سنة، ثم ركب . قال الترمذي حديث حسن وقال الدارقطني فيه : فأكل وقد تقارب غروب الشمس .
وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:12 AM
فصل في هديه في الصوم جنباً وحكم تقبيل الرجل زوجته وهو صائم
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يدركه الفجر وهو جنب من أهله ، فيغتسل بعد الفجر ويصوم .
وكان يقبل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان . وشبه قبلة الصائم بالمضمضة بالماء .
وأما ما رواه أبو داود عن مصدع بن يحيى، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقبلها وهو صائم ، ويمص لسانها . فهذا الحديث ، قد اختلف فيه ، فضعفه طائفة بمصدع هذا ، وهو مختلف فيه ، قال السعدي : زائغ جائر عن الطريق ، وحسنه طائفة، وقالوا : هو ثقة صدوق ، روى له مسلم في صحيحه وفي إسناده محمد بن دينار الطاحي البصري ، مختلف فيه أيضاً ، قال يحيى : ضعيف ، وفي رواية عنه ، ليس به بأس ، وقال غيره : صدوق ، وقال ابن عدي : قوله ، ويمص لسانها ، لا يقوله إلا محمد بن دينار، وهو الذي رواه ، وفي إسناده أيضاً سعد بن أوس ، مختلف فيه أيضاً ، قال يحيى : بصري ضعيف ، وقال غيره : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات ...........
وأما الحديث الذي رواه أحمد، وابن ماجه ، عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبل امرأته وهما صائمان ، فقال : قد أفطر" فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه أبو يزيد الضني رواه عن ميمونة، وهي بنت سعد، قال الدارقطني : ليس بمعروف ، ولا يثبت هذا ، وقال البخاري : هذا لا أحدث به ، هذا حديث منكر ، وأبو يزيد رجل مجهول .
ولا يصح عنه صلى الله عليه وسلم التفريق بين الشاب والشيخ ، ولم يجىء من وجه يثبت ، وأجود ما فيه ، حديث أبي داود عن نصر بن علي ، عن أبي أحمد الزبيري : حدثنا إسرائيل ، عن أبي العنبس ، عن الأغر، عن أبي هريرة، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم ، فرخص له ، وأتاه آخر فسأله فنهاه ، فإذا الذي رخص له شيخ ، وإذا الذي نهاه شاب ، وإسرائيل ، وإن كان البخاري ومسلم قد احتجا به وبقية الستة ، فعلة هذا الحديث أن بينه وبين الأغر فيه أبا العنبس العدوي الكوفي ، واسمه الحارث بن عبيد، سكتوا عنه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:13 AM
فصل في إسقاط القضاء عمن أكل أو شرب ناسياً
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، إسقاط القضاء عمن أكل وشرب ناسياً، وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه ، فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه ، فيفطر به، فإنما يفطر بما فعله ، وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه ، إذ لا تكليف بفعل النائم ، ولا بفعل الناسي .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:14 AM
فصل والذي صح عنه صلى الله عليه وسلم : أن الذي يفطر به الصائم : الأكل ، والشرب والحجامة والقيء : والقرآن دال على أن الجماع مفطر كالأكل والشرب ، لا يعرف فيه خلاف ولا يصح عنه في الكحل شيء .
وصح عنه أنه كان يستاك وهو صائم .
وذكر الإمام أحمد عنه ، أنه كان يصب الماء على رأسه وهو صائم .
وكان يتمضمض، ويستنشق وهو صائم ، ومنع الصائم من المبالغة في الإستنشاق . ولا يصح عنه أنه احتجم وهو صائم، قال الإمام أحمد : وقد رواه البخاري في صحيحه قال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد قال : لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة في الصيام ، يعني حديث سعيد، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، "أن النبي صلى الله عليه وسلم، احتجم وهو صائم محرم ".
قال مهنا: وسألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، احتجم وهو صائم محرم . فقال : ليس بصحيح ، قد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري ، إنما كانت أحاديث ميمون بن مهران عن ابن عباس نحو خمسة عشر حديثاً .
وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله ذكر هذا الحديث ، فضعفه ، وقال مهنا : سألت أحمد عن حديث قبيصة، عن سفيان ، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً محرماً . فقال : هو خطأ من قبل قبيصة، وسألت يحيى عن قبيصة بن عقبة، فقال : رجل صدق ، والحديث الذي يحدث به عن سفيان ، عن سعيد بن جبير، خطأ من قبله . قال أحمد: في كتاب الأشجعي عن سعيد بن جبير مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ، احتجم وهو محرم ، ولا يذكر فيه صائماً .
قال مهنا : وسألت أحمد عن حديث ابن عباس ، "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم "؟ فقال : ليس فيه "صائم " إنما هو محرم ذكره سفيان ، عن عمرو بن دينار، عن طاووس ، عن ابن عباس ، احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه وهو محرم . ورواه عبد الرزاق ، عن معمر، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ، احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم . وروح عن زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وطاووس ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ، وهؤلاء أصحاب ابن عباس ، لا يذكرون صائماً .
وقال حنبل : حدثنا أبو عبد الله ، حدثنا وكيع ، عن ياسين الزيات ، عن رجل ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في رمضان بعد ما قال : " أفطر الحاجم والمحجوم " . قال أبو عبد الله : الرجل : أراه أبان بن أبي عياش ، يعني ولا يحتج به .
وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : روى محمد بن معاوية النيسابوري ، عن أبي عوانة ، عن السدي ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ،"احتجم وهو صائم" ، فأنكر هذا ، ثم قال : السدي ، عن أنس قلت : نعم فعجب من هذا . قال أحمد: وفي قوله " أفطر الحاجم والمحجوم " غير حديث ثابت .
وقال إسحاق : قد ثبت هذا من خمسة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم . والمقصود، أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم ، ولا صح عنه أنه نهى الصائم عن السواك أول النهار ولا آخره ، بل قد روي عنه خلافه .
ويذكر عنه : " من خير خصال الصائم السواك "، رواه ابن ماجه من حديث مجالد وفيه ضعف .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:14 AM
فصل في حكم الكحل للصائم
وروي عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه اكتحل وهو صائم ، وروي عنه ، أنه خرح عليهم في رمضان وعيناه مملوءتان من الإثمد، ولا يصح ، وروي عنه أنه قال في الإثمد : " ليتقه الصائم " ولا يصح . قال أبو داود: قال لي يحيى بن معين : هو حديث منكر.
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:15 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع
كان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال : لا يفطر، ويفطر حتى يقال : لا يصوم ، وما استكمل صيام شهر غير رمضان ، وما كان يصوم في شهر أكثر مما يصوم في شعبان .
ولم يكن يخرج عنه شهرحتى يصوم منه .
ولم يصم الثلاثة الأشهر سرداً كما يفعله بعض الناس ، ولا صام رجباً قط ، ولا استحب صيامه ، بل روي عنه النهي عن صيامه ، ذكره ابن ماجه .
وكان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يفطر أيام البيض في سفر ولا حضر . ذكره النسائي . وكان يحض على صيامها . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام . ذكره أبو داود والنسائي .
وقالت عائشة : لم يكن يبالي من أي الشهر صامها . ذكره مسلم ، ولا تناقض بين هذه الآثار.
وأما صيام عشر ذي الحجة، فقد اختلف ، فقالت عائشة : رأيته صائماً في العشر قط ذكره مسلم .
وقالت حفصة : أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم : صيام يوم عاشوراء ، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتا الفجر . ذكره الإمام أحمد رحمه الله .
وذكر الإمام أحمد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم تسع ذي الحجة ، ويصوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من الشهر ، أو الاثنين من الشهر ، والخميس ، وفي لفظ : الخميسين . والمثبت مقدم على النافي إن صح .
وأما صيام ستة أيام من شوال ، فصح عنه أنه قال : "صيامها مع رمضان يعدل صيام الدهر" .
وأما صيام يوم عاشوراء، فإنه كان يتحرى صومه على سائر الأيام ، ولما قدم المدينة، وجد اليهود تصومه وتعظمه ، فقال : "نحن أحق بموسى منكم " . فصامه ، وأمر بصيامه ، وذلك قبل فرض رمضان ، فلما فرض رمضان ، قال : "من شاء صامه ومن شاء تركه " .
وقد استشكل بعض الناس هذا وقال : إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول ، فكيف يقول ابن عباس : إنه قدم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء ؟ وفيه إشكال آخر، وهو أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة، أنها قالت : كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، وكان عليه الصلاة والسلام يصومه ، فلما هاجر إلى المدينة، صامه ، وأمر بصيامه ، فلما فرض شهر رمضان قال : "من شاء صامه ومن شاء تركه " .
وإشكال آخر، وهو ما ثبت في الصحيحين أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود وهو يتغدى فقال : يا أبا محمد ادن إلى الغداء . فقال: أوليس اليوم يوم عاشوراء ؟ فقال : وهل تدري ما يوم عاشوراء؟ قال : وما هو ؟ قال : إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان ، فلما نزل رمضان تركه .
وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه ، قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ". فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا فيه أن صومه والأمر بصيامه قبل وفاته بعام ، وحديثه المتقدم فيه أن ذلك كان عند مقدمه المدينة، ثم إن ابن مسعود أخبر أن يوم عاشوراء ترك برمضان ، وهذا يخالفه حديث ابن عباس المذكور، ولا يمكن أن يقال : ترك فرضه ، لأنه لم يفرض ، لما ثبت في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن شاء، فليصم ، ومن شاء فليفطر" . ومعاوية إنما سمع هذا بعد الفتح قطعاً .
وإشكال آخر، وهو أن مسلماً روى في صحيحه عن عبد الله بن عباس ، أنه لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اليوم تعظمه اليهود والنصارى قال : "إن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " فلم يأت العام القابل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم روى مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال : انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم ، فقلت له : أخبرني عن صوم عاشوراء . فقال : إذا رأيت هلال المحرم ، فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائماً قلت : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال : نعم .
وإشكال آخر : وهو أن صومه إن كان واجباً مفروضاً في أول الإسلام ، فلم يأمرهم بقضائه ، وقد فات تبييت النية له من الليل وإن لم يكن فرضاً، فكيف أمر بإتمام الإمساك من كان أكل ؟ كما في المسند والسنن من وجوه متعددة ، أنه عليه السلام ، أمر من كان طعم فيه أن يصوم بقية يومه . وهذا إنما يكون في الواجب ، وكيف يصح قول ابن مسعود: فلما فرض رمضان ، ترك عاشوراء واستحبابه لم يترك ؟ وإشكال آخر : وهو أن ابن عباس جعل يوم عاشوراء يوم التاسع ، وأخبر أن هكذا كان يصومه صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في : "صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا اليهود ، صوموا يوما قبله أو يوماً بعده" ذكره أحمد . وهو الذي روى : "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر" . ذكره الترمذي .
فالجواب عن هذه الإشكالات بعون الله وتأييده وتوفيقه : أما الإشكال الأول : وهو أنه لما قدم المدينة، وجدهم يصومون يوم عاشوراء ، فليس فيه أن يوم قدومه وجدهم يصومونه ، فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول ، ثاني عشرة ، ولكن أول علمه بذلك بوقوع القصة في العام الثاني الذي كان بعد قدومه المدينة، ولم يكن وهو بمكة هذا إن كان حساب أهل الكتاب في صومه بالأشهر الهلالية ، وإن كان بالشمسية ، زال الإشكال بالكلية ، ويكون اليوم الذي نجى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء من أول المحرم ، فضبطه أهل الكتاب بالشهور الشمسية ، فوافق ذلك مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول ، وصوم أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس ، وصوم المسلمين إنما هو بالشهر الهلالي ، وكذلك حجهم ، وجميع ما تعتبر له الأشهر من واجب أو مستحب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بموسى منكم "، فظهر حكم هذه الأولوية في تعظيم هذا اليوم وفي تعيينه ، وهم أخطؤوا تعيينه لدورانه في السنة الشمسية، كما أخطأ النصارى في تعيين صومهم بأن جعلوه في فصل من السنة تختلف فيه الأشهر .
وأما الإشكال الثاني ، وهو أن قريشاً كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ، فلا ريب أن قريشاً كانت تعظم هذا اليوم ، وكانوا يكسون الكعبة فيه ، وصومه من تمام تعظيمه ، ولكن إنما كانوا يعدون بالأهلة، فكان عندهم عاشر المحرم ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجدهم يعظمون ذلك اليوم ويصومونه ، فسألهم عنه ، فقالوا : هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون ، فقال صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق منكم بموسى" فصامه وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه وتأكيداً ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه وأمته أحق بموسى من اليهود ، فإذا صامه موسى شكراً لله ، كنا أحق أن نقتدي به من اليهود، لا سيما إذا قلنا : شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخافه شرعنا .
فإن قيل : من أين لكم أن موسى صامه ؟ قلنا: ثبت في الصحيحين "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سألهم عنه ، فقالوا يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه ، وأغرق فيه فرعون وقومه ، فصامه موسى شكراً لله ، فنحن نصومه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق وأولى بموسى منكم . فصامه وأمر بصيامه ". فلما أقرهم على ذلك . ولم يكذبهم ، علم أن موسى صامه شكراً لله ، فانضم هذا القدر إلى التعظيم الذي كان له قبل الهجرة، فازداد تأكيداً حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في الأمصار بصومه ، وإمساك من كان أكل ، والظاهر : أنه حتم ذلك عليم ، وأوجبه كما سيأتي تقريره .
وأما الإشكال الغالب : وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يصوم يوم عاشوراء قبل أن ينزل فرض رمضان ، فلما نزل فرض رمضان تركه ، فهذا لا يمكن التخلص منه إلا بأن صيامه كان فرضاً قبل رمضان ، وحينئذ فيكون المتروك وجوب صومه لا استحبابه ، ويتعين هذا ولا بد، لأنه عليه السلام قال قبل وفاته بعام وقد قيل له : إن اليهود يصومونه : لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع أي : معه ، خالفوا اليهود وصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده ، أي : معه ، ولا ريب أن هذا كان في آخر الأمر، وأما في أول الأمر، فكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، فعلم أن استحبابه لم يترك .
ويلزم من قال : إن صومه لم يكن واجباً أحد الأمرين ، إما أن يقول بترك استحبابه ، فلم يبق مستحباً ، أو يقول : هذا قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برأيه ، وخفي عليه استحباب صومه وهذا بعيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حثهم على صيامه ، وأخبر أن صومه يكفر السنة الماضية، واستمر الصحابة على صيامه إلى حين وفاته ، ولم يرو عنه حرف واحد بالنهي عنه وكراهة صومه ، فعلم أن الذي ترك وجوبه لا استحبابه .
فإن قيل : حديث معاوية المتفق على صحته صريح في عدم فرضيته ، وإنه لم يفرض قط - فالجواب - أن حديث معاوية صريح في نفي استمرار وجوبه ، وأنه الآن غير واجب ، ولا ينفي وجوباً متقدماً فسوخاً ، فإنه لا يمتنع أن يقال لما كان واجباً، ونسخ وجوبه : إن الله لم يكتبه علينا .
وجواب ثان : أن غايته أن يكون النفي عاماً في الزمان الماضي والحاضر ، فيخص بأدلة الوجوب في الماضي ، وترك النفي في استمرار الوجوب .
وجواب ثالث : وهو أنه صلى الله عليه وسلم ، إنما نفى أن يكون فرضه ووجوبه مستفاداً من جهة القرآن ، ويدل على هذا قوله : إن الله لم يكتبه علينا ، وهذا لا ينفي الوجوب بغير ذلك ، فإن الواجب الذي كتبه الله على عباده ، هو ما أخبرهم بأنه كتبه عليهم ، كقوله تعالى : " كتب عليكم الصيام " [ البقرة : 183 ] ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عاشوراء لم يكن داخلاً في هذا المكتوب الذي كتبه الله علينا دفعا لتوهم من يتوهم أنه داخل فيما كتبه الله علينا، فلا تناقض بين هذا، وبين الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخاً بهذا الصيام المكتوب . يوضح هذا أن معاوية إنما سمع هذا منه بعد فتح مكة، واستقرار فرض رمضان ، ونسخ وجوب عاشوراء به . والذين شهدوا أمره بصيامه ، والنداء بذلك ، وبالإمساك لمن أكل ، شهدوا ذلك قبل فرض رمضان عند مقدمه المدينة، وفرض رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات ، فمن شهد الأمر بصيامه ، شهده قبل نزول فرص رمضان ، ومن شهد الإخبار عن عدم فرضه ، شهده في آخر الأمر بعد فرض رمضان ، وإن لم يسلك هذا المسلك ، تناقضت أحاديث الباب واضطربت .
فإن قيل : فكيف يكون فرضاً ولم يحصل تبييت النية من الليل وقد قال : لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فالجواب : أن هذا الحديث مختلف فيه : هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من قول حفصة وعائشة ؟ فأما حديث فأوقفه عليها معمر، والزهري ، وسفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد الأيلي عن الزهري ، ورفعه بعضهم وأكثر أهل الحديث يقولون : الموقوف أصح ، قال الترمذي : وضد رواه نافع عن ابن عمر قوله ، وهو أصح ، ومنهم من يصحح رفعه لثقة رافعه وعدالته ، وحديث عائشة أيضاً: روي وموقوفاً ، واختلف في تصحيح رفعه . فإن لم يثبت رفعه ، فإن لم يثبت رفعه ، فمعلوم أن هذا إنما قاله بعد فرض رمضان ، وذلك متأخر عن الأمر بصيام يوم عاشوراء، وذلك تجديد حكم واجب وهو التبييت نسخاً لحكم ثابت بخطاب ، فإجزاء صيام يوم عاشوراء بنية من النهار قبل فرض رمضان ، وقبل فرض التبييت من الليل ، ثم نسخ وجوب صومه برمضان ، وتجدد وجوب التبييت ، فهذه طريقة .
وطريقة ثانية، هي طريقة أصحاب أبي حنيفة أن وجوب صيام يوم عاشوراء تضمن أمرين : وجوب صوم ذلك اليوم وإجزاء صومه بنية من النهار، ثم نسخ تعيين الواجب بواجب آخر، فبقي حكم الإجزاء بنية من النهار غير منسوخ .
وطريقة ثالثة : وهي أن الواجب تابع للعلم ، ووجوب عاشوراء إنما علم من النهار، وحينئذ فلم يكن التبييت ممكناً، فالنية وجبت وهي الوجوب والعلم به ، وإلا كان تكليفاً بما لا تطاق وهو ممتنع . قالوا هذا اذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار، أجزأ صومه بنية مقارنة بالوجوب ، وأصله صوم يوم عاشوراء، وهذه طريقة شيخنا ، وهي كما تراها أصح الطرق ، وأقربها إلى موافقة الشرع وقواعده ، وعليها تدل الأحاديث ، ويجتمع شملها الذي يظن تفرقه ، ويتخلص من دعوى النسخ بغير ضرورة . وغير هذه الطريقة لا بد فيه من مخالفة قاعدة من قواعد الشرع ، أو مخالفة بعض الآثار . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل قباء بإعادة الصلاة التي صلوا بعضها إلى القبلة المنسوخة إذ لم يبلغهم وجوب التحول ، فكذلك من لم يبلغه وجوب فرض الصوم ، أو لم يتمكن من العلم بسبب وجوبه ، لم يؤمر بالقضاء ، ولا يقال : إنه ترك التبييت الواجب ، إذ وجوب التبييت تابع للعلم بوجوب المبيت ، وهذا في غاية الظهور .
ولا ريب أن هذه الطريقة أصح من طريقة من يقول : كان عاشوراء فرضاً ، وكان يجزىء صيامه بنية من النهار، ثم نسخ الحكم بوجوبه ، فنسخت متعلقاته ، ومن متعلقاته إجزاء صيامه بنية من النهار، لأن متعلقاته تابعة له ، وإذا زال المتبوع ، زالت توابعه وتعلقاته ، فإن إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار لم يكن من متعلقات خصوص هذا اليوم ، بل من متعلقات الصوم الواجب ، والصوم الواجب لم يزل ، وإنما زال تعيينه ، فنقل من محل إلى محل ، والإجزاء بنية من النهار وعدمه من توابع أصل الصوم لا تعيينه.
وأصح من طريقة من يقول : إن صوم يوم عاشوراء لم يكن واجباً قط ، لأنه قد ثبت الأمر به ، وتأكيد الأمر بالنداء العام ، وزيادة تأكيده بالأمر لمن كان أكل بالإمساك ، وكل هذا ظاهر، قوي في الوجوب ، ويقول ابن مسعود : إنه لما فرض رمضان ترك عاشوراء . ومعلوم أن استحبابه لم تترك بالأدلة التي تقدمت وغيرها ، فيتعين أن يكون المتروك وجوبه ، فهذه خمس طرق للناس في ذلك . والله أعلم .
وأما الإشكال الراجح وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لئن بقيت إلى قابل ، لأصومن التاسع ، وأنه توفي قبل العام المقبل ، وقول ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع ، فابن عباس روى هذا وهذا ، وصح عنه هذا وهذا ، ولا تنافي بينهما، إذ من الممكن أن يصوم التاسع، ويخبر أنه إن بقي إلى العام القابل صامه ، أو يكون ابن عباس أخبر عن فعله مستنداً إلى ما عزم عليه ، ووعد به ، ويصح الإخبار عن ذلك مقيداً أي : كذلك كان يفعل لو بقي ، ومطلقاً إذا علم الحال ، وعلى كل واحد من الاحتمالين ، فلا تنافي بين الخبرين .
وأما الإشكال الخامس : فقد تقدم جوابه بما فيه كفاية .
وأما الإشكال السادس : وهو قول ابن عباس : أعدد وأصبح يوم التاسع صائماً . فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس ، تبين له زوال الإشكال ، وسعة علم ابن عباس ، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع ، بل قال للسائل : صم اليوم التاسع ، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء ، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه ، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك . فإما أن يكون فعل ذلك هوالأولى، وإما أن يكون حض على الأمر به ، وعزمه عليه في المستقبل ، ويدك على ذلك أنه هو الذي روى صوموا يوما قبله ويوما بعده ، وهو الذي روى : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر. وكل هذه الآثار عنه ، يصدق بعضها بعضاً ، ويؤيد بعضها بعضاً .
فمراتب صومه ثلاثة : أكملها : أن يصام قبله يوم وبعده يوم ، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث ، ويلي ذلك إفراد العاشر بالصوم .
وأما إفراد التاسع ، فمن نقص فهم الآثار ، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع ، والله الموفق للصواب .
وقد سلك بعض أهل العلم مسلكاً آخر فقال : قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحد أمرين : إما بنقل العاشر إلى التاسع ، أو بصيامهما معاً. وقوله : إذا كان العام المقبل صمنا التاسع : يحتمل الأمرين . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتبين مراده ، فكان الاحتياط صيام اليومين معاً ، والطريقة التي ذكرناها، أصوب إن شاء الله ، ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل ، لأن قوله في حديث أحمد : خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله أو يوما بعده وقوله في حديث الترمذي : أمرنا بصيام عاشوراء يوم العاشر يبين صحة الطريقة التي سلكناها . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:15 AM
فصل في هديه في إفطار يوم عرفة بعرفة وسنة صيامه لغير الحاج
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إفطاريوم عرفة بعرفة، ثبت عنه ذلك في الصحيحين .
وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة، رواه عنه أهل السنن .
وصح عنه أن صيامه يكفر السنة الماضية والباقية ، ذكره مسلم .
وقد ذكر لفطره بعرفة عدة حكم .
منها أنه أقوى على الدعاء .
ومنها : أن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم، فكيف بنفله .
ومنها : أن ذلك اليوم كان يوم الجمعة ، وقد نهى عن إفراده بالصوم ، فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيداً لنهيه عن تخصيصه بالصوم ، وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة ، وكان شيخنا رحمه الله يسلك مسلكاً آخر، وهو أنه يوم عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه ، كاجتماع الناس يوم العيد، وهذا الإجتماع يختص بمن بعرفة دون أهل الآفاق . قال : وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحديث الذي رواه أهل السنن " يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام منى ، عيدنا أهل الإسلام ". ومعلوم : أن كونه عيداً ، هو لأهل ذلك الجمع ، لاجتماعهم والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:16 AM
فصل في حكم صوم السبت والأحد والجمعة
فصل
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم : كان يصوم السبت والأحد كثيراً ، يقصد بذلك ولا اليهود والنصارى كما في المسند وسنن النسائي ، عن كريب مولى ابن عباس قال : أرسلني ابن عباس رضي الله عنه ، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها ؟ أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياماً؟ قالت : يوم السبت والأحد ، ويقول : " إنهما عيد للمشركين ، فأنا أحب أن أخالفهم ". وفي صحة هذا الحديث نظر، فإنه من رواية محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ، وقد استنكر بعض حديثه . وقد قال عبد الحق في أحكامه من حديث ابن جريج ، عن عباس بن عبد المله بن عباس ، عن عمه الفضل ، زار النبي صلى الله عليه وسلم عباساً في بادية لنا .
ثم قال : إسناده ضعيف . قال ابن القطان : هو كما ذكر ضعيف ، ولا يعرف حال محمد بن عمر، وذكر حديثه هذا عن أم سلمة في صيام يوم السبت والأحد ، وقال : سكت عنه عبد الحق مصححاً له ، ومحمد بن عمر هذا، لا يعرف حاله ، ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد بن عمر، ولا تعرف أيضاً حاله ، فالحديث أراه حسناً . والله أعلم .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، عن عبد الله بن بسر السلمي ، عن أخته الصماء ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه ".
فاختلف الناس في هذين الحديثين . فقال مالك رحمه الله : هذا كذب ، يريد حديث عبد الله بن بسر، ذكره عنه أبو داود، قال الترمذي : هو حديث حسن ، وقال أبو داود : هذا الحديث منسوخ ، وقال النسائي : هو حديث مضطرب ، وقال جماعة من أهل العلم : لا تعارض بينة وبين حديث أم سلمة، فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده ، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال : باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم ، وحديث صيامه ، إنما هو مع يوم الأحد . قالوا : ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم ، إلا أن يصوم يوما قبله ، أو يوماً بعده ، وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال : إن صومه نوع تعظيم له موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه ، وإن تضمن مخالفتهم في صومه ، فإن التعظيم إنما يكون إذا أفرد بالصوم ، ولا ريب أن الحديث لم يجىء بإفراده ، وأما إذا صامه مع غيره ، لم يكن فيه تعظيم . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:17 AM
فصل ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم سرد الصوم وصيام الدهر، بل قد قال : "من صام الدهر لا صام ولا أفطر"، وليس مراده بهذا من صام الأيام المحرمة ، فإذ ذكر ذلك جواباً لمن قال : أرأيت من صام الدهر ؟ ولا يقال في جواب من فعل المحرم : لا صام ولا أفطر، فإن هذا يؤذن بأنه سواء فطره وصومه لا يثاب ولا يعاقب ، وليس كذلك من فعل ما حزم الله عليه من الصيام ، فليس هذا جواباً مطابقاً للسؤال عن المحرم من الصوم ، وأيضاً فإن هذا عند من استحب صوم الدهر قد فعل مستحباً وحراماً، وهو عندهم قد صام بالنسبة إلى أيام الاستحباب وارتكب محرماً بالنسبة إلى أيام التحريم ، وفي كل منهما لا يقال : لا صام أفطر . فتنزيل قوله على ذلك غلط ظاهر . وأيضاً فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع ، غير قابلة للصوم شرعاً، فهي بمنزلة الليل شرعاً، وبمنزلة أيام الحيض ، فلم يكن الصحابة ليسألوه عن صومها وقد علموا عدم قبولها للصوم ، ولم يكن ليجيبهم لو لم يعلموا التحريم بقوله : : لاصام ولا أفطر، فإن هذا ليس فيه بيان للتحريم . فهديه لا شك فيه ، أن صيام يوم ، وفطر يوم أفضل من صوم الدهر، وأحب إلى الله . وسرد صيام الدهر مكروه ، فإنه لو لم يكن مكروهاً ، لزم أحد ثلاثة أمور ممتنعة : أن يكون أحب إلى الله من صوم يوم وفطر يوم ، وأفضل منه ، لأنه زيادة عمل ، وهذا مردود بالحديث الصحيح . "إن أحب الصيام الى الله صيام داود" ، وإنه لا أفضل منه . وإما أن يكون مساوياً في الفضل وهو ممتنع أيضاً، وإما أن يكون مباحاً متساوي الطرفين لا استحباب فيه ، ولا كراهة، وهذا ممتنع ، إذ ليس هذا شأن الجادات ، بل إما أن تكون راجحة ، أو مرجوحة والله أعلم . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من صام رمضان ، وأتبعه ستة أيام من شوال، فكأنما صام الدهر" . وقال فيمن صام ثلاثة أيام من كل شهر : " إن ذلك يعدل صوم الدهر" ، وذلك يدل على أن صوم الدهر أفضل مما عدل به ، وأنه أمر مطلوب ، وثوابه أكثر من ثواب الصائمين ، حتى شبه به من صام هذا الصيام .
قيل : نفس هذا التشبيه في الأمر المقدر، لا يقتضي جوازه فضلاً عن استحبابه ، وإنما يقتضي التشبيه به في ثوابه لو كان مستحباً، والدليل عليه ، من نفس الحديث ، فإنه جعل صيام ثلاثة أيام من كل شهر بمنزلة صيام الدهر، إذ الحسنة بعشر أمثالها، وهذا يقتضي أن يحصل له ثواب من صام ثلاثمائة وستين يوماً، ومعلوم أن هذا حرام قطعاً، فعلم أن المراد به حصول هذا الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوماً، وكذلك قوله في صيام ستة أيام من شوال ، إنه يعدل مع صيام رمضان السنة، ثم قرأ: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " [الأنعام : 160 ] ، فهذا صيام ستة وثلاثين يوماً، تعدل صيام ثلاثمائة وستين يوماً، وهو غير جائز بالاتفاق ، بل قد يجيء مثل هذا فيما يمتنع فعل المشبه به عادة، بل يستحيل ، وإنما شبه به من فعل ذلك على تقدير إمكانه ، كقوله لمن سأله عن عمل يعدل الجهاد: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولاتفطر ، وأن تصوم ولا تفطر، ومعلوم أن هذا ممتنع عادة ، كامتناع صوم ثلاثمائة وستين يوماً شرعاً، وقد شبه العمل الفاضل بكل منهما يزيده وضوحاً : أن القيام إلى الله قيام داود، وهو أفضل من قيام الليل كله بصريح السنة الصحيحة ، وقد مثل من صلى العشاء الآخرة، والصبح في جماعة، بمن قام الليل كله . فإن قيل : فما تقولون في حديث أبي موسى الأشعري ؟ "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم حتى تكون هكذا، وقبض كفه " . وهو في مسند أحمد .
قيل : قد اختلف في معنى هذا الحديث . فقيل : ضيقت عليه حصراً له فيها ، لتشديده على نفسه ، وحمله عليها ، ورغبته عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعتقاده أن غيره أفضل منه . وقال آخرون : بل ضيقت عليه ، فلا يبقى له فيها موضع ، ورجحت هذه الطائفة هذا التأويل ، بأن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات وطرقها بالصوم ، ضيق الله عليه النار، فلا يبقى له فيها مكان ، لأنه ضيق طرقها عنه ، ورجحت الطائفة الأولى تأويلها، بأن قالت : لو أراد هذا المعنى، لقال : ضيقت طرقها عنه ، وأما التضييق عليه ، فلا يكون إلا وهو فيها. قالوا: وهذا التأويل موافق لأحاديث كراهة صوم الدهر، وأن فاعله بمنزلة من لم يصم ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:18 AM
فصل في حكم المتطوع في الصيام إذا أفطر هل عليه قضاء أم لا
فصل
و"كان صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيقول : هل عندكم شيء ؟ فإن قالوا: لا . قال : إني إذاً صائم "، فينشىء النية للتطوع من النهار، وكان أحيانا ينوي صوم التطوع ، ثم يفطر بعد ، أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها بهذا وهذا ، فالأول : في صحيح مسلم ، والثاني : في كتاب النسائي . وأما الحديث الذي في السنن عن عائشة : "كنت أنا وحفصة صائمتين ، فعرض لنا طعام اشتهيناه ، فأكلنا منه ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبدرتني إليه حفصة، وكانت ابنة أبيها، فقالت : يا رسول الله إنا كنا صائمتين ، فعرض لنا طعام اشتهيناه ، فأكلنا منه فقال : يوماً مكانه"، فهو حديث معلول .
قال الترمذي : رواه مالك بن أنس ، ومعمر، وعبد الله بن عمر، وزياد بن سعد، وغير واحد من الحفاظ ، عن الزهري ، عن عائشة مرسلاً لم يذكروا فيه عن عروة ، وهذا أصح . ورواه أبو داود، والنسائي ، عن حيوة بن شريح ، عن ابن الهاد ، عن زميل مولى عروة ، عن عروة ، عن عائشة موصولاً ، قال النسائي : ليس بالمشهور، وقال البخاري : لا يعرف لزميل سماع من عروة، ولا ليزيد بن الهاد من زميل ، ولا تقوم به الحجة . وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان صائماً ونزل على قوم ، أتم صيامه ، ولم يفطر، كما دخل على أم سليم ، فأتته بتمر وسمن ، فقال : " أعيدوا سمنكم في سقائه ، وتمركم في وعائه ، فإئي صائم ". ولكن أم سليم كانت عنده بمنزلة أهل بيته ، وقد ثبت عنه في الصحيح : عن أبي هريرة رضي الله عنه : " إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل : إني صائم " . وأما الحديث الذي رواه ابن ماجه ، والترمذي ، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها ترفعه ، "من نزل على قوم ، فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم " ، فقال الترمذي : هذا الحديث منكر، لا نعرف أحداً من الثقات روى هذا الحديث عن هشام بن عروة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:18 AM
فصل في كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصوم
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ، كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصوم فعلاً منه وقولاً . فصح النهي عن إفراده بالصوم ، من حديث جابر بن عبد الله ، وأبي هريرة ، وجويرية بنت الحارث ، وعبد الله بن عمرو، وجنادة الأزدي وغيرهم . وشرب يوم الجمعة وهو على المنبر، يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة ، ذكره الإمام أحمد ، وعلل المنع من صومه بأنه يوم عيد، فروى الإمام أحمد، من حديث أبي هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده " .
فإن قيل : فيوم العيد لا يصام مع ما قبله ولا بعده . قيل : لما كان يوم الجمعة مشبهاً بالعيد، أخذ من شبهه النهي عن تحري صيامه ، فإذا صام ما قبله أو ما بعده ، لم يكن قد تحراه ، وكان حكمه حكم صوم الشهر، أو العشر منه صوم يوم ، وفطر يوم ، أو صوم يوم عرفة وعاشوراء إذا وافق يوم جمعة ، فإنه لا يكره صومه في شيء من ذلك .
فإن قيل : فما تصنعون بحديث عبد الله بن مسعود ؟ قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر في يوم الجمعة، رواه أهل السنن . قيل : نقبله إن كان صحيحاً ، ويتعين حمله على صومه مع ما قبله أو بعده ، ونرده إن لم يصح، فإنه من الغرائب . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:19 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف
لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى ، متوقفاً على جمعيته على الله ، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى ، وكان فضول الطعام والشراب ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول الكلام ، وفضول المنام ، مما يزيده شعثاً ، ويشتته في كل واد ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه ، أو يعوقه ويوقفه : اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول والشراب ، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة ، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاثشغال به وحده سبحانه ، بحيث يصير ذكره وحبه ، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته ، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به ، والخطرات كلها بذكره ، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه ، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق ، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ، ولا ما يفرح به سواه ، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم ، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم ، وهو العشر الأخير من رمضان ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه اعتكف مفطراً قط ، بل قد قالت عائشة : لا اعتكاف إلا بصوم .
ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا مع الصوم .
فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف : أن الصوم شرط في الاعتكاف ، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية . وأما الكلام ، فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة . وأما فضول المنام ، فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبة، وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ، ولا يعوق عن مصلحة العبد، ومدار رياضة أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي ، ولم ينحرف انحراف الغالين ، ولا قصر تقصير المفرطين ، وقد ذكرنا هديه صلى الله عليه وسلم في صيامه وقيامه وكلامه ، فلنذكر هديه في اعتكافه .
كان صلى الله عليه وسلم : يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، حتى توفاه الله عز وجل وتركه مرة ، فقضاه في شوال .
واعتكف مرة في العشر الأول ، ثم الأوسط ، ثم العشر الأخير ، يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأخير ، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل .
وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل .
وكان إذا أراد الاعتكاف ، صلى الفجر، ثم دخله ، فأمر به مرة، فضرب فأمر أزواجه بأخبيتهن ، فضربت ، فلما صلى الفجر، نظر، فرأى تلك الأخبيه . فأمر بخبائه فقوض ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال .
وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام ، فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، وكان يعارضه جبريل بالقران كل سنة مرة، فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين ، وكان يعرض عليه القرآن أيضاً في كل سنة مرة فعرض عليه تلك السنة مرتين .
وكان إذا اعتكف ، دخل قبته وحده ، وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان ، وكان يخرج رأسه من المسجد إلى بيت عائشة ، فترجله ، وتغسله وهو في المسجد وهي حائض ، وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف . فإذا قامت تذهب ، قام معها يقلبها، وكان ذلك ليلاً ، ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها، وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ، ووضع له سريره في معتكفه ، وكان إذا خرج لحاجته ، مر بالمريض وهو على طريقه ، فلا يعرج عليه ولا يسأل عنه . واعتكف مرة في قبة تركية ، وجعل على سدتها حصيراً ، كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه ، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ، ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الأحاديث فهذا لون ، والاعتكاف النبوي لون . والله الموفق .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:19 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمره
اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم : بعد الهجرة أربع عمر ، كلهن فى ذى القعدة . الأولى : عمرة الحديبية ، وهي أولاهن سنة ست ، فصده المشركون عن البيت ، فنحر البدن حيث صد بالحديبية ، وحلق هو وأصحابه رؤوسهم ، وحلوا من إحرامهم ، ورجع من عامه إلى المدينة . الثانية : عمرة القضية في العام المقبل ، دخل مكة فأقام بها ثلاثاً ، ثم خرج بعد إكمال عمرته ، واختلف : هل كانت قضاء للعمرة التي صد عنها في العام الماضي ، أم عمرة مستأنفة ؟ على قولين للعلماء ، وهما روايتان للإمام أحمد : إحداهما : أنها قضاء ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
والثانية ليست بقضاء، وهو قول مالك رحمه الله ، والذين قالوا: كانت قضاء . احتجوا بأنها سميت عمرة القضاء ، وهذا الاسم تابع للحكم . وقال آخرون : القضاء هنا من المقاضاة، لأنه قاضى أهل مكة عليها، لا أنه من قضى قضاء. قالوا : سميت عمرة القضية . قالوا: والذين صدوا عن البيت ، كانوا ألفاً وأربعمائة وهؤلاء كلهم لم يكونوا معه في عمرة القضية، ولو كانت قضاء، لم يتخلف منهم أحد ، وهذا القول أصح ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر من كان معه بالقضاء .
الثالثة : عمرته التي قرنها مع حجته ، فإنه كان قارناً لبضعة عشر دليلاً ، سنذكرها عن قريب إن شاء الله .
الرابعة: عمرته من الجعرانة، لما خرج إلى حنين ، ثم رجع إلى مكة، فاعتمر من الجعرانة داخلاً إليها .
ففي الصحيحين : عن أنس بن مالك قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي كانت مع حجته : عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته . ولم يناقض هذا ما في الصحيحين عن البراء بن عازب قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين ، لأنه أراد العمرة المفردة المستقلة ، ولا ريب أنهما اثنتان ، فإن عمرة القران لم تكن مستقلة، وعمرة الحديبية صد عنها، وحيل بينة وبين إتمامهن ، ولذلك قال ابن عباس : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر . عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء من قابل ، والثالثة من الجعرانة، والرابعة مع حجته ذكره الإمام أحمد .
ولا تناقض بن حديث أنس : أنهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته، وبين قول عائشة، وابن عباس : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة، لأن مبدأ عمرة القران ، كان في ذي القعدة، ونهايتها كان في ذي الحجة مع انقضاء الحج ، فعائشة وابن عباس أخبرا عن ابتدائها ، وأنس أخبر عن انقضائها .
فأما قول عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم ، اعتمر أربعاً، إحداهن في رجب فوهم منه رضي الله عنه . قالت عائشة لما بلغها ذلك عنه : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة قط إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط .
وأما ما رواه الدارقطني ، عن عائشة قالت : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة في رمضان فأفطر وصمت ، وقصر وأتممت ، فقلت : بأبي وأمي ، أفطرت وصمت ، وقصرت وأتممت ، فقال : أحسنت يا عائشة . فهذا الحديث غلط ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ، وعمره مضبوطة العدد والزمان ، ونحن نقول : يرحم الله أم المؤمنين ، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قط ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة ، رواه ابن ماجه وغيره .
ولا خلاف أن عمره لم تزد على أربع ، فلو كان قد اعتمر في رجب ، لكانت خمساً، ولو كان قد اعتمر في رمضان ، لكانت ستاً، إلا أن يقال : بعضهن في رجب، وبعضهن في رمضان ، وبعضهن في ذي القعدة، وهذا لم يقع ، وإنما الواقع ، اعتماره في ذي القعدة كما قال أنس رضي الله عنه ، وابن عباس رضي الله عنه ، وعائشة رضي الله عنها . وقد روى أبو داود في سننه عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال . وهذا إذا كان محفوظاً ، فلعله في عمرة الجعرانة حين خرج في شوال ، ولكن إنما أحرم بها في ذي القعدة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:20 AM
فصل ولم يكن في عمره عمرة واحدة خارجاً من مكة
فصل
ولم يكن في عمره عمرة واحدة خارجاً من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم ، وإنما كانت عمرة كلها داخلاً إلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة في تلك المدة أصلاً .
فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها ، هي عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة ، وحدها بين سائر من كان معه ، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت ، فأمرها ، فأدخلت الحج على العمرة ، وصارت قارنة ، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلين ، فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن ، ولم وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم لقلبها، ولم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحجة ولا أحد ممن كان معه ، وسيأتي مزيد تقرير لهذا وبسط له عن قريب إن شاء الله تعالى .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:20 AM
فصل في كون عمر الرسول كلها كانت في أشهر الحج
فصل
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مكة بعد الهجرة خمس مرات سوى المرة الأولى فإنه وصل إلى الحديبية، وصد عن الدخول إليها، أحرم في أربع منهن من الميقات لا قبله ، فأحرم عام الحديبية من ذي الحليفة ، ثم دخلها المرة الثانية ، فقضى عمرته ، وأقام بها ثلاثاً ، ثم خرج ، ثم دخلها في المرة الثالثة عام الفتح في رمضان بغير إحرام ، ثم خرح منها إلى حنين ، ثم دخلها بعمرة من الجعرانة ودخلها في هذه العمرة ليلاً، وخرج ليلاً، فلم يخرج من مكة إلى الجعرانة ليعتمر كما يفعل أهل مكة اليوم ، وإنما أحرم منها في حال دخوله إلى مكة، ولما قضى عمرته ليلاً، رجع من فوره الى الجعرانة، فبات بها، فلما أصبح وزالت الشمس ، خرج من بطن سرف حتى جامع الطريق [طريق جمع ببطن سرف ]، ولهذا خفيت هذه العمرة على كثير من الناس .
والمقصود ، أن عمرة كلها كانت في أشهر الحج، مخالفة لهدي المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون : هي من أفجر الفجور وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب . الإعتمار فى أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك .
وأما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان ، فموضع نظر ، فقد صح عنه أنه أمر أم معقل لما فاتها الحج ، أن تعتمر في رمضان ، وأخبرها أن عمرة في رمضان تعدل حجة .
وأيضاً : فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان ، وأفضل البقاع ، ولكن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم ، في عمره إلا أولى الأوقات وأحقها بها ، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره ، وهذه الأشهر قد خصها الله تعالى بهذه العبادة، وجعلها وقتاً لها، والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج ، وذو القعدة أوسطها، وهذا مما نستخير الله فيه ، فمن كان عنده فضل علم ، فليرشد إليه .
وقد يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهم من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة، فأخر العمرة إلى أشهر الحج ، ووفر نفسه على تلك العبادات في رمضان مع ما في ترك ذلك من الرحمة بأمته والرأفة بهم، فإنه لو اعتمر في رمضان ، لبادرت الأمة ذلك ، وكان يشق عليها الجمع بين العمرة والصوم ، وربما لا تسمح أكثر النفوس بالفطر في هذه العبادة حرصاً على تحصيل العمرة وصوم رمضان ، فتحصل المشقة ، فأخرها إلى أشهر الحج ، وقد كان يترك كثيراً من العمل وهو يحب أن يعمله ، خشية المشقة عليهم .
ولما دخل البيت ، خرج منه حزيناً ، فقالت له عائشة في ذلك ؟ فقال :" إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي " . وهم أن ينزل يستسقي مع سقاة زمزم للحاج ، فخاف أن يغلب أهلها على سقايتهم بعده . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:21 AM
فصل ولم يحفظ عنه أنه اعتمر في السنة إلا مرة واحدة
فصل
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه اعتمر في السنة إلا مرة واحدة، ولم يعتمر في سنة مرتين ، وقد ظن بعض الناس أنه اعتمر في سنة مرتين ، واحتج بما رواه أبو داود في سننه عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين ، عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال . قالوا : وليس المراد بها ذكر مجموع ما اعتمر، فإن أنساً ، وعائشة ، وابن عباس ، وغيرهم قد قالوا : إنه اعتمر أربع عمر ، فعلم أن مرادها بأنه اعتمر في سنة مرتين ، مرة في ذي القعدة ، ومرة في شوال ، وهذا الحديث وهم ، وإن كان محفوظاً عنها، فإن هذا لم يقع قط ، فإنه اعتمر أربع عمر بلا ريب : العمرة الأولى كانت في ذي القعدة عمرة الحديبية ، ثم لم يعتمر إلى العام القابل ، فاعتمر عمرة القضية في ذي القعدة ، ثم رجع إلى المدينة ولم يخرج إلى مكة حتى فتحها سنة ثمان في رمضان ، ولم يعتمر ذلك العام ، ثم خرج إلى حنين في ست من شوال وهزم الله أعداءه ، فرجع إلى مكة، وأحرم بعمرة، وكان ذلك في ذي القعدة كما قال أنس ، وابن عباس : فمتى اعتمر في شوال ؟ ولكن لقي العدو في شوال ، وخرج فيه من مكة، وقضى عمرته لما فرغ من أمر العدو في ذي القعدة ليلاً، ولم يجمع ذلك العام بين عمرتين ، ولا قبله ولا بعده ، ومن له عناية بأيامه مجين وسيرته وأحواله ، لا يشك ولا يرتاب في ذلك .
فإن قيل : فبأي شيء يستحبون العمرة في السنة مراراً إذا لم يثبتوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قيل : قد اختلف في هذه المسألة، فقال مالك : أكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة واحدة ، وخالفه مطرف من أصحابه وابن المواز، قال مطرف : لا بأس بالعمرة في السنة مراراً، وقال ابن المواز : أرجو أن لا يكون به بأس ، وقد اعتمرت عائشة مرتين في شهر، ولا أرى أن يمنع أحد من التقرب إلى الله بشيء من الطاعات ، ولا من الازدياد من الخير في موضع ، ولم يأت بالمنع منه نص، وهذا قول الجمهور، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى، استثنى خمسة أيام لا يعتمر فيها : يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق . واسشثنى أبو يوسف رحمه الله تعالى : يوم النحر ، وأيام التشريق خاصة ، واستثنت الشافعية : البائت بمنى لرمي أيام التشريق . واعتمرت عائشة في سنة مرتين . فقيل للقاسم : لم ينكر عليها أحد؟ فقال : أعلى أم المؤمنين ؟! وكان أنس إذا حمم رأسه ، خرج فاعتمر .
ويذكر عن علي رضي الله عنه ، أنه كات يعتمر في السنة مراراً وقد قال صلى الله عليه وسلم : "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". ويكفي في هذا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم سوى عمرتها التي كانت أهلت بها، وذلك في عام واحد ، ولا يقال : عائشة كانت قد رفضت العمرة، فهذه التي أهلت بها من التنعيم عنها، لأن العمرة لا يصح رفضها. وقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "يسعك لحجك وعمرتك" وفي لفظ "حللت منهما جميعا" فإن قيل : قد ثبت في صحيح البخاري : أنه صلى الله عليه وسلم قال لها :" ارفضي عمرتك ، وانقضي رأسك وامتشطي " ، وفي لفظ آخر : " انقضي ، وامتشطي" ، وفي لفظ : "أهلي بالحج ودعي العمرة" ، فهذا صريح في رفضها من وجهين ، أحدهما : قوله ارفضيها ودعيها ، والثاني : أمره لها بالامتشاط قيل : معنى قوله : ارفضيها: اتركي أفعالها والاقتصار عليها ، وكوني في حجة معها، ويتعين أن يكون هذا هو المراد بقوله : "حللت منهما جميعاً " ، لما قضت أعمال الحج . وقوله "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " ، فهذا صريح في أن إحرام العمرة لم يرفض ، وإنما رفضت أعمالها والإقتصار عليها ، وأنها بانقضاء حجها انقضى حجها وعمرتها، ثم أعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها، إذ تأتي بعمرة مستقلة كصواحباتها، ويوضح ذلك إيضاحاً بينا، ما روى مسلم في صحيحه ، من حديث الزهري ، عن عروة، عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فحضت ، فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، ولم أهل إلا بعمرة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي وامتشط ، وأهل بالحج ، وأترك العمرة، قالت : ففعلت ذلك ، حتى إذا قضيت حجي ، بعث معي رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، وأمرني أن اعتمر من التنعيم مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أهل منها . فهذا حديث في غاية الصحة والصراحة، أنها لم تكن أحلت من عمرتها، وأنها بقيت محرمة حتى أدخلت عليها الحج ، فهذا خبرها عن نفسها ، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، كل منهما يوافق الآخر وبالله التوفيق .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار، وتنبية على ذلك ، إذ لو كانت العمرة كالحج لا تفعل في السنة إلا مرة، لسوى بينهما ولم يفرق .
وروى الشافعي رحمه الله ، عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : اعتمر في كل شهر مرة . وروى وكيع عن اسرائيل ، عن سويد بن أبي ناجية، عن أبي جعفر، قال : قال علي رضي الله عنه : اعتمر فى الشهر إن أطقت مراراً. وذكر سعيد بن منصور، عن سفيان بن أبي حسين ، عن بعض ولد أنس ، أن أنساً كان إذا كان بمكة فحمم رأسه ، خرج إلى التنعيم فاعتمر .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:21 AM
فصل في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته
لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر .
واختلف : هل حج قبل الهجرة ؟ فروى الترمذي ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر معها عمرة . قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال : وسألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا، فلم يعرفه من حديث الثوري ، وفي رواية : لا يعد هذا الحديث محفوظاً .
ولما نزل فرض الحج ، بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخيرفرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر، وأما قوله تعالى : " وأتموا الحج والعمرة لله " [البقرة : 196 ]، فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فرضية الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الإبتداء، فإن قيل : فمن أين لكم تأخير نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ، ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدك عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " [التوبة : 28 ]، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات ، والمناداة بها، إنما كان في سنة تسع ، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج ، وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:23 AM
فصل في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم
فصل
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج ، فتجهزوا للخروج معه ، وسمع ذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، فكانوا من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله مد البصر، وخرج من المدينة نهاراً بعد الظهر لست بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه .
وقال ابن حزم : وكان خروجه يوم الخميس ، قلت : والظاهر : أن خروجه كان يوم السبت ، واحتج ابن حزم على قوله بثلاث مقدمات . إحداها : أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة . والثانية : أن استهلال ذي الحجة كان يوم الخميس ، والثالثة : أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، واحتج على أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة، بما روى البخاري من حديث ابن عباس ، انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ........ فذكر الحديث . وقال : وذلك لخمس بقين من ذي القعدة . قال ابن حزم : وقد نص ابن عمر على أن يوم عرفة، كان يوم الجمعة، وهو التاسع ، واستهلال ذي الحجة بلا شك ليلة الخميس ، فآخر ذي القعدة يوم الأربعاء، فإذا كان خروجه لست بقين من ذي القعدة، كان يوم الخميس ، إذ الباقي بعده ست ليال سواه .
ووجه ما اخترناه ، أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين و هي يوم السبت ، والأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، فهذه خمس ، وعلى قوله : يكون خروجه لسبع بقين . فإن لم يعد يوم الخروج ، كان لست ، وأيهما كان فهو خلاف الحديث ، وإن اعتبر الليالي ، كان خروجه لست ليال بقين فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس ، وبين بقاء خمس من الشهر البتة، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت ، فإن الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته على منبره شأن الإحرام ، وما يلبس المحرم بالمدينة، والظاهر: إن هذا كان يوم الجمعة، لأنه لم ينقل أنه جمعهم ، ونادى فيهم لحضور الخطبة، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره . وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله ، فأولى الأوقات به الجمعة التي يليها خروجه ، والظاهر : أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلق ، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين ، وقد حضر ذلك الجمع العظيم ، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت والله أعلم . ولما علم أبو محمد ابن حزم ، أن قول ابن عباس رضي الله عنه ، وعائشة رضي الله عنها: خرج لخمس بقين من ذي القعدة، لا يلتئم مع قوله أوله بأن قال : معناه أن اندفاعه من ذي الحليفة كان لخمس ، قال : وليس بين ذي الحليفة وبين المدينة إلا أربعة أميال فقط ، فلم تعد هذه المرحلة القريبة لقلتها ، وبهذا تأتلف جميع الأحاديث . قال : ولو كان خروجه من المدينة لخمس بقين لذي القعدة، لكان خروجه بلا شك يوم الجمعة، وهذا خطأ لأن الجمعة لا تصلى أربعاً ، وقد ذكر أنس ، أنهم صلوا الظهر معه بالمدينة أربعاً . قال : ويزيده وضوحاً، ثم ساق من طريق البخاري ، حديث كعب بن مالك : قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إذا خرج : إلا يوم الخميس ، وفي لفظ آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يخرج يوم الخميس، فبطل خروجه يوم الجمعة لما ذكرنا عن أنس ، وبطل خروجه يوم السبت ، لأنه حينئذ يكون خارجاً من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة، وهذا ما لم يقله أحد .
قال : وأيضاً قد صح مبيته بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة، فكان يكون اندفاعه من ذي الحليفة يوم الأحد، يعني : لو كان خروجه يوم السبت ، وصح مبيته بذي طوى ليلة دخوله مكة، وصح عنه أنه دخلها صبح رابعة من ذي الحجة، فعلى هذا تكون مدة سفره مر المدينة إلى مكة سبعة أيام ، لأنه كان يكون خارجاً من المدينة لو كان ذلك لأربع بقين لذي القعدة، واستوى على مكة لثلاث خلون من ذي الحجة، وفي اسقبال الليلة الرابعة، فتلك سبع ليال لا مزيد، وهذا خطأ بإجماع ، وأمر لم يقله أحد ، فصح أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة، وائتلفت الروايات كلها، وانتفى التعارض عنها بحمد الله انتهى .
قلت : في متآلفة متوافقة، والتعارض منتف عنها مع خروجه يوم السبت ، ويزول عنها الإستكراه الذي أولها عليه كما ذكرناه . وأما قول أبي محمد ابن حزم : لو كان خروجه من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، لكان خروجه يوم الجمعة إلى آخره فغير لازم ، بل يصح أن يخرج لخمس ، ويكون خروجه يوم السبت ، والذي غر أبا محمد أنه رأى الراوي قد حذف التاء من العدد ، وهي إنما تحذف من المؤنث ، ففهم لخمس ليال بقين ، وهذا إنما يكون اذا كان الخروج يوم الجمعة . فلو كان يوم السبت ، لكان لأربع ليال بقين ، وهذا بعينه ينقلب عليه ، فإنه لو كان خروجه يوم الخميس ، لم يكن لخمس ليال بقين ، وإنما يكون لست ليال بقين ، ولهذا اضطر إلى أن يؤول الخروح المقيد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذي الحليفة، ولا ضرورة له إلى ذلك ، إذ من الممكن أن يكون شهر ذي القعدة كان ناقصاً ، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناء على المعتاد من الشهر، وهذه عادة العرب والناس قي تواريخهم ، أن يؤرخوا بما بقي من الشهر بناء على كماله ، ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه ، وظهور نقصه كذلك ، لئلا يختلف عليهم التاريخ ، فيصح أن يقول القائل : يوم الخامس والعشرين لخمس بقين ، ويكون الشهر تسعاً وعشرين ، وأيضاً فإن الباقي كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج ، والعرب إذا اجتمعت الليالي والأيام في التاريخ ، غلبت لفظ الليالي لأنها أول الشهر ، وهي أسبق من اليوم ، فتذكر الليالي ، ومرادها الأيام فيصح أن تقال : لخمس بقين باعتبار الأيام ، ويذكر لفظ العدد بإعتبار فصح حينئذ أن يكون خروجه لخمس بقين ، ولا يكون يوم الجمعة . وأما حديث كعب ، فليس فيه أنه لم يكن يخرج قط إلا يوم الخميس ، وإنما فيه أن ذلك كان أكثر خروجه ، ولا ريب أنه لم يكن يتقيد في خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس .
وأما قوله : لو خرج يوم السبت ، لكان خارجاً لأربع ، فقد تبين أنه لا يلزم باعتبار الليالي ، ولا باعتبار الأيام . وأما قوله : إنه بات بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة إلى آخره ، فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدة سفره سبعة أيام ، فهذا عجيب منه ، فإنه إذا خرج يوم السبت وقد بقي من الشهر خمسة أيام ، ودخل مكة لأربع مضين من ذي الحجة، فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام، وهذا غير مشكل بوجه من الوجوه ، فإن الطريق التي سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار، وسير العرب أسرع من سير الحضر بكثير، ولا سيما، مع عدم المحامل والكجاوات والزوامل الثقال . والله أعلم . عدنا إلى سياق حجه ، فصلى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعاً، ثم ترجل وادهن ، ولبس إزاره ورداءه ، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة ، فصلى بها العصر ركعتين ، ثم بات بها وصلى بها المغرب ، والعشاء والصبح ، والظهر، فصلى بها خمس صلوات ، وكان نساؤه كلهن معه ، وطاف عليهن تلك الليلة ، فلما أراد الإحرام ، اغتسل غسلاً ثانياً لإحرامه غير غسل الجماع الأول ، ولم يذكر ابن حزم أنه اغتسل غير الغسل الأول للجنابة ، وقد ترك بعض الناس ذكره ، فإما أن يكون تركه عمداً، لأنه لم يثبت عنده ، وإما أن يكون تركه سهواً منه ، وقد قال زيد بن ثابت : إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل . قال الترمذي : حديث حسن غريب .
وذكر الدارقطني ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم ، غسل رأسه بخطمي وأشنان . ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك في بدنه ورأسه ، حتى كان وبيص المسك يرى في مفارقه ولحيته ، ثم استدامه ولم يغسله ، ثم لبس إزاره ورداءه ، ثم صلى الظهر ركعتين ، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه ، ولم ينقل عنه أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر .
وقلد قبل الإحرام بدنه نعلين ، وأشعرها في جانبها الأيمن ، فشق صفحة سنامها ، وسلت الدم عنها .
وإنما قلنا: إنه أحرم قارنا ببضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك .
أحدها : ما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر، قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج وذكر الحديث .
وثانيها: ما أخرجاه في الصحيحين أيضاً، عن عروة ، عن عائشة أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثل حديث ابن عمر سواء .
وثالثها: ما روى مسلم في صحيحه ، من حديث قتيبة، عن الليث عن نافع ، عن ابن عمر، أنه قرن الحج الى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً ، ثم قال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورابعها: ما روى أبو داود، عن النفيلي ، حدثنا زهير هو ابن معاوية، حدثنا إسحاق عن مجاهد: سئل ابن عمر : كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: مرتين . فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سوى التي قرن بحجته .
ولم يناقض هذا قول ابن عمر. "إنه صلى الله عليه وسلم ، قرن بين الحج والعمرة"، لأنه أراد العمرة الكاملة المفردة، ولا ريب أنهما عمرتان : عمرة القضاء وعمرة الجعرانة ، وعائشة رضي الله عنها أرادت العمرتين المستقلتين ، وعمرة القرآن ، والتي صد عنها، ولا ريب أنها أربع .
وخامسها: ما رواه سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر بن عبدالله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : حج ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر معها عمرة . رواه الترمذي وغيره .
وسادسها: ما رواه ابو داود، عن النفيلي وقتيبة قالا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية : حين تواطؤوا على عمرة من قابل ، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن مع حجته .
وسابعها: ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول : "أتاني الليلة آت من ربي عز وجل ، فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة" .
وثامنها: ما رواه أبو داود عن البراء بن عازب قال : كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن ، فأصبت معه أواقي من ذهب ، فلما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وجدت فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثياباً صبيغات ، وقد نضحت البيت بنضوح ، فقالت : مالك ؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، قال : فقلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : كيف صنعت ؟ قال : قلت : أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فإني قد سقت الهدي ، وقرنت وذكر الحديث .
وتاسعها: ما رواه النسائي عن عمران بن يزيد الدمشقي ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن علي بن الحسين ، عن مروان بن الحكم قال : كنت جالساً عند عثمان ، فسمع علياً بن الحسين يلبي بعمرة وحجة ، فقال : ألم تكن تنهى عن هذا ؟ قال : بلى لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعاً، فلم أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك . وعاشرها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن حميد بن هلال قال : سمعت مطرفاً قال : قال عمران بن حصين : أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات ، ولم ينزل قرآن يحرمه .
وحادي عشرها: ما رواه يحيى بن سعيد القطان ، وسفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال : إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة، لأنه علم أنه لا يحج بعدها . وله طرق صحيحة إليهما .
وثاني عشرها: ما رواه الإمام أحمد من حديث سراقة بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، قال : وقرن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إسناده ثقات .
وثالث عشرها : ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث أبي طلحة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة ورواه الدارقطني ، وفيه الحجاج بن أرطاة .
ورابع عشرها: ما رواه أحمد من حديث الهرماس بن زياد الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع بين الحج والعمرة .
وخامس عشرها: ما رواه البزار بإسناد صحيح أن ابن أبي أوفى قال : إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة ، لأنه علم أنه لا يحج بعد عامه ذلك وقد قيل : إن يزيد بن عطاء أخطأ في إسناده ، وقال آخرون : لا سبيل إلى تخطئته بغير دليل .
وسادس عشرها: ما رواه الإمام أحمد ، من حديث جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، فطاف لهما طوافاً واحداً . ورواه الترمذي ، وفيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء ، أو يخالف الثقات . وسابع عشرها: ما رواه الإمام أحمد، من حديث أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج " .
وثامن عشرها : ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ لمسلم ، عن حفصة قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : "إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من الحج " وهذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج ، فإنه لا يحل من العمرة حتى يحل من الحج ، وهذا على أصل مالك والشافعي ألزم ، لأن المعتمر عمرة مفردة لا يمنعه عندهما الهدي من التحلل ، وإنما يمنعه عمرة القران ، فالحديث أصلهما نص .
وتاسع عشرها : ما رواه النسائي ، والترمذي ، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، أنه سمع سعد بن أبي وقاص ، والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان ، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله ، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي . قال الضحاك : فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك ، قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصنعناها معه ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
====>>>يتبع
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:24 AM
فصل في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم
فصل
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج ، فتجهزوا للخروج معه ، وسمع ذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، فكانوا من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله مد البصر، وخرج من المدينة نهاراً بعد الظهر لست بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه .
وقال ابن حزم : وكان خروجه يوم الخميس ، قلت : والظاهر : أن خروجه كان يوم السبت ، واحتج ابن حزم على قوله بثلاث مقدمات . إحداها : أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة . والثانية : أن استهلال ذي الحجة كان يوم الخميس ، والثالثة : أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، واحتج على أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة، بما روى البخاري من حديث ابن عباس ، انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ........ فذكر الحديث . وقال : وذلك لخمس بقين من ذي القعدة . قال ابن حزم : وقد نص ابن عمر على أن يوم عرفة، كان يوم الجمعة، وهو التاسع ، واستهلال ذي الحجة بلا شك ليلة الخميس ، فآخر ذي القعدة يوم الأربعاء، فإذا كان خروجه لست بقين من ذي القعدة، كان يوم الخميس ، إذ الباقي بعده ست ليال سواه .
ووجه ما اخترناه ، أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين و هي يوم السبت ، والأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، فهذه خمس ، وعلى قوله : يكون خروجه لسبع بقين . فإن لم يعد يوم الخروج ، كان لست ، وأيهما كان فهو خلاف الحديث ، وإن اعتبر الليالي ، كان خروجه لست ليال بقين فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس ، وبين بقاء خمس من الشهر البتة، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت ، فإن الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته على منبره شأن الإحرام ، وما يلبس المحرم بالمدينة، والظاهر: إن هذا كان يوم الجمعة، لأنه لم ينقل أنه جمعهم ، ونادى فيهم لحضور الخطبة، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره . وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله ، فأولى الأوقات به الجمعة التي يليها خروجه ، والظاهر : أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلق ، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين ، وقد حضر ذلك الجمع العظيم ، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت والله أعلم . ولما علم أبو محمد ابن حزم ، أن قول ابن عباس رضي الله عنه ، وعائشة رضي الله عنها: خرج لخمس بقين من ذي القعدة، لا يلتئم مع قوله أوله بأن قال : معناه أن اندفاعه من ذي الحليفة كان لخمس ، قال : وليس بين ذي الحليفة وبين المدينة إلا أربعة أميال فقط ، فلم تعد هذه المرحلة القريبة لقلتها ، وبهذا تأتلف جميع الأحاديث . قال : ولو كان خروجه من المدينة لخمس بقين لذي القعدة، لكان خروجه بلا شك يوم الجمعة، وهذا خطأ لأن الجمعة لا تصلى أربعاً ، وقد ذكر أنس ، أنهم صلوا الظهر معه بالمدينة أربعاً . قال : ويزيده وضوحاً، ثم ساق من طريق البخاري ، حديث كعب بن مالك : قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إذا خرج : إلا يوم الخميس ، وفي لفظ آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يخرج يوم الخميس، فبطل خروجه يوم الجمعة لما ذكرنا عن أنس ، وبطل خروجه يوم السبت ، لأنه حينئذ يكون خارجاً من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة، وهذا ما لم يقله أحد .
قال : وأيضاً قد صح مبيته بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة، فكان يكون اندفاعه من ذي الحليفة يوم الأحد، يعني : لو كان خروجه يوم السبت ، وصح مبيته بذي طوى ليلة دخوله مكة، وصح عنه أنه دخلها صبح رابعة من ذي الحجة، فعلى هذا تكون مدة سفره مر المدينة إلى مكة سبعة أيام ، لأنه كان يكون خارجاً من المدينة لو كان ذلك لأربع بقين لذي القعدة، واستوى على مكة لثلاث خلون من ذي الحجة، وفي اسقبال الليلة الرابعة، فتلك سبع ليال لا مزيد، وهذا خطأ بإجماع ، وأمر لم يقله أحد ، فصح أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة، وائتلفت الروايات كلها، وانتفى التعارض عنها بحمد الله انتهى .
قلت : في متآلفة متوافقة، والتعارض منتف عنها مع خروجه يوم السبت ، ويزول عنها الإستكراه الذي أولها عليه كما ذكرناه . وأما قول أبي محمد ابن حزم : لو كان خروجه من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، لكان خروجه يوم الجمعة إلى آخره فغير لازم ، بل يصح أن يخرج لخمس ، ويكون خروجه يوم السبت ، والذي غر أبا محمد أنه رأى الراوي قد حذف التاء من العدد ، وهي إنما تحذف من المؤنث ، ففهم لخمس ليال بقين ، وهذا إنما يكون اذا كان الخروج يوم الجمعة . فلو كان يوم السبت ، لكان لأربع ليال بقين ، وهذا بعينه ينقلب عليه ، فإنه لو كان خروجه يوم الخميس ، لم يكن لخمس ليال بقين ، وإنما يكون لست ليال بقين ، ولهذا اضطر إلى أن يؤول الخروح المقيد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذي الحليفة، ولا ضرورة له إلى ذلك ، إذ من الممكن أن يكون شهر ذي القعدة كان ناقصاً ، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناء على المعتاد من الشهر، وهذه عادة العرب والناس قي تواريخهم ، أن يؤرخوا بما بقي من الشهر بناء على كماله ، ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه ، وظهور نقصه كذلك ، لئلا يختلف عليهم التاريخ ، فيصح أن يقول القائل : يوم الخامس والعشرين لخمس بقين ، ويكون الشهر تسعاً وعشرين ، وأيضاً فإن الباقي كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج ، والعرب إذا اجتمعت الليالي والأيام في التاريخ ، غلبت لفظ الليالي لأنها أول الشهر ، وهي أسبق من اليوم ، فتذكر الليالي ، ومرادها الأيام فيصح أن تقال : لخمس بقين باعتبار الأيام ، ويذكر لفظ العدد بإعتبار فصح حينئذ أن يكون خروجه لخمس بقين ، ولا يكون يوم الجمعة . وأما حديث كعب ، فليس فيه أنه لم يكن يخرج قط إلا يوم الخميس ، وإنما فيه أن ذلك كان أكثر خروجه ، ولا ريب أنه لم يكن يتقيد في خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس .
وأما قوله : لو خرج يوم السبت ، لكان خارجاً لأربع ، فقد تبين أنه لا يلزم باعتبار الليالي ، ولا باعتبار الأيام . وأما قوله : إنه بات بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة إلى آخره ، فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدة سفره سبعة أيام ، فهذا عجيب منه ، فإنه إذا خرج يوم السبت وقد بقي من الشهر خمسة أيام ، ودخل مكة لأربع مضين من ذي الحجة، فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام، وهذا غير مشكل بوجه من الوجوه ، فإن الطريق التي سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار، وسير العرب أسرع من سير الحضر بكثير، ولا سيما، مع عدم المحامل والكجاوات والزوامل الثقال . والله أعلم . عدنا إلى سياق حجه ، فصلى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعاً، ثم ترجل وادهن ، ولبس إزاره ورداءه ، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة ، فصلى بها العصر ركعتين ، ثم بات بها وصلى بها المغرب ، والعشاء والصبح ، والظهر، فصلى بها خمس صلوات ، وكان نساؤه كلهن معه ، وطاف عليهن تلك الليلة ، فلما أراد الإحرام ، اغتسل غسلاً ثانياً لإحرامه غير غسل الجماع الأول ، ولم يذكر ابن حزم أنه اغتسل غير الغسل الأول للجنابة ، وقد ترك بعض الناس ذكره ، فإما أن يكون تركه عمداً، لأنه لم يثبت عنده ، وإما أن يكون تركه سهواً منه ، وقد قال زيد بن ثابت : إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل . قال الترمذي : حديث حسن غريب .
وذكر الدارقطني ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم ، غسل رأسه بخطمي وأشنان . ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك في بدنه ورأسه ، حتى كان وبيص المسك يرى في مفارقه ولحيته ، ثم استدامه ولم يغسله ، ثم لبس إزاره ورداءه ، ثم صلى الظهر ركعتين ، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه ، ولم ينقل عنه أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر .
وقلد قبل الإحرام بدنه نعلين ، وأشعرها في جانبها الأيمن ، فشق صفحة سنامها ، وسلت الدم عنها .
وإنما قلنا: إنه أحرم قارنا ببضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك .
أحدها : ما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر، قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج وذكر الحديث .
وثانيها: ما أخرجاه في الصحيحين أيضاً، عن عروة ، عن عائشة أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثل حديث ابن عمر سواء .
وثالثها: ما روى مسلم في صحيحه ، من حديث قتيبة، عن الليث عن نافع ، عن ابن عمر، أنه قرن الحج الى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً ، ثم قال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورابعها: ما روى أبو داود، عن النفيلي ، حدثنا زهير هو ابن معاوية، حدثنا إسحاق عن مجاهد: سئل ابن عمر : كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: مرتين . فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سوى التي قرن بحجته .
ولم يناقض هذا قول ابن عمر. "إنه صلى الله عليه وسلم ، قرن بين الحج والعمرة"، لأنه أراد العمرة الكاملة المفردة، ولا ريب أنهما عمرتان : عمرة القضاء وعمرة الجعرانة ، وعائشة رضي الله عنها أرادت العمرتين المستقلتين ، وعمرة القرآن ، والتي صد عنها، ولا ريب أنها أربع .
وخامسها: ما رواه سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر بن عبدالله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : حج ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر معها عمرة . رواه الترمذي وغيره .
وسادسها: ما رواه ابو داود، عن النفيلي وقتيبة قالا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية : حين تواطؤوا على عمرة من قابل ، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن مع حجته .
وسابعها: ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول : "أتاني الليلة آت من ربي عز وجل ، فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة" .
وثامنها: ما رواه أبو داود عن البراء بن عازب قال : كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن ، فأصبت معه أواقي من ذهب ، فلما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وجدت فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثياباً صبيغات ، وقد نضحت البيت بنضوح ، فقالت : مالك ؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، قال : فقلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : كيف صنعت ؟ قال : قلت : أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فإني قد سقت الهدي ، وقرنت وذكر الحديث .
وتاسعها: ما رواه النسائي عن عمران بن يزيد الدمشقي ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن علي بن الحسين ، عن مروان بن الحكم قال : كنت جالساً عند عثمان ، فسمع علياً بن الحسين يلبي بعمرة وحجة ، فقال : ألم تكن تنهى عن هذا ؟ قال : بلى لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعاً، فلم أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك . وعاشرها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن حميد بن هلال قال : سمعت مطرفاً قال : قال عمران بن حصين : أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات ، ولم ينزل قرآن يحرمه .
وحادي عشرها: ما رواه يحيى بن سعيد القطان ، وسفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال : إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة، لأنه علم أنه لا يحج بعدها . وله طرق صحيحة إليهما .
وثاني عشرها: ما رواه الإمام أحمد من حديث سراقة بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، قال : وقرن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إسناده ثقات .
وثالث عشرها : ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث أبي طلحة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة ورواه الدارقطني ، وفيه الحجاج بن أرطاة .
ورابع عشرها: ما رواه أحمد من حديث الهرماس بن زياد الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع بين الحج والعمرة .
وخامس عشرها: ما رواه البزار بإسناد صحيح أن ابن أبي أوفى قال : إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة ، لأنه علم أنه لا يحج بعد عامه ذلك وقد قيل : إن يزيد بن عطاء أخطأ في إسناده ، وقال آخرون : لا سبيل إلى تخطئته بغير دليل .
وسادس عشرها: ما رواه الإمام أحمد ، من حديث جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، فطاف لهما طوافاً واحداً . ورواه الترمذي ، وفيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء ، أو يخالف الثقات . وسابع عشرها: ما رواه الإمام أحمد، من حديث أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج " .
وثامن عشرها : ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ لمسلم ، عن حفصة قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : "إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من الحج " وهذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج ، فإنه لا يحل من العمرة حتى يحل من الحج ، وهذا على أصل مالك والشافعي ألزم ، لأن المعتمر عمرة مفردة لا يمنعه عندهما الهدي من التحلل ، وإنما يمنعه عمرة القران ، فالحديث أصلهما نص .
وتاسع عشرها : ما رواه النسائي ، والترمذي ، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، أنه سمع سعد بن أبي وقاص ، والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان ، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله ، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي . قال الضحاك : فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك ، قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصنعناها معه ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
====>>>يتبع
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:25 AM
فصل في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم
فصل
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج ، فتجهزوا للخروج معه ، وسمع ذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، فكانوا من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله مد البصر، وخرج من المدينة نهاراً بعد الظهر لست بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه .
وقال ابن حزم : وكان خروجه يوم الخميس ، قلت : والظاهر : أن خروجه كان يوم السبت ، واحتج ابن حزم على قوله بثلاث مقدمات . إحداها : أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة . والثانية : أن استهلال ذي الحجة كان يوم الخميس ، والثالثة : أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، واحتج على أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة، بما روى البخاري من حديث ابن عباس ، انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ........ فذكر الحديث . وقال : وذلك لخمس بقين من ذي القعدة . قال ابن حزم : وقد نص ابن عمر على أن يوم عرفة، كان يوم الجمعة، وهو التاسع ، واستهلال ذي الحجة بلا شك ليلة الخميس ، فآخر ذي القعدة يوم الأربعاء، فإذا كان خروجه لست بقين من ذي القعدة، كان يوم الخميس ، إذ الباقي بعده ست ليال سواه .
ووجه ما اخترناه ، أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين و هي يوم السبت ، والأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، فهذه خمس ، وعلى قوله : يكون خروجه لسبع بقين . فإن لم يعد يوم الخروج ، كان لست ، وأيهما كان فهو خلاف الحديث ، وإن اعتبر الليالي ، كان خروجه لست ليال بقين فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس ، وبين بقاء خمس من الشهر البتة، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت ، فإن الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته على منبره شأن الإحرام ، وما يلبس المحرم بالمدينة، والظاهر: إن هذا كان يوم الجمعة، لأنه لم ينقل أنه جمعهم ، ونادى فيهم لحضور الخطبة، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره . وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله ، فأولى الأوقات به الجمعة التي يليها خروجه ، والظاهر : أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلق ، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين ، وقد حضر ذلك الجمع العظيم ، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت والله أعلم . ولما علم أبو محمد ابن حزم ، أن قول ابن عباس رضي الله عنه ، وعائشة رضي الله عنها: خرج لخمس بقين من ذي القعدة، لا يلتئم مع قوله أوله بأن قال : معناه أن اندفاعه من ذي الحليفة كان لخمس ، قال : وليس بين ذي الحليفة وبين المدينة إلا أربعة أميال فقط ، فلم تعد هذه المرحلة القريبة لقلتها ، وبهذا تأتلف جميع الأحاديث . قال : ولو كان خروجه من المدينة لخمس بقين لذي القعدة، لكان خروجه بلا شك يوم الجمعة، وهذا خطأ لأن الجمعة لا تصلى أربعاً ، وقد ذكر أنس ، أنهم صلوا الظهر معه بالمدينة أربعاً . قال : ويزيده وضوحاً، ثم ساق من طريق البخاري ، حديث كعب بن مالك : قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إذا خرج : إلا يوم الخميس ، وفي لفظ آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يخرج يوم الخميس، فبطل خروجه يوم الجمعة لما ذكرنا عن أنس ، وبطل خروجه يوم السبت ، لأنه حينئذ يكون خارجاً من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة، وهذا ما لم يقله أحد .
قال : وأيضاً قد صح مبيته بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة، فكان يكون اندفاعه من ذي الحليفة يوم الأحد، يعني : لو كان خروجه يوم السبت ، وصح مبيته بذي طوى ليلة دخوله مكة، وصح عنه أنه دخلها صبح رابعة من ذي الحجة، فعلى هذا تكون مدة سفره مر المدينة إلى مكة سبعة أيام ، لأنه كان يكون خارجاً من المدينة لو كان ذلك لأربع بقين لذي القعدة، واستوى على مكة لثلاث خلون من ذي الحجة، وفي اسقبال الليلة الرابعة، فتلك سبع ليال لا مزيد، وهذا خطأ بإجماع ، وأمر لم يقله أحد ، فصح أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة، وائتلفت الروايات كلها، وانتفى التعارض عنها بحمد الله انتهى .
قلت : في متآلفة متوافقة، والتعارض منتف عنها مع خروجه يوم السبت ، ويزول عنها الإستكراه الذي أولها عليه كما ذكرناه . وأما قول أبي محمد ابن حزم : لو كان خروجه من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، لكان خروجه يوم الجمعة إلى آخره فغير لازم ، بل يصح أن يخرج لخمس ، ويكون خروجه يوم السبت ، والذي غر أبا محمد أنه رأى الراوي قد حذف التاء من العدد ، وهي إنما تحذف من المؤنث ، ففهم لخمس ليال بقين ، وهذا إنما يكون اذا كان الخروج يوم الجمعة . فلو كان يوم السبت ، لكان لأربع ليال بقين ، وهذا بعينه ينقلب عليه ، فإنه لو كان خروجه يوم الخميس ، لم يكن لخمس ليال بقين ، وإنما يكون لست ليال بقين ، ولهذا اضطر إلى أن يؤول الخروح المقيد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذي الحليفة، ولا ضرورة له إلى ذلك ، إذ من الممكن أن يكون شهر ذي القعدة كان ناقصاً ، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناء على المعتاد من الشهر، وهذه عادة العرب والناس قي تواريخهم ، أن يؤرخوا بما بقي من الشهر بناء على كماله ، ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه ، وظهور نقصه كذلك ، لئلا يختلف عليهم التاريخ ، فيصح أن يقول القائل : يوم الخامس والعشرين لخمس بقين ، ويكون الشهر تسعاً وعشرين ، وأيضاً فإن الباقي كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج ، والعرب إذا اجتمعت الليالي والأيام في التاريخ ، غلبت لفظ الليالي لأنها أول الشهر ، وهي أسبق من اليوم ، فتذكر الليالي ، ومرادها الأيام فيصح أن تقال : لخمس بقين باعتبار الأيام ، ويذكر لفظ العدد بإعتبار فصح حينئذ أن يكون خروجه لخمس بقين ، ولا يكون يوم الجمعة . وأما حديث كعب ، فليس فيه أنه لم يكن يخرج قط إلا يوم الخميس ، وإنما فيه أن ذلك كان أكثر خروجه ، ولا ريب أنه لم يكن يتقيد في خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس .
وأما قوله : لو خرج يوم السبت ، لكان خارجاً لأربع ، فقد تبين أنه لا يلزم باعتبار الليالي ، ولا باعتبار الأيام . وأما قوله : إنه بات بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة إلى آخره ، فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدة سفره سبعة أيام ، فهذا عجيب منه ، فإنه إذا خرج يوم السبت وقد بقي من الشهر خمسة أيام ، ودخل مكة لأربع مضين من ذي الحجة، فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام، وهذا غير مشكل بوجه من الوجوه ، فإن الطريق التي سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار، وسير العرب أسرع من سير الحضر بكثير، ولا سيما، مع عدم المحامل والكجاوات والزوامل الثقال . والله أعلم . عدنا إلى سياق حجه ، فصلى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعاً، ثم ترجل وادهن ، ولبس إزاره ورداءه ، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة ، فصلى بها العصر ركعتين ، ثم بات بها وصلى بها المغرب ، والعشاء والصبح ، والظهر، فصلى بها خمس صلوات ، وكان نساؤه كلهن معه ، وطاف عليهن تلك الليلة ، فلما أراد الإحرام ، اغتسل غسلاً ثانياً لإحرامه غير غسل الجماع الأول ، ولم يذكر ابن حزم أنه اغتسل غير الغسل الأول للجنابة ، وقد ترك بعض الناس ذكره ، فإما أن يكون تركه عمداً، لأنه لم يثبت عنده ، وإما أن يكون تركه سهواً منه ، وقد قال زيد بن ثابت : إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل . قال الترمذي : حديث حسن غريب .
===>>يتبع
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:25 AM
فصل في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم
فصل
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج ، فتجهزوا للخروج معه ، وسمع ذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، فكانوا من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله مد البصر، وخرج من المدينة نهاراً بعد الظهر لست بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه .
وقال ابن حزم : وكان خروجه يوم الخميس ، قلت : والظاهر : أن خروجه كان يوم السبت ، واحتج ابن حزم على قوله بثلاث مقدمات . إحداها : أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة . والثانية : أن استهلال ذي الحجة كان يوم الخميس ، والثالثة : أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، واحتج على أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة، بما روى البخاري من حديث ابن عباس ، انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ........ فذكر الحديث . وقال : وذلك لخمس بقين من ذي القعدة . قال ابن حزم : وقد نص ابن عمر على أن يوم عرفة، كان يوم الجمعة، وهو التاسع ، واستهلال ذي الحجة بلا شك ليلة الخميس ، فآخر ذي القعدة يوم الأربعاء، فإذا كان خروجه لست بقين من ذي القعدة، كان يوم الخميس ، إذ الباقي بعده ست ليال سواه .
ووجه ما اخترناه ، أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين و هي يوم السبت ، والأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، فهذه خمس ، وعلى قوله : يكون خروجه لسبع بقين . فإن لم يعد يوم الخروج ، كان لست ، وأيهما كان فهو خلاف الحديث ، وإن اعتبر الليالي ، كان خروجه لست ليال بقين فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس ، وبين بقاء خمس من الشهر البتة، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت ، فإن الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته على منبره شأن الإحرام ، وما يلبس المحرم بالمدينة، والظاهر: إن هذا كان يوم الجمعة، لأنه لم ينقل أنه جمعهم ، ونادى فيهم لحضور الخطبة، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره . وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله ، فأولى الأوقات به الجمعة التي يليها خروجه ، والظاهر : أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلق ، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين ، وقد حضر ذلك الجمع العظيم ، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت والله أعلم . ولما علم أبو محمد ابن حزم ، أن قول ابن عباس رضي الله عنه ، وعائشة رضي الله عنها: خرج لخمس بقين من ذي القعدة، لا يلتئم مع قوله أوله بأن قال : معناه أن اندفاعه من ذي الحليفة كان لخمس ، قال : وليس بين ذي الحليفة وبين المدينة إلا أربعة أميال فقط ، فلم تعد هذه المرحلة القريبة لقلتها ، وبهذا تأتلف جميع الأحاديث . قال : ولو كان خروجه من المدينة لخمس بقين لذي القعدة، لكان خروجه بلا شك يوم الجمعة، وهذا خطأ لأن الجمعة لا تصلى أربعاً ، وقد ذكر أنس ، أنهم صلوا الظهر معه بالمدينة أربعاً . قال : ويزيده وضوحاً، ثم ساق من طريق البخاري ، حديث كعب بن مالك : قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إذا خرج : إلا يوم الخميس ، وفي لفظ آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يخرج يوم الخميس، فبطل خروجه يوم الجمعة لما ذكرنا عن أنس ، وبطل خروجه يوم السبت ، لأنه حينئذ يكون خارجاً من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة، وهذا ما لم يقله أحد .
قال : وأيضاً قد صح مبيته بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة، فكان يكون اندفاعه من ذي الحليفة يوم الأحد، يعني : لو كان خروجه يوم السبت ، وصح مبيته بذي طوى ليلة دخوله مكة، وصح عنه أنه دخلها صبح رابعة من ذي الحجة، فعلى هذا تكون مدة سفره مر المدينة إلى مكة سبعة أيام ، لأنه كان يكون خارجاً من المدينة لو كان ذلك لأربع بقين لذي القعدة، واستوى على مكة لثلاث خلون من ذي الحجة، وفي اسقبال الليلة الرابعة، فتلك سبع ليال لا مزيد، وهذا خطأ بإجماع ، وأمر لم يقله أحد ، فصح أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة، وائتلفت الروايات كلها، وانتفى التعارض عنها بحمد الله انتهى .
قلت : في متآلفة متوافقة، والتعارض منتف عنها مع خروجه يوم السبت ، ويزول عنها الإستكراه الذي أولها عليه كما ذكرناه . وأما قول أبي محمد ابن حزم : لو كان خروجه من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، لكان خروجه يوم الجمعة إلى آخره فغير لازم ، بل يصح أن يخرج لخمس ، ويكون خروجه يوم السبت ، والذي غر أبا محمد أنه رأى الراوي قد حذف التاء من العدد ، وهي إنما تحذف من المؤنث ، ففهم لخمس ليال بقين ، وهذا إنما يكون اذا كان الخروج يوم الجمعة . فلو كان يوم السبت ، لكان لأربع ليال بقين ، وهذا بعينه ينقلب عليه ، فإنه لو كان خروجه يوم الخميس ، لم يكن لخمس ليال بقين ، وإنما يكون لست ليال بقين ، ولهذا اضطر إلى أن يؤول الخروح المقيد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذي الحليفة، ولا ضرورة له إلى ذلك ، إذ من الممكن أن يكون شهر ذي القعدة كان ناقصاً ، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناء على المعتاد من الشهر، وهذه عادة العرب والناس قي تواريخهم ، أن يؤرخوا بما بقي من الشهر بناء على كماله ، ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه ، وظهور نقصه كذلك ، لئلا يختلف عليهم التاريخ ، فيصح أن يقول القائل : يوم الخامس والعشرين لخمس بقين ، ويكون الشهر تسعاً وعشرين ، وأيضاً فإن الباقي كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج ، والعرب إذا اجتمعت الليالي والأيام في التاريخ ، غلبت لفظ الليالي لأنها أول الشهر ، وهي أسبق من اليوم ، فتذكر الليالي ، ومرادها الأيام فيصح أن تقال : لخمس بقين باعتبار الأيام ، ويذكر لفظ العدد بإعتبار فصح حينئذ أن يكون خروجه لخمس بقين ، ولا يكون يوم الجمعة . وأما حديث كعب ، فليس فيه أنه لم يكن يخرج قط إلا يوم الخميس ، وإنما فيه أن ذلك كان أكثر خروجه ، ولا ريب أنه لم يكن يتقيد في خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس .
وأما قوله : لو خرج يوم السبت ، لكان خارجاً لأربع ، فقد تبين أنه لا يلزم باعتبار الليالي ، ولا باعتبار الأيام . وأما قوله : إنه بات بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة إلى آخره ، فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدة سفره سبعة أيام ، فهذا عجيب منه ، فإنه إذا خرج يوم السبت وقد بقي من الشهر خمسة أيام ، ودخل مكة لأربع مضين من ذي الحجة، فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام، وهذا غير مشكل بوجه من الوجوه ، فإن الطريق التي سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار، وسير العرب أسرع من سير الحضر بكثير، ولا سيما، مع عدم المحامل والكجاوات والزوامل الثقال . والله أعلم . عدنا إلى سياق حجه ، فصلى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعاً، ثم ترجل وادهن ، ولبس إزاره ورداءه ، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة ، فصلى بها العصر ركعتين ، ثم بات بها وصلى بها المغرب ، والعشاء والصبح ، والظهر، فصلى بها خمس صلوات ، وكان نساؤه كلهن معه ، وطاف عليهن تلك الليلة ، فلما أراد الإحرام ، اغتسل غسلاً ثانياً لإحرامه غير غسل الجماع الأول ، ولم يذكر ابن حزم أنه اغتسل غير الغسل الأول للجنابة ، وقد ترك بعض الناس ذكره ، فإما أن يكون تركه عمداً، لأنه لم يثبت عنده ، وإما أن يكون تركه سهواً منه ، وقد قال زيد بن ثابت : إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل . قال الترمذي : حديث حسن غريب .
===>>يتبع
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:27 AM
وذكر الدارقطني ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم ، غسل رأسه بخطمي وأشنان . ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك في بدنه ورأسه ، حتى كان وبيص المسك يرى في مفارقه ولحيته ، ثم استدامه ولم يغسله ، ثم لبس إزاره ورداءه ، ثم صلى الظهر ركعتين ، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه ، ولم ينقل عنه أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر .
وقلد قبل الإحرام بدنه نعلين ، وأشعرها في جانبها الأيمن ، فشق صفحة سنامها ، وسلت الدم عنها .
وإنما قلنا: إنه أحرم قارنا ببضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك .
أحدها : ما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر، قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج وذكر الحديث .
وثانيها: ما أخرجاه في الصحيحين أيضاً، عن عروة ، عن عائشة أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثل حديث ابن عمر سواء .
وثالثها: ما روى مسلم في صحيحه ، من حديث قتيبة، عن الليث عن نافع ، عن ابن عمر، أنه قرن الحج الى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً ، ثم قال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورابعها: ما روى أبو داود، عن النفيلي ، حدثنا زهير هو ابن معاوية، حدثنا إسحاق عن مجاهد: سئل ابن عمر : كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: مرتين . فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سوى التي قرن بحجته .
ولم يناقض هذا قول ابن عمر. "إنه صلى الله عليه وسلم ، قرن بين الحج والعمرة"، لأنه أراد العمرة الكاملة المفردة، ولا ريب أنهما عمرتان : عمرة القضاء وعمرة الجعرانة ، وعائشة رضي الله عنها أرادت العمرتين المستقلتين ، وعمرة القرآن ، والتي صد عنها، ولا ريب أنها أربع .
وخامسها: ما رواه سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر بن عبدالله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : حج ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر معها عمرة . رواه الترمذي وغيره .
وسادسها: ما رواه ابو داود، عن النفيلي وقتيبة قالا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية : حين تواطؤوا على عمرة من قابل ، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن مع حجته .
وسابعها: ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول : "أتاني الليلة آت من ربي عز وجل ، فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة" .
وثامنها: ما رواه أبو داود عن البراء بن عازب قال : كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن ، فأصبت معه أواقي من ذهب ، فلما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وجدت فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثياباً صبيغات ، وقد نضحت البيت بنضوح ، فقالت : مالك ؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، قال : فقلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : كيف صنعت ؟ قال : قلت : أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فإني قد سقت الهدي ، وقرنت وذكر الحديث .
وتاسعها: ما رواه النسائي عن عمران بن يزيد الدمشقي ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن علي بن الحسين ، عن مروان بن الحكم قال : كنت جالساً عند عثمان ، فسمع علياً بن الحسين يلبي بعمرة وحجة ، فقال : ألم تكن تنهى عن هذا ؟ قال : بلى لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعاً، فلم أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك . وعاشرها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن حميد بن هلال قال : سمعت مطرفاً قال : قال عمران بن حصين : أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات ، ولم ينزل قرآن يحرمه .
وحادي عشرها: ما رواه يحيى بن سعيد القطان ، وسفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال : إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة، لأنه علم أنه لا يحج بعدها . وله طرق صحيحة إليهما .
وثاني عشرها: ما رواه الإمام أحمد من حديث سراقة بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، قال : وقرن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إسناده ثقات .
وثالث عشرها : ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث أبي طلحة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة ورواه الدارقطني ، وفيه الحجاج بن أرطاة .
ورابع عشرها: ما رواه أحمد من حديث الهرماس بن زياد الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع بين الحج والعمرة .
وخامس عشرها: ما رواه البزار بإسناد صحيح أن ابن أبي أوفى قال : إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة ، لأنه علم أنه لا يحج بعد عامه ذلك وقد قيل : إن يزيد بن عطاء أخطأ في إسناده ، وقال آخرون : لا سبيل إلى تخطئته بغير دليل .
وسادس عشرها: ما رواه الإمام أحمد ، من حديث جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، فطاف لهما طوافاً واحداً . ورواه الترمذي ، وفيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء ، أو يخالف الثقات . وسابع عشرها: ما رواه الإمام أحمد، من حديث أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج " .
وثامن عشرها : ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ لمسلم ، عن حفصة قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : "إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من الحج " وهذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج ، فإنه لا يحل من العمرة حتى يحل من الحج ، وهذا على أصل مالك والشافعي ألزم ، لأن المعتمر عمرة مفردة لا يمنعه عندهما الهدي من التحلل ، وإنما يمنعه عمرة القران ، فالحديث أصلهما نص .
وتاسع عشرها : ما رواه النسائي ، والترمذي ، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، أنه سمع سعد بن أبي وقاص ، والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان ، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله ، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي . قال الضحاك : فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك ، قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصنعناها معه ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
==>>يتبع
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:27 AM
ومراده بالتمتع هنا بالعمرة إلى الحج : أحد نوعيه ، وهو تمتع القرآن ، فإنه لغة القرآن ، والصحابة الذين شهدوا التنزيل والتأويل شهدوا بذلك ، ولهذا قال ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، فبدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج ، وكذلك قالت عائشة، وأيضاً : فإن الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو متعة القرآن بلا شك ، كما قطع به أحمد، ويدل على ذلك أن عمران بن حصين قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتمتعنا معه . متفق عليه . وهو الذي قال لمطرف : أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات . وهو في صحيح مسلم فأخبر عن قرانه بقوله : تمتع ، وبقوله : جمع بين حج وعمرة .
ويدل عليه أيضاً، ما ثبت في الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال : اجتمع علي وعثمان بعسفان ، فقال : كان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ؟ قال عثمان : دعنا منك ، فقال : إني لا أستطيع أن أدعك ، فلما أن رأى علي ذلك ، أهل بهما جميعاً . هذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري : اختلف علي وعثمان بعسفان في المتعة ، فقال علي : ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى ذلك علي ، أهل بهما جميعاً . وأخرج البخاري وحده من حديث مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعلياً ، وعثمان ينهى عن المتعة ، وأن يجمع بينهما ، فلما رأى علي ذلك ، أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة ، وقال : ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد .
فهذا يبين ، أن من جمع بينهما، كان متمتعاً عندهم ، وأن هذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وافقه عثمان على أن رسول الله فعل ذلك لما قال له : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تنهى عنه ، لم يقل له : لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولا أنه وافقه على ذلك ، لأنكره ، ثم قصد علي إلى موافقة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في ذلك ، وبيان أن فعله لم ينسخ ، وأهل بهما جميعاً تقريراً للإقتداء به ومتابعته في القرآن ، وإظهاراً لسنة نهى عنها عثمان متأولاً، وحينئذ فهذا دليل مستقل تمام العشرين .
الحادي والعشرون : ما رواه مالك في الموطأ ، عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في عام حجة فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان معه هدي ، فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً" .
ومعلوم : أنه كان معه الهدي ، فهو أولى من بادر إلى ما أمر به، وقد دل عليه سائر الأحاديث التي ذكرناها ونذكرها . وقد ذهب جماعة من السلف والخلف إلى إيجاب القرآن على من ساق الهدي ، والتمتع بالعمرة المفردة على من لم يسق الهدي ، منهم : عبد الله بن عباس وجماعة، فعندهم لا يجوز العدول عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، فإنه قرن وساق الهدي ، وأمر كل من لا هدي معه بالفسخ إلى عمرة مفردة، فالواجب : أن نفعل كما فعل ، أو كما أمر، وهذا القول أصح من القول من حرم فسخ الحج إلى العمرة من وجوه كثيرة، سنذكرها إن شاء الله تعالى .
الثاني والعشرون : ما أخرجاه في الصحيحين ، عن أبي قلابة ،عن أنس بن مالك . قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، فبات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله وسبح أو كبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما، فلما قدمنا، أمر الناس ، فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج .
وفي الصحيحين أيضاً: عن بكر بن عبد الله المزني ، عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً، قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، فقال : لبى بالحج وحده ، فلقيت أنساً ، فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس : ما تعدوتنا إلا صبياناً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول : "لبيك عمرة وحجاً" . وبين أنس وابن عمر في السن سنة، أو سنة وشيء .
وفي صحيح مسلم ، عن يحيى بن أبي إسحاق وعبد العزيز بن صيب، وحميد، أنهم سمعوا أنساً قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما "لبيك عمرة وحجاً" .
وروى أبو يوسف القاضي ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن أنس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "لبيك بحج وعمرة معاً".
وروى النسائي من حديث أبي أسماء، عن أنس قال : "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يلبي بهما" .
وروي أيضاً من حديث الحسن البصري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر".
وروى البزار، من حديث زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أهل بحج وعمرة. ومن حديث سليمان التيمي عن أنس كذلك ، وعن أبي قدامة عن أنس مثله . وذكر وكيع : حدثنا مصعب بن قال : سمعت أنساً مثله ، قال : وحدثنا ابن أبي ليلى، عن ثابت البناني ، عن أنس مثله ، وذكر الخشني : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة، عن أبي قزعة، عن أنس مثله .
وفي صحيح البخاري ، عن قتادة، عن أنس، اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر، فذكرها وقال : وعمرة مع حجته وقد تقدم .
وذكر عبد الرزاق : حدثنا معمر، عن أيوب ، عن أبي قلابة وحميد بن هلال ، عن أنس مثله ، فهؤلاء ستة عشرنفساً من الثقات ، كلهم متفقون عن أنس ، أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلالاً بحج وعمرة معاً، وهم الحسن البصري وأبو قلابة، وحميد بن هلال ، وحميد بن عبد الرحمن الطويل ، وقتادة : ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وثابت البناني ، وبكر بن عبد الله المزني وعبد العزيز بن صهيب ، وسليمان التيمي ، ويحيى بن أبي إسحاق ،
وزيد بن أسلم ، ومصعب بن سليم ، وأبو أسماء، وأبو قدامة عاصم بن حسين ، قزعة وهو سويد بن حجر الباهلي .
فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه ، وهذا علي والبراء يخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقران ، وهذا علي أيضاً ، يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن ربه أمره بأن يفعله ، وعلمه اللفظ الذي يقوله عند الإحرام ، وهذا علي أيضاً يخبر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعاً، وهؤلاء بقية من ذكرنا يخبرون عنه ، بأنه فعله ، وهذا هو صلى الله عليه وسلم يأمر به آله ، ويأمر به من ساق الهدي .
وهؤلاء الذين رووا القرآن بغاية البيان : عائشة أم المومنين ، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد لله ، وعبد الله بن عباس ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان بإقراره لعلي ، وتقرير علي له ، وعمران بن الحصين ، والبراء بن عازب ، وحفصة أم المؤمنين ، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك ،
وسعيد بن أبي وقاص ، فهؤلاء هم سبعة عشر صحابياً رضي الله عنهم ، منهم من روى فعله ، ومنهم من روى لفظ إحرامه ، ومنهم من روى خبره عن نفسه ، ومنهم من روى أمره به .
فإن قيل : كيف تجعلون منهم ابن عمر، وجابراً، وعائشة، وابن عباس ؟ وهذه عائشة تقول : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالحج وفي لفظ : أفرد الحج ، والأول في الصحيحين ، والثاني في مسلم وله لفظان ، هذا أحدهما والثاني : أهل بالحج مفرداً ، وهذا ابن عمر يقول : لبى بالحج وحده . ذكره البخاري ، وهذا ابن عباس يقول : وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج رواه مسلم ، وهذا جابر يقول : أفرد الحج ، رواه ابن ماجه .
قيل : إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت ، فإن أحاديث الباقين لم تتعارض ، فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القرآن، ولا على الإفراد لتعارضها، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها ؟ فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضاً ولا تعارض بينهما، وإنما ظن من ظن التعارض لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم ، وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم .
ورأيت لشيخ الإسلام فصلاً حسناً في اتفاق أحاديثهم نسوقه بلفظه ، قال : والصواب أن الأحاديث في هذا الباب متفقة ليست بمختلفة إلا اختلافاً يسيراً يقع مثله في غير ذلك ، فإن الصحابة ثبت عندهم أنه تمتع ، والتمتع عندهم يتناول القرآن ، والذين روي عنهم أنه أفرد، روي عنهم أنه تمتع ، والتمتع الأول : ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال : اجتمع علي وعثمان ، وكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي رضي الله عنه ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ؟ فقال عثمان : دعنا منك .
فقال : إني لا أستطيع أن أدعك . فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك ، أهل بهما جميعاً . فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعاً عندهم ، وأن هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، ووافقه عثمان على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، لكن النزاع بينهما، هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا ؟ وهل شرع فسخ الحج إلى العمرة في حقنا كما تنازع فيه الفقهاء؟ فقد اتفق علي وعثمان ، على أنه لم ينه عنه والمراد بالتمتع عندهم ، القرآن . وفي الصحيحين عن مطرف قال عمران بن حصين : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جمع بين حج وعمرة، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات ، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه . وفي رواية عنه : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه . فهذا عمران وهو من أجل السابقين الأولين ، أخبر أنه تمتع ، وأنه جمع بين الحج والعمرة، والقارن عند الصحابة متمتع ، ولهذا أوجبوا عليه الهدي ، ودخل في قوله تعالى : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " [البقرة : 196]، وذكر حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة" .
قال : فهؤلاء الخلفاء الراشدون ، عمر، وعثمان ، وعلي ، وعمران بن حصين ، روي عنهم بأصح الأسانيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قرن بين العمرة والحج ، وكانوا يسمون ذلك تمتعاً، وهذا أنس يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً .
وما ذكره بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عمر، أنه لبى بالحج وحده ، فجوابه أن الثقات الذين هم أثبت في ابن عمر من بكر مثل سالم ابنه ، ونافع رووا عنه أنه قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، وهؤلاء أثبت في ابن عمر من بكر. فتغليط بكر عن ابن عمر أولى من تغليط سالم ونافع عنه ، وأولى من تغليطه هو على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويشبه أن ابن عمر قال له : أفرد الحج ، فظن أنه قال : لبى بالحج ، فإن إفراد الحج ، كانوا يطلقونه ويريدون به إفراد أعمال الحج ، وذلك رد منهم على من قال : إنه قرن قراناً طاف فيه طوافين ، وسعى فيه سعيين ، وعلى من يقول : إنه حل من إحرامه ، فرواية من روى من الصحابة أنه أفرد الحج ، ترد على هؤلاء، يبين هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع ، عن ابن عمر، قال : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً، وفي رواية : أهل بالحج مفرداً .
فهذه الرواية إذا قيل : إن مقصودها أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج، مفرداً قيل: فقد ثبت بإسناد أصح من ذلك ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، تمتع بالعمرة إلى الحج ، وأنه بدأ، فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وهذا من رواية الزهري، عن سالم ، عن ابن عمر. وما عارض هذا عن ابن عمر، إما أن يكون غلطاً عليه ، وإما أن يكون مقصوده موافقاً له ، وإما أن يكون ابن عمر لما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل ، ظن أنه أفرد كما وهم في قوله : أنه اعتمر في رجب ، وكان ذلك نسياناً منه ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما لم يحل من إحرامه ، وكان هذا حال المفرد ظن أنه أفرد، ثم ساق حديث الزهري عن سالم ، عن أبيه ، تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث . وقول الزهري : وحدثني عروة، عن عائشة بمثل حديث سالم عن أبيه قال : وهو من أصح حديث على وجه الأرض ، وهو من حديث الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة، عن سالم ، عن أبيه ، وهو من حديث ابن عمر وعائشة.
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، الرابعة مع حجته . ولم يعتمر بعد الحج باتفاق العلماء فيتعين أن يكون متمتعاً تمتع قران ، أو التمتع الخاص .
وقد صح عن ابن عمر، أنه قرن بين الحج والعمرة، وقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري في الصحيح .
قال : وأما الذين نقل عنهم إفراد الحج ، فهم ثلاثة : عائشة، وابن عمر ، وجابر، والثلاثة نقل عنهم التمتع ، وحديث عائشة وابن عمر: أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما، وما صح في ذلك عنهما، فمعناه إفراد أعمال الحج ، أو أن يكون وقع منه غلط كنظائره ، فإن أحاديث التمتع متواترة رواها أكابر الصحابة ، كعمر، وعثمان ، وعلي ، وعمران بن حصين ، ورواها أيضاً: عائشة، وابن عمر، وجابر، بل رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة .
قلت : وقد اتفق ، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم : اعتمر أربع عمر، وإنما وهم ابن عمر في كون إحداهن في رجب ، وكلهم قالوا. وعمرة مع حجته ، وهم سوى ابن عباس . قالوا: إنه أفرد الحج ، وهم سوى أنس ، قالوا : تمتع . فقالوا : هذا، وهذا، وهذا، ولا تناقض بين أقوالهم ، فإنه تمتع تمتع قرآن ، وأفرد أعمال الحج ، وقرن بين النسكين ، وكان قارناً باعتبار جمعه بين النسكين ، ومفرداً باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين ، ومتمتعاً ترفهه بترك أحد السفرين .
ومن تأمل ألفاظ الصحابة، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض ، واعتبر بعضها ببعض ، وفهم لغة الصحابة، أسفر له صبح الصواب ، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب ، والله الهادي لسبيل الرشاد، والموفق لطريق السداد .
فمن قال : أنه أفرد الحج وأراد به أنه أتى بالحج مفرداً ، ثم فرغ منه ، وأتى بالعمرة بعده من التنعيم أو غيره ، كما يظن كثير من الناس ، فهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أئمة الحديث . وإن أراد به أنه حج حجاً مفرداً، لم يعتمر معه كما قاله طائفة من السلف والخلف ، فوهم أيضاً ، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده كما تبين ، وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده ولم يفرد للعمرة أعمالاً ، فقد أصاب ، وعلى قوله تدل جميع الأحاديث . ومن قال : إنه قرن ، فإن أراد به أنه طاف للحج طوافاً على حدة، وللعمرة طوافاً على حدة، وسعى للحج سعياً، وللعمرة سعياً، فالأحاديث الثابتة ترد قوله . وإن أراد أنه قرن بين النسكين ، وطاف لهما طوافاً واحداً، وسعى لهما سعياً واحداً، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله ، وقوله هو الصواب .
ومن قال : إنه تمتع ، فإن أراد أنه تمتع تمتعاً حل منه ، ثم أحرم بالحج إحراماً مستأنفاً، فالأحاديث ترد قوله وهو غلط ، وإن أراد أنه تمتع تمتعاً لم يحل منه ، بل بقي على إحرامه لأجل سوق الهدي ، فالأحاديث الكثيرة ترد قوله أيضاً، وهو أقل غلطاً ، وإن أراد تمتع القرآن ، فهو الصواب الذي عليه جميع الأحاديث الثابتة، ويأتلف به شملها، ويزول عنها الإشكال والاختلاف .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:28 AM
فصل في الأغاليط في عمر النبي
فصل
غلط في عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمس طوائف .
إحداها : من قال : إنه اعتمر في رجب ، وهذا غلط ، فإن عمره مضبوطة محفوظة، لم يخرج في رجب إلى شيء منها البتة .
الثانية : من قال : إنه اعتمر في شوال ، وهذا أيضا وهم ، والظاهر -والله أعلم - أن بعض الرواة غلط في هذا، وأنه اعتكف في شوال فقال : اعتمر في شوال ، لكن سياق الحديث ، وقوله : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثلاث عمر : عمرة في شوال ، وعمرتين في ذي القعدة، يدل على أن عائشة أو من دونها، إنما قصد العمرة .
الثالثة : من قال : إنه اعتمر من التنعيم بعد حجه ، وهذا لم يقله أحد من أهل العلم ، وإنما يظنه العوام ، ومن لا خبرة له بالسنة .
الرابعة : من قال : إنه لم يعتمر في حجته أصلاً ، والسنة الصحيحة المستفيضة التي لا يمكن ردها تبطل هذا القول .
الخامسة : من قال : إنه اعتمر عمرة حل منها، ثم أحرم بعدها بالحج من مكة ، والأحاديث الصحيحة تبطل هذا القول وترده .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:29 AM
فصل ووهم في حجه خمس طوائف
الطائفة الأولى: التي قالت : حج حجاً مفرداً لم يعتمر معه .
الثانية : من قال : حج متمتعاً تمتعاً حل منه ، ثم أحرم بعده بالحج ، كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره .
الثالثة : من قال : حج متمتعاً تمتعاً لم يحل منه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارناً ، كما قاله أبو محمد بن قدامة صاحب المغني وغيره .
الرابعة : من قال : حج قارناً قراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين .
الخامسة : من قال : حج حجا مفرداً ، واعتمر بعده من التنعيم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:29 AM
فصل وغلط في إحرامه خمس طوائف .
إحداها : من قال : لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها .
الثانية : من قال : لبى بالحج وحده ، واستمر عليه .
الثالثة : من قال : لبى بالحج مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة، وزعم أن ذلك خاص به .
الرابعة : من قال : لبى بالعمرة وحدها، ثم أدخل عليها الحج في ثاني الحال .
الخامسة : من قال : أحرم إحراماً مطلقاً لم يعين فيه نسكاً ، ثم عينه بعد إحرامه .
والصواب : أنه أحرم بالحج والعمرة معاً من حين أنشأ الإحرام ، ولم يحل حتى حل منهما جميعاً، فطاف لهما طوافاً واحداً، وسعى لهما سعياً واحداً . وساق الهدي ، كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواتراً يعلمه أهل الحديث . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:30 AM
فصل في أعذار القائلين بهذه الأقوال ، وبيان منشأ الوهم والغلط
أما عذر من قال : اعتمر فى رجب ، فحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، "أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب "متفق عليه وقد غلطته عائشة وغيرها ، كما في الصحيحين عن "مجاهد، قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالساً إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون في المسجد الضحى، قال : فسألناه عن صلاتهم . فقال : بدعة . ثم قلنا له : كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربعاً . إحداهن : في رجب ، فكرهنا أن نرد عليه .قال : وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة، فقال عروة : يا أم المؤمنين ، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت : ما يقول ؟ قال : يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اعتمر أربع عمر، إحداهن في رجب . قالت : يرحم الله عبد الرحمن ، ما اعتمر عمرة قط إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط ". وكذلك قال أنس ، وابن عباس : إن عمره كلها كانت في ذي القعدة، وهذا هو الصواب .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:30 AM
فصل في عذر من قال اعتمر في شوال
وأما من قال : اعتمر فى شوال ، فعذره ما رواه مالك في الموطأ ، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يعتمر إلا ثلاثاً، إحداهن في شوال ، واثنتين في ذي القعدة . ولكن هذا الحديث مرسل ، وهو غلط أيضاً، إما من هشام ، وإما من عروة أصابه فيه ما أصاب ابن عمر. وقد رواه أبو داود مرفوعاً عن عائشة، وهو غلط أيضاً لا يصح رفعه . قال ابن عبد البر : وليس روايته مسنداً. مما يذكر عن مالك في صحة النقل . قلت : ويدل على بطلانه عن عائشة : أن عائشة، وابن عباس ، وأنس بن مالك قالوا : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة . وهذا هو الصواب ، فإن عمرة الحديبية وعمرة القضية، كانتا في ذي القعدة ، وعمرة القرآن إنما كانت في ذي القعدة ، وعمرة الجعرانة أيضاً كانت في أول ذي القعدة ، وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة في شوال للقاء العدو، وفرغ من عدوه ، وقسم غنائمهم ، ودخل مكة ليلاً معتمراً من الجعرانة، وخرج منها ليلاً، فخفيت عمرته هذه على كغير من الناس ، وكذلك قال محرش الكعبي . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:31 AM
فصل وأما من ظن أنه اعتمر من التنعيم بعد الحج ، فلا أعلم له عذراً، فإن هذا خلاف المعلوم المستفيض من حجته ، ولم ينقله أحد قط ، ولا قاله إمام ، ولعل ظان هذا سمع أنه أفرد الحج ، ورأى أن كل من أفرد الحج من أهل الآفاق لا بد له أن يخرج بعده إلى التنعيم ، فنزل حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وهذا عين
الغلط .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:32 AM
فصل وأما من قال : إنه لم يعتمر في حجته أصلاً ، فعذره أنه لما سمع أنه أفرد في حجته الحج ، وعلم يقيناً أنه لم يعتمر بعد حجته قال : إنه لم يعتمر في تلك الحجة اكتفاء منه بالعمرة المتقدمة، والأحاديث المستفيضة الصحيحة ترد قوله كما تقدم من أكثر من عشرين وجهاً، وقد قال : "هذه عمرة استمتعنا بها" وقالت حفصه : ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ وقال سراقة بن مالك : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قال ابن عمر، وعائشة، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وصرح أنس ، وابن عباس، وعائشة ، أنه اعتمر في حجته وهي إحدى عمرة الأربع .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:32 AM
فصل وأما من قال : إنه اعتمر عمرة حل منها، كما قاله القاضى وأبو يعلى ومن وافقه ، فعذرهم ما صح عن ابن عمر وعائشة، وعمران بن حصين وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم تمتع ، وهذا يحمل أنه تمتع حل منه ، ويحتمل أنه لم يحل ، فلما أخبر معاوية أنه قصر عن رأسه بمشقص على المروة، وحديثه في الصحيحين دل على أنه حل من إحرامه ، ولا يحكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع ، لأن معاوية أسلم بعد الفتح ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن زمن الفتح محرماً، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة لوجهين ، أحدهما : أن في بعض ألفاظ الحديث الصحيح " وذلك في حجته ".
والثاني : أن في رواية النسائي بإسناد صحيح "وذلك في أيام العشر " وهذا إنما كان في حجته ، وحمل هؤلاء رواية من روى أن المتعة كانت له خاصة ، على أن طائفة منهم خصوا بالتحليل من الإحرام مع سوق الهدي دون من ساق الهدي من الصحابة ، وأنكر ذلك عليهم آخرون ، منهم شيخنا أبو العباس . وقالوا : من تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة، تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل ، لا هو ولا أحد ممن ساق الهدى .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:33 AM
فصل في أعذار الذين وهموا في صفة حجته
أما من قال : إنه حج حجاً مفرداً ، لم يعتمر فيه ، فعذره ما في الصحيحين عن عائشة، أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . وقالوا : هذا التقسيم والتنويع ، صريح في إهلاله بالحج وحده .
ولمسلم عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أهل بالحج مفرداً .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده .
وفي صحيح مسلم ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج .
وفي سنن ابن ماجه ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أفرد الحج .
وفي صحيح مسلم عنه : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة . وفي صحيح البخاري ، عن عروة بن الزبير قال : حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة، أنه توضأ، ثم طاف بالبيت [ثم لم تكن عمرة]، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه ، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة، ثم معاوية، وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام ، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة، ثم رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها عمرة وهذا ابن عمر عندهم ، فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشيىء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ، ثم لا يحلون ، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان ، لا تبدآن بشيء أول من البيت تطوفان به ، ثم تحلان ، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير ، وفلان ، وفلان بعمرة ، فلما مسحوا الركن حلوا.
وفي سنن أبي داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ووهيب بن خالد، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة قال : "من شاء أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل بعمرة" ثم انفرد وهيب في حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم : "فلولا أني أهديت ، لأهللت بعمرة ". وقال الآخر : "وأما أنا فأهل بالحج " فصح بمجموع الروايتين ، أنه أهل بالحج مفرداً . فأرباب هذا القول عذرهم ظاهر كما ترى ، ولكن ما عذرهم في حكمه وخبره الذي حكم به على نفسه ، وأخبر عنها بقوله : سقت الهدي وقرنت ، وخبر من هو تحت بطن ناقته ، وأقرب إليه حينئذ من غيره ، فهو من أصدق الناس يسمعه يقول : "لبيك بحجة وعمرة"، وخبر من هو من أعلم الناس عنه صلى الله عليه وسلم ، علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، حين يخبر أنه أهل بهما جميعاً، ولبى بهما جميعاً، وخبر زوجته حفصة في تقريره لها على أنه معتمر بعمرة لم يحل منها، فلم ينكر ذلك عليها، بل صدقها، وأجابها بأنه مع ذلك حاج ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل يسمعه أصلاً ، بل ينكره . وما عذرهم عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالوحي الذي جاء من ربه ، يأمره فيه أن يهل بحجة في عمرة ، وما عذرهم عن خبر من أخبر عنه من أصحابه ، أنه قرن ، لأنه علم أنه لا يحج بعدها ، وخبر من أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر مع حجته ، وليس مع من قال : إنه أفرد الحج شيء من ذلك البتة، فلم يقل أحد منهم عنه : إني أفردت ، ولا أتاني آت من ربي يأمرني بالإفراد، ولا قال أحد : ما بال الناس حلوا، ولم تحل من حجتك ، كما حلوا هم بعمرة، ولا قال أحد: سمعته يقول : لبيك بعمرة مفردة البتة ، ولا بحج مفرد ، ولا قال أحد : إنه اعتمر أربع عمر الرابعة بعد حجته ، وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يخبر عن نفسه بأنه قارن ، ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بأن يقال : لم يسمعوه . ومعلوم قطعاً أن تطرق الوهم والغلط إلى من أخبر عما فهمه هو من فعله يظنه كذلك أولى من تطرق التكذيب إلى من قال : سمعته يقول : كذا وكذا وإنه لم يسمعه ، فإن هذا لا يتطرق إليه إلا التكذيب ، بخلاف خبر من أخبر عما ظنه من فعله وكان واهماً ، فإنه لا ينسب إلى الكذب ، ولقد نزه الله علياً ، وأنساً ، والبراء ، وحفصة عن أن يقولوا : سمعناه يقول : كذا ولم يسمعوه ، ونزهه ربه تبارك وتعالى، أن يرسل إليه : أن افعل كذا وكذا ولم يفعله ، هذا من أمحل المحال ، وأبطل الباطل، فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يخالفوا هؤلاء في مقصودهم ، ولا ناقضوهم ، وإنما أرادو إفراد الأعمال ، واقتصاره على عمل المفرد، فإنه ليس في عمله زيادة على عمل المفرد. ومن روى عنهم ما يوهم خلاف هكذا ، فإنه عبر بحسب ما فهمه ، كما سمع بكر بن عبد الله ابن عمر يقول : أفرد الحج ، فقال : لبى بالحج وحده ، فحمله على المعنى . وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه . إنه تمتع ، فبدأ فأهل بالعمرة ، ثم أهل
بالحج ، فهذا سالم يخبر بخلاف ما أخبر به بكر، ولا يصح تأويل هذا عنه بأنه أمر به ، فإنه فسره بقوله : وبدأ فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، وكذا الذين روو الإفراد عن عائشة رضي الله عنها، فهما عروة، والقاسم ، وروى القرآن عنها عروة ، ومجاهد ، وأبو الأسود يروي عن عروة الإفراد ، والزهري يروي عنه القرآن . فإن قدرنا تساقط الروايتين ، سلمت رواية مجاهد ، وإن حملت رواية الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج ، تصادقت الروايات وصدق بعضها بعضاً، ولا ريب أن قول عائشة ، وابن عمر، أفرد الحج ، محتمل لثلاثة معان : أحدها : الإهلال به مفرداً .
الثاني : إفراد أعماله .
الثالث : أنه حج حجة واحدة لم يحج معها غيرها، بخلاف العمرة، فإنها كانت أربع مرات .
وأما قولهما : تمتع بالعمرة إلى الحج ، وبدأ فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج، فحكيا فعله ، فهذا صريح لا يحتمل غير معنى واحد، فلا يجوز رده بالمجمل، وليس في رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة أنه أهل بالحج ما يناقض رواية مجاهد وعروة عنها أنه قرن ، فإن القارن حاح أهل بالحج قطعاً ، وعمرته جزء من حجته ، فمن أخبر عنها انه أهل بالحج ، فهو غير صادق . فإن ضمت رواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود ، ثم ضمتا إلى رواية غروة ، تبين من مجموع الروايات أنه كان قارناً ، وصدق بعضها بعضاً ، حتى لو لم يحتمل قول عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفرداً ، لوجب قطعاً أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر : اعتمر في رجب وقول عائشة أو عروة : إنه صلى الله عليه وسلم ، اعتمر في شوال ، إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلاً إلى تكذيب رواتها، ولا تأويلها وحملها على غير ما دلت عليه ، ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التي قد اضطربت على رواتها ، واختلف عنهم فيها ، وعارضهم من هو أوثق منهم أو مثلهم عليها.
وأما قول جابر: إنه أفرد الحج ، فالصريح من حديثه ليس فيه شيء من هذا ، وإنما فيه إخباره عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج ، فأين في هذا ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج مفرداً .
وأما حديثه الآخر الذي رواه ابن ماجه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ، فله ثلاث طرق . أجودها : طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه ، وهذا يقيناً مختصر من حديثه الطويل في حجة الوداع ، ومروي بالمعنى، والناس خالفوا الدراوردي في ذلك . وقالوا : أهل بالحج ، وأهل بالتوحيد . والطريق الثاني : فيها مطرف بن مصعب ، عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن جعفر ومطرف ، قال ابن حزم . هو مجهول ، قلت : ليس هو بمجهول ، ولكنه ابن أخت مالك ، روي عنه البخاري ، وبشر بن موسى ، وجماعة . قال أبو حاتم : صدوق مضطرب الحديث ، هو أحب إلي من إسماعيل بن أبي أويس ، وقال ابن عدي : يأتي بمناكير ، وكأن أبا محمد ابن حزم رأى في النسخة مطرف بن مصعب فجهله ، وإنما هو مطرف أبو مصعب ، وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليط بن يسار. وممن غلط في هذا أيضاً، محمد بن عثمان الذهبي في كتابه الضعفاء فقال : مطرف بن مصعب المدني عن ابن أبي ذئب منكر الحديث . قلت : والراوي عن ابن أبي ذئب ، والداراوردي ، ومالك ، هو مطرف أبو مصعب المدني ، وليس بمنكر الحديث ، وإنما غره قول ابن عدي يأتي بمناكير، ثم ساق له منها ابن عدي جملة، لكن هي من رواية أحمد بن داود بن صالح عنه ، كذبه الدارقطني ، والبلاء فيها منه .
والطريق الثالث : لحديث جابر فيها محمد بن عبد الوهاب ينظر فيه من هو وما حاله عن محمد بن مسلم ، إن كان الطائفي هو ثقة عند ابن معين ، ضعيف عند الإمام أحمد، وقال ابن حزم : ساقط البتة ، ولم أر هذه العبارة فيه لغيره ، وقد استشهد به مسلم ، قال ابن حزم : وإن كان غيره فلا أدري من هو ؟ قلت : ليس بغيره ، بل هو الطائفي يقيناً. وبكل حال فلو صح هذا عن جابر، لكان حكمه حكم المروي عن عائشة وابن عمر، وسائر الرواة الثقات ، إنما قالوا: أهل بالحج ، فلعل هؤلاء حملوه على المعنى، وقالوا : أفرد الحج ، ومعلوم أن العمرة إذا دخلت في الحج ، فمن قال : أهل بالحج ، لا يناقض من قال : أهل بهما ، بل هذا فصل ، وذاك أجمل . ومن قال : أفرد الحج ، يحتمل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة، ولكن هل قال أحد قط عنه : إنه سمعه يقول : "لبيك بحجة مفردة" هذا ما لا سبيل إليه ، حتى لو وجد ذلك لم يقدم على تلك الأساطين التي ذكرناها والتي لا سبيل إلى دفعها البتة، وكان تغليط هذا أو حمله على أول الإحرام ، وأنه صار قارناً في أثنائه متعيناً، فكيف ولم يثبت ذلك ، وقد قدمنا عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد، عن أبيه ، عن جابر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قرن في حجة الوداع . رواه زكريا الساجي ، عن عبد الله بن أبي زياد القطواني ، عن زيد بن الحباب ، عن سفيان . ولا تناقض بين هذا وبين قوله : أهل بالحج وأفرد بالحج ، ولبى بالحج ، كما تقدم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:33 AM
فصل فحصل الترجيح لرواية من روى القران لوجوه عشرة .
أحدها : أنهم أكثر كما تقدم .
الثاني : أن طرق الإخبار بذلك تنوعت كما بيناه .
الثالث : أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحاً، وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك ، وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك ، ولم يجىء شيء من ذلك في الإفراد.
الرابع : تصديق روايات من روى أنه اعتمر أربع عمر لها .
الخامس : أنها صريحة لا تحتمل التأويل ، بخلاف روايات الإفراد .
السادس : أنها متضمنة زيادة سكت عنها أهل الإفراد أو نفوها ،
والذاكر الزائد مقدم على الساكت ، والمثبت مقدم على النافي .
السابع : أن رواة الإفراد أربعة : عائشة ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس ، والأربعة رووا القرآن ، فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم ، سلمت رواية من عداهم للقرآن عن معارض ، وإن صرنا إلى الترجيح ، وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه ولا اختلفت ، كالبراء، وأنس ، وعمر بن الخطاب ، وعمران بن حصين ، وحفصة، ومن معهم ممن تقدم .
الثامن : أنه النسك الذي أمر به من ربه ، فلم يكن ليعدل عنه .
التاسع : أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي ، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي ، ثم يسوق هو الهدي ويخالفه .
العاشر: أنه النسك الذي أمر به آله وأهل بيته ، واختار، لهم ، ولم يكن ليختار لهم إلا ما اختار لنفسه .
وثمت ترجيح حادي عشر، وهو قوله "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة "، وهذا يقتضي أنها قد صارت جزءاً منه ، أو كالجزء الداخل فيه ، بحيث لا يفصل بينها وبينه ، وإنما تكون مع الحج كما يكون الداخل في الشيء معه .
وترجيح ثاني عشر: وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للصبي بن معبد وقد أهل بحج وعمرة، فأنكر عليه زيد بن صوحان ، أو سلمان بن ربيعة، فقال له عمر : هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يوافق رواية عمر عنه صلى الله عليه وسلم أن الوحي جاءه من الله بالإهلال بهما جميعاً ، فدل على أن القرآن سنته التي فعلها ، وامتثل أمر الله له بها .
وترجيح ثالث عشر: أن القارن تقع أعماله عن كل من النسكين ، فيقع إحرامه وطوافه وسعيه عنهما معاً، وذلك أكمل من وقوعه عن أحدهما، وعمل كل فعل على حدة ، وترجيح رابع عشر: وهو أن النسك الذي اشتمل على سوق الهدي أفضل بلا ريب من نسك خلا عن الهدي . فإذا قرن ، كان هديه عن كل واحد من النسكين ، فلم يخل نسك منهما عن هدي ، ولهذا -والله أعلم - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ساق الهدي أن يهل بالحج والعمرة معاً ، وأشار إلى ذلك في المتفق عليه من حديث البراء بقوله : "إني سقت الهدي وقرنت " .
وترجيح خامس عشر: وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة . منها: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إليه ، ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه : ومنها: أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله :" لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" . ومنها : أنه أمر به كل من لم يسق الهدي . ومنها: أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل القرآن لمن ساق الهدي ، والتمتع لمن لم يسق الهدي ، ولوجوه كثيرة غير هذه ، والمتمتع إذا ساق الهدي ، فهو أفضل من متمتع اشتراه من مكة، بل في أحد القولين . لا هدي إلا ما جمع فيه بين الحل والحرم . فإذا ثبت هذا، فالقارن السائق أفضل من متمتع لم يسق ، ومن متمتع ساق الهدي لأنه قد ساق من حين أحرم ، والمتمتع إنما يسوق الهدي من أدنى الحل ، فكيف يجعل مفرد لم يسق هدياً، أفضل من متمتع ساقه من أدنى الحل ؟ فكيف إذا جعل أفضل من قارن ساقه من الميقات، وهذا بحمد الله واضح .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:34 AM
فصل وأما قول من قال : إنه حج متمتعاً تمتعاً حل فيه من إحرامه ، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي . فعذره ما تقدم من حديث معاوية، أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص في العشر، وفي لفظ : وذلك في حجته . وهذا مما أنكره الناس على معاوية، وغلطوه فيه ، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله : إنه اعتمر في رجب ، فإن سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعددة كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلا يوم النحر، ولذلك أخبر عن نفسه بقوله : "لولا أن معي الهدي لأحللت " وقوله : "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر" . وهذا خبر عن نفسه ، فلا يدخله الوهم ولا الغلط ، بخلاف خبر غيره عنه ، لا سيما خبراً يخالف ما أخبر به عن نفسه ، وأخبر عنه به الجم الغفير، أنه لم يأخذ من شعره شيئاً، لا بتقصير ولا حلق ، وأنه بقي على إحرامه حتى حلق يوم النحر، ولعل معاوية قصر عن رأسه في عمرة الجعرانة، فإنه كان حينئذ قد أسلم ، ثم نسي ، فظن أن ذلك كان في العشر، كما نسي ابن عمر أن عمره كانت كلها في ذي القعدة . وقال : كانت إحداهن في رجب ، وقد كان معه فيها، والوهم جائز على من سوى الرسول صلى الله عليه وسلم . فإذا قام الدليل عليه ، صار واجباً .
وقد قيل : إن معاوية لعله قصر عن رأسه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاق يوم النحر، فأخذه معاوية على المروة ، ذكره أبو محمد ابن حزم ، وهذا أيضاً من وهمه ، فإن الحلاق لا يبقي غلطاً شعراً يقصر منه ، ثم يبقي منه بعد التقصير بقية يوم النحر، وقد قسم شعر رأسه بين الصحابة، فأصاب أبا طلحة أحد الشقين ، وبقية الصحابة اقتسموا الشق الآخر ، الشعرة ، والشعرتين ، والشعرات وأيضاً فإنه لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعياً واحداً وهو سعيه الأول ، لم يسع عقب طواف الإفاضة، ولا اعتمر بعد الحج قطعاً ، فهذا وهم محض . وقيل : هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلط وخطأ، أخطأ فيه الحسن بن علي ، فجعله عن معمر، عن ابن طاووس . وإنما هو عن هشام بن حجير، عن ابن طاووس . وهشام : ضعيف .
قلت : والحديث الذي في البخاري عن معاوية ، قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص ولم يزد على هذا، والذي عند مسلم : قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة . وليس في الصحيحين غير ذلك .
وأما رواية من روى "في أيام العشر" فليست في الصحيح ، وهي معلولة ، أو وهم من معاوية. قال قيس بن سعد راويها عن عطاء عن ابن عباس عنه ، ينكرون هذا على معاوية . وصدق قيس ، فنحن نحلف بالله : إن هذا ما كان في العشر قط .
ويشبه هذا وهم معاوية في الحديث الذي رواه أبو داود ، عن قتادة ، عن أبي شيخ الهنائي ، أن معاوية قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا ، وعن ركوب جلود النمور؟ قالوا : نعم .
قال : فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة ؟ قالوا : أما هذه، فلا . فقال : أما إنها معها ولكنكم نسيتم . ونحن نشهد بالله : إن هذا وهم من معاوية، أو كذب عليه ، فلم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قط ، وأبو شيخ شيخ لا يحتج به ، فضلاً عن أن يقدم على الثقات الحفاظ الأعلام ، وإن روى عنه قتادة ويحيى بن أبي كثير. واسمه خيوان بن خلدة بالخاء المعجمة، وهو مجهول .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:35 AM
فصل الرد على من زعم أنه حج متمتعاً
فصل
وأما من قال : حج متمتعاً تمتعاً لم يحل منه لأجل سوق الهدي كما قاله صاحب المغني وطائفة، فعذرهم قول عاثشة وابن عمر : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول حفصة : ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك ، وقول سعد في المتعة : قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه ، وقول ابن عمر لمن سأله عن متعة الحج هي حلال . فقال له السائل : إن أباك قد نهى عنها، فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أأمر أبي تتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فقال : لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .
قال هؤلاء : ولولا الهدي لحل كما يحل المتمتع الذي لا هدي معه ، ولهذا قال : "لولا أن معي الهدي لأحللت " فأخبر أن المانع له من الحل سوق الهدي ، والقارن إنما يمنعه من الحل القران لا الهدي . وأرباب هذا القول قد يسمون هذا المتمتع قارناً، لكونه أحرم بالحج قبل التحلل من العمرة ولكن القرآن المعروف أن يحرم بهما جميعاً ، أو يحرم بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف .
والفرق بين القارن والمتمتع السائق من وجهين ، أحدهما : من الإحرام ، فإن القارن هو الذي يحرم بالحج قبل الطواف ، إما في ابتداء الإحرام ، أو في أثنائه .
والثاني : أن القارن ليس عليه إلا سعي واحد، فإن أتى به أولاً، وإلا سعى عقب طواف الإفاضة، والمتمتع عليه سعي ثان عند الجمهور . وعن أحمد رواية أخرى : أنه يكفيه سعي واحد كالقارن ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسع سعياً ثانياً عقب طواف الإفاضة ، فكيف يكون متمتعاً على هذا القول .
فإن قيل : فعلى الرواية الأخرى، يكون متمتعاً، ولا يتوجه الإلزام ، ولها وجه قوي من الحديث الصحيح ، وهو ما رواه مسلم في صحيحه ، عن جابر قال : لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً . طوافه الأول هذا، مع أن أكثرهم كانوا متمتعين . وقد روى سفيان الثوري سلمة بن كهيل قال : حلف طاووس : ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحجه وعمرته إلا طوافاً واحداً .
قيل : الذين نظروا أنه كان متمتعاً تمتعاً خاصاً، لا يقولون بهذا القول، بل يوجبون عليه سعيين ، والمعلوم من سنته صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه لم يسع إلا سعياً واحداً، كما ثبت في الصحيح ، عن ابن عمر، أنه قرن ، وقدم مكة، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك ، ولم يحلق ولا قصر، ولا حل من شيء حرم منه ، حتى كان يوم النحر، فنحر وحلق رأسه ، ورأى أنه قد مضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، وقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومراده بطوافه الأول الذي قضى به حجه وعمرته : الطواف بين الصفا والمروة بلا ريب .
وذكر الدارقطني ، عن عطاء ونافع ، عن ابن عمر، وجابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف لحجه وعمرته طوافاً واحداً، وسعى سعياً واحداً، ثم قدم مكة فلم يسع بينهما بعد الصدر . فهذا يدل على أحد أمرين ، ولا تجد إما أن يكون قارناً وهو الذي لا يمكن من أوجب على المتمتع سعيين أن يقول غيره ، وإما أن المتمتع يكفيه سعي واحد، ولكن الأحاديث التي تقدمت في بيان أنه كان قارناً صريحة في ذلك ، فلا يعدل عنها ....
فإن قيل : فقد روى شعبة، عن حميد بن طلال ، عن مطرف ، عن عمران بن حصين ، أن النبي صلى الله عليه واله وسلم ، طاف طوافين ، وسعى سعيين . رواه الدارقطني عن ابن صاعد : حدثنها محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا عبد الله بن داود، عن شعبة. قيل : هذا خبر معلول وهو غلط . قال الدارقطني : يقال : إن محمد بن يحيى حدث بهذا من حفظه ، فوهم في متنه ، والصواب بهذا الإسناد : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن بين الحج والعمرة والله أعلم . وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على أن هذا الحديث غلط .
وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قدامة، إنما ذهب إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً ، لأنه رأى الإمام أحمد قد نص على أن التمتع أفضل من القرآن ، ورأى أن الله سبحانه لم يكن ليختار لرسوله إلا الأفضل ، ورأى الأحاديث قد جاءت بأنه تمتع ، ورأى أنها صريحة في أنه لم يحل ، فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعاً خاصاً لم يحل منه ، ولكن أحمد لم يرجح التمتع ، لكون النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعاً، كيف وهو القائل : لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قارناً، وإنما اختار التمتع . لكونه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الذي أمر به الصحابة أن يفسخوا حجهم إليه ، وتأسف على فوته .
ولكن نقل عنه المروزي ، أنه إذا ساق الهدي ، فالقران أفضل ، فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثانية، ومنهم من جعل المسألة رواية واحدة، وأنه إن ساق الهدي ، فالقران أفضل ، وإن لم يسق فالتمتع أفضل ، وهذه طريقة شيخنا ، وهي التي تليق بأصول أحمد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتمن أنه كان جعلها عمرة مع سوقه الهدي ، بل ود أنه كان جعلها عمرة ولم يسق الهدي .
بقي أن يقال : فأي الأمرين أفضل ، أن يسوق ويقرن ، أو يترك السوق ويتمتع كما ورد النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله .
قيل : قد تعارض في هذه المسألة أمران .
أحدهما : أنه صلى الله عليه وسلم قرن وساق الهدي ، ولم يكن الله سبحانه ليختار له إلا أفضل الأمور، ولا سيما وقد جاءه الوحي به من ربه تعالى، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم .
والثاني قوله : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة" . فهذا يقتضي ، أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه ، لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي ، لأن الذي استدبره هو الذي فعله ومضى فصار خلفه ، والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعد، بل هو أمامه ، فبين أنه لو كان مستقبلاً لما استدبره ، وهو الإحرام بالعمرة دون هدي ، ومعلوم ، أنه لا يختار أن ينتقل عن الأفضل إلى المفضول ، بل إنما يختار الأفضل ، وهذا يدل على أن آخر الأمرين منه ترجيع التمتع .
ولمن رجح القران مع السوق أن يقول : هو صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا، لأجل أن الذي فعله مفضول مرجوح ، بل لأن الصحابة شق عليهم أن يحثوا من إحرامهم مع بقائه هو محرماً، وكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أمروا به مع انشراح وقبول ومحبة،
وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول ، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب، كما قال لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين ". فهذا ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف ، فصار هذا هو الأولى في هذه الحال ، فكذلك اختياره للمتعة بلا هدي . وفي هذا جمع بين ما فعله وبين ما وده وتمناه ، ويكون الله سبحانه قد جمع له بين الأمرين ، أحدهما بفعله له ، والثاني : بتمنيه ووده له ، فأعطاه أجر ما فعله ، وأجر ما نواه من الموافقة وتمناه ، وكيف يكون نسك يتخلله التحلل ولم يسق فيه الهدي أفضل من نسك لم يتخلله تحلل، وقد ساق فيه مائة بدنة، وكيف يكون نسك أفضل في حقه من نسك اختاره الله له ، وأتاه به الوحي من ربه .
فإن قيل : التمتع وإن تخلله تحلل ، لكن قد تكرر فيه الإحرام ، وإنشاؤه عبادة محبوبة للرب ، والقران لا يتكرر فيه الإحرام ؟
قيل : في تعظيم شعائر الله بسوق الهدي ، والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس في مجرد تكرر الإحرام ، ثم إن استدامته قائمة مقام تكرره ، وسوق الهدي لا مقابل له يقوم مقامه .
فإن قيل : فأيما أفضل ، إفراد يأتي عقيبه بالعمرة أو تمتع يحل منه ، ثم يحرم بالحج عقيبه ؟ قيل : معاذ الله أن نظن أن نسكاً قط أفضل من النسك الذي اختاره الله لأفضل الخلق ، وسادات الأمة ، وأن نقول في نسك لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من الصحابة الذين حجوا معه ، بل ولا غيرهم من أصحابه : إنه أفضل مما فعلوه بأمره ، فكيف يكون حج على وجه الأرض أفضل من الحج الذي حجه النبي صلوات الله عليه ، وأمر به أفضل الخلق ، واختاره لهم ، وأمرهم بفسخ ما عداه من الأنساك إليه ، وود أنه كان فعله ، لا حج قط أكمل من هذا. وهذا وإن صح عنه الأمر لمن ساق الهدي بالقران ، ولمن لم يسق بالتمتع ، ففي جواز خلافه نظر، ولا يوحشك قلة القائلين بوجوب ذلك ، فإن فيهم البحر الذي لا ينزف عبد الله بن عباس ، وجماعة من أهل الضاهر ، والسنة هي الحكم بين الناس ، والله المستعان.
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:36 AM
فصل الرد على من زعم أنه حج قارناً طاف له طوافين وسعى له سعيين
فصل
وأما من قال : إنه حج قارناً قراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد ، عن ابن عمر، أنه جمع بين حج وعمرة معاً ، وقال : سبيلهما واحد، قال : وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين . وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت .
وعن علي بن أبي طالب ، أنه جمع بينهما، وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت .
وعن علي رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، فطاف وسعى سعيين .
وعن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وعن عمران بن حصين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين ، وسعى سعيين .
وما أحسن هذا العذر، لو كانت هذه الأحاديث صحيحة ، بل لا يصح منها حرف واحد .
أما حديث ابن عمر، ففيه الحسن بن عمارة، وقال الدارقطني : لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث .
وأما حديث علي رضي الله عنه الأول ، فيرويه حفص بن أبي داود . وقال أحمد ومسلم : حفص متروك الحديث ، وقال ابن خراش : هو كذاب يضع الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ضعيف .
وأما حديثه الثاني : فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي . حدثني أبي عن أبيه عن جده قال الدارقطني : عيسى بن عبد الله يقال له : مبارك ، وهو متروك الحديث .
وأما حديث علقمة عن عبد الله ، فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد، عن حماد عن إبراهيم ، عن علقمة. قال الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان ، قال يحيى : هو كذاب خبيث . وقال الرازي والنسائي : متروك الحديث .
وأما حديث عمران بن حصين ، فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي ، وحدث به من حفظه ، فوهم فيه ، وقد حدث به على الصواب مراراً ، ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي .
وقد روى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن حبان في صحيحه من حديث الدرارودي ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرن بين حجته وعمرته ، أجزأه لهما طواف واحد" . ولفظ الترمذي : "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف وسعي واحد عنهما ، حتى يحل منهما جميعاً" .
وفي الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال : "من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً ، فطاف الذين أهلوا بالعمرة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافاً واحداً ".
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : "إن طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك " .
وروى عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طاف طوافاً واحداً لحجه وعمرته . وعبد الملك : أحد الثقات المشهورين ، احتج به مسلم ، وأصحاب السنن . وكان يقال له : الميزان ، ولم يتكلم فيه بضعف ولا جرح ، وإنما أنكر عليه حديث الشفعة .
وتلك شكاة ظاهر عنه عارها .
وقد روى الترمذي عن جابر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة ، وطاف لهما طوافاً واحداً وهذا ، وإن كان فيه الحجاج بن أرطأة، فقد روى عنه سفيان ، وشعبة ، وابن نمير ، وعبد الرزاق ، والخلق عنه . قال الثوري: وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه ، وعيب عليه التدليس ، وقل من سلم منه . وقال أحمد : كان من الحفاظ ، وقال ابن معين : ليس بالقوي ، وهو صدوق يدلس . وقال أبو حاتم : إذا قال : حدثنا، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه. وقد روى الدارقطني ، من حديث ليث بن أبي سليم قال : حدثني عطاء، وطاووس ، ومجاهد ، عن جابر ، وعن ابن عمر ، وعن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً لعمرتهم وحجهم .
وليث بن أبي سليم ، احتج به أهل السنن الأربعة، واستشهد به مسلم ، وقال ابن معين : لا بأس به ، وقال الدارقطني : كان صاحب سنة، وانما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد حسب وقال عبد الوارث : كان من أوعية العلم ، وقال أحمد: مضطرب الحديث ، ولكن حدث عنه الناس ، وضعفه النسائي ، ويحيى في رواية عنه ، ومثل هذا حديثه حسن . وإن لم يبلغ رتبة الصحة .
وفي الصحيحين عن جابر قال : "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، ثم وجدها تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : قد حضت وقد حل الناس ، ولم أحل ولم أطف بالبيت ، فقال : اغتسلي ثم أهلي ففعلت ، ثم وقفت المواقف حتى إذا طهرت ، طافت بالكعبة وبالصفا والمروة، ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً " .
وهذا يدل على ثلاثة أمور ، أحدها : أنها كانت قارنة ، والثاني : أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد. والثالث : أنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة التي حاضت فيها، ثم أدخلت عليها الحج ، وأنها لم ترفض إحرام العمرة بحيضها ، وإنما رفضت أعمالها والاقتصار عليها ، وعائشة لم تطف أولاً طواف القدوم ، بل لم تطف إلا بعد التعريف ، وسعت مع ذلك ، فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعد يكفي القارن ، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة ، والسعي بعد يكفي القارن ، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة ، وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولى، لكن عائشة تعذر عليها الطواف الأول ، فصارت قصتها حجة ، فإن المرأة التي يتعذر عليها الطواف الأول ، تفعل كما فعلت عائشة ، تدخل الحج على العمرة ، وتصير قارنة ، ويكفيها لهما طواف الإفاضة والسعي عقيبه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومما يبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطف طوافين ، ولا سعى سعيين قول عائشة رضي الله عنها . وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً . متفق عليه . وقول جابر: "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً " طوافه الأول . رواه مسلم . وقوله لعائشة : "يجزىء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " . رواه مسلم . وقوله لها في رواية أبي داود : "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك جميعاً ". وقوله لها في الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين والمروة : "قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً" قال : والصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلهم نقلوا أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمرهم بالتحيل إلا من ساق الهدي ، فإنه لا يحل إلا يوم النحر، ولم ينقل أحد منهم أن أحداً منهم طاف وسعى، ثم طاف وسعى . ومن المعلوم ، أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله . فلما لم ينقله أحد من الصحابة، علم أنه لم يكن .
وعمدة من قال بالطوافين والسعيين ، أثر يرويه الكوفيون ، عن علي رضي الله عنه ، وآخر عن ابن مسعود رضي الله عنهما.
وقد روى جعفر بن محمد، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، أن القارن يكفيه طوافاً واحد ، وسعي واحد ، خلاف ما روى أهل الكوفة ، وما رواه العراقيون ، منه ما هو منقطع ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون ، ولهذا طعن علماء النقل في ذلك حتى قال ابن حزم : كل ما روي في ذلك عن الصحابة، لا يصح منه ولا كلمة واحدة . وقد نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو موضوع بلا ريب . وقد حلف طاووس : ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته إلا طوافاً واحداً ، وقد ثبت مثل ذلك عن ابن عمر، وابن عباس ، وجابر ، وغيرهم رضي الله عنهم ، وهم أعلم الناس بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يخالفوها، بل هذه الآثار صريحة في أنهم لم يطوفوا بالصفا والمروة إلا مرة واحدة .
وقد تنازع الناس في القارن والمتمتع ، هل عليهما سعيان أو سعي واحد ؟ على ثلاثة أقوال : في مذهب أحمد وغيره .
أحدها : ليس على واحد منهما إلا سعي واحد، كما نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله . قال عبد الله : قلت لأبي : المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال : إن طاف طوافين ، فهو أجود . وإن طاف طوافاً واحداً، فلا بأس . قال شيخنا : وهذا منقول عن غير واحد من السلف.
الثاني : المتمتع عليه سعيان ، والقارن عليه سعي واحد، وهذا القول هو القول الثاني في مذهبه ، وقول من يقوله من أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله .
والثالث : إن على كل واحد منهما سعيين ، كمذهب أبي حنيفة رحمه الله ، ويذكر قولاً في مذهب أحمد رحمه الله ، والله أعلم . والذي تقدم ، هو بسط قول شيخنا ، وشرحه والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:36 AM
فصل الرد على من زعم أنه حج مفرداً
فصل
وأما الذين قالوا: إنه حج حجاً مفرداً اعتمر عقيبه من التنعيم ، فلا يعلم لهم عذر البتة إلا ما تقدم من أنهم سمعوا أنه أفرد الحج ، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم، فتوهموا أنه فعل كذلك .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:37 AM
فصل فيمن غلط في إهلاله صلى الله عليه وسلم
فصل
وأما الذين غلطوا في إهلاله ، فمن قال : إنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها، فعذره أنه سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع ، والمتمتع عنده من أهل بعمرة مفردة بشروطها. وقد قالت له حفصة رضي الله عنها: ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك ؟ وكل هذا لا يدل على أنه قال : لبيك بعمرة مفردة، ولم ينقل هذا أحد عنه البتة، فهو وهم محض ، والأحاديث الصحيحة المستفيضة في لفظه إهلاله تبطل هذا .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:37 AM
فصل في عذر من قال : إنه لبى بالحج وحده واستمر عليه
وأما من قال : إنه لبى بالحج وحده واستمر عليه ، فعذره ما ذكر ما ذكرنا عمن قال : أفرد الحج ولبى بالحج ، وقد تقدم الكلام على ذلك ، وأنه لم يقل أحد قط : إنه قال : لبيك بحجة مفردة ، وإن الذين نقلوا لفظه ، صرحوا بخلاف ذلك .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:38 AM
فصل وأما من قال : إنه لبى بالحج وحده ، ثم أدخل عليه العمرة ، وظن أنه بذلك تجتمع الأحاديث ، فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة، فحملها على ابتداء إحرامه ، ثم إنه أتاه آت من ربه تعالى فقال : قل : عمرة في حجة ، فأخل العمرة حينئذ على الحج ، فصار قارناً . ولهذا قال للبراء بن عازب : "إني سقت الهدي وقرنت " ، فكان مفرداً في ابتداء إحرامه ، قارناً في أثنائه ، وأيضاً فإن أحداً لم يقل إنه أهل بالعمرة، ولا لبى بالعمرة ، ولا أفرد العمرة، ولا قال : لا ننوي إلا العمرة، بل قالوا : أهل بالحج ، ولبى بالحج ، وأفرد الحج ، ولم ننوي إلا الحج وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولاً بالحج ، ثم جاءه الوحي من ربه تعالى بالقران ، فلبى بهما فسمعه أنس يلبي بهما، وصدق ، وسمعته عائشة وابن عمر ، وجابر يلبي بالحج وحده أولاً وصدقوا .
قالوا : وبهذا تتفق الأحاديث ، ويزول عنها الاضطراب . وأرباب هذه المقالة لا يجيزون إدخال العمرة على الحج ، ويرونه لغواً ، ويقولون : إن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره . قالوا : ومما يدل على ذلك : أن ابن عمر قال : لبى بالحج وحده ، وأنس قال : أهل بهما جميعاً ، وكلاهما صادق فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقران سابقاً على إهلاله بالحج وحده ، لأنه إذا أحرم قارناً ، لم يمكن أن يحرم بعد ذلك بحج مفرد ، وينقل الإحرام إلى الإفراد ، فتعين أنه أحرم بالحج مفرداً ، فسمعه ابن عمر ، وعائشة ، وجابر، فنقلوا ما سمعوه ، ثم أدخل عليه العمرة، فأهل بهما جميعاً لما جاءه الوحي من ربه ، فسمعه أنس يهل بهما، فنقل ما سمعه ، ثم أخبر عن نفسه بأنه قرن ، وأخبر عنه من تقدم ذكره من الصحابة بالقران ، فاتفقت أحاديثهم ، وزال عنها الاضطراب والتناقض . قالوا : ويدل عليه قول عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : "من أراد منكم أن يهل بحج أو عمرة فليهل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فيهل " . قالت عائشة : فأهل رسول لله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه . فهذا يدل على أنه كان مفرداً في ابتداء إحرامه ، فعلم أن قرانه كان بعد ذلك ، ولا ريب أن في هذا القول من مخالفة الأحاديث المتقدمة، ودعوى التخصيص للنبي صلى الله عليه وسلم في بإحرام لا يصح في حق الأمة ما يرده ويبطله ، ومما يرده أن أنساً قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالبيداء، ثم ركب، وصعد جبل البيداء، وأهل ، بالحج والعمرة حين صلى الظهر.
وفي حديث عمر، أن الذي جاءه من ربه قال له : "صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة" . فكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالذي روى عمر أنه أمر به ، وروى أنس أنه فعله سواء، فصلى الظهر بذي الحليفة، ثم قال : "لبيك حجاً وعمرة " . واختلف الناس في جواز إدخال العمره على الحج على قولين ، وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما : إنه لا يصح والذين قالوا بالصحة، كأبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ، بنوه على أصولهم ، وأن القارن يطوف طوافين ، ويسعى سعين ، فإذا أدخل العمرة على الحج ، فقد التزم زيادة عمل على الإحرام بالحج وحده ، ومن قال : يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، قال : لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوط أحد السفرين ، ولم يلتزم به زيادة عمل ، بل نقصانه فلا يجوز، وهذا مذهب الجمهور .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:38 AM
فصل وأما القائلون : إنه أحرم بعمرة، ثم أدخل عليها الحج ، فعذرهم قول ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج . متفق عليه .
وهذا ظاهر في أنه أحرم أولا بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج ، ويبين أيضاً أن ابن عمر لما حج زمن ابن الزبير أهل بعمرة ثم قال : أشهدكم أنى أوجبت حجاً مع عمرتي ، وأهدى هدياً اشتراه بقديد، ثم انطلق يهل بهما جميعاً حتى قدم مكة، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك ، ولم ينحر ولم يحلق ولم يقصر، ولم يحل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر، وحلق ، ورأى أن ذلك قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . وقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعند هؤلاء، أنه كان متمتعاً في ابتداء إحرامه ، قارناً في أثنائه ، وهؤلاء أعذر من الذين قبلهم ، وإدخال الحج على العمرة جائز بلا نزاع يعرف ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بإدخال الحج على العمرة فصارت قارنة، ولكن سياق الأحاديث الصحيحة ، يرد على أرباب هذه المقالة .
فإن أنساً أخبر أنه حين صلى الظهر أهل بهما جميعاً، وفي الصحيح عن عائشة، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل ، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة" قالت : وكان من القوم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بالحج ، فقالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة ، وذكرت الحديث رواه مسلم . فهذا صريح في أنه لم يهل إذ ذاك بعمرة ، فإذا جمعت بين قول عائشة هذا، وبين قولها في الصحيح : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وبين قولها وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، والكل في الصحيح ، علمت أنها إنما نفت عمرة مفردة، وأنها لم تنف عمرة القران ، وكانوا يسمونها تمتعاً كما تقدم ، وأن ذلك لا يناقض إهلاله بالحج ، فإن عمرة القران في ضمنه ، وجزء منه ، ولا ينافي قولها : أفرد الحج ، فإن أعمال العمرة لما دخلت في أعمال الحج ، وأفردت أعماله ، كان ذلك إفراداً بالنعل .
وأما التلبية بالحج مفرداً ، فهو إفراد بالقول ، وقد قيل : إن حديث ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، مروي بالمعنى من حديثه الآخر، وان ابن عمر هو الذي فعل ذلك عام حجه في فتنة ابن الزبير، وأنه بدأ فأهل بالعمرة، ثم قال : ما شأنها إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت حجاً مع عمرتي ، فأهل بهما جميعاً ، ثم قال ، في آخر الحديث : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما أراد اقتصاره على طواف واحد، وسعي واحد، فحمل على المعنى، وروي به : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج ، وإنما الذي فعل ذلك ابن عمر، وهذا ليس ببعيد، بل متعين ، فإن عائشة قالت عنه : "لولا أن معي الهدي لأهللت بعمرة "وأنس قال عنه : إنه حين صلى الظهر، أوجب حجاً وعمرة ؟ وعمر رضي الله عنه ، أخبر عنه أن الوحي جاءه من ربه فأمره بذلك .
فإن قيل : فما تصنعون بقول الزهري : إن عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم ، عن ابن عمر؟ قيل : الذي أخبرت به عائشة من ذلك ، هو أنه صلى الله عليه وسلم طاف طوافاً واحداً عن حجه وعمرته ، وهذا هو الموافق لرواية عروة عنهما في الصحيحين ، وطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً، فهذا مثل الذي رواه سالم عن أبيه سواء . وكيف تقول عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج ، وقد قالت . إن رسول صلى الله عليه وسلم قال : "لولا أن معي الهدي لأهللت بعمرة" وقالت : وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ؟ فعلم ، أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل في ابتداء إحرامه بعمرة مفردة والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:39 AM
فصل وأما الذين قالوا: إنه أحرم إحراماً مطلقاً، لم يعين فيه نسكاً، ثم عينه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصفا والمروة، وهو أحد أقوال الشافعي رحمه الله ، نص عليه في كتاب اختلاف الحديث . قال : وثبت أنه خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة، ثم قال : ومن وصف انتظار النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلباً للإختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة، فيشبه أن يكون أحفظ ، لأنه قد أتي بالمتلاعنين، فانتظر القضاء، كذلك حفظ عنه في الحج ينتظر القضاء . وعذر أرباب هذا القول ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذكر حجاً ولا عمرة" وفي لفظ : "يلبي لا يذكر حجاً ولا عمرة" وفي رواية عنها : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج ، حتى إذا دنونا منه مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل " وقال طاووس : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجاً ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة . . . الحديث .
وقال جابر في حديثه الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم : فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء ، عملنا به ، فأهل بالتوحيد "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " . وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلبيته فأخبر جابر ، أنه لم يزد على هذه التلبية، ولم يذكر أنه أضاف إليها حجاً ولا عمرة، ولا قراناً ، وليس في شيء من هذه الأعذار ما يناقض أحاديث تعيينه النسك الذي أحرم به في الابتداء ، وأنه القران .
فأما حديث طاووس ، فهو مرسل لا يعارض به الأساطين المسندات ، ولا يعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن . ولو صح ، فانتظاره للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات ، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادي ، أتاه آت من ربه تعالى فقال : "صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة"، فهذا القضاء الذي انتظره ، جاءه قبل الإحرام ، فعين له القران . وقول طاووس : نزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، هو قضاء آخر غير القضاء الذي نزل عليه بإحرامه ، فإن ذلك كان بوادي العقيق ، وأما القضاء الذي نزل عليه بين الصفا والمروة، فهو قضاء الفسخ الذي أمر به الصحابة إلى العمرة، فحينئذ أمر كل من لم يكن معه هدي منهم أن يفسخ حجه إلى عمرة وقال : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" ، وكان هذا أمر حتم بالوحي ، فإنهم لما توقفوا فيه قال : "انظروا الذي آمركم به فافعلوه " .
فأما قول عائشة: خرجنا لا نذكر حجاً ولا عمرة، فهذا إن كان محفوظاً عنها، وجب حمله على ما قبل الإحرام ، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها، أن منهم من أهل عند الميقات بحج ، ومنهم من أهل بعمرة، وأنا ممن أهل بعمرة . وأما قولها: نلبي لا نذكر حجاً ولا عمرة، فهذا في ابتداء الاحرام ، ولم تقل : إنهم استمروا على ذلك إلى مكة، هذا باطل قطعاً فإن الذين سمعوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أهل به ، شهدوا على ذلك ، وأخبروا به ، ولا سبيل إلا رد رواياتهم . ولو صح عن عائشة ذلك ، لكان غايته أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات ، فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته ، والرجال بذلك أعلم من النساء . وأما قول جابر رضي الله عنه : وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، فليس فيه إلا إخباره عن صفة تلبيته ، وليس فيه نفي لتعيينه النسك الذي أحرم بوجه من الوجوه . وبكل حال ، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة في نفي التعيين ، لكانت أحاديث أهل الإثبات أولى بالأخذ منها ، لكثرتها ، وصحتها ، واتصالها ، وأنها مثبتة مبينة متضمنة لزيادة خفيت على من نفى، وهذا بحمد الله واضح وبالله التوفيق .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:39 AM
فصل ولنرجع إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم ولبد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بالغسل وهو بالغين المعجمة على وزن كفل ، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي ونحوه يلبد به الشعر حتى لا ينتشر ، وأهل في مصلاه ، ثم ركب على ناقته ، وأهل أيضاً ، ثم أهل لما استقلت به على البيداء .
قال ابن عباس : وايم الله : لقد أوجب في مصلاه ، وأهل حين استقلت به ناقته ، وأهل حين علا على شرف البيداء .
وكان يهل بالحج والعمرة تارة ، وبالحج تارة ، لأن العمرة جزء منه ، فمن ثم قيل : قرن ، وقيل : تمتع ، وقيل : أفرد ، قال ابن حزم : كان ذلك قبل الظهر بيسير ، وهذا وهم منه ، والمحفوظ : أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر ، ولم يقل أحد قط : إن إحرامه كان قبل الظهر ، ولا أدري من أين له هذا . وقد قال ابن عمر : "ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره ". وقد قال أنس : "إنه صلى الظهر ، ثم ركب" ، والحديثان في الصحيح .
فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر ، تبين أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر ، ثم لبى فقال : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " . ورفع صوته بهذه التلبية حتى سمعها أصحابه ، وأمرهم بأمر الله له أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية .
وكان حجه على رحل ، لا في محمل ، ولا هودج ، ولا عمارية وزاملته تحته . وقد اختلف في جواز ركوب المحرم في المحمل والهودج ، والعمارية ، ونحوها على قولين ، هما روايتان عن أحمد أحدهما: الجواز وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة . والثاني : المنع وهو مذهب مالك .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:40 AM
فصل إنه صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة
فصل
ثم إنه صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة ، ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي ، ثم حتم ذلك عليهم عند المروة .
وولدت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر رضي الله عنهما بذي الحليفة محمد بن أبي بكر، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تغتسل ، وتستثفر، بثوب وتحرم وتهل . وكان في قصتها ثلاث سنن ، إحداها: غسل المحرم ، والثانية : أن الحائض تغتسل لإحرامها ، والثالثة : أن الإحرام يصح من الحائض . ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بتلبيته المذكورة ، والناس معه يزيدون فيها وينقصون ، وهو يقرهم ولا ينكر عليهم .
ولزم تلبيته ، فلما كانوا بالروحاء ، رأى حمار وحش عقيراً ، فقال : "دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه " فجاء صاحبه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله أبا بكر فقسمة بين الرفاق .
وفي هذا دليل على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله ، وأما كون صاحبه لم يحرم ، فلعله لم يمر بذي الحليفة، فهو كأبي قتادة في قصته . وتدل هذه القصة على أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ : وهبت لك ، بل تصح بما يدل عليها، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحري ، وتدك على أن الصيد يملك بالإثبات ، وإزالة امتناعه ، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه ، وعلى حل أكل لحم الحمار الوحشي ، وعلى التوكيل في القسمة ، وعلى كون القاسم واحداً .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:40 AM
فصل ثم إنه صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة ، ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي ، ثم حتم ذلك عليهم عند المروة .
وولدت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر رضي الله عنهما بذي الحليفة محمد بن أبي بكر، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تغتسل ، وتستثفر، بثوب وتحرم وتهل . وكان في قصتها ثلاث سنن ، إحداها: غسل المحرم ، والثانية : أن الحائض تغتسل لإحرامها ، والثالثة : أن الإحرام يصح من الحائض . ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بتلبيته المذكورة ، والناس معه يزيدون فيها وينقصون ، وهو يقرهم ولا ينكر عليهم .
ولزم تلبيته ، فلما كانوا بالروحاء ، رأى حمار وحش عقيراً ، فقال : "دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه " فجاء صاحبه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله أبا بكر فقسمة بين الرفاق .
وفي هذا دليل على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله ، وأما كون صاحبه لم يحرم ، فلعله لم يمر بذي الحليفة، فهو كأبي قتادة في قصته . وتدل هذه القصة على أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ : وهبت لك ، بل تصح بما يدل عليها، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحري ، وتدك على أن الصيد يملك بالإثبات ، وإزالة امتناعه ، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه ، وعلى حل أكل لحم الحمار الوحشي ، وعلى التوكيل في القسمة ، وعلى كون القاسم واحداً .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:41 AM
فصل في الصيد
فصل
ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج ، إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم ، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس ، حتى يجاوزوا . والفرق بين قصة الظبي ، وقصة الحمار، أن الذي صاد الحمار كان حلالاً، فلم يمنع من أكله ، وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرمون ، فلم يأذن لهم فى أكله ، ووكل من يقف عنده ، لئلا يأخذه أحد حتى يجاوزوه . وفيه دليل على أن قتل المحرم للصيد يجعله بمنزلة الميتة في عدم الحل إذ لوكان حلالاً ، لم تضع ماليته .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:41 AM
فصل المحرم يؤدب غلامه
فصل
ثم سار حتى إذا نزل بالعرج ، وكانت زمالته وزمالة أبي بكر واحدة ، وكانت مع غلام لأبي بكر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه ، وعائشة إلى جانبه الآخر ، وأسماء زوجته إلى جانبه ، وأبو بكر ينتظر الغلام والزمالة ، إذ طلع الغلام ليس معه البعير، فقال : أين بعيرك ؟ فقال : أضللته البارحة، فقال أبو بكر: بعير واحد تضله . قال : فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ، ويقول : "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ، وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم ". ومن تراجم أبي داود على هذه القصة ، باب المحرم يؤدب غلامه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:42 AM
بحث في لحم الصيد للمحرم
فصل
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالأبواء ، أهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار وحشي ، فرده عليه ، فقال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم . وفي الصحيحين : "أنه أهدى له حماراً وحشياً "، وفي لفظ لمسلم : "لحم حمار وحش".
وقال الحميدي : كان سفيان يقول في الحديث : أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش ، وربما قال سفيان : يقطر دماً ، وربما لم يقل ذلك ، وكان سفيان فيما خلا ربما قال : حمار وحش ، ثم صار إلى لحم حتى مات . وفي رواية : شق حمار وحش ، وفي رواية : رجل حمار وحش .
وروى يحيى بن سعيد، عن جعفر، عن عمرو بن أمية الضمري ، عن أبيه ، عن الصعب ، أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم . قال البيهقي : وهذا إسناد صحيح . فإن كان محفوظاً ، فكأنه رد الحي ، وقبل اللحم .
وقال الشافعي رحمه الله : فإن كان الصعب بن جثامة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم الحمار حياً ، فليس للمحرم ذبح حمار وحش ، وإن كان أهدى له لحم الحمار ، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له ، فرده عليه ، وإيضاحه في حديث جابر . قال : وحديث مالك : أنه أهدى له حماراً أثبت من حديث من حدث له من لحم حمار . قلت : أما حديث يحيى بن سعيد، عن جعفر، فغلط بلا شك ، فإن الواقعة واحدة ، وقد اتفق الرواة أنه لم يأكل منه ، إلا هذه الرواية الشاذة المنكرة .
وأما الاختلاف في كون الذي أهداه حياً، أو لحماً، فرواية من روى لحماً أولى لثلاثة أوجه .
أحدها : أن راويها قد حفظها، وضبط الواقعة حتى ضبطها : أنه يقطر دماً، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر لا يؤبه له .
الثاني : أن هذا صريح في كونه بعض الحمار، وأنه لحم منه ، فلا يناقض قوله : أهدى له حماراً، بل يمكن حمله على رواية من روى لحماً ، تسمية للحم بإسم الحيوان ، وهذا مما لا تأباه اللغة .
الثالث : أن سائر الروايات متفقة على أنه بعض من أبعاضه ، وإنما اختلفوا في ذلك البعض ، هل هو عجزه ، أو شقه ، أو رجله ، أو لحم منه ؟ ولا تناقض بين هذه الروايات ، إذ يمكن أن يكون الشق هو الذي فيه العجز وفيه الرجل ، فصح التعبير عنه بهذا وهذا، وقد رجع ابن عيينة عن قوله حماراً وثبت على قوله : لحم حمار حتى مات . وهذا يدل على له أنه تبين له إنما أهدى له لحماً لا حيواناً، ولا تعارض بين هذا وبين أكله لما صاده أبو قتادة، فإن قصة أبي قتادة كانت عام الحديبية سنة ست ، وقصة الصعب قد ذكر غير واحد أنها كانت في حجة الوداع ، منهم : المحب الطبري في كتاب حجة الوداع له . أو في بعض عمره وهذا مما ينظر فيه .
وفي قصة الظبي وحمار يزيد بن كعب السلمي البهزي ، هل كانت في حجة الوداع ، أو في بعض عمره ، والله أعلم ؟ فإن حمل حديث أبي قتادة على أنه لم يصده لأجله ، وحديث الصعب على أنه صيد لأجله ، زال الإشكال ، وشهد لذلك حديث جابر المرفوع "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم " وإن كان الحديث قد أكل بأن المطلب بن حنطب راويه عن جابر لا يعرف له سماع منه ، قاله النسائي .
قال الطبري في حجة الوداع له : فلما كان في بعض الطريق ، اصطاد أبو قتادة حماراً وحشياً ، ولم يكن محرماً، فأحله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن سألهم : هل أمره أحد منكم بشيء ، أو أشار إليه ؟ وهذا وهم منه رحمه الله ، فإن قصة أبي قتادة إنما كانت عام الحديبية ، هكذا روي في الصحيحين من حديث عبد الله ابنه عنه قال : انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم ، فذكر قصة الحمار الوحشي .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:42 AM
بحث في إحرام عائشة ورفضها العمرة وذكر اختلاف الروايات فيه
فصل
"فلما مر بوادي عسفان ، قال : يا أبا بكر أي واد هذا ؟ قال : وادي عسفان . قال : لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطمهما الليف وأزرهم العباء ، وأرديتهم النمار ، يلبون يحجون البيت العتيق "ذكره الإمام أحمد في المسند .
فلما كان بسرف ، حاضت عائشة رضي الله عنها، وقد كانت أهلت بعمرة ، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، قال: "ما يبكيك لعلك نفست ؟ قالت : نعم قال : هذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم ، افعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت ".
وقد تنازع العلماء في قصة عائشة : هل كانت متمتعة أو مفردة ؟ فإذا كانت متمتعة، فهل رفضت عمرتها، أو انتقلت إلى الإفراد ، وأدخلت عليها الحج ، وصارت قارنة، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبة، فهل هي مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضاً في موضع حيضها ، وموضع طهرها ، ونحن نذكر البيان الشافي في ذلك بحول الله وتوفيقه ، واختلف العلماء في مسألة مبنية على قصة عائشة، وهي أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة، فحاضت ، ولم يمكنها الطواف قبل التعريف ، فهل ترفض الإحرام بالعمرة، وتهل بالحج مفرداً ، أوتدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ؟ فقال بالقول الأول : فقهاء الكوفة، منهم أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثاني : فقهاء الحجاز. منهم : الشافعي ومالك ، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه .
قال الكوفيون : ثبت في الصحيحين ، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت : "أهللت بعمرة، فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : انقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ، ودعي العمرة. قالت : ففعلت فلما قضيت الحج ، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت منه ، فقال : هذه مكان عمرتك ". قالوا : فهذا يدل على أنها كانت متمتعة ، وعلى أنها رفضت عمرتها وأحرمت بالحج ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، "دعي عمرتك " ولقوله : "انقضي رأسك وامتشطي ". ولو كانت باقية على إحرامها، لما جاز لها أن تمتشط ، ولأنه قال للعمرة التي أتت بها من التنعيم : "هذه مكان عمرتك " . ولو كانت عمرتها الأولى باقية، لم تكن هذه مكانها ، بل كانت عمرة مستقلة . قال الجمهور: لو تأملت قصة عائشة حق التأمل ، وجمعتم بين طرقها وأطرافها، لتبين لكم أنها قرنت ، ولم ترفض العمرة، ففي صحيح مسلم : "عن جابر رضي الله عنه ، قال : أهلت عائشة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف ، عركت ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فوجدها تبكي ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني أني قد حضت وقد أحل الناس ، ولم أحل ، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن ، قال : إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج ففعلت ، ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت ، طافت بالكعبة وبالصفا والمروة . ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك قالت : يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال : فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ".
وفي صحيح مسلم : من حديث طاووس عنها : أهللت بعمرة، وقدمت ولم أطف حتى حضت ، فنسكت المناسك كلها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " .
فهذه نصوص صريحة، أنها كانت في حج وعمرة، لا في حج مفرد ، وصريحة في أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه . وفي بعض ألفاظ الحديث : "كوني في عمرتك ، فعسى أن الله يرزقكيها". ولا يناقض هذا "دعي عمرتك " . فلو كان المراد به رفضها وتركها، لما قال لها : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " ، فعلم أن المراد : دعي أعمالها ليس المراد به رفض إحرامها وأما قوله : "انقضي رأسك وامتشطي " ، فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيه أربعة مسالك .
أحدها : أنه دليل ، على رفض العمرة، كما قالت الحنفية .
المسلك الثاني . إنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ، ولا تحريمه وهذا قول ابن حزم وغيره.
المسلك الثالث : تعليل هذه اللفظة ، وردها بأن عروة انفرد بها ، وخالف بها سائر الرواة ، وقد روى حديثها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد رزق حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة ، حديث حيضها في الحج فقال فيه : حدثني غير واحد، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي " وذكر تمام الحديث........ قالوا : فهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة .
المسلك الرابع : أن قوله : "دعي العمرة" ، أي دعيها، بحالها لا تخرجي ، وليس المراد تركها ، قالوا : ويدل عليه وجهان .
أحدهما قوله : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " .
الثاني : قوله: "كوني في عمرتك ". قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قوله : "هذه مكان عمرتك فعائشة أحبت أن تأتي بعمرة مفردة ، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها ، وأن عمرتها قد دخلت في حجها، فصارت قارنة، فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولاً، فلما حصل لها ذلك ، قال : هذه مكان عمرتك " .
وفي سنن الأثرم ، عن الأسود، قال : قلت لعائشة : اعتمرت بعد الحج ؟ قالت : والله ما كانت عمرة ، ما كانت إلا زيارة زرت البيت .
قال الإمام أحمد: إنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه ، فقالت : يرجع الناس بنسكين ، وأرجع بنسك ؟ فقال : "يا عبد الرحمن ، أعمرها" فنظر إلى أدنى الحل ، فأعمرها منه.
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:43 AM
فصل واختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين .
أحدهما : أنه عمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث .
وفي الصحيح عنها، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أراد منكم أن يهل بعمرة، فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة" . قالت : وكان من القوم من أهل بعمرة ، ومنهم من أهل بالحج ، قالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة ، وذكرت الحديث ....... وقوله في الحديث : " دعي العمرة وأهلي بالحج " قاله لها بسرف قريباً من مكة وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة .
القول الثاني : أنها أحرمت أولاً بالحج وكانت مفردة، قال ابن عبد البر : روى القاسم بن بن محمد، والأسود بن يزيد، وعمرة كلهم عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا بعمرة ، منها : حديث عمرة عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا نرى إلا أنه الحج ، وحديث الأسود بن يزيد مثله ، وحديث القاسم : لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . قال : وغلطوا عروة في قوله عنها :" كنت فيمن أهل بالعمرة " قال إسماعيل بن إسحاق : قد اجتمع هؤلاء ، يعني الأسود، والقاسم ، وعمرة ، على الروايات التي ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط ، قال : ويشبه أن يكون الغلط ، إنما وقع فيه أن يكون لم يمكنها الطواف بالبيت ، وأن تحل بعمرة كما فعل من لم يسق الهدي . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، فتوهموا بهذا المعنى أنها كانت معتمرة، وأنها تركت عمرتها ، وابتدأت بالحج . قال أبو عمر : وقد روى جابر بن عبد الله ، أنها كانت مهلة بعمرة، كما روى عنها عروة . قالوا : والغلط الذي دخل على عروة، إنما كان في قوله : "انقضي رأسك ، وامتشطي ، ودعي العمرة ، وأهلي بالحج " .
وروى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه : حدثني غير واحد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : "دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وافعلي ما يفعل الحاج " . فبين حماد، أن عروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة .
قلت : من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ، ولا مطعن فيها، ولا تحتمل تأويلاً ، البتة بلفظ مجمل ليس ظاهراً في أنها كانت مفردة، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة، قولها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنه الحج . فيا لله العجب أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج ، بل خرح للحج متمتعاً، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يقول : خرجت لغسل الجنابة؟ وصدقت أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة ، بأمره صلى الله عليه وسلم ، وكلامها يصدق بعضه بعضاً ، وأما قولها: لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالحج ، فقد قال جابر عنها في الصحيحين : إنها أهلت بعمرة، وكذلك قال طاووس عنها في صحيح مسلم وكذلك قال مجاهد عنها، فلو تعارضت الروايات عنها، فرواية الصحابة أولى أن يؤخذ بها من رواية التابعين ، كيف ولا تعارض في ذلك البتة ، فإن القائل : فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله ، وبفعل أصحاب .
ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، معناه : تمتع أصحابه ، فأضاف الفعل إليه لأمره به ، فهلا قلتم في قول عائشة: لبينا بالحج ، أن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج ، وقولها : فعلنا، كما قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسافرنا معه ونحوه . ويتعين قطعاً إن لم تكن هذه الرواية غلطاً أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة الصريحة ، أنها كانت أحرمت بعمرة وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط ، وهو أعلم الناس بحديثها وكان يسمع منها مشافة بلا واسطة .
وأما قوله في رواية حماد: حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : "دعي عمرتك " فهذا إنما يحتاج إلى تعليله ، ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدقها، وشهد لها أنها أحرمت بعمرة، فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأن الذي حدث به ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعتلة ، وهي قوله : فحدثني غير واحد ، وخالفه جماعة ، فرووه متصلاً عن عروة، عن عائشة . فلو قدر التعارض ، فالأكثرون أولى بالصواب ، فيا لله العجب ! كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها : "وكنت فيمن أهل بعمرة" سائغاً بلفظ مجمل محتمل ، ويقضى به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟ فهؤلاء ، أربعة رووا عنها ، أنها أهل بعمرة : جابر ، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد، فلو كانت رواية القاسم ، وعمرة ، والأسود ، معارضة لرواية هؤلاء ، لكانت روايتهم أولى بالتقديم لكثرتهم ، ولأن فيهم جابراً ، ولفضل عروة ، وعلمه بحديث خالته رضي الله عنها ، ومن العجب قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرها أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، توهموا لهذا أنها كانت معتمرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تدع العمرة وتنشىء إهلالاً بالحج ، فقال لها : "وأهلي بالحج " ولم يقل : "استمري عليه "، ولا امضي فيه ، وكيف يغلط راوي الأمر بالامتشاط بمجرد مخالفته لمذهب الراد؟ فأين في كتاب الله وسنة رسوله ، وإجماع الأمة ما يحرم على المحرم تسريح شعره ، ولا يسوغ تغليط الثقات لنصرة الآراء، والتقليد . والمحرم وإن أمن من تقطيع الشعر، لم يمنع من تسريح رأسه ، وإن لم يأمن من سقوط شيء من الشعر بالتسريح ، فهذا المنع منه محل نزاع واجتهاد ، والدليل يفصل بين المتنازعين فإن لم يدل كتاب ولا سنة ولا اجماع على منعه ، فهو جائز .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:44 AM
بحث في المراد من العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم
فصل
وللناس في هذه العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم أربعة
مسالك . أحدها : أنها كانت زيادة تطييباً لقلبها وجبراً لها، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها ، وكانت متمتعة، ثم أدخلت الحج على العمرة ، فصارت قارنة وهذا أصح الأقوال ، والأحاديث لا تدل على غيره ، وهذا مسلك الشافعي وأحمد وغيرهما .
المسلك الثاني : أنها لما حاضت ، أمرها أن ترفض عمرتها، وتنتقل عنها إلى حج مفرد، فلما حلت من الحج ، أمرها أن تعتمر قضاء لعمرتها التي أحرمت بها أولاً ، وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه ، وعلى هذا القول ، فهذه العمرة كانت في حقها واجبة، ولا بد منها، وعلى القول الأول كانت جائزة، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهي على هذين القولين ، إما أن تدخل الحج على العمرة، وتصير قارنة، وإما أن تنتقل عن العمرة إلى الحج ، وتصير مفردة ، وتقضي العمرة .
المسلك الثالث : أنها لما قرنت ، لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة ، لأن عمرة القارن لا تجزىء عن عمرة الإسلام ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد .
المسلك الرابع : أنها كانت منفردة، وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض ، واستمرت على الإفراد حتى طهرت ، وقضت الحج ، وهذه العمرة هي عمرة الإسلام ، وهذا مسلك القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية ، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف ، بل هو أضعف المسالك في الحديث .
وحديث عائشة هذا ، يؤخذ فه أصول عظيمة من أصول المناسك .
أحدها : اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد .
الثاني : سقوط طواف القدوم عن الحائض ، كما أن حديث صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أصل في سقوط طواف الوداع عنها .
الثالث : أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز ، كما يجوز للطاهر، وأولى، لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك .
الرابع : أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها ، إلا أنها لا تطوف بالبيت .
الخامس: أن التنعيم من الحل .
السادس : جواز عمرتين في سنة واحدة، بل في شهر واحد .
السابع : أن المشروع في حق المتمتع اذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة ، وحديث عائشة أصل فيه .
الثامن : أنه أصل في العمرة المكية، وليس مع من يستحبها غيره ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر هو ولا أحد ممن حج معه من مكة خارجاً منها إلا عائشة وحدهـا ، فجعل أصحاب العمرة المكية قصة عائشة أصلاً لقولهم ، ولا دلالة لهم فيها، فإن عمرتها إما أن تكون قضاء للعمرة المرفوضة عند من يقول : إنها رفضتها ، فهي واجبة قضاء لها، أو تكون زيادة محضة، وتطييباً لقلبها عند من يقول : إنها كانت قارنة، وان طوافها وسعيها أجزأها عن حجها وعمرتها. والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:44 AM
فصل عمرتها مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا
فصل
وأما كون عمرتها تلك مجزئة عن عمرة الإسلام ، ففيه قولان للفقهاء ، وهما روايتان عن أحمد، والذين قالوا : لا تجزىء ، قالوا : العمرة المشروعة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها نوعان لا ثالث لهما : عمرة التمتع وهي التي أذن فيها عند الميقات ، وندب إليها في أثناء الطريق ، وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة . الثانية : العمرة المفردة التي ينشأ لها سفر ، كعمره المتقدمة ، ولم يشرع عمرة مفردة غير هاتين ، وفي كلتيهما المعتمر داخل إلى مكة . وأما عمرة الخارج إلى أدنى الحل ، فلم تشرع . وأما عمرة عائشة، فكانت زيارة محضة ، وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على أن عمرة القارن تجزىء عن عمرة الإسلام ، وهذا هو الصواب المقطوع به ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " وفي لفظ : "يجزئك " وفي لفظ : "يكفيك " . وقال : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وأمر كل من ساق الهدي أن يقرن بين الحج والعمرة، ولم يأمر أحداً ممن قرن سعه وساق الهدي بعمرة أخرى غير عمرة القران ، فصخ إجزاء عمرة القارن عن عمرة الإسلام قطعاً وبالله التوفيق .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:45 AM
فصل موضع حيضها ، وموضع طهرها
فصل
وأما موضع حيضها، فهوبسرف بلا ريب ، وموضع طهرها قد اختلف فيه ، فقيل : بعرفة هكذا روى مجاهد عنها وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما، والحديثان صحيحان ، وقد حملهما ابن حزم على معنيين ، فطهر عرفة : هو الاغتسال للوقوف بها عنده ، قال : لأنها قالت : تطهرت بعرفة، والتطهر غير الطهر، قال : وقد ذكر القاسم يوم طهرها، أنه يوم النحر، وحديثه في صحيح مسلم . قال : وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضاً، وهما أقرب الناس منها . وقد روى أبو داود : حدتنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة ..... فذكرت الحديث ، وفيه ، فلما كانت ليلة البطحاء، طهرت عائشة، وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم : إنه حديث منكر، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها، وهو قوله : إنها طهرت ليلة البطحاء، وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال ، وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة، ليست من كلام عائشة، فسقط التعلق بها، لأنها ممن دون عائشة، وهي أعلم بنفسها. قال : وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد ، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة .
قلت : يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه .
أحدها : أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة .
الثاني : أن حديثهم فيه إخبارها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها .
الثالث : أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث ، وفيه : فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها، لكن قال مجاهد عنها : فتطهرت بعرفة، والقاسم قال : يوم النحر .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:46 AM
فصل عود إلى سياق حجته
فصل
عدنا إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم : فلما كان بسرف ، قال لأصحابه : "من لم يكن معه هدي ، فأحب أن يجعلها عمرة، فليفعل ، ومن كان معة هدي فأحب أن يجعلها عمرة ، فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا " وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات .
فلما كان بمكة، أمر أمراً حتماً من لاهدي معه أن يجعلها عمرة، ويحل من إحرامه ، ومن معه هدي ، أن يقيم على إحرامه ، ولم ينسخ ذلك شيء البتة ، بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها، هل هي لعامهم ذلك ، أم للأبد: قال : "بل للأبد، وإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة " .
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه وأحاديثهم كلها صحاح ، وهم : عائشة، وحفصة أم المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق ، وجابر بن عبد الله ، وأبو سعيد الخدري ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس ، وسبرة بن معبد الجهني ، وسراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنهم ونحن نشير إلى هذه الأحاديث .
ففي الصحيحين : عن ابن عباس ، قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحل ؟ فقال : "الحل كله " .
وفي لفظ لمسلم : قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من العشر إلى مكة وهم يلبون بالحج ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، وفي لفظ : وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي . وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله : أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج ، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ومعه هدي ، فقال : أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، ويطوفوا، ويقصروا ، ويحلوا إلا من كان معه الهدي ، قالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت " . وفي لفظ : فقام فينا فقال : "لقد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم ، وأبركم ولولا أن معي الهدي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي ، فحلوا" فحللنا، وسمعنا وأطعنا ، وفي لفظ : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا ، أن نحرم إذا توجهنا إلى منى. قال : فأهللنا من الأبطح ، فقال سراقة بن مالك بن جعشم : يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد؟ قال : "للأبد" . وهذه الألفاظ كلها في الصحيح وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال : إن ذلك كان خاصاً بهم ، فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده ، لا للأبد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنة للأبد.
وفي المسند : عن ابن عمر، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابه مهلين بالحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " .
قالوا : يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منياً؟ قال : "نعم " وسطعت المجامر .
وفي السنن : عن الربيع بن سبرة، عن أبيه ، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بعسفان ، قال سراقة بن مالك المدلجي ؟ يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ، فقال : "إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجة وعمرة فإذا قدمتم ، فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، فقد حل إلا من معه هدي " .
وفي الصحيحين عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا نذكر إلا الحج ..... فذكرت الحديث ، وفيه : فلما قدمنا مكة، قال الني صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "اجعلوها عمرة" فأحل الناس إلا من كان معه الهدي .......وذكرت باقي الحديث .
وفي لفظ للبخاري : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج ، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل ، فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن ، فأحللن ".
وفي لفظ لمسلم : "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار . قال : أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت . ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ، ثم أحل كما حلوا" . وقال مالك : عن يحيى بن سعيد، عن عمرة ، قالت : سمعت عائشة تقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ذي القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج ، فلما دنونا من مكة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل ، قال يحيى بن سعيد : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد، فقال : أتتك والله بالحديث على وجهه .
وفي صحيح مسلم : عن ابن عمر، قال : "حدثتني حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع ، فقلت : ما منعك أن تحل ؟ فقال : إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي ".
وفي صحيح مسلم : عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، خرجنا محرمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان معه هدي ، فليقم على إحرامه ، ومن لم يكن معه هدي ، فليحلل " ..... وذكرت الحديث .
وفي صحيح مسلم أيضاً: عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نصرخ بالحج صراخاً، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي . فلما كان يوم التروية ، ورحنا إلى منى ، أهللنا بالحج .
وفي صحيح البخاري : عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : أهل المهاجرون والأنصار، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وأهللنا فلما قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " ..... وذكر الحديث .
وفي السنن عن البراء بن عازب ، "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأحرمنا بالحج ، فلما قدمنا مكة، قال : اجعلوا حجكم عمرة . فقال الناس : يا رسول الله قد أحرمنا بالحج ، فكيف نجعلها عمرة ؟ فقال : انظروا ما آمركم به فافعلوه ، فرددوا عليه القول ، فغضب ، ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان ، فرأت الغضب في وجهه فقالت : من أغضبك ، أغضبه الله . فقال : وما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا يتبع" .
ونحن ، نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج ، لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة تفادياً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتباعا لأمره . فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ، ولا صح حرف واحد يعارضه ، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم ، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله : هل ذلك مختص بهم ؟ فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الأبد، فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث ، وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه .
ولله در الإمام أحمد، رحمه الله إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له عبد الله : كل أمرك عندي حسن إلا خلة واحدة : قال : وما هي ؟ قال : تقول بفسخ الحج إلى العمرة . فقال : يا سلمة كنت أرى لك عقلاً ، عندي في ذلك أحد عشر حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أأتركها لقولك ؟ . وفي السنن عن البراء بن عازب ، أن علياً رضي الله عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن ، أدرك فاطمة وقد لبست ثياباً صبيغاً ، ونضحت البيت بنضوح ، فقال : ما بالك ؟ فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه فحلوا .
وقال ابن أبي شيبة : حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد، عن مجاهد، قال: قال عبد الله بن الزبيرة أفردوا الحج ، ودعوا قول أعماكم هذا . فقال عبد الله بن عباس : إن الذي أعمى الله قلبه لأنت ، ألا تسأل أمك عن هذا؟ فأرسل إليها، فقالت : صدق ابن عباس ، جئنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجاجاً، فجعلناها عمرة، فحللنا إلإحلال كله ، حتى سطعت المجامر بين الرجال والنساء .
وفي صحيح البخاري عن ابن شهاب ، قال : دخلت على عطاء أستفتيه ، فقال : "حدثني جابر بن عبد الله : أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه ، وقد أهلوا بالحج مفرداً ، فقال لهم : أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وقصروا ، ثم أقيموا حلالاً ، حتى إذا كان يوم التروية ، فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة. فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج ؟ فقال : افعلوا ما أمرتم به ، فلولا أني سقت الهدي ، لفعلت مثل الذي أمرتكم به . ولكن لا يحل مني حرام ، حتى يبلغ الهدي محله ، ففعلوا ".
وفي صحيحه أيضاً عنه : "أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج" ...... وذكر الحديث . وفيه : "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة ، ويطوفوا ، ثم يقصروا إلا من ساق الهدي : فقالوا : أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي ، للأحللت ".
وفي صحيح مسلم : عنه في حجة الوداع : "حتى إذا قدمنا مكة، طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يحل منا من لم يكن معه هدي ، قال : فقلنا: حل ماذا؟ قال : الحل كل ، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب ، ولبسنا ثيابنا ، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ، ثم أهللنا يوم التروية "وفي لفظ آخر لمسلم : "فمن كان منكم ليس معه هدي ، فليحل وليجعلها عمرة ، فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية ، توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج ".
وفي مسند البزار بإسناد صحيح : "عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة، فلما قدموا مكة، طافوا بالبيت والصفا والمروة، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلوا، فهابوا ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أحلوا فلولا أن معي الهدي ، لأحللت فأحلوا حتى حلوا إلى النساء".
وفي صحيح البخاري : عن أنس ، "قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله ، وسبح ، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية ، أهلوا بالحج ...... "وذكر باقي الحديث .
وفي صحيحه أيضاً : "عن أبي موسى الأشعري ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومي باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء، فقال : بم أهللت ؟ فقلت : أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : هل معك من هدي ؟ قلت : لا ، فأمرني ، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم أمرني فأحللت".
وفي صحيح مسلم : أن رجلاً من بني الهجيم قال لابن عباس : ما هذه الفتيا التي قد تشغبت بالناس ، أن من طاف بالبيت فقد حل ؟ فقال : سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وإن رغمتم .
وصدق ابن عباس ، كل من طاف بالبيت ممن لا هدي معه من مفرد، أو قارن ، أو متمتع ، فقد حل إما وجوباً ، وإما حكماً، هذه هي السنة التي لا راد لها ولا مدفع ، وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : "إذا أدبر النهار من هاهنا ، وأقبل الليل من ها هنا، فقد أفطر الصائم "، إما أن يكون المعنى : أفطر حكماً ، أو دخل وقت إفطاره ، وصار الوقت في حقه وقت إفطاره . فهكذا هذا الذي قد طاف بالبيت ، إما أن يكون قد حل حكماً، وإما أن يكون ذلك الوقت في حقه ليس وقت إحرام ، بل هو وقت حل ليس إلا، ما لم يكن معه هدي ، وهذا صريح السنة .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن عطاء قال : كان ابن عباس يقول : لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل . وكان يقول : هو بعد المعرف وقبله ، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع .
وفي صحيح مسلم : عن ابن عباس ، "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن معه الهدي ، فليحل الحل كله فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر، عن قتادة، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : من جاء مهلاً بالحج ، فإن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أو أبى .
قلت : إن الناس ينكرون ذلك عليك : قال : هي سنة نبيهم وإن رغموا وقد روى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من سمينا وغيرهم ، وروى ذلك عنهم طوائف من كبار التابعين ، حتى صار منقولاً نقلاً يرفع الشك ، ويوجب اليقين ، ولا يمكن أحداً أن ينكره ، أو يقول : لم يقع ، وهو مذهب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومذهب حبر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه ، ومذهب أبي موسى الأشعري ، ومذهب إمام أهل السنة والحديث ومذهب إمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل وأتباعه ، وأهل الحديث ومذهب عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة ، ومذهب أهل الظاهر .
والذين خالفوا هذه الأحاديث ، لهم أعذار .
العذر الأول : أنها منسوخة .
العذر الثاني : أنها مخصوصة بالصحابة، لا يجوز لغيرهم مشاركتهم في حكمها.
العذر الثالث : معارضتها بما يدل على خلاف حكمها، وهذا مجموع ما اعتذروا به عنها .
ونحن نذكر هذه الأعذار عذراً عذراً ، ونبين ما فيها بمعونة الله وتوفيقه .
أما العذر الأول ، وهو النسخ ، فيحتاج إلى أربعة أمور، لم يأتو منها بشيء : يحتاج إلى نصوص أخر، تكون تلك النصوص معارضة لهذه ، ثم تكون مع هذه المعارضة مقاومة لها، ثم يثبت تأخرها عنها .قال المدعون للنسخ : قال عمر بن الخطاب السجستاني : حدثنا الفريابي ، حدثنا أبان بن أبي حازم ، قال: حدثني أبو بكر بن حفص ، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما ولي : "يا أيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا" . رواه البزار في مسنده عنه .
قال المبيحون للفسخ : عجباً لكم في مقاومة الجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح بكثيب مهيل ، تسفيه الرياح يميناً وشمالاً ، فهذا الحديث ، لا سند ولامتن ، أما سنده ، فإنه لا تقوم به حجة علينا عند أهل الحديث ، وأما متنة، فإن المراد بالمتعة فيه متعة النساء التي أحلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم حرمها ، لا يجوز فيها غير ذلك البتة ، لوجوه.
أحدها : إجماع الأمة على أن متعة الحج غير محرمة، بل إما واجبة، أو أفضل الأنساك على الإطلاق ، أو مستحبة ، أو جائزة ، ولا نعلم للأمة قولاً خامساً فيها بالتحريم .
الثاني : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، صح عنه من غير وجه ، أنه قال : لو حججت لتمتعت ، ثم لو حججت لتمتعت ، ذكره الأثرم في سننه وغيره .
وذكر عبد الرزاق في مصنفه : عن سالم بن عبد الله ، أنه سئل أنهى عمر عن متعة الحج ؟ قال : لا ، أبعد كتاب الله تعالى؟ وذكر عن نافع ، أن رجلاً قال له : أنهى عمر عن متعة الحج ؟ قال : لا. وذكر أيضاً عن ابن عباس ، أنه قال : هذا الذي يزعمون أنه نهى عن المتعة، - يعني عمر - سمعته يقول : لو اعتمرت ، ثم حججت ، لتمتعت .
قال أبو محمد بن حزم : صح عن عمر الرجوع إلى القول بالتمتع بعد النهي عنه ، وهذا محال أن يرجع إلى القول بما صح عنده أنه منسوخ .
الثالث : أنه من المحال أن ينهى عنها ، "وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله : هل هي لعامهم ذلك أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد " ، وهذا قطع لتوهم ورود النسخ عليها ، وهذا أحد الأحكام التي يستحيل ورود النسخ عليها، وهو الحكم الذي الصادق المصدوق باستمراره ودوامه ، فإنه لا خلف لخبره .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:47 AM
عذر من ادعى اختصاص الصحابة بالفسخ
فصل
العذر الثاني : دعوى اختصاص ذلك بالصحابة، واحتجوا بوجوه .
أحدها : ما رواه "عبد الله بن الزبير الحميدي ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد، عن المرقع ، عن أبي ذر أنه قال : كان فسخ الحج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا خاصة" .
وقال وكيع : حدثنا موسى بن عبيدة، حدثنا يعقوب بن زيد، عن أبي ذر قال :" لم يكن لأحد بعدنا أن يجعل حجته عمرة، إنها كانت رخصة لنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ".
وقال البزار: "حدثنا يوسف بن موسى، حدثا سلمة بن الفضل ، محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن الأسدي ، عن يزيد بن شريك ، قلنا لأبي ذر : كيف تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم معه ؟ فقال : ما أنتم وذاك ، إنما ذاك شيىء رخص لنا فيه ، يعني المتعة" .
وقال البزار: "حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر، عن أبي بكر التيمي ، عن أبيه والحارث بن سويد قالا : قال أبو ذر : في الحج والمتعة ، رخصة أعطاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
وقال أبو داود : "حدثنا هناد بن السري ، عن ابن أبي زائدة ، أخبرنا محمد إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود، عن سليمان ، أو سليم بن الأسود ، أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها إلى عمرة، لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وفي صحيح مسلم : "عن أبي ذر . قال : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة . وفي لفظ : كانت لنا رخصة، يعني المتعة في الحج " وفي لفظ آخر: "لا تصح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء ومتعة الحج " وفي لفظ آخر: "إنما كانت لنا خاصة دونكم ، يعني متعة الحج ".
وفي سنن النسائي بإسناد صحيح : "عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر، في متعة الحج : ليست لكم ، ولستم منها في شيء ، إنما كانت رخصة لنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" .
وفي سنن أبي داود والنسائي ، "من حديث بلال بن الحارث قال : قلت : يا رسول الله أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة، أم للناس عامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بل لنا خاصة "، ورواه الإمام أحمد .
وفي مسند أبي عوانة بإسناد صحيح : "عن ابراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : سئل عثمان عن متعة الحج فقال : كانت لنا، ليست لكم ".
هذا مجموع ما استدلوا به على التخصيصن بالصحابة .
قال المجوزون للفسخ ، والموجبون له : لا حجة لكم في شيء من
ذلك ، فإن هذه الآثار بين باطل لا يصح عن نسب إليه البتة، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا تعارض به نصوص المعصوم .
أما الأول : فإن المرقع ليس ممن تقوم بروايته حجة، فضلاً عن أن يقدم على النصوص الصحيحة غير المدفوعة . وقد قال أحمد بن حنبل : - وقد عورض بحديثه -: ومن المرقع الأسدي ؟ وقد روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الأمر بفسخ الحج إلى العمرة . وغاية ما نقل عنه ، إن صح : أن ذلك مختص بالصحابة ، فهو رأيه . وقد قال ابن عباس ، وأبو موسى الأشعري : إن ذلك عام للأمة ، فرأي أبي ذر معارض برأيهما ، وسلمت النصوص الصحيحة الصريحة ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلة بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد، لا تختص بقرن دون قرن ، وهذا أصح سنداً من المروي عن أبي ذر، وأولى أن توخذ لوصح عنه .
وأيضاً ، فإذا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اختلفوا في أمر قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعله وأمر به ، فقال بعضهم : إنه منسوخ أو خاص ، وقال بعضهم : هو باق إلى الأبد، فقول من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل ، فلا يقبل إلا ببرهان ، وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادعى بقاءه وعمومه ، والحجة تفصل بين المتنازعين والواجب الرد عند التنازع إلى الله ورسوله . فإذا قال أبو ذر وعثمان : إن الفسخ منسوخ أو خاص ، وقال أبو موسى وعبد الله بن عباس : إنه باق وحكمه فعلى من ادعى النسخ والاختصاص الدليل .
وأما حديثه المرفوع - حديث بلال بن الحارث - فحديث لا يكتب ، ولا يعارض بمثله تلك الأساطين الثابتة .
قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يرى للمهل بالحج أن يفسخ حجه إن طاف بالبيت وبين الصفا والمروة. وقال في المتعة : هي آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقال صلى الله عليه وآله وسلم : اجعلوا حجكم عمرة. قال عبد الله : فقلت لأبي : فحديث بلال بن الحارث في فسخ الحج ، يعني قوله : لنا خاصة؟ قال : لا أقول به ، لا يعرف هذا الرجل ، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ، ليس حديث بلال بن الحارث عندي يثبت . هذا لفظه . قلت : ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد، وأن هذا الحديث لا يصح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن تلك المتعة التي أمرهم أن يفسخوا حجهم إليها أنها لأبد الأبد، فكيف يثبت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة ؟ هذا من أمحل المحال . وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون من بعدهم : فنحن نشهد بالله ، أن حديث بلال بن الحارث هذا، لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلط عليه ، وكيف تقدم رواية بلال بن الحارث ، على روايات الثقات الأثبات ، حملة العلم الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلاف روايته ، ثم كيف يكون هذا ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وابن عباس رضي الله عنه يفتي بخلافه . ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون ، ولا يقول له رجل واحد منهم : هذا كان مختصاً بنا، ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة، أن أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم ؟ وأما قول عثمان رضي الله عنه في متعة الحج : إنها كانت لهم ليست لغيرهم ، فحكمه حكم قول أبي ذر سواء، على أن المروي عن أبي ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أمور .
أحدها : اختصاص جواز ذلك بالصحابة ، وهو الذي فهمه من حرم الفسخ .
الثاني : اختصاص وجوبه بالصحابة ، وهو الذي كان يراه شيخنا قدس الله روحه يقول : إنهم كانوا قد فرض عليهم الفسخ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم به ، وحتمه عليهم ، وغضبه عندما توقفوا في المبادرة إلى امتثاله . وأما الجواز والاستحباب ، فللأمة إلى يوم القيامة ، لكن أبى ذلك البحر ابن عباس ، وجعل الوجوب للأمة إلى يوم القيامة ، وأن فرضاً على كل مفرد وقارن لم يسق الهدي ، أن يحل ولا بد، بل قد حل وإن لم يشأ، وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا.
الاحتمال الثالث : أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدىء حجاً قارناً أو مفرداً بلا هدي ، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في آخر الأمر من التمتع لمن لم يسق الهدي ، والقران لمن ساق ، كما صح عنه ذلك . وأما أن يحرم بحج مفرد ، ثم يفسخه عند الطواف إلى عمرة مفردة، ويجعله متعة، فليس له ذلك ، بل هذا إنما كان للصحابة ، فإنهم ابتدؤوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع والفسخ إليه ، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه ، لم يكن لأحد أن يخالفه ويفرد، ثم يفسخه .
وإذا تأملت هذين الاحتماين الأخيرين ، رأيتهما إما راجحين على الإحتمال الأول ، أو مساويين له ، وتسقط معارضة الأحاديث الثابتة الصريحة جملة وبالله التوفيق .
وأما ما رواه مسلم في صحيحه : عن أبي ذر، أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة . فهذا ، إن أريد به أصل المتعة، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين ، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة . وإن أريد به متعة الفسخ ، احتمل الوجوه الثلاثة المتقدمة. وقال الأثرم في سننه : وذكر لنا أحمد بن حنبل ، أن عبد الرحمن بن مهدي حدثه عن سفيان ، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي ، عن أبي ذر، في متعة الحج كانت لنا خاصة . فقال أحمد بن حنبل : رحم الله أبا ذر، هي في كتاب الله عز وجل " من تمتع بالعمرة إلى الحج " [ البقرة : 196] .
قال المانعون من الفسخ : قول أبي ذر وعثمان : إن ذلك منسوخ أو خاص بالصحابة، لا يقال مثله بالرأي ، فمع قائله زيادة علم خفيت على من ادعى بقاءه وعمومه ، فإنه مستصحب لحال النص بقاء وعموماً، فهو بمنزلة صاحب اليد في العين المدعاة، ومدعي فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البينة التي تقدم على صاحب اليد .
قال المجوزون للفسخ : هذا قول فاسد لا شك فيه ، بل هذا رأي لا شك فيه ، وقد صرح - بأنه رأي من هو أعظم من عثمان وأبي ذر -عمران بن حصين ، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري : "تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل القرآن ، فقال رجل برأيه ما شاء" . ولفظ مسلم : "نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجل : يعني متعة الحج ، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم لم تنزل آية تنسخ متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء وفي لفظ : يريد عمر".
وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عنها، وقال له : إن أباك نهى عنها: أأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن يتبع أو أمر أبي ؟ . وقال ابن عباس لمن كان يعارضه فيها بأبي بكر وعمر: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر فهذا جواب العلماء ، لا جواب من يقول : وأبو ذر أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم ، فهلا قال ابن عباس ، وعبد الله بن عمر : أبو بكر وعمر أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا ، ولم يكن أحد من الصحابة ، ولا أحد من التابعين يرضى بهذا الجواب في دفع نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا أعلم بالله ورسوله ، واتقى له من أن يقدموا على قول المعصوم رأي غير المعصوم ، ثم قد ثبت النص عن المعصوم ، بأنها باقية إلى يوم القيامة، وقد قال ببقائها : علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر، وابن عباس ، وأبو موسى، وسعيد بن المسيب ، وجمهور التابعين ، ويدل على أن ذلك رأي محض لا ينسب إلى أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نهى عنها قال له أبو موسى الأشعري : يا أمير المؤمنين ما أحدثت في شأن النسك ؟ فقال : إن نأخذ بكتاب ربنا فإن الله يقول : " وأتموا الحج والعمرة لله " [البقرة : 196]، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحل حتى نحر ، فهذا اتفاق من أبي موسى وعمر، على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداء ، إنما هو رأي منه أحدثه في النسك ، ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن استدل له بما استدل ، وأبو موسى كان يفتي الناس بالفسخ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كلها، وصدراً من خلافة عمر حتى فاوض عمر رضي الله عنه في نهيه عن ذلك ، واتفقا على أنه رأي أحدثه عمر رضي الله عنه في النسك ، ثم صح عنه الرجوع عنه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:48 AM
عذر من ادعى معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها
فصل
وأما العذر الثالث : وهو معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها ، فذكروا منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث الزهري ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج ، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحرم بعمرة ولم يهد ، فليحلل ، ومن أحرم بعمرة وأهدى، فلا يحل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحج ، فليتم حجه ، وذكر باقي الحديث .
ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه أيضاً من حديث مالك ، عن أبي الأسود، عن عروة عنها : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج ، فأما من أهل بعمرة فحل ، وأما فمن أهل بحج ، أو جمع الحج والعمرة ، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر".
ومنها : ما رواه ابن أبي شيبة: "حدثنا محمد بن بشر العبدي ، عن محمد بن عمرو بن علقمة، حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عائشة، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم للحج على ثلاثة أنواع : فمنا من أهل بعمرة وحجة، ومنا من أهل بحج مفرد، ومنا من أهل بعمرة مفردة، فمن كان أهل بحج وعمرة معاً ، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ، ومن أهل بحج مفرد، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ، ومن أهل بعمرة مفردة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، حل مما حرم منه حتى استقبل حجا" . ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه "من حديث ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن محمد بن نوفل ، أن رجلاً من أهل العراق ، قال له : سل لي عروة بن الزبير، عن رجل أهل بالحج ، فإذا طاف بالبيت ، أيحل أم لا ؟" فذكر الحديث ، وفيه : "قد حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فأخبرتني عائشة ، أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة، أنه توضأ، ثم طاف بالبيت ، ثم حج أبو بكر ثم كان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة، ثم عمر مثل ذلك ، ثم حج عثمان ، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة . ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام ، فكان أول شيء الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة . ثم رأيت المهاجرين والأنصار، يفعلون ذلك ، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها بعمرة ، فهذا ابن عمر عندهم ، أفلا يسألونه ؟ ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشي حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ، ثم لا يحلون ، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدآن بشيء أول من الطواف بالبيت ، تطوفان به ثم لا تحلان" .
فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديث الفسخ ، ولا معارضة فيها بحمد الله ومنه .
أما الحديث الأول وهو حديث الزهري ، عن عروة، عن عائشة فغلط فيه عبد الملك بن شعيب ، أو أبوه شعيب ، أو جده الليث ، أو شيخه عقيل ، فإن الحديث رواه مالك ومعمر ، والناس ، عن الزهري ، عن عروة ، عنها ، وبينوا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى، أن يحل . فقال مالك : عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عنها، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين لذي القعدة، ولا نرى إلا الحج ، فلما دنونا من مكة ، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن معه هدي ، إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، أن يحل وذكر الحديث . قال يحيى : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد، فقال : أتتك والله بالحديث على وجهه .
وقال منصور: عن إبراهيم ، عن الأسود، عنها، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نرى إلا الحج ، فلما قدمنا، تطوفنا بالبيت ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن ساق الهدي ، أن يحل ، فحل من لم يكن ساق الهدي ، ونساؤه لم يسقن فأحللن .
وقال مالك ومعمر كلاهما عن ابن شهاب ، عن عروة، عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من كان معه هدي ، فليهل بالحج مع العمرة، ولا يحل حتى يحل منهما جميعاً" .
وقال ابن شهاب : عن عروة عنها، بمثل الذي أخبر به سالم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولفظه :" تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، فأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ، فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى، فساق معه الهدي ، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة، قال للناس : من كان منكم أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وليقصر وليحل ، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدياً ، فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله " ، وذكر باقي الحديث .
وقال عبد العزيز الماجشون : "عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا نذكر إلا الحج .... "فذكر الحديث . وفيه ، قالت : "فلما قدمت مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اجعلوها عمرة، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي ".
وقال الأعمش : "عن إبراهيم ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وآله وسلم لا نذكر إلا الحج ، فلما قدمنا ، أمرنا أن نحل وذكر الحديث ، وقال عبد الرحمن بن القاسم : عن أبيه ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف ، طمثت . قالت : فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي . فقال : ما يبكيك ؟ قالت : فقلت : والله لوددت أني لا أحج العام ...... "فذكر الحديث . وفيه : "فلما قدمت مكة ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اجعلوها عمرة ، قالت : فحل الناس إلا من كان معه الهدي" .
وكل هذه الألفاظ في الصحيح ، وهذا موافق لما رواه جابر ، وابن عمر ، وأنس ، وأبو موسى ، وابن عباس ، وأبو سعيد ، وأسماء ، والبراء ، وحفصة ، وغيرهم ، من أمره صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه كلهم بالإحلال ، إلا من ساق الهدي ، وأن يجعلوا حجهم عمرة . وفي اتفاق هؤلاء كلهم ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر أصحابه كلهم أن يحلوا، وأن يجعلوا الذي قدموا به متعة، إلا من ساق الهدي ، دليل على غلط هذه الرواية، ووهم وقع فيها، يبين ذلك أنها من رواية الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة، والليث بعينه هو الذي روى عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة، عنها مثل ما رواه ، عن الزهري عن سالم ، عن أبيه ، في تمتع النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وأمره لمن لم يكن أهدى أن يحل .
ثم تأملنا، فإذا أحاديث عائشة يصدق بعضها بعضاً ، وإنما بعض الرواة زاد على بعض ، وبعضهم اختصر الحديث ، وبعضهم اقتصر على بعضه ، وبعضهم رواه بالمعنى. والحديث المذكور ليس فيه منع من أهل بالحج من الإحلال ، وإنما فيه أمره أن يتم الحج ، فإن كان هذا محفوظاً ، فالمراد به بقاؤه على إحرامه ، فيتعين أن يكون لهذا قبل الأمر بالإحلال ، وجعله عمرة ، ويكون هذا أمرا زائداً قد طرأ على الأمر بالإتمام ، كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقران ، ويتعين هذا ولا بد، وإلا كان هذا ناسخاً للأمر بالفسخ ، والأمر بالفسخ ناسخاً للإذن بالإفراد، وهذا محال قطعاً، فإنه بعد أن أمرهم بالحل لم يأمرهم بنقضه ، والبقاء على الإحرام الأول ، هذا باطل قطعاً ، فيتعين إن كان محفوظاً أن يكون قبل الأمر لهم بالنسخ ، ولا يجوز غير هذا البتة، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:49 AM
رد المصنف على من قال بالفسخ
فصل
وأما حديث أبي الأسود، عن عروة، عنها . وفيه : "وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر". وحديث "يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها: فمن كان أهل بحج وعمرة معاً ، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى يقضي مناسك الحج ، ومن أهل بحج مفرد كذلك ". فحديثان ، قد أنكرهما الحفاظ ، وهما أهل أن ينكرا ، قال الأثرم : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك بن أنس ، عن أبي الأسود، عن عروة ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمنا من أهل بالحج ، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة ، وأهل بالحج رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ، فأما من أهل بالعمرة، فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأما من أهل بالحج والعمرة ، فلم يحلوا إلى يوم النحر، فقال أحمد بن حنبل : أيش في هذا الحديث من العجب ، هذا خطأ، فقال
الأثرم : فقلت له : الزهري ، عن عروة، عن عائشة، بخلافه ؟ فقال : نعم ، وهشام بن عروة . وقال الحافظ أبو محمد بن حزم : هذان حديثان منكران جداً ، قال : ولأبي الأسود في هذا النحو حديث لا خفاء بنكرته ، ووهنه ، وبطلانه .
والعجب كيف جاز على من رواه ؟ ثم ساق من طريق البخاري عنه ، أن عبد الله مولى أسماء، حدثه أنه كان يسمع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تقول كلما مرت بالحجون : صلى الله على رسوله : لقد نزلنا معه هاهنا ، ونحن يومئذ خفاف ، قليل ظهرنا ، قليلة أزوادنا ، فاعتمرت أنا وأختي عائشة ، والزبير، وفلان ، وفلان . فلما مسحنا البيت ، أحللنا ثم أهللنا من العشي بالحج . قال وهذه وهلة لاخفاء بها على أحد ممن له أقل علم بالحديث لوجهين باطلين فيه بلا شك .
أحدهما : قوله : فاعتمرت أنا وأختي عائشة، ولا خلاف بين أحد من أهل النقل ، في أن عائشة لم تعتمر في أول دخولها مكة، ولذلك أعمرها من بعد تمام الحج ليلة الحصبة، هكذا رواه جابر بن عبد الله ، ورواه عن عائشة الأثبات ، كالأسود بن يزيد، وابن أبي مليكة، والقاسم بن محمد، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد .
الموضع الثاني : قوله فيه : فلما مسحنا البيت ، أحللنا، ثم أهللنا من العشي بالحج ، وهذا باطل لا شبه فيه ، لأن جابراً، وأنس بن مالك ، وعائشة ، وابن عباس ، كلهم رووا أن الإحلال كان يوم دخولهم مكة ، وأن إحلالهم بالحج كان يوم التروية ، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك .
قلت : الحديث ليس بمنكر ولا باطل ، وهو صحيح وإنما أتي أبو محمد فيه من فهمه ، فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هي وعائشة، وهكذا وقع بلا شك . وأما قولها: فلما مسحنا البيت أحللنا، فإخبار منها عن نفسها، وعمن لم يصبه عذر الحيض الذي أصاب عائشة، وهي لم تصرح بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة ، وأنها حلت ذلك اليوم ، ولا ريب أن عائشة قدمت بعمرة ، ولم تزل عليها حتى حاضت بسرف ، فأدخلت عليها الحج ، وصارت قارنة . فإذا قيل : اعتمرت عائشة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو قدمت بعمرة، لم يكن هذا كذباً.
وأما قولها : ثم أهللنا من العشي بالحج ، فهي لم تقل : إنهم أهلوا من عشي يوم القدوم ، ليلزم ما قال أبو محمد ، وإنما أرادت عشي يوم التروية . ومثل هذا لا يحتاج في ظهوره وبيانه إلى أن يصرح فيه بعشي ذلك اليوم بعينه ، لعلم الخاص والعام به ، وأنه مما لا تذهب الأوهام إلى غيره ، فرد أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه .
قال أبو محمد: وأسلم الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة، يعني اللذين أنكرهما ، أن تخرج روايتهما على أن المراد بقولها : إن الذين أهلوا بحج ، أو بحج وعمرة، لم يحلوا حتى كان يوم النحر حين قضوا مناسك الحج ، إنما عنت بذلك من كان معه الهدي ، وبهذا تنتفي النكرة عن هذين الحديثين ، وبهذا تأتلف الأحاديث كلها ، لأن الزهري عن عروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة ، والزهري بلا شك أحفظ من أبي الأسود ، وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة في هذا الباب من لا يقرن يحيى بن عبد الرحمن إليه ، لا في حفظ ، ولا في ثقة، ولا في جلالة، ولا في بطانة لعائشة، كالأسود بن يزيد، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبي عمرو ذكوان مولى عائشة، وعمرة بنت عبد الرحمن ، وكانت في حجر عائشة، وهؤلاء هم أهل الخصوصية والبطانة بها ، فكيف ؟ ولو لم يكونوا كذلك ، لكانت روايتهم أو رواية واحد منهم ، لو انفرد هي الواجب أن يؤخذ بها ، لأن فيها زيادة على رواية أبي الأسود ويحيى ، وليس من جهل ، أو غفل حجة على من عالم ، وذكر وأخبر، فكيف وقد وافق هؤلاء الجلة عن عائشة فسقط التعتق بحديث أبي الأسود ويحيى اللذين ذكرنا . قال. وأيضاً، فإن حديثي أبي الأسود ويحيى، موقوفان غير مسندين، لأنهما إنما ذكرا عنها فعل من فعل ما ذكرت ، دون أن يذكرا أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمرهم أن لا يحلوا، ولا حجة في أحد دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو صح ما ذكراه ، وقد صح أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من لا هدي معه بالفسخ ، فتمادى المأمورون بذلك ، ولم يحلوا لكانوا عصاة لله تعالى ، وقد أعاذهم الله من ذلك ، وبرأهم منه ، فثبت يقيناً أن حديث أبي الأسود ويحيى، إنما عني فيهما : من كان معه هدي ، وهكذا جاءت الأحاديث الصحاح التي أوردناها، بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر من معه الهدي ، بأن يجمع حجاً مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً. ثم ساق من طريق مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عنها ترفعه "من كان معة هدي ، فليهلل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً" قال : فهذا الحديث كما ترى، من طريق عن عائشة، يبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك ، في حديث أبي الأسود، عن عروة وحديث يحيى عن عائشة ، و ارتفع الآن الإشكال جملة ، والحمد لله رب العالمين .
قال : ومما يبين أن في حديث أبي الأسود حذفاً قوله فيه : عن عروة " أن أمه وخالته والزبير، أقبلوا بعمرة فقط ، فلما مسحوا الركن ، حلوا" . ولا خلاف بين أحد، أن من أقبل بعمرة لا يحل بمسح الركن ، حتى يسعى بين الصفا والمروة بعد مسح الركن ، فصح أن في الحديث حذفاً بينه سائر الأحاديث الصحاح التي ذكرنا وبطل التشغب به جملة، وبالله التوفيق.
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:50 AM
فصل
وأما ما في حديث أبي الأسود، عن عروة، من فعل أبي بكر ، وعمر ، والمهاجرين ، والأنصار ، وابن عمر، فقد أجابه ابن عباس فأحسن جوابه ، فيكتفى بجوابه . فروى الأعمش ، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ، تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة .
فقال ابن عباس : أراكم ستهلكون ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول : قال أبو بكر وعمر .
وقال عبد الرازق : حدثنا معمر، عن أيوب ، قال : قال عروة لابن عباس : ألا تتقي الله ترخص في المتعة؟فقال ابن عباس : سل أمك يا عرية. فقال عروة: أما أبو بكر وعمر، فلم يفعلا، فقال ابن عباس : والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله ، أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثحدثونا عن أبي بكر وعمر؟ فقال عروة : لهما أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتبع لها منك .
وأخرج أبو مسلم الكجي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب السختياني ، عن ابن أبي مليكة، عن عروة بن الزبير، قال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : تأمر الناس بالعمرة في هؤلاء العشر، وليس فيها عمرة؟ قال : أولا تسأل أمك عن ذلك ؟ قال عروة : فإن أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك ، قال الرجل : من هاهنا هلكتم ، ما أرى الله عز وجل إلا سيعذبكم ، إني أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتخبروني بأبي بكر وعمر . قال عروة : إنهما والله كانا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، فسكت الرجل . ثم أجاب أبو محمد بن حزم عروة عن قوله هذا، بجواب نذكره ، ونذكر جواباً أحسن منه لشيخنا .
قال أبو محمد : ونحن نقول لعروة : ابن عباس أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبأبي بكر وعمر منك ، وخير منك ، وأولى بهم ثلاثتهم منك ، لا يشك في ذلك مسلم . وعائشة أم المؤمنين ، أعلم وأصدق منك . ثم ساق من طريق الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن عبد الله قال : قالت عائشة : من استعمل على الموسم ؟ قالوا : ابن عباس . قالت : هو أعلم الناس بالحج . قال أبو محمد : مع أنه قال عنها خلاف ما قاله عروة، ومن هو خير من عروة، وأفضل ، وأعلم ، وأصدق ، وأوثق . ثم ساق من طريق البزار، عن الأشج ، عن عبد الله بن إدريس الأودي عن ليث ، عن عطاء، وطاووس ، عن ابن عباس : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر . وأول من نهى عنها ، معاوية .
ومن طريق عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ليث ، عن ابن عباس : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . حتى مات ، وعمر، وعثمان كذلك . وأول من نهى عنها ، معاوية .
قلت : حديث ابن عباس هذا، رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي . وقال : حديث حسن .
وذكر عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر عن ابن طاووس ، عن أبيه ، قال أبي بن كعب ، وأبو موسى لعمر بن الخطاب : ألا تقوم فتبين للناس أمر المتعة ؟ فقال عمر : وهل بقي أحد إلا وقد علمها، أما أنا فأفعلها .
وذكر علي بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان ، أو حميد، عن الحسن ، أن عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة، وقال : الكعبة غنية عن ذلك المال ، وأراد أن ينهى أهل اليمن أن يصبغوا بالبول ، وأراد أن ينهى عن متعة الحج ، فقال أبي بن كعب : قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا المال ، وبه وبأصحابه الحاجة إليه ، فلم يأخذه ، وأنت فلا تأخذه ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبسون الثياب اليمانية ، فلم ينه عنها، وقد علم أنها تصبغ بالبول ، وقد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينه عنها، ولم ينزل الله تعالى فيها نهياً .
وقد تقدم قول عمر: لو اعتمرت في وسط السنة، ثم حججت ، لتمتعت ، ولو حججت خمسين حجة، لتمتعت . ورواه حماد بن سلمة. عن قيس ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عنه : لو اعتمرت في سنة مرتين ، ثم حججت ، لجعلت مع حجتي عمرة . والثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عنه : لو اعتمرت ، ثم اعتمرت ، ثم حججت ، لتمتعت . وابن عيينة : عن هشام بن حجير ، وليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، قال : هذا الذي يزعمون أنه نهى عن المتعة - يعني عمر -سمعته يقول : لو اعتمرت ، ثم حججت ، لتمتعت . قال ابن عباس : كذا وكذا مرة، ما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة .
وأما الجواب الذي ذكره شيخنا، فهو أن عمر رضي الله عنه ، لم ينه عن المتعة البتة ، وإنما قال : إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تفصلوا بينهما ، فاختار عمر لهم أفضل الأمور ، وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده ، وهذا أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى ، وقد نص على ذلك : أحمد ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي رحمهم الله تعالى وغيرهم . وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر رضي عنهما ، وكان عمر يختاره للناس ، وكذلك علي رضي الله عنهما.
وقال عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى : " وأتموا الحج والعمرة لله " [البقرة : 196] قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها: " أجرك على قدر نصبك " فإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله ، فأنشأ العمرة منها، واعتمر قبل أشهر الحج ، وأقام حتى يحج ، أو اعتمر في اشهره ، ورجع إلى أهله ، ثم حج ، فها هنا قد أتي بكل واحد من النسكين من دويره أهله ، وهذا إتيان بهما على الكمال ، فهو أفضل من غيره .
قلت : فهذا الذي اختاره عمر للناس ، فظن من غلط منهم أنه نهى عن المتعة ، ثم منهم من حمل نهيه على متعة الفسخ ، ومنهم من حمله على ترك الأولى ترجيحاً للإفراد عليه ، ومنهم من عارض النهي عنه بروايات الإستحباب ، وقد ذكرناها ، ومنهم من جعل النهي قولاً قديماً ، ورجع عنه أخيراً ، كما سلك أبو محمد بن حزم ، ومنهم من يعد النهي رأياً من عنده لكراهته أن يظل الحاج معرسين بنسائهم في ظل الأراك .
قال أبو حنيفة : عن حماد ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن زيد ، قال : بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة . فإذا هو برجل مرجل شعرة ، يفوح منه ريح الطيب ، فقال له عمر : ما هيئتك بهيئة محرم ، إنما المحرم الأشعث الأغبر الأذفر , قال : إني قدمت متمتعاً ، وكان معي أهلي ، وإنما أحرمت اليوم . فقال عمر عند ذلك : لا تتمتعوا في هذه الأيام ، فإني لو رخصت في المتعة لهم ، لعرسوا بهن في الأراك ، ثم راحوا بهن حجاجاً , وهذا يبين ، أن هذا من عمر رأي رآه .
قال ابن حزم : فكان ماذا ؟ وحبذا ذلك ؟ وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه ، ثم أصبح محرماً ، ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:51 AM
بقية طرق المانعين من فسخ الحج إلى العمرة
فصل
وقد سلك المانعون من الفسخ طريقتين أخريين ، نذكرهما ونبين فسادهما .
الطريقة الأولى : قالوا : إذا اختلف الصحابة ومن بعدهم في جواز الفسخ ، فالاحتياط يقتضي المنع منه صيانة للعبادة عما لا يجوز فيها عند كثير من أهل العلم ، بل أكثرهم .
والطريقة الثانية : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج ، لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ، وكانوا يقولون : إذا برأ الدبر، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، فقد حلت العمرة لمن اعتمر، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ ، ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج ، وهاتان الطريقتان باطلتان .
أما الأولى : فلأن الاحتياط إنما يشرع ، إذا لم تتبين السنة، فإذا تبينت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها، فإن كان تركها لأجل الاختلاف احتياطاً ، فترك ما خالفها واتباعها ، أحوط وأحوط ، فالاحتياط نوعان : احتياط للخروج من خلاف العلماء، واحتياط للخروج من خلاف السنة، ولا يخفى رجحان أحدهما على الآخر .
وأيضاً ، فإن الاحتياط ممتنع هنا ، فإن للناس في الفسخ ثلاثة أقوال : أحدها : أنه محرم .
الثاني : أنه واجب ، وهو قول جماعة من السلف والخلف .
الثالث : أنه مستحب ، فليس الاحتياط بالخروج من خلاف من حرمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف من أوجبه . وإذا تعذر الاحتياط بالخروح من الخلاف ، تعين الاحتياط بالخروج من خلاف السنة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:52 AM
بطلان قول من قال أمرهم صلى الله عليه وسلم ليبين جواز العمرة في أشهر الحج
فصل
وأما الطريقة الثانية : فأظهر بطلاناً من وجوه عديدة .
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عمره الثلاث في أشهر الحج في ذي القعدة ، كما تقدم ذلك ، وهو أوسط أشهر الحج . فكيف تظن أن الصحابة لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، وقد تقدم فعله لذلك ثلاث مرات ؟ الثاني : أنه قد ثبت في الصحيحين ، أنه قال لهم عند الميقات : "من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بحج وعمرة فليفعل " فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات ، وعامة المسلمين معه ، فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ ؟ ولعمر الله إن لم يكونوا يعلمون جوازها بذلك ، فهم أجدر أن لا يعلموا جوازها بالفسخ .
الثالث : أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل ، وأمر من ساق الهدي أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ، ففرق بين محرم ومحرم ، وهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل ، لا مجرد الإحرام الأول ، والعلة ذكروها لا تختص بمحرم دون محرم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل التأثيرفي الحل وعدمه للهدي وجوداً وعدماً لا لغيره.
الرابع : أن يقال : إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة المشركين ، كان هذا دليلاً على أن الفسخ أفضل لهذه العلة ، لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين ، كان يكون دليلاً على أن الفسخ يبقى مشروعاً إلى يوم القيامة إما وجوباً، أو استحباباً ، فإن المشركين كانوا يفيضون من عرفة قبل غروب الشمس ، وكانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس ، وكانوا يقولون : أشرق ثبير كيما نعير فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : " خالف هدينا هدي المشركين ، فلم نفض من عرفة حتى غربت الشمس ".
وهذه المخالفة، إما ركن ، كقول مالك ، وإما واجب يجبره دم ، كقول أحمد ، وأبي حنيفة ، والشافعي في أحد القولين ، وإما سنة ، كالقول الآخر له .
والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة باتفاق المسلمين ، وكذلك قريش كانت لا تقف بعرفة ، بل تفيض من جمع ، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ووقف بعرفات ، وأفاض منها ، وفي ذلك نزل قوله تعالى : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " [ البقرة : 199] وهذه المخالفة من أركان الحج باتفاق المسلمين ، فالأمور التي نخالف فيها المشركين هي الواجب أو المستحب ، ليس فيها مكروه ، فكيف يكون فيها محرم ، وكيف يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بنسك يخالف نسك المشركين ، مع كون الذي نهاهم عنه ، أفضل من الذي أمرهم به . أو يقال : من حج كما حج المشركون فلم يتمتع ، فحجه أفضل من حج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الخامس: أنه قد ثبت في الصحيحين عنه ، أنه قال : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة . وقيل له : عمرتنا هذه لعامنا هذا، أم للأبد ؟ فقال : لا ، بل لأبد الأبد ، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" .
وكان سؤالهم عن عمرة الفسخ ، كما جاء صريحاً في حديث جابر الطويل . قال : حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، قال :" لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي، ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي ، فليحل ، وليجعلها عمرة" ، فقام سراقة بن مالك فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا ، أم للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : "دخلت العمرة في الحج مرتين ، لا بل لأبد الأبد". وفي لفظ : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة، فأمرنا أن نحل ، فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا ، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني .......فذكر الحديث . وفيه : فقال سراقة بن مالك : لعامنها هذا أم للأبد ؟ فقال : " للأبد " .
وفي صحيح البخاري عنه : "أن سراقة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألكم خاصة هذه يا رسول الله ؟ قال : بل للأبد" فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تلك العمرة التي فسخ من فسخ منهم حجة إليها للأبد، وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة . وهذا يبين ، أن عمرة التمتع بعض الحج .
وقد اعترض بعض الناس على الاستدلال بقوله : "بل لأبد الأبد " باعتراضين ، أحدهما : أن المراد، أن سقوط الفرض بهذا لايختص بذلك العام ، بل يسقطه إلى الأبد ، وهذا الإعتراض باطل ، فإنه لو أراد ذلك لم يقل : للأبد ، فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة ، ، بل إنما يكون لجميع المسلمين ، ولأنه قال : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤال عن تكرار الوجوب ، لما اقتصروا على العمرة، بل كان السؤال عن الحج ، ولأنهم قالوا له : "عمرتنا هذه لعامنا هذا ، أم للأبد؟ " ولو أرادوا تكرار وجوبها كل عام لقالوا له ، كما قالوا له في الحج : أكل عام يا رسول الله ؟ ولأجابهم بما أجابهم به في الحج بقوله : "ذروني ما تركتكم . لو قلت : نعم لوجبت ". ولأنهم قالوا له : هذه لكم خاصة . فقال : "بل لأبد الأبد" ، فهذا السؤال والجواب ، صريح عدم الاختصاص . الثاني : قوله : إن ذلك إنما يريد به جواز الإعتمار في أشهر الحج ، وهذا الاعتراض أبطل من الذي قبله ، فإن السائل إنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن المتعة التي هي فسخ الحج ، لا عن جواز العمرة في أشهر الحج ، لأنه إنما سأله عقب أمره من لا هدي معه بفسخ الحج ، فقال له سراقة حينئذ : هذا لعامنا هذا أم للأبد ؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفس ما سأله عنه ، لا عما لم يسأله عنه . وفي قوله : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة "، عقب أمره من لا هدي معه بالإحلال ، بيان جلي أن ذلك مستمر إلى يوم القيامة ، فبطل دعوى الخصوص ، وبالله التوفيق .
السادس : أن هذه العلة التي ذكرتموها، ليست في الحديث ، ولا فيه إشارة إليها، فإن كانت باطلة، بطل اعتراضكم بها، وإن كانت صحيحة، فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه ببن الوجوه ، بل إن صحت اقتضت دوام معلولها واستمراره ، كما أن الرمل شرع ليري المشركين قوته وقوة أصحابه ، واستمرت مشروعيته إلى يوم القيامة ، فبطل الاحتجاح بتلك العلة على الاختصاص بهم على كل تقدير .
السابع : أن الصحابة رضي الله عنهم ، إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العمرة في أشهر الحج على فعلهم لها معه ثلاثة أعوام ، ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فمن بعدهم أحرى أن لا يكتفي بذلك حتى يفسخ الحج إلى العمرة، اتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واقتداء بأصحابه ، إلا أن يقول قائل : إنا نحن نكتفي من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابه ، ولا نحتاج في الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه ، وهذا جهل نعوذ بالله منه .
الثامن : أنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يأمر أصحابه بالفسخ الذي هو حرام ، ليعلمهم بذلك مباحاً يمكن تعليمه بغير ارتكاب هذا المحظور، وبأسهل منه بياناً ، وأوضح دلالة ، وأقل كلفة .
فإن قيل : لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراماً. قيل : فهو إذاً إما واجب أو مستحب . وقد قال بكل واحد منهما طائفة ، فمن الذي حرمه بعد إيجابه أو استحبابه ، وأي نص أو إجماع رفع هذا الوجوب أو الاستحباب ، فهذه مطالبة لا محيص عنها.
التاسع : أنه صلى الله عليه وسلم قال : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة "، أفترى تجدد له صلى الله عليه وسلم عند ذلك العلم بجواز العمرة في أشهر الحج ، حتى تأسف على فواتها ؟ هذا من أعظم المحال .
العاشر: أنه أمر بالفسخ إلى العمرة، من كان أفرد، ومن قرن ، ولم يسق الهدي . ومعلوم : أن القارن قد اعتمر في أشهر الحج مع حجته ، فكيف يأمره بفسخ قرانه إلى عمرة ليبين له جواز العمرة في أشهر الحج ، وقد أتى بها، وضم إليها الحج ؟.
الحادي عشر: أن فسخ الحج إلى العمرة ، موافق لقياس الأصول ، لا مخالف له . ولو لم يرد به النص ، لكان القياس يقتضي جوازه ، فجاء النص به على وفق القياس ، قاله شيخ الإسلام ، وقرره بأن المحرم إذا التزم أكثر مما كان لزمه ، جاز باتفاق الأئمة . فلو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج ، جاز بلا نزاع ، وإذا أحرم بالحج ، ثم أدخل عليه العمرة، لم يجز عند الجمهور، وهو مذهب مالك ، وأحمد، والشافعي في ظاهر مذهبه ، وأبو حنيفة يجوز ذلك ، بناء على أصله في أن القارن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين . قال : وهذا قياس الرواية المحكية عن أحمد في القارن : أنه يطوف طوافين ، ويسعى سعيين . وإذا كان كذلك ، فالمحرم بالحج لم يلتزم إلا الحج . فإذا صار متمتعاً ، صار ملتزماً لعمرة وحج ، فكان ما التزمه بالفسخ أكثر مما كان عليه ، فجاز ذلك . ولما كان أفضل كان مستحباً ، وإنما أشكل هذا على من ظن أنه فسخ حجاً إلى عمرة، وليس كذلك ، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع ، وإنما الفسخ جائز لمن كان من نيته أن يحج بعد العمرة، والمتمتع من حين يحرم بالعمرة فهو داخل في الحج ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" . ولهذا، يجوز له أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة، فدل على أنه في تلك الحال في الحج . وأما إحرامه بالحج بعد ذلك ، فكما يبدأ الجنب بالوضوء ، ثم يغتسل بعده . وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل . إذا اغتسل من الجنابة . وقال للنسوة في غسل ابنته :" ابدأن بميامنها ، ومواضع الوضوء منها " . فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل .
فإن قيل : هذا باطل لثلاثة أوجه . أحدهما : أنه إذا فسخ ، استفاد بالفسخ حلاً كان ممنوعاً منه بإحرامه الأول، فهو دون ما التزمه .
الثاني : أن النسك الذي كان قد التزمه أولاً ، أكمل من النسك الذي فسخ إليه ، ولهذا لا يحتاج الأول إلى جبران ، والذي يفسخ إليه ، يحتاج إلى هدي جبراناً له ، وننسك لا جبران فيه ، أفضل من نسك مجبور .
الثالث : أنه إذا لم يجز إدخال العمرة على الحج ، فلأن لا يجوز إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأولى والأحرى .
فالجواب عن هذه الوجوه ، من طريقين ، مجمل ومفصل . أما المجمل : فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السنة ، والجواب عنها بالتزام تقديم الوحي على الآراء ، وأن كل رأي يخالف السنة ، فهو باطل قطعاً ، وبيان بطلانه لمخالفة السنة الصريحة له ، والآراء تبع للسنة ، وليست السنة تبعاً للآراء .
وأما المفصل : وهو الذي نحن بصدده ، فإنا التزمنا أن الفسخ على وفق القياس ، فلا بد من الوفاء بهذا الإلتزام ، وعلى هذا فالوجه الأول جوابه : بأن التمتع -وإن تحلله التحلل-فهو أفضل من الإفراد الذي لا حل فيه ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لا هدي معه بالإحرام به ، ولأمره أصحابه بفسخ الحج إليه ، ولتمنيه أنه كان أحرم به ، ولأنه النسك المنصوص عليه في كتاب الله ، ولأن الأمة أجمعت على جوازه ، بل على استحبابه ، واختلفوا في غيره على قولين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، غضب حين أمرهم بالفسخ إليه بعد الإحرام بالحج ، فتوقفوا ، ولأنه من المحال قطعاً أن تكون له حجة قط أفضل من حجة خير القرون ، وأفضل العالمين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرهم كلهم بأن يجعلونها متعة إلا من ساق الهدي ، فمن المحال أن يكون غير هذا الحج أفضل منه ، إلا حج من قرن وساق الهدي ، كما اختاره الله سبحانه لنبيه ، فهذا هو الذي اختاره الله لنبيه ، واختار لأصحابه التمتع ، فأي حج أفضل من هذين . ولأنه من المحال أن ينقلهم ينقلهم من النسك الفاضل المرجوح ، ولوجوه أخر كثيرة ليس هذا موضعها، فرجحان هذا النسك أفضل من البقاء على الإحرام يفوته بالفسخ ، وقد تبين بهدا بطلان الوجه الثاني .
وأما قولكم : إنه نسك مجبور بالهدي ، فكلام باطل من وجوه .
أحدها: أن الهدي في التمتع عبادة مقصودة، وهو من تمام النسك ، وهو دم شكران لا دم جبران ، وهو بمنزلة الأضحية للمقيم ، وهو من عبادة هذا اليوم ، فالنسك المشتمل على الدم ، بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية، فإنه ما تقرب إلى الله في ذلك اليوم ، بمثل إراقة دم سائل .
وقد روى الترمذي وغيره ، من حديث أبي بكر الصديق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الحج أفضل ؟ فقال : النبي صلى الله عليه وسلم : "العج والثج" . والعج رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة دم الهدي . فإن قيل : يمكن المفرد أن يحصل هذه الفضيلة . قيل : مشروعيتها إنما جاءت في حق القارن والمتمتع ، وعلى تقدير استحبابها في حقه ، فأين ثوابها من ثواب هدي المتمتع والقارن ؟ الوجه الثاني : إنه لو كان دم جبران ، لما جاز الأكل منه ، وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من هديه ، فإنه أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر ، فأكل من لحمها، وشرب من مرقها . وإن كان الواجب عليه سبع بدنة ، فإنه أكل من كل بدنة من المائة، والواجب فيها مشاع لم يتعتين بقسمة.
وأيضاً : فإنه قد ثبت في الصحيحين : "أنه أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحة عنهن وكن متمتعات "، احتج به الإمام أحمد، فثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، "أنه أهدى عن نسائه ثم أرسل إليهن من الهدي الذي ذبحه عنهن" . وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى قال فيما يذبح بمنى من الهدي : " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " [الحج : 28] وهذا يتناول هدي التمتع والقران قطعاً إن لم يختص به ، فإن المشروع هناك ذبح هدي المتعة والقرآن . ومن ها هنا والله أعلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر امتثالاً لأمر ربه بالأكل ليعم به بالأكل ليعم به جميع هديه .
الوجه الثالث : أن سبب الجبران محظور في الأصل ، فلا يجوز الإقدام عليه إلا لعذر ، فإنه إما ترك واجب ، أو فعل محظور ، والتمتع مأمور به ، إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره ، أو أمر استحباب عند الأكثرين ، فلو كان دمه دم جبران ، لم يجز الإقدام على سببه بغير عذر، فبطل قولهم : إنه دم جبران ، وعلم أنه دم نسك ، وهذا وسع الله به على عباده ، وأباح لهم بسببه التحلل في أثناء الإحرام لما في استمرار الإحرام عليهم من المشقة ، فهو بمنزلة القصر والفطر في السفر ، وبمنزلة المسح على الخفين ، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه فعل هذا وهذا " والله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يكره أن تأتي معصيته " . فمحبته لأخذ العبد بما يسره عليه وسهله له ، مثل كراهته منه لارتكاب ما حرمه عليه ومنعه منه . والهدي وإن كان بدلاً عن ترفهه بسقوط أحد السفرين ، فهو أفضل لمن قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد ويعتمر عقيبه ، والبدل قد يكون واجباً كالجمعة عند عن جعلها بدلاً ، وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء ، فإنه واجب عليه وهو بدل ، فإذا كان البدل قد يكون واجباً ، فكونه مستحباً أولى بالجواز ، وتخلل التحلل لا يمنع أن يكون الجميع عبادة واحدة كطواف الإفاضة ، فإنه ركن بالإتفاق ، ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول ، وكذلك رمي الجمار أيام منى ، وهو يفعل بعد الحل التام ، وصم رمضان يتخلله الفطر في لياليه ، ولا يمنع أن يكون يكون عبادة واحدة . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:53 AM
فصل في ادخال العمرة بالحج
فصل
وأما قولكم : إذا لم يجز إدخال العمرة على الحج ، فلأن لا يجوز فسخه إليها أولى وأحرى ، فنسمع جعجعة ولا نرى طحناً . وما وجه التلازم بين الأمرين ، وما الدليل على هذه الدعوى التي ليست بأيديكم برهان عليها ؟ ثم القائل بهذا إن كان من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله ، فهو غير معتاد بفساد هذا القياس .
وإن كان من غيرهم ، طولب بصحة قياسه فلا يجد إليه سبيلاً ، ثم يقال : مدخل العمرة قد نقص مما كان التزمه ، فإنه كان يطوف طوافاً للحج ، ثم طوافاً آخر للعمرة . فإذا قرن ، كفاه طواف واحد وسعي واحد بالسنة الصحيحة ، وهو قول الجمهور، وقد نقص مما كان يلتزمه . وأما الفاسخ ، فإنه لم ينقص مما التزمه ، بل نقل نسكه إلى ما هو أكمل منه ، وأفضل ، وأكثر واجبات ، فبطل القياس على كل تقدير والحمد لله .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:53 AM
العودة الى سياق حجه صلى الله عليه وسلم
فصل
عدنا إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم . ثم نهض صلى الله عليه وسلم إلى أن نزل بذي طوى ، وهي المعروفة الآن بآبار الزاهر ، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة ، وصلى بها الصبح ، ثم اغتسل من يومه ، ونهض إلى مكة ، فدخلها نهاراً من أعلاها من الثنية العليا التي تشرف على الحجون ، وكان من العمرة يدخل من أسفلها ، وفي الحج دخل من أعلاها ، وخرج من أسفلها ، ثم سار حتى دخل المسجد وذلك ضحى .
وذكر الطبراني ، أنه دخل من باب بني عبد مناف الاذي يسميه الناس اليوم باب بني شيبة .
وذكر الإمام أحمد : أنه كان إذا دخل مكاناً من دار يعلى ، استقبل البيت فدعا .
وذكر الطبراني: أنه كان إذا نظر إلى البيت ، قال : " اللهم زد بيتك هذا تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة" . وروي عنه ، أنه كان عند رؤيته يرفع يديه ، ويكبر ويقول :" اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام ، اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ، وتكريماً ومهابة ، وزد من حجه أو اعتمره تكريماً وتشريفاً ، وتعظيماً وبراً" . وهو مرسل ، ولكن سمع هذا عن سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوله . فلما دخل المسجد، عمد إلى البيت ولم يركع تحية المسجد، فإن تحية المسجد الحرام الطواف ، فلما حاذى الحجر الأسود، استلمه ولم يزاحم ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني ، ولم يرفع يديه ، ولم يقل : نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله من لا علم عنده ، بل هو من البدع المنكرات ، ولا حاذى الحجر الأسود بجميع بدنه ثم انفك عنه وجعله على شقه ، بل استقبله واستلمه ، ثم أخذ عن يمينه ، وجعل البيت عن يساره ، ولم يدع عند الباب بدعاء ، ولا تحت الميزاب ، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ، ولا وقت للطواف ذكراً معيناً ، لا بفعله ، ولا بتعليمه ، بل حفظ عنه بين الركنين : "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" ورمل في طوافه هذا الثلاثة الأشواط الأول ، وكان يسرع في مشيه ، ويقارب بين خطاه ، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه ، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه ، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه ، وقبل المحجن ، والمحجن عصا محنية الرأس . وثبت عنه ، أنه استلم الركن اليماني . ولم يثبت عنه أنه قبله ، ولا قبل يده عند استلامه ، وقد روى الدارقطني : عن ابن عباس ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ، ويضع خده عليه وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز، قال الإمام أحمد : صالح الحديث وضعفه غيره . ولكن المراد بالركن اليماني ها هنا الحجر الأسود، فإنه يسمى الركن اليماني ويقال له مع الركن الآخر اليمانيان، ويقال له مع الركن الذي يلي الحجر من ناحية الباب : العراقيان ، ويقال للركنين اللذين يليان الحجر : الشاميان . ويقال للركن اليماني ، والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة : الغربيان ، ولكن ثبت عنه أنه قبل الحجر الأسود . وثبت عنه ، أنه استلمه بمحجن ، فهذه ثلاث صفات ، وروي عنه أيضاً ، أنه وضع شفتيه عليه طويلاً يبكي .
وذكر الطبراني عنه بإسناد جيد : أنه كان إذا استلم الركن اليماني ، قال : "بسم الله والله أكبر" .
وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال:" الله أكبر" .
وذكر أبو داود الطيالسي ، وأبو عاصم النبيل ، عن جعفر بن عبد الله بن عثمان ، قال : رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه ، ثم قال :رأيت ابن عباس يقبله ويسجد عليه ، وقال ابن عباس : رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه . ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلت .
وروى البيهقي عن ابن عباس : أنه قبل الركن اليماني ، ثم سجد عليه ، ثم قبله ، ثم سجد عليه ثلاث مرات .
وذكر أيضاً عنه ، قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر . ولم يستلم صلى الله عليه وسلم ، ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط . قال الشافعي رحمه الله : ولم يدع أحد استلامهما هجرة لبيت الله ، ولكن استلم ما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمسك عما أمسك عنه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:54 AM
صلاته خلف المقام والسعي بين الصفا والمروة
فصل
فلما فرغ من طوافه ، جاء إلى خلف المقام ، فقرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " [البقرة : 125]، فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت ، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيان منه لتفسير القران ، ومراد الله منه بفعله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من صلاته ، أقبل إلى الحجر الأسود ، فاستلمه ، ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله ، فلما قرب منه . قرأ : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " [ البقرة :159] أبدأ بما بدأ الله به ، وفي النسائي : "أبدؤوا"، بصيغة الأمر . ثم رقي عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره ، وقال : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " . ثم دعا بين ذلك ، وقال مثل هذا ثلاث مرات .
وقام ابن مسعود على الصدع ، وهو الشق الذي في الصفا . فقيل له : هاهنا يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة . ذكره البيهقي .
ثم نزل إلى المروة يمشي، فلما انصبت قدماه في باطن الوادي ، سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد ، مشى . هذا الذي صح عنه ، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى وآخره . والظاهر: أن الوادي لم يتغير عن وضعه ، هكذا قال جابر عنه في صحيح مسلم . وظاهر هذا : أنه كان ماشياً ، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس قد غشوه وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر : لم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول .
قال ابن حزم : لا تعارض بينهما، لأن الراكب إذا انصب به بعيره ، فقد انصب كله ، وانصبت قدماه أيضاً مع سائر جسده .
وعندي في الجمع بينهما وجه آخر أحسن من هذا ، وهو أنه سعى ماشياً أولاً ، ثم أتم سعيه راكباً ، وقد جاء ذلك مصرحاً به ، ففي صحيح مسلم : عن أبي الطفيل ، قال : قلت لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة
راكباً ، أسنة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنه . قال : صدقوا وكذبوا قال : قلت : ما قولك : صدقوا وكذبوا ؟ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس ، يقولون : هذا محمد ، هذا محمد ، حتى خرج العواتق من البيوت . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه . قال : فلما كثر عليه ، ركب ، والمشي والسعي أفضل .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:54 AM
طواف القدوم
فصل
وأما طوافه بالبيت عند قدومه ، فاختلف فيه ، هل كان على قدميه ،
أو كان راكباً ؟ ففي صحيح مسلم : عن عائشة رضي الله عنها، قالت : طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس.
وفي سنن أبي داود : عن ابن عباس ، قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي ، فطاف على راحلته ، كلما أتى على الركن ، استلمه بمحجن ، فلما فرغ من طوافه ، أناخ ، فصلى ركعتين . قال أبو الطفيل : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت على بعيره ، يستلم الحجر بمحجنه ، ثم يقبله . رواه مسلم دون ذكر البعير . وهو عند البيهقي ، بإسناد مسلم بذكر البعير. وهذا والله أعلم فى طواف الإفاضة، لا في طواف القدوم ، فإن جابراً حكى عنه الرمل في الأول ، وذلك لا يكون إلا مع المشى .
قال الشافعي رحمه الله : أما سبعه الذي طافه لمقدمه ، فعلى قدميه لأن جابراً حكى عنه فيه ، أنه رمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعة ، فلا يجوز أن يكون جابر يحكي عنه الطواف ماشياً وراكباً في سبع واحد . وقد حفظ أن سبعه الذي ركب فيه في طوافه يوم النحر. ثم ذكر الشافعي : عن ابن عيينة، عن ابن طاووس عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يهجروا بالإفاضة ، وأفاض في نسائه ليلاً على راحلته يستلم الركن بمحجنه ، أحسبه قال : فيقبل طرف المحجن . قلت : هذا مع أنه مرسل ، فهو خلاف ما رواه جابر عنه في الصحيح أنه طاف طواف الإفاضة يوم النحر نهاراً، وكذلك روت عائشة وابن عمر، كما سيأتي . وقول ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي ، فطاف على راحلته ، كلما أتى الركن استلمه . هذا إن كان محفوظاً، فهو في إحدى عمره ، وإلا فقد صح عنه الرمل في الثلاثة الأول من طواف القدوم ، إلا أن يقول كما قال ابن حزم في السعي : إنه رمل على بعيره ، فإن من رمل على بعيره ، فقد رمل ، لكن ليس في شيء من الأحاديث أنه كان راكباً في طواف القدوم . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:55 AM
وهم ابن حزم في طوافه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة
فصل
وقال ابن حزم : وطاف صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أيضاً سبعاً، راكباً على بعيره يخب ثلاثاً، ويمشي أربعاً ، وهذا من أوهامه وغلطه رحمه الله ، فإن أحداً لم يقل هذا قط غيره ، ولا رواه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة . وهذا إنما هو في الطواف بالبيت ، فغلط أبو محمد، ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة. وأعجب من ذلك ، استدلال عليه بما رواه من طريق البخاري ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف حين قدم مكة ، واستلم الركن أول شيء ، ثم خب ثلاثة أطواف ، ومشى أربعاً ، فركع حين قضى طوافه بالبيت ، وصلى عند المقام ركعتين ، ثم سلم فانصرف ، فأتى الصفا ، فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ... وذكر باقي الحديث . قال : ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصاً، ولكنه متفق عليه . هذا لفظه . قلت : المتفق عليه : السعي في بطن الوادي في الأشواط كلها . وأما الرمل في الثلاثة الأول خاصة، فلم يقله ، ولا نقله فيما نعلم غيرة. وسألت شيخنا عنه ، فقال : هذا من أغلاطه ، وهو لم يحج رحمه الله تعالى. ويشبه هذا الغلط ، غلظ من قال : إنه سعى أربع عشرة مرة، وكان يحتسب بذهابه ورجوعه مرة واحدة . وهذا غلط عليه صلى الله عليه وسلم ، لم ينقله عند أحد ، ولا قاله أحد من الأئمة الذين اشتهرت أقواتهم ، وإن ذهب إليه بعض التأخرين من المنتسبين إلى الأئمة. ومما يبين بطلان هذا القول ، أنه صلى الله عليه وسلم لا خلاف عنه ، أنه ختم سعيه بالمروة ، ولو كان الذهاب والرجوع مرة واحدة ، ولو كان الذهاب والرجوع مرة واحدة ، لكان ختمه إنما يقع على الصفا .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة ، رقي عليها ، واستقبل البيت ، وكبر الله ووحده ، وفعل كما فعل على الصفا ، فلما أكمل سعيه عند المروة ، أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتماً ولا بد ، قارناً كان أو مفرداً وأمرهم أن يحلوا الحل كله من وطء الناس ، والطيب ، ولبس المخيط ، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ، ولم يحل هو من أجل هديه . وهناك قال : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة ".
وقد روي أنه أحل هو أيضاً، وهو غلط قطعاً ، قد بيناه فيما تقدم .
وهناك دعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثاً ، وللمقصرين مرة . وهناك سأله سراقة بن مالك بن جعشم عقيب أمره لهم بالفسخ والإحلال : هل ذلك لعامهم أو خاصة، أم للأبد ؟ فقال : "بل للأبد" . ولم يحل أبو بكر ، ولا عمر ، ولا علي ولا طلحة ، ولا الزبير من أجل الهدي .
وأما نساؤه صلى الله عليه وسلم ، فأحللن ، وكن قارنات ، إلا عائشة فإنها لم تحل ، من أجل تعذر الحل عليها لحيضها ،
وفاطمة حلت، لأنها لم يكن معها هدي ، وعلي رضي الله عنه لم يحل من أجل من أجل هديه ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بإهلال كإهلاله أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي ، وأن يحل إن لم يكن معه هدي .
وكان يصلي مدة مقامه بمكة إلى يوم التروية بمنزلة الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يوم الخميس ضحى، توجه بمن معه من المسلمين إلى منى، فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم ، ولم يدخلوا إلى المسجد، فأحرموا منه ، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم ، فلما وصل إلى منى، نزل بها، وصلى بها الظهر والعصر، وبات بها، وكان ليلة الجمعة، فلما طلعت الشمس ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم ، وكان من أصحابه الملبى ، ومنهم المكبر ، وهو يسمع من ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء فوجد القبة قد ضربت له بنمرة بأمره ، وهي قرية شرقي عرفات ، وهي خراب اليوم ، فنزل بها ، حتى إذا زالت الشمس ، أمر بناقته القصواء فرحلت ، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنه ، فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة قرر فيها قواعد الإسلام ، وهدم فيها قواعد الشرك و الجاهلية ، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها ، وهي الدماء والأموال ، والأعراض ، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه ، ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله ، وأوصاهم بالنساء خيراً ، وذكر الحق الذي لهن والذي عليهن ، وأن الواجب لهن الرزق والكسوة بالمعروف ، ولم يقدر ذلك بتقدير ، وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكرهه أزواجهن ، وأوصى الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله ، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به ، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه ، واستنطقهم : بماذا يقولون ، وبماذا يشهدون ، فقالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فرفع أصبعه إلى السماء ، واستشهد الله عليهم ثلاث مرات ، وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم .
قال ابن حزم : وأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي أم عبد الله بن عباس ، بقدح لبن ، فشربه أمام الناس وهو على بعيره فلما أتم الخطبة ، أمر بلالاً فأقام الصلاة ، وهذا من وهمه رحمه الله ، فإن قصة شربه إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة، ووقف بها هكذا جاء في الصحيحين مصرحاً به عن ميمونة: أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ، فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف ، فشرب منه والناس ينظرون . وفي لفظ : وهو واقف بعرفة .
وموضع خطبته لم يكن من الموقف ، فإنه خطب بعرنة ، وليست من الموقف ، وهو صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة، وخطب بعرنة ، ووقف بعرفة ، وخطب خطبة واحدة، ولم تكن خطبتين ، جلس بينهما، فلما أتمها، أمر بلالاً فأذن ، ثم أقام الصلاة، فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة ، فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة ، وصلوا بصلاته قصراً وجمعاً بلا ريب ، ولم يأمرهم بالإتمام ، ولا بترك الجمع ، ومن قال : إنه قال لهم : "أتموا صلاتهم فإنا قوم سفر"، فقد غلط فيه غلطاً ووهم وهما قبيحاً . وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة ، حيث كانوا في ديارهم مقيمين . ولهذا كان أصح أقوال العلماء : إن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة ، ويجمعون بعرفة، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا أوضح دليل ، على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة البتة ، وإنما التأثير لما جعله الله سبباً وهو السفر، هذا مقتضى السنة ، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون .
فلما فرغ من صلاته ، ركب حتى أتى الموقف ، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات ، واستقبل القبلة، وجعل حبل المشاة بين يديه ، وكان على بعيره ، فأخذ في الدعاء والتضرع والإبتهال إلى غروب الشمس، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنة، وأخبر ان عرفة لا تختص بموقفه ذلك ، بل قال : "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف " .
وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم ، ويقفوا بها ، فإنها من إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناس من أهل نجد، فسألوه عن الحج ، "الحج عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع ،تم حجه ، أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين ، فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه ".
وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين ، وأخبرهم أن خيرالدعاء دعاء يوم عرفة .
وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف : "اللهم لك الحمد كالذي نقول ، وخيراً مما نقول ، اللهم لك صلاتي ونسكي ، ومحياي ، ومماتي ، وإليك مآبي ، ولك ربي تراثى ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح " . ذكره الترمذي .
ومما ذكر من دعائه هناك "اللهم تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي ، لا يخفى عليك شيء من أمرى ، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق ، المقر المعترف بذنوبي ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه ، وذل جسده ، ورغم أنفه لك ، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خيرالمعطين " .ذكره الطبراني .
وذكرالإمام أحمد : من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد ، بيده الخير وهوعلى كل شىء قدير".
وذكرالبيهقي من حديث علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أكثر دعائى ودعاء الأنبياء من قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ،اللهم اجعل فى قلبى نوراً ، وفى صدرى نوراً ،وفى سمعى نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم أشرح لي صدري، ويسرلي أمرى ، وأعوذ بك من وسواس الصدر، وشتات الأمر ، وفتنة القبر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار، وشرما تهب به الرياح ، وشر بوائق الدهر" .
وأسانيد هذه الأدعية فيها لين .
وهناك أنزلت عليه : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " [المائدة : 3] .
وهـناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات، فأمررسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفن في ثوبيه ، ولا بطيب ، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطى رأسه ، ولا وجهه ، وأخبر أن الله تعالى يبعثه يوم القيامة يلبي .
وفي هذه القصة اثنا عشر حكماً.
الأول : وجوب غسل الميت ، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به .
الحكم الثاني : أنه لا ينجس بالموت ، لأنه لو نجس بالموت لم يزده غسله إلا نجاسة . لأن نجاسة الموت للحيوان عينية ، فإن ساعد المنجسون على أنه يطهر بالغسل ، بطل أن يكون نجساً بالموت ، وإن قالوا : لا يطهر، لم يزد الغسل أكفانه وثيابه وغاسله إلا نجاسة .
الحكم الثالث : أن المشروع في حق الميت ، أن يغسل بماء وسدر لا يقتصر به على الماء وحده ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسدر في ثلاثة مواضع ، هذا أحدها.
والثاني : في غسل ابنته بالماء والسدر . والثالث في غسل الحائض .
وفي وجوب السدر في حق الحائض قولان في مذهب أحمد .
الحكم الرابع : أن تغير الماء بالطاهرات ، لا يسلبه طهوريته ، كما هو مذهب الجمهور، وهو أنص الروايتين عن أحمد، وإن كان المتأخرون من أصحابه على خلافها. ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماء قراح ، بل أمر في غسل ابنته أن يجعلن في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، ولو سلبه الطهورية، لنهى عنه ، وليس القصد مجرد اكتساب الماء من رائحته حتى يكون تغير مجاورة، بل هو تطييب البدن وتصليبه وتقويته ، وهذا إنما يحصل بكافور مخالط لا مجاور. الحكم الخامس : إباحة الغسل للمحرم ، وقد تناظر في هذا عبد الله بن عباس ، والمسور بن مخرمة ، ففصل بينهما أبوأيوب الأنصاري ، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وهو محرم . واتفقوا على أنه يغتسل من الجنابة ، ولكن كره مالك رحمه الله أن يغيب رأسه في الماء، لأنه نوع ستر له ، والصحيح أنه لا بأس به ، فقد فعله عمربن الخطاب وابن عباس .
والحكم السادس : أن المحرم غير ممنوع من الماء والسدر. وقد اختلف فى ذلك ، فأباحه الشافعى ، وأحمد في أظهر الروايتين عنه ومنع منه مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد فى رواية ابنه صالح عنه .قال :فإن فعل أهدى ، وقال صاحبا أبى حنيفة :إن فعل ، فعليه صدقة .
وللمانعين ثلاث علل .
إحداها: أنه يقتل الهوام من رأسه ، وهو ممنوع من التفلى.
الثانية : أنه ترفه ، وإزالة شعث ينافى الإحرام .
الثالثة: أنه يستلذ رائحته، فأشبه الطيب ، ولا سيما الخطمى .والعلل الثلاث واهية جداً، والصواب جوازه للنص ، ولم يحرم الله ورسوله على المحرم إزالة الشعث بالاغتسال ، ولا قتل القمل ، وليس السدر من الطيب فى شىء .
الحكم السابع : أن الكفن مقدم على الميراث ، وعلى الدين ،لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكفن فى ثوبيه ، ولم يسأل عن وراثه ، ولا عن دين عليه . ولو اختلف الحال ، لسأل .
وكما أن كسوته فى الحياة مقدمة على قضاء دينه ، فكذلك بعد الممات ، هذا كلام الجمهور ،وفيه خلاف شاذ لايعول عليه . الحكم الثامن : جواز الاقتصار فى الكفن على ثوبين ، وهما إزار ورداء ، وهذا قول الجمهور . وقال القاضى أبو يعلى : لا يجوز أقل من ثلاثة أثواب عند القدرة ، لأنه لو جاز الاقتصار على ثوبين ، لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام ، والصحيح : خلاف قوله ، وما ذكره ينقض بالخشن مع الرفيع . الحكم التاسع : أن المحرم ممنوع من الطيب ، لأن النبى صلى الله عليه نهى أن يمس طيباً، مع شهادته له أنه يبعث ملبياً، وهذا هو الأصل في منع المحرم من الطيب .
وفي الصحيحين : من حديث ابن عمر "لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه ورس أوزعفران " .
==>>يتبع
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:55 AM
وأمر الذي حرم في جبة بعد ما تضمخ بالخلوق ، أن تنزع عنه الجبة، ويغسل عنه أثر الخلوق . فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدار منع المحرم من الطيب . وأصرحها : هذه القصة، فإن النهي في الحديثين الأخرين ، إنما هو عن نوع خاص من الطيب ، لا سيما الخلوق، فإن النهي عنه عام في الإحرام وغيره .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يقرب طيباً، أو يمس به ، تناول ذلك الرأس ، والبدن ، والثياب ، وأما شمه من غير مس ، فإنما حرمه من حرمه بالقياس ، وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحه ، ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه ، ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل ، فإن شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب ، كما يحرم النظر الى الأجنبية، لأنه وسيلة إلى غيره، وما حرم تحريم الوسائل، فإنه يباح للحاجة ، أو المصلحة الراجحة ، كما يباح النظر إلى الأمة المستامة ، والمخطوبة، ومن شهد عليها، أو يعاملها، أو يطبها . وعلى هذا، فإنما يمنع المحرم من قصد شم الطيب للترفه واللذة ، فأما إذا وصلت الرائحة إلى أنفه ، من غير قصد منه ، أو شمه قصداً، لاستعامه عندشرائه ، لم يمنع منه ، ولم يجب عليه سد أنفه ، فالأول: بمنزلة نظرالفجأة ، والثاني : بمنزلة نظرالمستام والخاطب.
ومما يوضح هذا ، أن الذين أباحوا للمحرم استدامة الطيب قبل الإحرام ، منهم من صرح بإباحة تعمد شمه بعد الإحرام ، صرح بذلك أصحاب أبى حنيفة ، فقالوا :فى جوامع الفقه لأبى يوسف : لا بأس بأن يشم طيباً تطيب به قبل إحرامه ، قال صاحب المفيد : إن الطيب يتصل به ، فيصير تبعاً له ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه ، فيصير كالسحور في حق الصائم يدفع به أذى الجوع والعطش في الصوم ، بخلاف الثوب ، فإنه بائن عنه .
وقد اختلف الفقهاء، هل هو ممنوع من استدامته ، كما هو ممنوع من ابتدائه ، أو يجوز له استدامته ؟ على قولين . فمذهب الجمهور : جواز استدامته اتباعاً لما ثبت بالسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطيب قبل إحرامه ، ثم يرى وبيص الطيب في مفارقه بعد إحرامه . وفي لفظ : "وهو يلبي " وفي لفظ "بعد ثلاث". وكل هذا يدفع التأويل الباطل الذي تأؤله من قال : إن ذلك كان قبل الإحرام ، فلما اغتسل ، ذهب أثره . وفي لفظ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم ، تطيب بأطيب ما يجد، ثم يرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك . ولله ما يصنع التقليد، ونصرة الآراء بأصحابه.
وقال آخرون منهم : إن ذلك كان مختصاً به ، ويرد هذا أمران ، أحدهما أن دعوى الاختصاص ، لا تسمع إلا بدليل .
والثاني : ما رواه أبو داود، عن عائشة، كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الاحرام ، فإذا عرقت إحدانا ، سال على وجهها ،فيراه النبى صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا .
الحكم العاشر : أن المحرم ممنوع من تغطية رأسه ، والمراتب فيه ثلاث : ممنوع منه بالاتفاق ، وجائز بالاتفاق ، ومختلف فيه ، فالأول : كل متصل ملامس يراد لستر الرأس ، كالعمامة ، والقبعة ، والطاقية ، والخوذة ، وغيرها . والثاني : كالخيمة ، والبيت ، والشجرة ، ونحوها ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضربت له قبة بنمرة وهو محرم إلا أن مالكاً منع المحرم أن يضع ثوبه على شجرة ليستظل به ، وخالفه الأكثرون، ومنع أصحابة المحرم أن يمشي في ظل المحمل. والثالث : كالمحمل ، والمحارة ، والهودج ، فيه ثلاثة أقوال : الجواز ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله ، والثاني : المنع . فإن فعل ، افتدى، وهو مذهب مالك رحمه الله . والثالث : المنع ، فإن فعل ، فلا فدية عليه ، والثلاثة روايات عن أحمد رحمه الله .
الحكم الحادي عشر: منع المحرم من تغطية وجهه ، وقد اختلف في هذه المسألة، فمذهب الشافعي وأحمد في رواية : إباحته ، ومذهب مالك ، وأبي حنيفة، وأحمد في رواية : المنع منه ، وبإباحته قال ستة من الصحابة : عثمان، وعبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص، وجابر رضي الله عنهم . وفيه قول ثالث شاذ: إن كان حياً، فله تغطية وجهه ،وإن كان ميتاً ، لم يجز تغطية وجهه ، قاله ابن حزم ، وهواللائق بظاهريته .
واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة ، وبأصل الإباحة ، وبمفهوم قوله :" ولا تخمروا رأسه " . وأجابوا عن في قوله : " ولا تخمروا وجهه " ، بأن هذه اللفظة غير محفوظ فيه . قال شعبة: حدثنيه أبو بشر، ثم سألته بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان ، إلا أنه قال :. " لاتخمروا رأسه ، ولا وجهه ". قالوا : وهذا يدل على ضعفها . قالوا : وقد روي في هذا الحديث "خمروا وجهه ، ولا تخمروا رأسه " .
الحكم الثاني عشر: بقاء الإحرام بعد الموت ، وأنه لا ينقطع به، وهذا مذهب عثمان ، وعلى ، وابن عباس ، وغيرهم رضي الله عنهم ، وبه قال أحمد ، والشافعي ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والأوزاعي : ينقطع الإحرام بالموت ، ويصنع به كما يصنع بالحلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات أحدكم انقطع عمله إلامن ثلاث " .
قالوا : ولا دليل في حديث الذي وقصته راحلته ، لأنه خاص به ، في صلاته على النجاشي : إنها مختصة به .
قال الجمهور : دعوى التخصيص على خلاف الأصل ، فلا تقبل وقوله في الحديث : "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً "، إشارة إلى العلة ، فلو كان مختصاً به ، لم يشر إلى العلة، ولا سيما إن قيل : لا يصح التعليل بالعلة القاصرة . وقد قال نظير هذا في شهداء أحد، فقال : "زملوهم في ثيابهم ، بكلومهم ، فإنهم يبعثون يوم القيامة اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ". وهذا غير مختص بهم ، وهو نظير قوله : "كفنوه في ثوبيه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ولم تقولوا: إن هذا خاص بشهداء أحد فقط ، بل عديتم الحكم إلى سائر الشهداء مع إمكان ما ذكرتم من التخصيص فيه . وما الفرق؟ وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم في الموضعين واحدة ، وأيضاً: فإن هذا الحديث موافق لأصول الشرع والحكمة التي رتب عليها المعاد، فإن العبد يبعث على مامات عليه ، ومن مات على حالة بعث عليها فلو لم يرد هذا الحديث ، لكانت أصول الشرع شاهدة به . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:56 AM
فصل عود الى سياق حجته
فصل
عدنا إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم .
فلما غربت الشمس ، واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة، أفاض من عرفة ، وأردف أسامة بن زيد خلفه ، وأفاض بالسكينة ، وضم إليه زمام ناقته ، حتى إن رأسها ليصيب طرف رحله وهو يقول : "أيها الناس عليكم السكينة، فإن البر ليس بإلإيضاع "أي : ليس بالإسراع .
وأفاض من طريق المأزمين ، ودخل عرفة من طريق ضب ، وهكذا كانت عادته صلوات الله عليه وسلامه في الأعياد، أن يخالف الطريق ، وقد تقدم ذلك عند الكلام على هديه في العيد .
ثم جعل يسير العنق ، وهو ضرب من السير ليس بالسريع ، ولا البطيء . فإذا وجد فجوة وهو المتسع ، نص سيره ، أي : رفعه فوق ذلك ، وكلما أتى ربوة من تلك الربى، أرخى للناقة زمامها قليلاً حتى تصعد . وكان يلبي في مسيره ذلك ، لم يقطع التلبية. فلما كان في أثناء الطريق نزل صلوات الله وسلامه عليه ، فبال ، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة : الصلاة يارسول الله ، فقال : "الصلاة - أو المصلى - أمامك". ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصلاة، ثم أمر بالأذان المؤذن ، ثم أقام ، فصلى المغرب قبل حط الرحال ، وتبريك الجمال ، فلما حطوا رحالهم ، أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى عشاء الآخرة بإقامة بلا اذان ، ولم يصل بينهما شيئاً. وقد روي : أنه صلاهما بأذانين وأقامتين ، وروي بإقامتين بلا أذان ، والصحيح : أنه صلاهما بأذان واقامتين كما فعل بعرفة .
ثم نام حتى أصبح، ولم يحي تلك الليلة، ولاصح عنه في إحياء ليلتى العيدين شيء .
"وأذن في تلك الليلة لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر، وكان ذلك عند غيبوبة القمر، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس " حديث صحيح صححه الترمذي وغيره.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت ، فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعني عندها ، رواه أبو داود ، فحديث منكر ، أنكره الإمام أحمد وغيره . ومما يدل على إنكاره أن فيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافى صلاة الصبح يوم النحر بمكة . وفى رواية . "توافيه بمكة" وكان يومها ، فأحب أن توافيه ، وهذا من المحال قطعاً.
قال الأثرم : قال لي أبو عبد الله : حدثنا أبو معاوية، عن هشام ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم الحر بمكة، لم يسنده غيره ، وهو خطأ .
وقال وكيع : عن أبيه مرسلاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، أو نحو هذا، وهذا أعجب أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ، ما يصنع بمكة؟ ينكر ذلك . قال : فجئت إلى يحيى بن سعيد، فسألته فقال : عن هشام عن أبيه : "أمرها أن توافي " وليس "توافيه " قال : وبين ذين فرق. قال : وقال لي يحيى : سل عبد الرحمن عنه ، فسألته ، فقال : هكذا سفيان عن هشام عن أبيه . قال الخلال : سها الأثرم في حكايته عن وكيع "توافيه "، وإنما قال وكيع : توافي منى . وأصاب في قوله : "توافي " كما قال أصحابه ، وأخطأ قوله : "منى" .
قال الخلال : أنبأنا علي بن حرب ، حدثنا هارون بن عمران ، عن سليمان بن أبي داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، قال : أخبرتني أم سلمة، قالت : قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة. قالت : فرميت بليل ، ثم مضيت إلى مكة، فصليت بها الصبح ، ثم رجعت إلى منى . قلت : سليمان بن أبي داود هذا : هو الدمشقي الخولاني ، ويقال: ابن داود. قال أبو زرعة عن أحمد: رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء . وقال عثمان بن سعيد: ضعيف .
قلت : ومما يدل على بطلانه ، ما ثبت في الصحيحين عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة ، أن تدفع قبله ، وقبل حطمة الناس ، وكانت امرأة ثبطة ، قالت : فأذن لها، فخرجت قبل دفعه ، وحبسنا حتى أصبحنا ، فدفعنا بدفعه ، ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلي من مفروح به . فهذا الحديث الصحيح ، يبين أن نساءه غير سودة، إنما دفعن معه .
فإن قيل : فما تصنعون بحديث عائشة الذي رواه الدارقطني وغيره عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،"أمر نسائه أن يخرجن من جمع ليلة جمع ، فيرمين الجمرة ، ثم تصبح في منزلها ، وكانت تصنع ذلك حتى ماتت" .
قيل : يرده محد بن حميد أحد رواته ، كذبه غير واحد . ويرده أيضاً : حديثها الذي في الصحيحين وقولها : وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما استأذنته سودة .
وإن قيل : فهب أنكم يمكنكم رد هذا الحديث ، فما تصنعون بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، "عن أم حبيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث بها من جمع بليل". قيل : قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدم تلك الليلة ضعفة أهله ، وكان ابن عباس فيمن قدم . وثبت أنه قدم سودة، وثبت أنه حبس نسائه عنده حتى دفعن بدفعه . وحديث أم حبيبة، انفرد به مسلم . فإن كان محفوظاً ، فهي إذاً من الضعفة التي قدمها .
فإن قيل : فما تصنعون بما رواه الإمام أحمد، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر . قيل : نقدم عليه حديثه الآخر الذي رواه أيضاً الإمام أحمد ، والترمذي وصححه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قدم ضعفة أهله وقال : "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". ولفظ أحمد فيه : قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع ، فجعل يطلح أفخاذنا ويقول : "أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " . لأنه أصح منه ، وفيه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمرة قبل طلوع الشمس ، وهو محفوظ بذكر القصة فيه ، والحديث الآخر: إنما فيه : أنهم رموها مع الفجر، ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث ، فإنه أمر الصبيان أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي ، أما من قدمه من النساء ، فرمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم ، وهذا الذي دلت عليه السنة جواز الرمي قبل طلوع الشمس ، للعذر بمرض، أو كبر يشق عليه مزاحمة الناس لأجله ، وأما القادر الصحيح ، فلا يجوز له ذلك .
وفي المسألة ثلاثة مذاهب ، أحدها : الجواز بعد نصف الليل مطلقاً للقادر والعاجز، كقول الشافعي وأحمد رحمهما الله ، والثاني : لا يجوز إلا بعد طلوع الفجر، كقول أبي حنيفة رحمه الله ، والثالث : لا يجوز لأهل القدرة إلا بعد طلوع الشمس ، كقول جماعة من أهل العلم . والذي دلت عليه السنة، إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل ، وليس مع من حده بالنصف دليل ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:57 AM
صلاته في المزدلفة ووقوفه بالمشعر الحرام
فصل
فلما طلع الشجر، صلاها في أول الوقت لا قبله قطعاً بأذان وإقامة يوم النحر ، وهو يوم العيد ، وهو يوم الحج الأكبر، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك .
ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرع ، والتكبير ، والتهليل ، والذكر ، حتى أسفر جداً ، وذلك قبل طلوع الفجر .
وهناك سأله عروة بن مضرس الطائي ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني جئت من جبلي طيء ، أكللت راحتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من شهد صلاتنا هذه ووقفت معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ، فقد أتم حجته ، وقضى تفثه ". قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وبهذا احتج من ذهب إلى أن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها، ركن كعرفة ، وهو مذهب اثنين من الصحابة، ابن عباس ، وابن الزبير رضي الله عنهما ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وهو مذهب الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود الظاهري ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، واختاره المحمدان : ابن جرير ، وابن خزيمة ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، ولهم ثلاث حجج . هذه إحداها، والثانية : قوله تعالى : " فاذكروا الله عند المشعر الحرام " [البقرة : 198] والثالثة : فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرح مخرح البيان لهذا الذكر المأمور به. واحتج من لم يره ركناً بأمرين ، أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم مد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر، وهذا يقتضي أن من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر زمان ، صح حجه ، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنا لم يصح حجه .
الثاني : أنه لو كان ركناً ، لاشترك فيه الرجال والنساء ، فلما قدم رسول صلى الله عليه وسلم النساء بالليل ، علم أنه ليس بركن ، وفي الدليلين نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قدمهن بعد المبيت بمزدلفة، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة . والواجب هو ذلك . وأما توقيت الوقوف بعرفة إلى الفجر، فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة ركناً ، وتكون تلك الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلوات ، وتضييق الوقت لأحدهما لا يخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:57 AM
وقوفه في المزدلفة
فصل
وقف صلى الله عليه وسلم في موقفه ، وأعلم الناس أن مزدلفة كلها موقف ، ثم سار من مزدلفة مردفاً للفضل بن عباس وهو يلبي في مسيره ، وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش .
وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلقط له حصى الجمار، سبع حصيات ، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده ، ولا التقطها بالليل ، فالتقط له سبع حصيات من حصى الحذف ، فجعل ينفضهن في كفه ويقول : "بأمثال هؤلاء فارموا ، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ".
وفي طريقه تلك ، عرضت له امرأة من خثعم جميلة، فسألته عن الحج عن أبيها وكان شيخاً كبيراً لا يستمسك على الرحلة، فأمرها أن تحج عنه، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فوضع يده على وجهه ، وصرفه إلى الشق الآخر، وكان الفضل وسيماً ، فقيل : صرف وجهه عن نظرها إليه . وقيل : صرفه عن نظر إليها، والصواب : إنه فعله للأمرين ، فإنه في القصة جعل ينظر إليها وتنظر إليه .
وسأله آخر هنالك عن أمه ، فقال : إنها عجوز كبيرة، فإن حملتها لم تستمسك ، وإن ربطتها خشيت أن أقتلها، فقال : "أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : فحج عن أمك ".
فلما أتى بطن محسر، حرك ناقته وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه ، فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا، ولذلك سمى ذلك الوادي وادي محسر ، لأن الفيل حسر فيه ، أي: أعيي، وانقطع عن الذهاب إلى مكة ، وكذلك فعل في سلوكه الحجر ديار ثمود فإنه تقنع بثوبه ، وأسرع السير.
ومحسر: برزخ بين منى وبين مزدلفة، لا من هذه ، ولا من هذه ، وبرزخ بين عرفة والمشعر الحرام ، فبين كل مشعرين برزخ ليس منهما، فمنى : من الحرم ، وهي مشعر، ومحسر: من الحرم ، وليس بمشعر ، ومزدلفة : حرم ومشعر، وعرنة ليست مشعراً ، وهي من الحل . وعرفة : حل ومشعر .
وسلك صلى الله عليه وسلم ، الطريق الوسطى بين الطريقين ، وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفل الوادي ، وجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، واستقبل الجمرة وهو على راحلته ، فرماها راكباً بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يكبر مع كل حصاة . وحينئذ قطع التلبية .
وكان في مسيره ذلك يلبي حتى شرع في الرمي ، ورمى بلال وأسامة معه ، أحدهما آخذ بخطام ناقته ، والآخر يظلله بثوب من الحر . وفي هذا : دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه إن كانت قصة هذا الإظلال يوم النحر ثابتة ، وإن كانت بعده في أيام منى، فلا حجة فيها ، وليس في الحديث بيان في أي زمن كانت . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:58 AM
رجوعه الى منى وخطبته فيها
فصل
ثم رجع إلى منى، فخطب الناس خطبة بليغة أعلمتهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه ، وفضله عند الله ، وحرمة مكة على جميع البلاد ، وأمرهم بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله ، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه ، وقال : "لعلي لا أحج بعد عامي هذا".
وعلمهم مناسكهم ، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم ، وأمر الناس أن لا يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض ، وأمر بالتبليغ عنه . وأخبر أنه رب مبلغ أوعى من سامع .
وقال في خطبته : " لا يجني جان إلا على نفسه " .
وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة ، والأنصار عن يسارها ، والناس حولهم وفتح الله له أسماع الناس حتى سمعها أهل منى في منازلهم. وقال في خطبته تلك : "اعبدوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم " . وودع حيئذ الناس ، فقالوا : حجة الوداع . وهناك سئل عمن حلق قبل أن يرمي ، وعمن ذبح قبل أن يرمي ، فقال : " لاحرج " قال عبد الله بن عمرو: ما رأيته صلى الله عليه وسلم سئل يومئذ عن شيء إلا قال :" افعلوا ولا حرج ".
قال ابن عباس : "إنه قيل له صلى الله عليه وسلم في الذبح ، والحلق ، والرمي ، والتقديم ، والتأخير ، فقال : لا حرج " .
وقال أسامة بن شريك : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجاً ، وكان الناس يأتونه فمن قائل : يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف ، أو قدمت شيئاً أو أخرت شيئاً فكان يقول : "لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم ، فذلك الذي حرج وهلك ".
وقوله : سعيت قبل أن أطوف ، في هذا الحديث ليس بمحفوظ . والمحفوظ : تقديم الرمي ، والنحر، والحلق بعضها على بعض .
ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده ، وكان ينحرها قائمة، معقولة يدها اليسرى. وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره ، ثم أمسك وأمر علياً أن ينحر ما غبر من المائة، ثم أمر علياً رضي الله عنه ، أن يتصدق بجلالها ولحومها وجلودها في المساكين ، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئاً منها، وقال : نحن نعطيه من عندنا، وقال : "من شاء اقتطع " .
فإن قيل : فكيف تصنعون بالحديث الذي في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه ، قال : "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، فبات بها، فلما أصبح ، ركب راحلته ، فجعل يهلل ويسبح فلما علا على البيداء، لبى بهما جميعاً ، فلما دخل مكة، أمرهم أن يحلوا، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن قياماً ، وضحى بالمدينة كبشين أملحين " . فالجواب : أنه لا تعارض بين الحديثين .
قال أبو محمد ابن حزم : مخرج حديث أنس ، على أحد وجوه ثلاثة .
أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم لم ينحر بيد، أكثر من سبع بدن ، كما قال أنس ، وأنه أمر من ينحر ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين ، ثم زال عن ذلك المكان ، وأمر علياً رضي الله عنه ، فنحر ما بقي .
الثاني : أن يكون أنس لم يشاهد إلا نحره صلى الله عليه وسلم سبعاً فقط بيده ، وشاهد جابر تمام نحره صلى الله عليه وسلم للباقي ، فأخبر كل منهما بما رأى وشاهد .
الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده منفرداً سبع بدن كما قال أنس ، ثم أخذ هو وعلي الحربة معاً ، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين ، كما قال غرفة بن الحارث الكندي أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ قد أخذ بأعلى الحربة ، وأمر علياً فأخذ بأسفلها ، ونحرا بها البدن ثم انفرد علي بنحر الباقي من المائة، كما قال جابر. والله أعلم . فإن قيل : فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن علي قال : لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة ، فنحر ثلاثين بيده ، وأمرني فنحرت سائرها .
قلنا : هذا غلط انقلب على الراوي ، فإن الذي نحر ثلاثين : هو علي ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر سبعاً بيده لم يشاهده علي ، ولا جابر، ثم نحر ثلاثاً وستين أخرى ، فبقي من المائة ثلاثون ، فنحرها علي ، فانقلب على الراوي عدد ما نحره علي بما نحره النبي صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : فما تصنعون بحديث عبد الله بن قرط ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر" . وهو اليوم الثاني . قال : وقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ ؟ فلما وجبت جنوبها قال : فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها، فقلت : ما قال ؟ قال : " من شاء اقتطع ".
قيل : نقبله ونصدقه ، فإن المائة لم تقرب إليه جملة، وإنما كانت تقرب إليه أرسالاً ، فقرب منهن إليه خمس بدنات رسلاً ، وكان ذلك الرسل يبادرون ويتقربن إليه ليبدأ بكل واحدة منهن . فإن قيل : فما تصنعون بالحديث الذي في الصحيحين ، من حديث أبي بكرة في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمنى، وقال في آخره : ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما، وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا، لفظه لمسلم . ففي هذا ، أن ذبح الكبشين كان بمكة ، وفي حديث أنس ، أنه كان بالمدينة: في هذا طريقتان للناس . إحداهما: أن القول : قول أنس ، وأنه ضحى بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين ، وأنه صلى العيد ، ثم انكفأ إلى كبشين ، ففصل أنس ، وميز بين نحره للبدن ، وبين نحره بالمدينة للكبشين ، وبين أنهما قصتان ، ويدل على هذا أن جميع من ذكر نحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، إنما ذكروا أنه نحر الإبل ، وهو الهدي الذي ساقه ، وهو أفضل من نحر الغنم هناك بلا سوق ، وجابر قد قال في صفة حجة الوداع : إنه رجع من الرمي ، فنحر البدن ، وإنما أشتبه على بعض الرواة ، أن قصة الكبشين كانت يوم عيد، فظن أنه كان بمنى فوهم . الطريقة الثانية : طريقة ابن حزم ، ومن سلك مسلكه ، أنهما عملان متغايران ، وحديثان صحيحان ، فذكر أبو بكرة تضحيته بمكة، وأنس تضحيته بالمدينة . قال : وذبح يوم النحر الغنم ، ونحر البقر والإبل ، كما قالت عائشة : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن أزواجه بالبقر ، وهو في الصحيحين . وفي صحيح مسلم : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر.
وفي السنن : أنه نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة .
ومذهبه : أن الحاج شرع له التضحية مع الهدي ، والصحيح إن شاء الله : الطريقة الأولى، وهدي الحاج له بمنزلة الأضحية للمقيم ، ولم يقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه ، جمعوا بين الهدي والأضحية، بل كان هديهم هو أضاحيهم ، فهو هدي بمنى ، وأضحية بغيرها .
وأما قول عائشة: ضحى عن نسائه بالبقر، فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية، وأنهن كن متمتعات ، وعليهن الهدي ، فالبقر الذي نحره عنهن هو الهدي الذي يلزمهن . ولكن في قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع : إشكال ، وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة . وأجاب أبو محمد ابن حزم عنه ، بجواب على أصله ، وهو أن عائشة لم تكن معهن في ذلك ، فإنها كانت قارنة وهن متمتعات ، وعنده لا هدي على القارن ، وأيد قوله بالحديث الذي رواه مسلم من حديث هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة، فكنت فيمن أهل بعمرة ، فخرجنا حتى قدمنا مكة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي ، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "دعي عمرتك وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ". قالت : ففعلت : فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا ، أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفني ، وخرج إلى التنعيم ، فأهللت بعمرة، فقضى الله حجنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي صدقة ولا صوم .
وهذا مسلك فاسد تفرد به ابن حزم عن الناس . والذي عليه الصحابة، والتابعون ، ومن بعدهم أن القارن يلزمه الهدي ، كما يلزم المتمتع ، بل هو متمتع حقيقة في لسان الصحابة كما تقدم ، وأما هذا الحديث ، فالصحيح : إن هذا الكلام الأخير من قول هشام بن عروة، جاء ذلك في صحيح مسلم مصرحاً به ، فقال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها . . . فذكرت الحديث . وفي آخره : قال عروة في ذلك : إنه قضى الله حجها وعمرتها. قال هشام : ولم يكن في ذلك هدي ، ولا صيام ، ولا صدقة .
قال أبو محمد: إن كان وكيع جعل هذا الكلام لهشام ، فابن نمير، وعبدة أدخلاه في كلام عائشة، وكل منهما ثقة، فوكيع نسبه إلى هشام ، لأنه سمع هشاماً يقوله ، وليس قول هشام إياه بدافع أن تكون عائشة قالته ، فقد يروي المرء حديثاً يسنده ، ثم يفتي به دون أن يسنده ، فليس شيء من هذا بمتدافع ، وإنما يتعلل بمثل هذا من لا ينصف ، ومن اتبع هواه ، والصحيح من ذلك : أن كل ثقة فمصدق فيما نقل . فإذا أضاف عبدة وابن نمير القول إلى عائشة، صدقا لعدالتهما . وإذا أضافه وكيع إلى هشام ، صدق أيضاً لعدالته ، وكل صحيح ، وتكون عائشة قالته ، وهشام قاله . قلت : هذه الطريقة هي اللائقة بظاهريته ، وظاهرية أمثاله ممن لا فقه له في علل الأحاديث ، كفقه الأئمة النقاد أطباء علله ، وأهل العناية بها، وهؤلاء لا يلتفتون إلى قول من خالفهم ممن ليس له ذوقهم ومعرفتهم ، بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصيارف النقاد ، الذين يميزون بين الجيد والرديء ، ولا يلتفتون إلى خطأ من لم يعرف ذلك . ومن المعلوم ، أن عبدة وابن نمير لم يقولا في هذا الكلام : قالت عائشة ، وإنما أدرجاه في الحديث إدراجاً ، يحتمل أن يكون من كلامهما، أو من كلام عروة، أو من هشام ، فجاء وكيع ، ففصل وميز، ومن فصل وميز، فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره ، نعم لو قال ابن نمير وعبدة : قالت عائشة ، وقال وكيع : قال هشام ، لساغ ما قال أبو محمد ، وكان موضع نظر وترجيح. وأما كونهن تسعاً وهي بقرة واحدة، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ ، أحدها أنها بقرة واحدة بينهن ، والثاني : أنه ضحى عنهن يومئذ بالبقرة ، والثالث : دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت : ما هذا؟ فقيل : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه . وقد اختلف الناس في عدد من تجزىء عنهم البدنة والبقرة، فقيل : سبعة وهو قول الشافعي ، وأحمد في المشهور عنه ، وقيل : عشرة ، وهو قول إسحاق . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قسم بينهم المغانم ، فعدل الجزور بعشر شياه .
وثبت هذا الحديث ، أنه صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه وهن تسع ببقرة . وقد روى سفيان ، عن ابي الزبير، عن جابر، أنهم نحروا البدنة في حجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرة وهو على شرط مسلم ولم يخرجه ، وإنما أخرج قوله : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدن .
وفي المسند : من حديث ابن عباس : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى ، فاشتركنا في البقرة سبعة ، وفي الجزور عشرة . ورواه النسائي والترمذي ، وقال : حسن غريب . وفي الصحيحين عنه : نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، البدنة سبعة ، والبقرة عن سبعة .
وقال حذيفة : شرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته بين المسلمين ، في البقرة عن سبعة . ذكره الإمام أحمد رحمه الله . وهذه الأحاديث ، تخرج على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يقال : السبعة أكثر وأصح ، وإما أن يقال : عدل البعير بعشرة من الغنم ، تقويم في الغنائم لأجل تعديل القسمة، وأما كونه عن سبعة في الهدايا ، فهو تقدير شرعي ، وإما أن يقال : إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة ، والأمكنة، والإبل ، ففي بعضها كان البعير يعدل عشر شياه ، فجعله عن عشرة، وفي بعضها يعدل سبعة، فجعله عن سبعة ، والله أعلم . وقد قال أبو محمد: إنه ذبح عن نسائه بقرة للهدي ، وضحى عنهن ببقرة ، وضحى عن نفسه بكبشين ، ونحر عن نفسه ثلاثاً وستين هدياً ، وقد عرفت ما في ذلك من الوهم ، ولم تكن بقرة الضحية غير بقرة الهدي ، بل هي هي ، وهدي الحاج بمنزلة ضحية الآفاقي .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:34 PM
لا يختص الذبح بالمنحر
ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنحره بمنى، وأعلمهم "أن منى كلها منحر، وأن في فجاج مكة طريق ومنحر" وفي هذا دليل على أن النحر لا يختص بمنى، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه ، كما أنه لما وقف بعرفة قال : "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف "، ووقف بمزدلفة، وقال : "وقفت ها هنا ومزدلفة كلها موقف" . وسئل صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بمنى بناء يظله من الحر، فقال : "لا ، منى مناخ لمن سبق إليه " وفي هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها، وأن من سبق إلى مكان منها، فهو أحق به حتى يرتحل عنه ، ولا يملكه بذلك .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:35 PM
فصل في حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه
فصل
فلما" أكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحره ، استدعى بالحلاق ، فحلق رأسه ، فقال للحلاق - وهو معمر بن عبد الله وهو قائم على رأسه بالموسى ونظر في وجهه - وقال : يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنه وفي يدك الموسى فقال معمر: أما والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعمة الله علي ومنه . قال : أجل إذاً أقر لك "، ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله .
وقال البخاري في صحيحه : وزعموا أن الذي حلق للنبي صلى الله عليه وسلم ، معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف انتهى، فقال للحلاق : خذ ، وأشار إلى جانبه الأيمن ، فلما فرغ منه ، قسم شعرة بين من يليه ، ثم أشار إلى الحلاق ، فحلق جانبه الأيسر، ثم قال : ها هنا أبو طلحة ؟ فدفعه إليه هكذا وقع في صحيح مسلم .
وفي صحيح البخاري : عن ابن سيرين ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه ، كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره وهذا لا يناقض رواية مسلم، لجواز أن يصيب أبا طلحة من الشق الأيمن ، مثل ما أصاب غيره ، ويختص بالشق الأيسر، لكن قد روى مسلم في صحيحه أيضاً من حديث أنس، قال : لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة ، ونحر نسكه ، وحلق ، وناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه ، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري ، فأعطاه إياه ، ثم ناوله الشق الأيسر ، فقال : "احلق فحلقه ، فأعطاه أبا طلحة، فقال : اقسمة بين الناس ". ففي هذه الرواية ، كما ترى أن نصيب أبي طلحة كان الشق الأيمن ، وفي الأولى : أنه كان الأيسر. قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي ، رواه مسلم من رواية حفص بن غياث ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، دفع إلى أبي طلحة شعر شقه الأيسر ، ورواه من رواية سفيان بن عيينة، عن هشام بن حسان ، أنه دفع إلى أبي طلحة شعر شقه الأيمن . قال: ورواية ابن عون ، عن ابن سيرين أراها تقوي رواية سفيان والله أعلم . قلت : يريد برواية ابن عون ، ما ذكرناه عن ابن سيرين ، من طريق البخاري ، وجعل الذي سبق إليه أبو طلحة ، هو الشق الذي اختص به . والله أعلم .
والذي يقوى أن نصيب أبي طلحة الذي اختص به كان الشق الأيسر، وأنه صلى الله عليه وسلم عم ، ثم خص ، وهذه كانت سنته في عطائه ، وعلى هذا أكثر الروايات ، فإن في بعضها أنه قال للحلاق : "خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن ، فقسم شعره بين من يليه ، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر، فحلقه فأعطاه أم سليم ، ولا يعارض هذا دفعه إلى أبي طلحة، فإنها امرأته . وفي لفظ آخر: فبدأ بالشق الأيمن ، فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس ، ثم قال : بالأيسر، فصنع به مثل ذلك ، ثم قال : ها هنا أبو طلحة ؟ فدفعه إليه . وفي لفظ ثالث : دفع إلى أبي طلحة شعر شق رأسه الأيسر، ثم قلم أظفاره وقسمها بين الناس . وذكر الإمام أحمد رحمه الله ، من حديث محمد بن عبد الله بن زيد، أن أباه حدثه ، أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر، ورجل من قريش وهو يقسم أضاحي ، فلم يصبه شيء ولا صاحبه ، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه ، فأعطاه ، فقسم منه على رجال ، وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه ، قال : فإنه عندنا مخضوب بالحناء والكتم يعني شعره . ودعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثاً ، وللمقصرين مرة ، وحلق كثير من الصحابة، بل أكثرهم ، وقصر بعضهم ، وهذا مع قوله تعالى : " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين " [ الفتح : 27] ومع قول عائشة رضي الله عنها ، طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لإحرامه قبل أن يحرم ، ولإحلاله قبل أن يحل ، دليل على أن الحلق نسك وليس بإطلاق من محظور .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:36 PM
رجح ابن القيم أنه صلى الله عليه وسلم لم يطف غير طواف الافاضة
فصل
ثم أفاض صلى الله عليه وسلم إلى مكة قبل الظهر راكباً ، فطاف طواف الإفاضة ، وهو طواف الزيارة، وهو طواف الصدر، ولم يطف غيره ، ولم يسع معه ، هذا هو الصواب ، وقد خالف في ذلك ثلاث طوائف : طائفة زعمت أنه طاف طوافين ، طوافاً للقدوم سوى طواف الإفاضة ، ثم طاف للإفاضة ، وطائفة زعمت أنه سعى مع هذا الطواف لكونه كان قارناً ، وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم ، وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل ، فنذكر الصواب في ذلك ، ونبين منشأ الغلط وبالله التوفيق .
قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : فإذا رجع أعني المتمتع ، كم يطوف ويسعى ؟ قال : يطوف ويسعى لحجه ، ويطوف طوافاً آخر للزيارة ، عاودناه في هذا غير مرة ، فثبت عليه . قال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني : وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر، ولا طافا للقدوم ، فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة، نص عليه أحمد رحمه الله ، واحتج بما روت عائشة رضي الله عنها، قالت : " فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً "، فحمل أحمد رحمه الله قول عائشة، على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ، قال : ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع ، فلم يكن طواف الزيارة مسقطاً له ، كتحية المسجد عند دخولة قبل التلبس بالصلاة المفروضة . وقال الخرقي في مختصره : وإن كان متمتعاً فيطوف بالبيت سبعاً وبالصفا والمروة سبعاً كما فعل بالعمرة ، ثم يعود فيطوف بالبيت طوافاً ينوي به الزيارة ، وهو قوله تعالى : " وليطوفوا بالبيت العتيق " [الحج : 29] فمن قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً كالقاضي وأصحابه عندهم ، هكذا فعل ، والشيخ أبو محمد عنده ، أنه كان متمتعاً التمتع الخاص ، ولكن لم يفعل هذا، قال : ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي ، بل المشروع طواف واحد للزيارة، كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فإنه يكتفى بها عن تحية المسجد، ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم به أحداً ، قال : وحديث عائشة : دليل على هذا ، فإنها قالت : "طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا من منى لحجهم " وهذا هو طواف الزيارة ، ولم تذكر طوافاً آخر . ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم ، لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به ، وذكرت ما يستغنى عنه ، وعلى كل حال ، فما ذكرت إلا طوافاً واحداً ، فمن أين يستدل به على طوافين ؟ وأيضاً ، فإنها لما حاضت ، فقرنت الحج إلى العمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن طافت للقدوم ، لم تطف للقدوم ، ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب ، لشرع في حق المعتمر طواف القدوم مع طواف العمرة ، لأنه أول قدومه إلى البيت ، فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت ، بعد رؤيته وطوافه به . انتهى كلامه .
قلت : لم يرفع كلام أبي محمد الإشكال ، وإن كان الذي أنكره هو الحق كما أنكره ، والصواب في إنكاره ، فإن أحداً لم يقل : إن الصحابة لما رجعوا من عرفة، طافوا للقدوم وسعوا ، ثم طافوا للإفاضة بعده ، ولا النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا لم يقع قطعاً ، ولكن كان منشأ الإشكال ، أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن ، فأخبرت أن القارنين طافوا بعد أن رجعوا من منى طوافاً واحداً ، وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ، وهذا غير طواف الزيارة قطعاً ، فإنه يشترك فيه القارن والمتمتع ، فلا فرق بينهما فيه ، ولكن الشيخ أبا محمد، لما رأى قولها في المتمتعين : إنهم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى، قال . ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين ، والذي قاله حق، ولكن لم يرفع الإشكال ، فقالت طائفة : هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام أدرجت في الحديث ، وهذا لا يتبين ، ولو كان ، فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال . فالصواب : أن الطواف الذي أخبرت به عائشة ، وفرقت به بين المتمتع والقارن ، هو الطواف بين الصفا والمروة ، لا الطواف بالبيت وزال الإشكال جملة ، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما ، لم يضيفوا إليه طوافاً آخر يوم النحر، وهذا هو الحق ، وأخبرت عن المتمتعين ، أنهم طافوا بينهما طوافاً آخر بعد الرجوع من منى للحج ، وذلك الأول كان للعمرة ، وهذا قول الجمهور ، وتنزيل الحديث على هذا ، موافق لحديثها الآخر ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : "يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك " ، وكانت قارنة ، يوافق قول الجمهور .
ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه : لم يطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصفا
والمروة إلا طوافاً واحداً ، طوافه الأول . هذا يوافق قول من يقول : يكفي المتمتع سعي واحد كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره ، وعلى هذا، فيقال : عاثشة أثبتت ، وجابر نفى، والمثبت مقدم على النافي . أو يقال : مراد جابر، من قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهدي ، كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي رضي الله عنهم ، وذوي اليسار ، فإنهم إنما سعوا سعياً واحداً . وليس المراد به عموم الصحابة، أو يعلل حديث عائشة ، بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاث طرق للناس فى حديثها والله أعلم .
وأما من قال : المتمتع يطوف ويسعى للقدوم بعد إحرامه بالحج قبل خروجه إلى منى، وهو قول أصحاب الشافعي ، ولا أدري أهو منصوص عنه أم لا ؟ قال أبو محمد: فهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من الصحابة البتة، ولا أمرهم به ، ولا نقله أحد، قال ابن عباس : لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا، ولا أن يسعوا بين الصفا والمروة بعد إحرامهم بالحج حتى يرجعوا من منى . وعلى قول ابن عباس : قول الجمهور ، ومالك ، وأحمد ، وأبي حنيفة وإسحاق ، وغيرهم .
والذين استحبوه ، قالوا : لما أحرم بالحج ، صار كالقادم ، فيطوف ويسعى للقدوم . قالوا : ولأن الطواف الأول وقع عن العمرة، فيبقى طواف القدوم ، ولم يأت به ، فاستجب له فعله عقيب الإحرام بالحج ، وهاتان الحجتان واهيتان ، فإنه إنما كان قارناً لما طاف للعمرة، فكان طوافه للعمرة مغنياً عن طواف القدوم ، كمن دخل المسجد، فرأى الصلاة قائمة، فدخل فيها، فقامت مقام تحية المسجد ، وأغنته عنها .
وأيضاً فإن الصحابة لما أحرموا بالحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يطوفوا عقيبه ، وكان أكثرهم متمتعاً . وروى محمد بن الحسن ، عن أبي حنيفة، أنه إن أحرم يوم التروية قبل الزوال ، طاف وسعى للقدوم ، وإن أحرم بعد الزوال ، لم يطف ، وفرق بين الوقتين ، بأنه بعد الزوال يخرج من فوره إلى منى، فلا يشتغل عن الخروج بغيره ، وقبل الزوال لا يخرج فيطوف . وقول ابن عباس والجمهور هو الصحيح الموافق لعمل الصحابة ، وبالله التوفيق .
vBulletin® v3.8.11, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir