مشاهدة النسخة كاملة : ((( زاد المعاد ))) الأجزاء 1.2.3.4.5
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:36 PM
الرد على من قال إن القارن يحتاج إلى سعيين
فصل
والطائفة الثانية قالت : إنه صلى الله عليه وسلم سعى مع هذا الطواف وقالوا: هذا حجة في أن القارن يحتاج إلى سعيين ، كما يحتاج إلى طوافين ، وهذا غلط عليه كما تقدم ، والصواب : أنه لم يسع إلا سعيه الأول ، كما قالته عائشة ، وجابر، ولم يصح عنه في السعيين حرف واحد، بل كلها باطلة كما تقدم، فعليك بمراجعته .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:37 PM
الرد على من قال : أخر النبي طواف الزيارة إلى الليل
فصل
والطائفة الثانية : الذين قالوا : أخر طواف الزيارة إلى الليل ، وهم طاووس ومجاهد ، وعروة ، ففي سنن أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي الزبير المكي ، عن عائشة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أخر طوافه يوم النحر إلى الليل . وفي لفظ : طواف الزيارة ، قال الترمذي : حديث حسن .
وهذا الحديث غلط بين خلاف المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك فيه أهل العلم بحجته صلى الله عليه وسلم ،
فنحن نذكر كلام الناس فيه ، قال الترمذي في كتاب العلل له : سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث ، وقلت له : أسمع أبو الزبير من عائشة وابن عباس ؟ قال : أما من ابن عباس ، فنعم ، وفي سماعه من عائشة نظر. وقال أبو الحسن القطان : عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح ، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهاراً ، وإنما اختلفوا : هل صلى الظهر بمكة أو رجع إلى منى، فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه ؟ فابن عمر يقول : إنه رجع إلى منى ، فصلى الظهر بها، وجابر يقول : إنه صلى الظهر بمكة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخر الطواف إلى الليل ، وهذا شيء لم يرو إلا من هذا الطريق ، وأبو الزبير مدلس لم يذكر ها هنا سماعاً من عائشة ، وقد عهد أنه يروي عنها بواسطة، ولا عن ابن عباس أيضاً، فقد عهد كذلك أنه يروي عنها واسطة ، وإن كان قد سمع منه ، فيجب التوقف فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يذكر فيه سماعه منهما، لما عرف به من التدليس ، لو عرف سماعه منها لغير هذا، فأما ولم يصح لنا أنه سمع من عائشة، فالأمر بين في وجوب التوقف فيه ، وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلس إذا كان عمن قد علم لقاؤه له وسماعه منه ها هنا. يقول قوم : يقبل ، ويقول آخرون : يرد ما يعنعنه عنهم حتى يتبين الاتصال في حديث حديث ، وأما ما يعنعنه المدلس ، عمن قد علم لقاؤه له ولا سماعه منه ، فلا أعلم الخلاف فيه بأنه لا يقبل . ولو كنا نقول بقول مسلم : بأن معنعن المتعاصرين محمول على الاتصال ولو لم يعلم التقائهما، فإنما ذلك في غير المدلسين . وأيضاً فلما قدمناه من صحة طواف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهاراً . والخلاف في رد حديث المدلسين حتى يعلم اتصاله ، أو قبوله ، حتى يعلم انقطاعه ، إنما هو إذا لم يعارضه ما لا شك في صحته ، وهذا قد عارضه مما لا شك في صحته . انتهى كلامه .
ويدل على غلط أبي الزبير على عائشة ، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن روى عن عائشة ، أنها قالت : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفضنا يوم النحر. وروى محمد بن اسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة ، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نساءه ليلاً ، وهذا غلط أيضاً .
قال البيهقي : وأصح هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر ، وحديث جابر، وحديث أبي سلمة عن عائشة ، يعني : أنه طاف نهاراً . قلت : إنما نشأ الغلط من تسمية الطواف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الوداع إلى الليل ، كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة . قالت : "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ...... فذكرت الحديث ، إلى أن قالت : فنزلنا المحصب ، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال : اخرج بأختك من الحرم ، ثم أفرغا من طوافكما ، ثم ائتياني ها هنا بالمحصب . قالت : فقضى الله العمرة، وفرغنا من طوافنا في جوف الليل ، فأتيأه بالمحصب ، فقال : فرغتما؟ قلنا : نعم . فأذن في الناس بالرحيل ، فمر بالبيت ، فطاف به ، ثم ارتحل متوجهاً إلى المدينة" .
فهذا هو الطواف الذي أخره إلى الليل بلا ريب ، فغلط فيه أبو الزبير ، أو من حدثه به ، وقال : طواف الزيارة ، والله الموفق .
ولم يرمل صلى الله عليه وسلم في هذا الطواف ، ولا في طواف الوداع ، وإنما رمل في طواف القدوم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:37 PM
تعليل شربه قائما من زمزم
فصل
ثم أتى زمزم بعد أن قضى طوافه وهم يسقون ، فقال : " لولا أن يغلبكم الناس ، لنزلت فسقيت معكم " ، ثم ناولوه الدلو ، فشرب وهو قائم . فقيل : هذا نسخ لنهيه عن الشرب قائماً ، وقيل : بل بيان منه أن النهي على وجه الاختيار وترك الأولى، وقيل: بل للحاجة، وهذا أظهر . وهل كان في طوافه هذا راكباً أو ماشياً ؟ فروى مسلم في صحيحه ، عن جابر قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف ، وليسألوه ، فإن الناس غشوه . وفي الصحيحين ، عن ابن عباس قال : طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، على بعير يستلم الركن بمحجن . وهذا الطواف ، ليس بطواف الوداع ، فإنه كان ليلاً ، وليس بطواف القدوم لوجهين . أحدهما: أنه قد صح عنه الرمل في طواف القدوم ، ولم يقل أحد قط : رملت به راحلته ، وإنما قالوا : رمل نفسة .
والثاني : قول الشريد بن سويد : أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعاً .
وهذا ظاهره ، أنه من حين أفاض معه ، ما مست قدماه الأرض إلى أن رجع ، ولا ينتقض هذا بركعتي الطواف ، فإن شأنهما معلوم . قلت : والظاهر: أن الشريد بن سويد، إنما أراد الإفاضة معه من عرفة ، ولهذا قال : حتى أتى جمعاً وهي مزدلفة، ولم يرد الإفاضة إلى البيت يوم النحر ، ولا ينتقض هذا بنزوله عند الشعب حين بال ، ثم ركب لأنه ليس بنزول مستقر ، وإنما مست قدماه الأرض مساً عارضاً . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:38 PM
اختلاف مكان صلاته الظهر في منى
فصل
ثم رجع إلى منى ، واختلف أين صلى الظهر يومئذ ، ففي الصحيحين عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم ، أفاض يوم النحر، ثم رجع ، فصلى الظهر بمنى . وفي صحيح مسلم : عن جابر، أنه صلى الله عليه وسلم ، صلى الظهر بمكة وكذلك قالت عائشة . واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر ، فقال أبو محمد ابن حزم : قول عائشة وجابر أولى وتبعه على هذا جماعة، ورجحوا هذا القول بوجوه .
أحدها ، أنه رواية اثنين ، وهما أولى من الواحد .
الثاني : أن عائشة أخص الناس به صلى الله عليه وسلم، ولها من القرب والإختصاص به والمزية ما ليس لغيرها.
الثالث : أن سياق جابر لحجة النبي صلى الله عليه وسلم ، من أولها إلى آخرها ، أتم سياق ، وقد حفظ القصة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها . حتى ضبط منها أمراً لا يتعلق بالمناسك ، وهو نزول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع في الطريق ، فقضى حاجته عند الشعب ، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، فمن ضبط هذا القدر، فهو بضبط مكان صلاته يوم النحر أولى .
الرابع : أن حجة الوداع كانت في آذار، وهي تساوي الليل والنهار ، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى ، وخطب بها الناس ، ونحر بدناً عظيمة، وقسمها ، وطبخ من لحمها ، وأكل منه ، ورمى الجمرة ، وحلق رأسه ، وتطيب ، ثم أفاض ، فطاف وشرب من ماء زمزم ، ومن نبيذ السقاية، ووقف عليهم وهم يسقون ، وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى ، بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار .
الخامس : أن هذين الحديثين ، جاريان مجرى الناقل والمبقي ، فقد كانت عادته صلى الله عليه وسلم في حجته الصلاة في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين، فجرى ابن عمر على العادة ، وضبط جابر ، وعائشة رضي الله عنهما الأمر الذي هو خارج عن عادته ، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ .
ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر ، لوجوه .
أحدها : أنه لو صلى الظهر بمكة ، لم تصل الصحابة بمنى وحداناً وزرافات ، بل لم يكن لهم بد من الصلاة خلف إمام يكون نائباً عنه ، ولم ينقل هذا أحد قط ، ولا يقول أحد : إنه استناب من يصلي بهم ، ولولا علمه أنه يرجع إليهم فيصلي بهم . لقال : إن حضرت الصلاة ولست عندكم ، فليصل بكم فلان ، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلى الصحابة هناك وحداناً قطعاً، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلوا عزين ، علم أنهم صلوا معه على عادتهم . الثاني : أنه لو صلى بمكة، لكان خلفه بعض أهل البلد وهم مقيمون ، وكان يأمرهم أن يتموا صلاتهم ، ولم ينقل أنهم قاموا فأتموا بعد سلامه صلاتهم ، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا، بل هو معلوم الانتفاء قطعاً، علم أنه لم يصل حينئذ بمكة . وما ينقله بعض من لا علم عنده ، أنه قال : "يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر"، فإنما قاله عام الفتح ، لا في حجته . الثالث : أنه من المعلوم ، إنه لما طاف ، ركع ركعتي الطواف ، ومعوم أن كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه ، فلعله لما ركع ركعتي الطواف ، والناس خلفه يقتدون به ، ظن الظان أنها صلاة الظهر ، ولا سيما إذا كان ذلك في وقت الظهر، وهذا الوهم لا يمكن رفع احتماله ، بخلاف صلاته بمنى، فإنها لا تحتمل غير الفرض . الرابع : أنه لا يحفظ عنه في حجه أنه صلى الفرض بجوف مكة ، بل إنما كان يصلي بمنزله بالأبطح بالمسلمين مدة مقامه كان يصلي بهم أين نزلوا لا يصلي في مكان آخر غير المنزل العام . الخامس : أن حديث ابن عمر، متفق عليه ، وحديث جابر، من أفراد مسلم . فحديث ابن عمر ، أصح منه ، وكذلك هو في إسناده ، فإن رواته أحفظ ، وأشهر، وأتقن ، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله بن عمر العمري ، وأين يقع حفظ جعفر من حفظ نافع ؟ السادس : أن حديث عائشة ، قد أضطربت في وقت طوافه ، فروي عنها على ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه طاف نهاراً ، الثاني : أنه أخر الطواف إلى الليل ، الثالث : أنه أفاض من آخر يومه ، فلم يضبط فيه وقت الإفاضة ، ولا مكان الصلاة ، بخلاف حديث ابن عمر . السابع : أن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع ، فإن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عنها، وابن إسحاق مختلف في الإحتجاح به ، ولم يصرح بالسماع ، بل عنعنه ، فكيف يقدم على قول عبيد الله : حدثني نافع ، عن ابن عمر. الثامن : أن حديث عائشة ، ليس بالبين أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ، فإن لفظه هكذا : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كل جمرة بسبع حصيات . فأين دلالة هذا الحديث الصريحة، على أنه صلى الظهر يومئذ بمكة ، وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر : أفاض يوم النحر ، ثم صلى الظهر بمنى ، يعني راجعاً . وأين حديث اتفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:40 PM
ذكر طواف أم سلمة
فصل
قال ابن حزم : وطافت أم سلمة في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس وهي شاكية، استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ، فأذن لها، واحتج عليه بما رواه مسلم في صحيحه من حديث زينب بنت أم سلمة، على أم سلمة، قالت : شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أني أشتكي ، فقال : "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " قالت : فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت ، وهو يقرأ : " والطور * وكتاب مسطور " لا يتبين أن هذا الطواف هو طواف الإفاضة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي ذلك الطواف بالطور ، ولا جهر بالقراءة بحيث تسمعه أم سلمة من وراء الناس ، وقد بين أبو محمد غلط من قال : إنه أخره إلى الليل ، فأصاب في ذلك . وقد صح من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أرسل بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت فكيف يلتئم هذا مع طوافها يوم النحر وراء الناس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب البيت يصلي ويقرأ في صلاته " والطور * وكتاب مسطور "؟ هذا من المحال ، فإن هذه الصلاة والقراءة كانت في صلاة الفجر، أو المغرب ، أو العشاء ، وأما أنها كانت يوم النحر ، ولم يكن ذلك الوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قطعاً ، فهذا من وهمه رحمه الله . فطافت عائشة في ذلك اليوم طوافاً واحداً ، وسعت سعياً واحداً أجزأها عن حجتها وعمرتها ، وطافت صفية ذلك اليوم ، ثم حاضت فأجزأها طوافها ذلك عن طواف الوداع ، ولم تودع ، فاسقرت سنته صلى الله عليه وسلم فى المرأة الطاهرة إذا حاضت قبل الطواف - أو قبل الوقوف -، أن تقترن ، وتكتفي بطواف واحد ، وسعي واحد ، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة اجتزأت به عن طواف الوداع .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:40 PM
رجوعه إلى منى وبيتوتته بها
فصل
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى من يومه ذلك ، فبات بها، فلما أصبح ، انتظر زوال الشمس ، فلما زالت ، مشى من رحله إلى الجمار ، ولم يركب ، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ، فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة ، يقول مع كل حصاة: "الله أكبر" ، ثم تقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل ، فقام مستقبل القبلة ، ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلاً بقدر سورة البقرة، ثم أتى إلى الجمرة الوسطى، فرماها كذلك ، ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي ، فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو قريباً من وقوفه الأول ، ثم أتى الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة ، فاستبطن الوادي ، واستعرض الجمرة ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، فرماها بسبع حصيات كذلك .
ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال ، ولا جعلها عن يمينه واستقبل البيت وقت الرمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء .
فلما أكمل الرمي ، رجع من فوره ولم يقف عندها، فقيل : لضيق المكان بالجبل ، وقيل وهو أصح : إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى، جمرة العقبة ، فرغ الرمي ، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة، إذ كان يدعو في صلبها ، فأما بعد الفراغ منها، فلم يثبت عنه أنه كان يعتاد الدعاء، ومن روى عنه ذلك ، فقد غلط عليه ، وإن روي في غير الصحيح أنه كان أحياناً يدعو بدعاء عارض بعد السلام ، وفي صحته نظر.
وبالجملة : فلا ريب أن عامة أدعيته التي كان يدعو بها، وعلمها الصديق ، إنما هي في صلب الصلاة، وأما حديث معاذ بن جبل : " لا تنس أن تقول دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك ، وحسن عبادتك "، فدبر الصلاة يراد به آخرها قبل السلام منها، كدبر الحيوان ، ويراد به ما بعد السلام كقوله : " تسبحون الله وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ": الحديث . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:41 PM
ميل المصنف إلى أنه صلى الله عليه وسلم رمى قبل الصلاة
فصل
ولم يزل في نفسي ، هل كان يرمي قبل صلاة الظهر أو بعدها ؟ والذي يغلب على الظن ، أنه كانه يرمي قبل الصلاة، ثم يرجع فيصلي ، لأن جابراً وغيره كان يرمي قالوا : كان يرمي إذا زالت الشمس ، فعقبوا زوال الشمس برميه . وأيضاً ، فإن وقت الزوال للرمي أيام منى ، كطلوع الشمس لرمي يوم النحر ، والنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر لما دخل وقت الرمي ، لم يقدم عليه شيئاً من عبادات ذلك اليوم ، وأيضاً فإن الترمذي ، وابن ماجه ، رويا في سننهما عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار إذا زالت الشمس . زاد ابن ماجه : قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر. وقال الترمذي : حديث حسن ، ولكن في إسناد حديث الترمذي الحجاج بن أرطاة، وفي إسناد حديث ابن ماجه ابراهيم بن عثمان أبو شيبة، ولا يحتج به ولكن ليس في الباب غير هذا . وذكر الإمام أحمد أنه كان يرمي يوم النحر راكباً ، وأيام منى ماشياً في ذهابه ورجوعه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:42 PM
وقفات الدعاء في الحج
فصل
فقد تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء.
الموقف الأول : على الصفا ، والثاني : على المروة ، والثالث : بعرفة ، والرابع : بمزدلفة ، والخامس : عند الجمرة الأولى، والسادس : عند الجمرة الثانية .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:42 PM
خطبه في أيام الحج
فصل
وخطب صلى الله عليه وسلم الناس بمنى خطبتين : خطبة يوم النحر وقد تقدمت والخطبة الثانية : في أوسط أيام التشريق ، فقيل : هو ثاني يوم النحر، وهو أوسطها، أي : خيارها ، واحتج من قال ذلك : بحديث سراء بنت نبهان ، "قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أتدرون أي يوم هذا؟ قالت : وهو اليوم الذي تدعون يوم الرؤوس . قالوا : الله ورسوله أعلم قال : هذا أوسط أيام التشريق . هل تدرون أي بلد هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هذا المشعر الحرام . ثم قال : إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، ألا وإن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، حتى تلقوا ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم ، ألا هل بلغت " فلما قدمنا المدينة، لم يلبث إلا قليلاً حتى مات صلى الله عليه وسلم. رواه ابو داود ويوم الروؤس : هو ثاني يوم النحر بالاتفاق .
وذكر البيهقي ، من حديث موسى بن عبيدة الربذي ، عن صدقة بن يسار ، عن ابن عمر ، قال : أنزلت هذه السورة، " إذا جاء نصر الله والفتح " على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق ، وعرف أنه الوداع ، فأمر براحلته القصواء ، فرحلت ، واجتمع الناس فقال : "يا أيها الناس" ثم ذكر الحديث في خطبته .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:44 PM
ترخيص النبي البيتوتة خارج منى لمن له عذر
فصل
واستأذنه العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، فأذن له . واستأذنه رعاء الإبل في البيتوتة خارج منى عند الإبل، فأرخص لهم أن يرموا يوم النحر ، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما .
قال مالك : ظننت أنه قال : في أول يوم منهما، ثم يرمون يوم النفر . وقال ابن عيينة : في هذا الحديث رخص للرعاء أن يرموا يوماً ، ويدعوا يوماً فيجوز للطائفتين بالسنة ترك المبيت بمنى ، وأما الرمي ، فإنهم لا يتركونه ، بل لهم أن يؤخروه إلى الليل ، فيرمون فيه ، ولهم أن يجمعوا رمي يومين في يوم ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لأهل السقاية ، وللرعاء في البيتوتة، فمن له مال يخاف ضياعه ، أو مريض يخاف من تخلفه عنه ، أو كان مريضاً لا تمكنه البيتوتة ، سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:50 PM
عمرة عائشة من التنعيم
فصل
ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين ، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة ، وأفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المحصب ، وهو الأبطح ، وهو خيف بني كنانة، فوجد أبا رافع وقد ضرب له فيه قبة هناك ، وكان على ثقله توفيقاً من الله عز وجل ، دون أن يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلاً سحراً، ولم يرمل في هذا الطواف، وأخبرته صفية أنها حائض ، فقال : "أحابستنا هي" فقالوا له : إنها قد أفاضت قال : "فلتنفر إذا". ورغبت إليه عائشة تلك الليلة أن يعمرها عمرة مفردة ، فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأ عن حجها وعمرتها ، فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم ، ففرغت من عمرتها ليلاً ثم وافت المحصب مع أخيها، فأتيا في جوف الليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فرغتما"؟ قالت : نعم ، فنادى بالرحيل في أصحابه ، فارتحل الناس ، ثم طاف بالبيت قبل صلاة الصبح . هذا لفظ البخاري .
فإن قيل : كيف تجمعون بين هذا، وبين حديث الأسود عنها الذي في الصحيح أيضاً ؟ قالت : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم نر إلا الحج . فذكرت الحديث ، وفيه : فلما كانت ليلة الحصبة، قلت : يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع أنا بحجة ؟ قال : أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة ؟ قالت : قلت : لا. قال : فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم ، فأهلي بعمرة ثم موعدك مكان كذا وكذا، قالت عائشة : فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة ، وأنا منهبطة عليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها ". ففي هذا الحديث ، أنهما تلاقيا في الطريق ، وفي الأول ، أنه انتظرها في منزله ، فلما جاءت نادى بالرحيل في أصحابه . ثم فيه إشكال آخر، وهو قولها : لقيني وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها ، أو بالعكس ، فإن كان الأول ، فيكون قد لقيها مصعداً منها راجعاً إلى المدينة، وهي منهبطة عليها للعمرة، وهذا ينافي انتظاره لها بالمحصب . قال أبو محمد بن حزم : الصواب الذي لا شك فيه ، أنها كانت مصعدة من مكة ، وهو منهبط ، لأنها تقدمت إلى العمرة، وانتظرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جائت ، ثم نهض إلى طواف الوداع ، فلقيها منصرفة إلى المحصب عن مكة ، وهذا لا يصح ، فإنها قالت : وهو منهبط منها، وهذا يقتضي أن يكون بعد المحصب ، والخروح من مكة ، فكيف يقول أبو محمد: إنه نهض إلى طواف الوداع وهو منهبط من مكة ؟ هذا محال . وأبو محمد، لم يحج . وحديث القاسم عنها صريح كما تقدم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتظرها في منزله بعد النفر حتى جاءت ، فارتحل ، وأذن في الناس بالرحيل ، فإن كان حديث الأسود هذا محفوظاً، فصوابه : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا مصعدة من مكة، وهو منهبط إليها، فإنها طافت وقضت عمرتها، ثم أصعدت لميعاده ، فوافته قد أخذ في الهبوط إلى مكة للوداع ، فارتحل ، وأذن في الناس بالرحيل ، ولا وجه لحديث الأسود غير هذا ، وقد جمع بينهما بجمعين آخرين ، وهما وهم . أحدهما : أنه طاف للوداع مرتين : مرة بعد أن بعثها، وقبل فراغها ، ومرة بعد فراغها للوداع ، وهذا مع أنه وهم بين ، فإنه لا يرفع الإشكال ، بل يزيده فتأمله .
الثاني : أنه انتقل من المحصب إلى ظهر العقبة خوف المشقة على المسلمين في التحصيب ، فلقيتة وهي منهبطة إلى مكة، وهو مصعد إلى العقبة ، وهذا أقبح من الأول ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من العقبة أصلاً ، وإنما خرج من أسفل مكة من الثنية السفلى بالإتفاق . وأيضاً : فعلى تقدير ذلك ، لا يحصل الجمع بين الحديثين . وذكر أبو محمد بن حزم ، أنه رجع بعد خروجه من أسفل مكة إلى المحصب ، وأمر بالرحيل ، وهذا وهم أيضاً ، لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وداعه إلى المحصب ، وإنما مر من فوره إلى المدينة . وذكر في بعض تآليفه ، أنه فعل ذلك ، ليكون كالمحلق على مكة بدائرة في دخوله وخروجه ، فإنه بات بذي طوى، ثم دخل من أعلى مكة، ثم خرج من أسفلها ، ثم رجع إلى المحصب ، ويكون هذا الرجوع من يماني مكة حتى تحصل الدائرة ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاء ، نزل بذي طوى، ثم أتى مكة من كداء، ثم نزل به لما فرغ من الطواف ، ثم لما فرغ من جميع النسك ، نزل به ، ثم خرح من أسفل مكة وأخذ من يمينها حتى أتى المحصب ، ويحمل أمره بالرحيل ثانياً على أنه لقي في رجوعه ذلك إلى المحصب قوماً لم يرحلوا ، فأمرهم بالرحيل ، وتوجه من فوره ذلك إلى المدينة . ولقد شان أبو محمد نفسه وكتابه بهذا الهذيان البارد السمج الذي يضحك منه ، ولولا التنبيه على أغلاط من غلط عليه صلى الله عليه وسلم . لرغبنا عن ذكر مثل هذا الكلام ، والذي كأنك تراه من فعله أنه نزل بالمحصب ، وصلى به الظهر، والعصر ، والمغرب ، والعشاء، ورقد رقدة، ثم نهض إلى مكة، وطاف بها طواف الوداع ليلاً، ثم خرح من أسفلها إلى المدينة، ولم يرجع إلى المحصب ، ولا دار دائرة ففي صحيح البخاري : عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى الظهر، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ورقد رقدة بالمحصب ، ثم ركب إلى البيت ، وطاف به . وفي الصحيحين : "عن عائشة . خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكرت الحديث ، ثم قالت : حين قضى الله الحج ، ونفرنا من منى، فنزلنا بالمحصب فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له : اخرج بأختك من الحرم ، ثم افرغا من طوافكما، ثم ائتياني ها هنا بالمحصب . قالت : فقضى الله العمرة، وفرغنا من طوافنا في جوف الليل ، فأتيناه بالمحصب . فقال : فرغتما؟ قلنا : نعم . فأذن في الناس بالرحيل ، فمر بالبيت فطاف به ، ثم ارتحل متوجهاً إلى المدينة ". فهذا من أصح حديث على وجه الأرض، وأدله على فساد ما ذكر ابن حزم ، وغيره من تلك التقديرات التي لم يقع شيء منها، ودليل على أن حديث الأسود غير محفوظ ، وإن كان محفوظاً ، فلا وجه له غير ما ذكرنا وبالله التوفيق . وقد اختلف السلف في التحصيب هل هو سنة، أو منزل اتفاق؟ على قولين . فقالت طائفة: هو من سنن الحج ، فإن في الصحيحين عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى : "نحن نازلون غداً إن شاء الله بخيف ، بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر". يعني بذلك المحصب ، وذلك أن قريشاً وبني كنانة ، تقاسموا على بني هاشم ، وبني المطلب ، ألا يناكحوهم ، ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله ورسوله ، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه ، أن يقيم شعائر التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تبنى مسجد الطائف موضع اللات والعزى . قالوا: وفي صحيح مسلم : عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر، وعمر ، كانوا ينزلونه . وفي رواية لمسلم ، عنه : أنه كان يرى التحصيب سنة . وقال البخاري عن ابن عمر : كان يصلي به الظهر، والعصر، والمغرب ، والعشاء، ويهجع ، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . وذهب آخرون ، منهم ابن عباس ، وعائشة، إلى أنه ليس بسنة، وإنما هو منزل اتفاق ، ففي الصحيحين : عن ابن عباس ، ليس المحصب بشيء ، وإنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه . وفي صحيح مسلم : عن أبي رافع ، لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل بمن معي بالأبطح ، ولكن أنا ضربت قبته ، ثم جاء فنزل . فأنزل الله فيه بتوفيقه ، تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة" ، وتنفيذاً لما عزم عليه ، وموافقة منه لرسوله صلوات الله وسلامه عليه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:52 PM
بحث في الدخول بالكعبة
ها هنا ثلاث مسائل : هل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت في حجته ، أم لا؟ وهل وقف في الملتزم بعد الوداع ، أم لا ؟ وهل صلى الصبح ليلة الوداع بمكة ، أو خارجاً منها ؟ فأما المسألة الأولى، فزعم كثير من الفقهاء وغيرهم ، أنه دخل البيت في حجته ، ويرى كثير من الناس أن دخول البيت من سنن الحج اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والذي تدل عليه سنته ، أنه لم يدخل البيت في حجته ولا في عمرته ، وإنما دخله عام الفتح ، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقة لأسامة، حتى أناخ بفناء الكعبة، فدعا عثمان بن طلحة بالمفتاح، فجاءه به ، ففتح ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأسامة، وبلال ، وعثمان بن طلحة، فأجافوا عليهم الباب ملياً ، ثم فتحوه . قال عبد الله : فبادرت الناس ، فوجدت بلالاً على الباب . فقلت : أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بين العمودين المقدمين . قال : ونسيت أن أسأله ، كم صلى . وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما قدم مكة ، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، قال : فأمر بها فأخرجت ، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط ". قال : فدخل البيت ، فكبر في نواحيه ، ولم يصل فيه. فقيل : كان ذلك دخولين ، صلى في أحدهما ، ولم يصل في الآخر . وهذه طريقة ضعفاء النقد، كلما رأوا اختلاف لفظ ، جعلوه قصة أخرى ، كما جعلوا الإسراء مراراً لإختلاف ألفاظه ، وجعلوا اشتراءه من جابر بعيره مراراً ، لاختلاف ألفاظه ، وجعلوا طواف الوداع مرتين لاختلاف سياقه ، ونظائر ذلك . وأما الجهابذة النقاد، فيرغبون عن هذه الطريقة ، ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط ونسبته إلى الوهم ، قال البخاري وغيره من الأئمة : والقول قول بلال ، لأنه مثبت شاهد صلاته ، بخلاف ابن عباس . والمقصود : أن دخوله البيت إنما كان في غزوة الفتح ، لا في حجه ولا عمره ، وفي صحيح البخاري ، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال : قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته البيت ؟ قال : لا . وقالت عائشة : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين ، طيب النفس ، ثم رجع إلي وهو حزين القلب، فقلت: يا رسول الله خرجت من عندي وأنت كذا وكذا . فقال : إني دخلت الكعبة، ووددت أني لم أكن فعلت ، إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي ، فهذا ليس فيه أنه كان فيه حجته ، بل إذا تأملته حق التأمل ، أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح ، والله أعلم ، وسألته عائشة أن تدخل البيت ، فأمرها أن تصلي في الحجر ركعتين .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:52 PM
بحث الوقوف بالملتزم
فصل
وأما المسألة الثانية : وهي وقوفه في الملتزم ، فالذي روي عنه ، أنه فعله يوم الفتح ، ففي سنن أبي داود ، عن عبد الرحمن بن أبي صفوان ، قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، انطلقت ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد خرح من الكعبة هو وأصحابه وقد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ، ووضعوا خدودهم على البيت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم . وروى أبو داود أيضاً : من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . قال : طفت مع عبد الله ، فلما حاذى دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ ؟ قال : نعود من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب ، فوضع صدره ووجهه وذراعيه هكذا ، وبسطهما بسطاً ، وقال : هكذا رأيت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله .
فهذا يحتمل أن يكون في وقت الوداع ، وأن يكون في غيره ، ولكن قال مجاهد والشافعي بعده وغيرهما: إنه يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو، وكان ابن عباس رضي عنهما يلتزم ما بين الركن والباب ، وكان يقول : لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:53 PM
بحث في موضع صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع
فصل
وأما المسألة الثالثة : وهي موضع صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع ، ففي الصحيحين : عن أم سلمة، قالت : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي ، فقال: " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" . قالت : فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت ، وهو يقرأ بـ " والطور * وكتاب مسطور " فهذا يحتمل أن يكون في الفجر وفي غيرها ، وأن يكون في طواف الوداع وغيره ، فنظرنا في ذلك ، فإذا البخاري قد روى في صحيحه في هذه القصة، أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج ، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت ، وأرادت الخروج ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت صلاة الصبح ، فطوفي على بعيرك ، والناس يصلون" ، ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت . وهذا محال قطعاً أن يكون يوم النحر، فهو طواف الوداع بلا ريب ، فظهر أنه صلى الصبح يومئذ عند البيت ، وسمعته أم سلمة يقرأ فيها بالطور .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:54 PM
ارتحاله إلى المدينة
فصل
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة ، فلما كان بالروحاء ، لقي ركباً ، فسلم عليهم ، وقال : "من القوم"؟ فقالوا : المسلمون، قالوا : فمن القوم؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفعت امرأة صبياً لها من محفتها ، فقال : يا رسول الله؟ ألهذا حج ؟ قال : "نعم ، ولك أجر". فلما أتى ذا الحليفة ، بات بها ، فلما رأى المدينة ، كبر ثلاث مرات ، وقال : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون ، لربنا حامدون ، صدق الله وعده، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " . ثم دخلها نهاراً من طريق المعرس ، وخرح من طريق الشجرة والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:54 PM
فصل في الأوهام
فمنها: وهم لأبي محمد بن حزم في حجة الوداع ، حيث قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وقت خروجه "أن عمرة في رمضان تعدل حجة " وهذا وهم ظاهر ، فإنه خروجه فإنه إنما قال ذلك بعد رجوعه إلى المدينة من حجته ، إذ قال لأم سنان الأنصارية ما منعك أن تكوني حججتي معنا ؟ قالت : لم يكن لنا إلا ناضحان ، فحج أبو ولدي وابني على ناضح ، وترك لنا ناضحاً ننضح عليه . قال : "فإذا جاء رمضان فاعتمري ، فإن عمرة في رمضان تقضي حجه " : هكذا رواه مسلم في صحيحه .
وكذلك أيضاً قال هذا لأم معقل بعد رجوعه إلى المدينة، كما رواه أبو داود، من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن جدته أم معقل ، قالت : لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، وكان وكان لنا جمل ، فجعله أبو معقل في سبيل الله ، فأصابنا مرض ، فهلك أبو معقل ، وخرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من حجته ، فقال : "ما منعك أن تخرجي معنا"؟ فقالت : لقد تهيأنا، فهلك أبو معقل ، وكان لنا جمل وهو الذي نحج عليه ، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله . قال : "فهلا خرجت عليه ؟ فإن الحج في سبيل الله ، فأما إذ فاتتك هذه الحجة معنا فاعتمري في رمضان ، فإنها كحجة" .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:55 PM
من الأوهام أنه خرج لست بقين من ذي القعدة
ومنها وهم آخر له ، وهو أن خروجه كان يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة ، وقد تقدم أنه خرج لخمس ، وإن خروجه كان يوم السبت .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:55 PM
ومنها وهم آخر لبعضهم أنه خرج يوم الجمعة بعد الصلاة
ومنها وهم آخر لبعضهم ، ذكر الطبري في حجة الوداع أنه خرج يوم الجمعة بعد الصلاة . والذي حمله على هذا الوهم القبيح ، قوله في الحديث : خرج لست بقين ، فظن أن هذا لا يمكن إلا أن يكون الخروح يوم الجمعة، إذ تمام الست يوم الأربعاء، وأول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا ريب ، وهذا خطأ فاحش ، فإنه من المعلوم الذي لا ريب فيه ، أنه صلى الظهر يوم خروجه بالمدينة أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثبت ذلك في الصحيحين . وحكى الطبري في حجته قولاً ثالثاً: إن خروجه كان يوم السبت ، وهو اختيار الواقدي ، وهو القول الذي رجحناه أولاً ، لكن الواقدي ، وهم في ذلك ثلاثة أوهام ، أحدها : أنه زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم خروجه الظهر بذي الحليفة ركعتين ، الوهم الثاني : أنه أحرم ذلك اليوم عقيب صلاة الظهر، وإنما أحرم من الغد بعد أن بات بذي الحليفة ، الوهم الثالث : أن الوقفة كانت يوم السبت ، وهذا لم يقله غيره ، وهو وهم بين .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:56 PM
ومنها وهم أنه صلى الله عليه وسلم ، تطيب هناك قبل غسله ، ثم غسل الطيب عنه لما اغتسل
ومنها وهم للقاضي عياض رحمه الله وغيره ، أنه صلى الله عليه وسلم ، تطيب هناك قبل غسله ، ثم غسل الطيب عنه لما اغتسل . ومنشأ هذا الوهم ، من سياق ما وقع في صحيح مسلم في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم طاف على نسائه بعد ذلك ثم أصبح محرماً ". والذي يرد هذا الوهم ، قولها : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه ، وقولها : كأني أنظر إلى وبيص الطيب ، أي : بريقه في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ، وفي لفظ : وهو يلبي بعد ثلاث من إحرامه ، وفي لفظ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا أراد أن يحرم ، تطيب بأطيب ما يجد ، ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك ، وكل هذه الألفاظ ألفاظ الصحيح . وأما الحديث الذي احتج به ، فإنه حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه ، عنها: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف على نسائه ثم يصبح محرماً. وهذا ليس فيه ما يمنع الطيب الثاني عند إحرامه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:57 PM
ومنها وهم آخر أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قبل الظهر
فصل
ومنها: وهم آخر لأبي محمد بن حزم أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قبل الظهر وهو وهم ظاهر، لم ينقل في شيء من الأحاديث ، وإنما أهل عقيب صلاة الظهر في موضع مصلاه ، ثم ركب ناقته ، واستوت به على البيداء وهو يهل ، وهذا يقيناً كان بعد صلاة الظهر، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:58 PM
ومنها وهم آخر له وهو قوله : وساق الهدي مع نفسه
فصل
ومنها وهم آخر له وهو قوله : وساق الهدي مع نفسه ، وكان هدي تطوع ، وهذا بناء منه على أصله الذي انفرد به عن الأئمة، أن القارن لا يلزمه هدي ، وإنما يلزم المتمتع ، وقد تقدم بطلان هذا القول .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:58 PM
ومنها : وهم آخر لمن قال : إنه لم يعين في إحرامه نسكاً بل أطلقه
فصل
ومنها : وهم آخر لمن قال : إنه لم يعين في إحرامه نسكاً ، بل أطلقه ، ووهم من قال : إنه عين عمرة مفردة كان متمتعاً بها، كما قاله القاضي أبو يعلى، وصاحب المغني وغيرهما ، ووهم من قال : إنه عين حجاً مفرداً مجرداً لم يعتمر معه ، ووهم من قال : إنه عين عمرة، ثم أدخل عليها الحج ، ووهم من قال : إنه عين حجاً مفرداً ، ثم أدخل عليه العمرة بعد ذلك، وكان من خصائصه ، وقد تقدم بيان مستند ذلك ، ووجة الصواب فيه . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 01:59 PM
ومنها وهم آخر له وهو قوله : وساق الهدي مع نفسه
فصل
ومنها وهم آخر له وهو قوله : وساق الهدي مع نفسه ، وكان هدي تطوع ، وهذا بناء منه على أصله الذي انفرد به عن الأئمة، أن القارن لا يلزمه هدي ، وإنما يلزم المتمتع ، وقد تقدم بطلان هذا القول .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:00 PM
ومنها : وهم آخر لمن قال : إنه لم يعين في إحرامه نسكاً بل أطلقه
فصل
ومنها : وهم آخر لمن قال : إنه لم يعين في إحرامه نسكاً ، بل أطلقه ، ووهم من قال : إنه عين عمرة مفردة كان متمتعاً بها، كما قاله القاضي أبو يعلى، وصاحب المغني وغيرهما ، ووهم من قال : إنه عين حجاً مفرداً مجرداً لم يعتمر معه ، ووهم من قال : إنه عين عمرة، ثم أدخل عليها الحج ، ووهم من قال : إنه عين حجاً مفرداً ، ثم أدخل عليه العمرة بعد ذلك، وكان من خصائصه ، وقد تقدم بيان مستند ذلك ، ووجة الصواب فيه . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:00 PM
ومنها: وهم أنهم لما كانوا ببعض الطريق ، صاد أبو قتادة حماراً وحشياً ولم يكن محرماً ، فأكل منه النبي
فصل
ومنها: وهم لأحمد بن عبد الله الطبري في حجة الوداع له: أنهم لما كانوا ببعض الطريق ، صاد أبو قتادة حماراً وحشياً ولم يكن محرماً ، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إنما كان في عمرة الحديبية ، وما رواه البخاري .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:01 PM
ومنها: وهم آخر أنه دخل مكة يوم الثلاثاء
فصل
ومنها: وهم آخر لبعضهم ، حكاه الطبري عنه صلى الله عليه وسلم : أنه دخل مكة يوم الثلاثاء وهو غلط ، فإنما دخلها يوم الأحد صبح رابعة من ذي الحجة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:01 PM
ومنها : وهم من قال : إنه صلى الله عليه وسلم حل بعد طوافه وسعيه
فصل
ومنها : وهم من قال : إنه صلى الله عليه وسلم حل بعد طوافه وسعيه ، كما قاله القاضي أبو يعلى وأصحابه، وقد بينا أن مستند هذا الوهم وهم معاوية، أو من روى عنه أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمشقص على المروة في حجته .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:02 PM
ومنها : وهم من زعم ، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني في طوافه
فصل
ومنها : وهم من زعم ، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني في طوافه ، وإنما ذلك الحجر الأسود، وسماه اليماني ، لأنه يطلق عليه ، وعلى الآخر اليمانيين . فعبر بعض الرواة عنه باليماني منفرداً.
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:02 PM
ومنها : وهم فاحش أنه رمل في السعي ثلاثة أشواط ومشى أربعة
فصل
ومنها : وهم فاحش لأبي محمد بن حزم أنه رمل في السعي ثلاثة أشواط ، ومشى أربعة، وأعجب من هذا الوهم ، وهمه في حكاية الإتفاق على هذا القول الذي لم يقله أحد سواه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:03 PM
ومنها : وهم من زعم أنه طاف بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطاً
فصل
ومنها : وهم من زعم أنه طاف بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطاً ، وكان ذهابه وإيابه مرة واحدة ، وقد تقدم بيان بطلانه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:04 PM
ومنها : وهم من زعم ، أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر قبل الوقت
فصل
ومنها : وهم من زعم ، أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر قبل الوقت ، ومستند هذا الوهم ، حديث ابن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر يوم النحر قبل ميقاتها وهذا إنما أراد به قبل ميقاتها الذي كانت عادته أن يصليها فيه ، فعجلها عليه يومئذ، ولا بد من هذا التأويل ، وحديث ابن مسعود، إنما يدل على هذا ، فإنه في صحيح البخاري عنه ، أنه قال : هما صلاتان تحولان عن وقتهما : صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة ، والفجر حين يبزغ الفجر . وقال في حديث جابر في حجة الوداع : فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:04 PM
ومنها : وهم من وهم في أنه صلى الظهر والعصر يوم عرفة، والمغرب ، والعشاء ، تلك الليلة ، بأذانين وإقامت
فصل
ومنها: وهم من وهم في أنه صلى الظهر والعصر يوم عرفة، والمغرب ، والعشاء ، تلك الليلة ، بأذانين وإقامتين ، ووهم من قال . صلاهما بإقامتين بلا أذان أصلاً ، ووهم من قال : جمع بينهما بإقامة واحدة ، والصحيح : أنه صلاهما بأذان واحد، وإقامة لكل صلاة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:05 PM
ومنها : وهم من زعم أنه خطب بعرفة خطبتين
فصل
ومنها: وهم من زعم أنه خطب بعرفة خطبتين ، جلس بينهما، ثم أذن المؤذن ، فلما فرغ ، أخذ في الخطبة الثانية، فلما فرغ منهما ، أقام الصلاة ، وهذا لم يجيء في شييء من الأحاديث البتة، وحديث جابر صريح ، في أنه لما أكمل خطبته أذن بلال ، وأقام الصلاة ، فصلى الظهر بعد الخطبة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:05 PM
ومنها : وهم أنه لما صعد، أذن المؤذن ، فلما فرغ ، قام فخطب
فصل
ومنها : وهم لأبي ثور أنه لما صعد، أذن المؤذن ، فلما فرغ ، قام فخطب ، وهذا وهم ظاهر، فإن الأذان إنما كان بعد الخطبة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:05 PM
ومنها : وهم من روى ، أنه قدم أم سلمة ليلة النحر وأمرها أن توافيه صلاة الصبح بمكة
فصل
ومنها : وهم من روى ، أنه قدم أم سلمة ليلة النحر، وأمرها أن توافيه صلاة الصبح بمكة ، وقد تقدم بيانه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:06 PM
ومنها : وهم من زعم ، أنه أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل
فصل
ومنها: وهم من زعم ، أنه أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل ، وقد تقدم بيان ذلك ، وأن الذي أخره إلى الليل ، إنما هو طواف الوداع ، ومستند هذا الوهم - والله أعلم - أن عائشة قالت : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه ، كذلك قال عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عنها، فحمل عنها على المعنى ، وقيل : أخر طواف الزيارة إلى الليل .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:07 PM
ومنها : وهم من وهم وقال : إنه أفاض مرتين : مرة بالنهار، ومرة مع نسائه بالليل
فصل
ومنها : وهم من وهم وقال : إنه أفاض مرتين : مرة بالنهار، ومرة مع نسائه بالليل ، ومستند هذا الوهم ، ما رواه عمر بن قيس، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أذن لأصحابه ، فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة ، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلاً . وهذا غلط ، والصحيح عن عاثشة خلاف هذا: أنه أفاض نهاراً إفاضة واحدة، وهذه طريقة وخيمة جداً، سلكها ضعاف أهل العلم المتمسكون بأذيال التقليد والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:08 PM
ومنها : وهم من زعم ، أنه طاف للقدوم يوم النحر ثم طاف بعده للزيارة
فصل
ومنها : وهم من زعم ، أنه طاف للقدوم يوم النحر ثم طاف بعده للزيارة ، وقد تقدم مستند ذلك وبطلانه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:08 PM
ومنها وهم من زعم أنه يومئذ سعى مع هذا الطواف
فصل
ومنها وهم من زعم أنه يومئذ سعى مع هذا الطواف . واحتج بذلك على أن القارن يحتاج إلى سعيين ، وقد تقدم بطلان ذلك عنه ، وأنه لم يسع إلا سعياً واحداً ، كما قالت عائشة وجابر رضي الله عنهما .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:09 PM
ومنها: على القول الراجح وهم من قال : أنه صلى الظهر يوم النحر بمكة
فصل
ومنها: على القول الراجح ، وهم من قال : أنه صلى الظهر يوم النحر بمكة ، والصحيح : أنه صلاها بمنى كما تقدم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:09 PM
ومنها : وهم من أنه لم يسرع في وادي محسر حين أفاض من جمع إلى منى
فصل
ومنها : وهم من أنه لم يسرع في وادي محسر حين أفاض من جمع إلى منى، وأن ذلك إنما هو فعل الأعراب ، ومستند هذا الوهم قول ابن عباس : إنما كان بدء الإيضاع من قبل أهل البادية، كانوا يقفون حافتي الناس حتى قد علقوا القعاب والعصي والجعاب ، فإذا أفاضوا، تقعقعت تلك فنفروا بالناس ، ولقد رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن ذفري ناقته ليمس حاركها وهو يقول : "يا أيها الناس عليكم السكينة ". وفي رواية "إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل ، فعليكم بالسكينة ، فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى" رواه أبو داود . ولذلك أنكره طاووس والشعبي ، قال الشعبي: حدثني أسامة بن زيد، أنه أفاض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، فلم ترفع راحلته رجلها عادية حتى بلغ جمعاً . قال: وحدثني الفضل بن عباس ، أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع ، فلم ترفع راحلته رجلها عادية حتى رمى الجمرة . وقال عطاء : إنما أحدث هؤلاء الإسراع ، يريدون أن يفوتوا الغبار. ومنشأ هذا الوهم اشتباه الإيضاع وقت الدفع من عرفة الذي يفعله الأعراب وجفاة الناس بالإيضاع في وادي محسر ، فإن الإيضاع هناك بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل نهى عنه ، والإيضاع في وادي محسر سنة نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر، وعلي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم ، وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان ابن الزبير يوضع أشد الإيضاع ، وفعلته عائشة وغيرهم من الصحابة، والقول في هذا قول من أثبت ، لا قول من نفى . والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:09 PM
ومنها وهم أنه كان يفيض كل ليلة من ليالي منى إلى البيت
فصل
ومنها وهم طاووس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة من ليالي منى إلى البيت ، وقال البخاري في صحيحه ويذكر عن أبي حسان ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى ورواه ابن عرعرة، قال : دفع إلينا معاذ بن هشام كتاباً قال : سمعته من أبي ولم يقرأه ، قال : وكان فيه عن أبي حسان ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما دام بمنى . قال : وما رأيت أحداً واطأه عليه انتهى . ورواه الثوري في جامعه عن ابن طاووس عن أبيه مرسلاً ، وهو وهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى مكة بعد أن طاف للإفاضة ، وبقي في منى إلى حين الوداع ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:10 PM
ومنها وهم من قال : إنه ودع مرتين
فصل
ومنها وهم من قال : إنه ودع مرتين . ووهم من قال : إنه جعل مكة دائرة في دخوله وخروجه ، فبات بذي طوى ، ثم دخل من أعلاها ، ثم خرج من أسفلها ، ثم رجع إلى المحصب عن يمين مكة، فكملت الدائرة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:11 PM
ومنها وهم من زعم أنه انتقل من المحصب إلى ظهر الكعبة
فصل
ومنها وهم من زعم أنه انتقل من المحصب إلى ظهر الكعبة، فهذه كلها من الأوهام نبهنا عليها مفصلاً ومجملاً وبالله التوفيق .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:11 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الهدايا والضحايا والعقيقة
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الهدايا والضحايا والعقيقة
وهي مختصة بالأزواج الثمانية المذكورة في سورة [ الأنعام ] ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة هدي ، ولا أضحية ، ولا عقيقة من غيرها ، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع أربع آيات .
إحداهما : قوله تعالى : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " [المائدة : 1]. و الثانية: قوله تعالى : " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " [ الحج : 28 ] . والثالثة : قوله تعالى :" ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * ثمانية أزواج " [الأنعام : 142 ، 143] ثم ذكرها .
الرابعة : قوله تعالى : " هديا بالغ الكعبة " [ المائدة : 95 ] .
فدل على أن الذي يبلغ الكعبة من الهدي هو هذه الأزواج الثمانية وهذا استنباط علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
والذبائح التي هي قربة إلى الله وعبادة : هي ثلاثة : الهدي ، والأضحية ، والعقيقة . فأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم ، وأهدى الإبل ، وأهدى عن نسائه البقر وأهدى في مقامه ، وفي عمرته وفي حجته ، وكانت سنته تقليد الغنم دون إشعارها . وكان إذا بعث بهديه وهو مقيم لم يحرم عليه شيء كان منه حلالاً . وكان إذا أهدى الإبل ، قلدها وأشعرها ، فيشق صفحة سنامها الأيمن يسيراً حتى يسيل الدم . قال الشافعي : والإشعار في الصفحة اليمنى ، كذلك أشعر النبي صلى الله عليه وسلم . وكان إذا بعث بهديه ، أمر رسوله إذا أشرف على عطب شيء منه أن ينحره ، ثم يصبغ نعله في دمه ، ثم يجعله على صفحته ، ولا يأكل منه هو ، ولا أحد من أهل رفقته ثم يقسم لحمه ، ومنعه من هذا الأكل سداً للذريعة ، فإنه لعله ربما قصر في حفظه ليشارف العطب ، فينحره ، ويأكل منه ، فإذا علم أنه لا يأكل منه شيئاً ، اجتهد في حفظه . وشرك بين أصحابه في الهدي كما تقدم : البدنة عن سبعة ، والبقرة كذلك . وأباح لسائق الهدي ركوبه بالمعروف إذا احتاج إليه حتى يجد ظهراً غيره وقال علي رضي الله عنه : يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها . وكان هديه صلى الله عليه وسلم في نحر الإبل قياماً ، مقيدة، معقولة اليسرى ، على ثلاث ، وكان يسمي الله عند نحره ، ويكبر، وكان يذبح نسكه بيده ، وربما وكل في بعضه ، كما أمر علياً رضي الله عنه أن يذبح ما بقي من المائة. وكان إذا ذبح الغنم ، وضع قدمه على صفاحها ثم سمى، وكبر وذبح ، وقد تقدم أنه نحر بمنى وقال : "إن فجاج مكة كلها منحر" وقال ابن عباس : مناحر البدن بمكة ، ولكنها نزهت عن الدماء ، ومنى من مكة ، وكان ابن عباس ينحر بمكة . وأباح صلى الله عليه وسلم لأمته أن يأكلوا من هداياهم وضحاياهم ، ويتزودوا منها ، ونهاهم مرة أن يدخروا منها بعد ثلاث لدافة دفت عليهم ذلك العام من الناس ، فأحب أن يوسعوا عليهم . وذكر أبو داود من حديث جبير بن نفير، عن ثوبان قال : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال : "ياثوبان أصلح لنا لحم هذه الشاة " قال : فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة . وروى مسلم هذه القصة، ولفظه فيها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له في حجة الوداع : "أصلح هذا اللحم " قال : فأصلحته ، فلم يزل يأكل منه حتى بلغ المدينة . وكان ربما قسم لحوم الهدي ، وربما قال : "من شاء اقتطع" فعل هذا ، وفعل هذا، واستدل بهذا على جواز النهبة في النثار في العرس ونحوه ، وفرق بينهما بما لا يتبين .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:12 PM
فصل في ذبح هدي المتمتع أو القارن
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ذبح هدي العمرة عند المروة، وهدي القران بمنى ، وكذلك كان ابن عمر يفعل ، ولم ينحر هديه صلى الله عليه وسلم قط إلا بعد أن حل ، ولم ينحره قبل يوم النحر، ولا أحد من الصحابة البتة، ولم ينحره أيضاً إلا بعد طلوع الشمس ، وبعد الرمي ، فهي أربعة أمور مرتبة يوم النحر، أولها : الرمي ، ثم النحر، ثم الحلق ، ثم الطواف ، وهكذا رتبها صلى الله عليه وسلم ولم يرخص في النحر طلوع الشمس البتة ، ولا ريب أن ذلك مخالف لهديه ، فحكمه حكم الأضحية إذا ذبحت قبل طلوع الشمس .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:12 PM
فصل في هديه في الأضاحي
فصل
وأما هديه في الأضاحي
فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الأضحية، وكان يضحي بكبشين ، وكان ينحرهما بعد صلاة العيد ، وأخبر أن "من ذبح قبل الصلاة ، فليس من النسك في شيء ، وإنما هو لحم قدمه لأهله . هذا الذي دلت عليه سنته وهديه ، لا الاعتبار بوقت الصلاة والخطبة ، بل بنفس فعلها ، وهذا هو الذي ندين الله به ، وأمرهم أن يذبحوا الجذع من الضأن والثني مما سواه" وهي المسنة.
وروي عنه أنه قال : "كل أيام التشريق ذبح " لكن الحديث منقطع لا يثبت وصله . وأما نهيه عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فلا يدل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط ، لأن الحديث دليل على نهي الذابح أن يدخر شيئاً فوق ثلاثة أيام من يوم ذبحه ، فلو أخر الذبح إلى اليوم الثالث ، لجاز له الادخار وقت النهى ما بينه وبين ثلاثة أيام ، والذين حددوه بالثلاث ، فهموا من نهيه عن الإدخار فوق ثلاث أن أولها من يوم النحر، قالوا : وغير جائز أن يكون الذبح مشروعاً في وقت يحرم فيه الأكل ، قالوا : ثم نسخ تحريم الأكل فبقي وقت الذبح بحاله . فيقال لهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن الادخار فوق ثلاث ، لم ينه عن التضحية بعد ثلاث ، فأين أحدهما من الآخر، ولا تلازم بين ما نهى عنه ، وبين اختصاص الذبح بثلاث لوجهين . أحدهما : أنه يسوغ الذبح في اليوم الثاني والثالث ، فيجوز له الادخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح ، ولا يتم لكم الاستدلال حتى يثبت النهي عن الذبح بعد يوم النحر، ولا سبيل لكم إلى هذا . الثاني : أنه لو ذبح في آخر جزء من يوم النحر، لساغ له حينئذ الادخار ثلاثة أيام بعده بمقتضى الحديث ، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أيام النحر يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده ، وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن ، وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح ، وامام أهل الشام الأوزاعي ، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي رحمه الله ، واختاره ابن المنذر ، ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى ، وأيام الرمي ، وأيام التشريق ، ويحرم صيامها ، فهي إخوة في هذه الأحكام ، فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع . وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كل منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح" وروى من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع ، ومن حديث أسامة بن زيد ، عن عطاء ، عن جابر. قال يعقوب بن سفيان : أسامة بن زيدعند أهل المدينة ثقة مأمون . وفي هذه المسألة أربعة أقوال ، هذا أحدها .
والثاني : أن وقت الذبح ، يوم النحر، ويومان بعده ، وهذا مذهب أحمد ، ومالك ، وأبي حنيفة رحمهم الله ، قال أحمد: هو قول غير واحد من أهل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وذكره الأثرم عن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم.
الثالث : أن وقت النحر يوم واحد، وهو قول ابن سيرين ، لأنه اختص بهذه التسمية، فدل على اختصاص حكمها به ، ولو جاز في الثلاثة ، لقيل لها : أيام النحر ، كما قيل لها : أيام الرمي ، وأيام منى ، وأيام التشريق ، ولأن العيد يضاف إلى النحر، وهو يوم واحد، كما يقال : عيد الفطر . الرابع : قول سعيد بن جبير ، وجابر بن زيد : أنه يوم واحد في الأمصار ، وثلاثة أيام في منى، لأنها هناك أيام أعمال المناسك من الرمي والطواف والحلق ، فكانت أياماً للذبح ، بخلاف أهل الأمصار.
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:13 PM
فصل ومن هديه أن من أراد التضحية ودخل يوم العشر فلا يأخذ من شعره وبشره شيئاً
فصل
ومن هديه صلى الله عليه وسلم: أن من أراد التضحية، ودخل يوم العشر، فلا يأخذ من شعره وبشره شيئاً ، ثبت النهي عن ذلك في صحيح مسلم وأما الدار قطني فقال ، الصحيح عندي أنه موقوف على أم سلمة . وكان من هديه صلى الله عليه وسلم : اختيار الأضحية ، واستحسانها ، وسلامتها من العيوب ، ونهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن ، أي : مقطوعة الأذن ، ومكسورة القرن ، النصف فيما زاد ، ذكره أبو داود وأمر أن تستشرف العين والأذن ، أي : ينظر إلى سلامتها ، وأن لا يضحى بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء . والمقابلة: هي التي قطع مقدم أذنها، والمدابرة : التي قطع مؤخر أذنها ، والشرقاء : التي شقت أذنها ، والخرقاء : التي خرقت أذنها . ذكره أبو داود . وذكر عنه أيضاً "أربع لا تجزىء في الأضاحي : العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والكسيرة التي لا تنقي ، والعفجاء التي لا تنقي" أي : من هزالها لا مخ فيها . وذكر أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المصفرة ، والمستأصلة ، والبخقاء ، والمشيعة ، والكسراء. فالمصفرة : التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها ، والمستأصلة : التي استؤصل قرنها من أصله ، والبخقاء : التي بخقت عينها، والمشيعة: التي لا تتبع الغنم عجفاً وضعفاً ، والكسراء الكسيرة ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:14 PM
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن يضحي بالمصلى
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يضحي بالمصلى، ذكره أبو داود عن جابر أنه شهد معه الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره ، وأتي بكبش، فذبحه بيده وقال : "بسم الله ، والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي "وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح وينحر بالمصلى . وذكر أبو داود عنه : أنه ذبح يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلما وجههما قال : "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ، وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له : وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، اللهم منك ولك ، عن محمد وأمته ، بسم الله ، والله أكبر" ثم ذبح . وأمر الناس إذا ذبحوا أن يحسنوا ، وإذا قتلوا أن يحسنوا القتلة ، وقال : "إن الله كتب الإحسان على كل شي ". وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزىء عن الرجل، وعن أهل بيته ولو كثر عددهم ، كما قال عطاء بن يسار : سألت أبا أيوب الأنصاري : كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون . قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:14 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العقيقة
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في العقيقة
في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة ، فقال : " لا أحب العقوق " وكأنه كره الإسم ، ذكره عن زيد بن أسلم ، عن رجل من بني ضمرة، عن أبيه ، قال ابن عبد البر : وأحسن أسانيده ما ذكره ذكره عبد الرزاق : أنبأ داود بن قيس، قال : سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه ، عن جده قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم . عن العقيقة ، فقال : "لا أحب العقوق " وكأنه كره الإسم قالوا : يا رسول الله ينسك أحدنا عن ولده ؟ فقال : "من أحب منكم أن ينسك عن ولده ، فليفعل : عن الغلام شاتان ، وعن الجارية شاة" . وصح عنه من حديث عائشة رضي الله عنها "عن الغلام شاتان ، وعن الجارية شاة" . وقال : "كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ، ويحلق رأسه ويسمى ". قال الإمام أحمد : معناه : أنه محبوس عن الشفاعة في أبويه ، والرهن في اللغة : الحبس ، قال تعالى : " كل نفس بما كسبت رهينة " [المدثر : 38 ] وظاهر الحديث أنه رهينة في نفسه ، ممنوع محبوس عن خير يراد به ، ولا يلزم من ذلك أن يعاقب على ذلك في الآخرة، وإن حبس بترك أبويه العقيقة عما يناله من عق عنه أبواه ، وقد يفوت الولد خير بسبب تفريط الأبوين وإن لم يكن من كسبه ، كما أنه عند الجماع إذا سمى أبوه ، لم يضر الشيطان ولده ، وإذا ترك التسمية ، لم يحصل للولد هذا الحفظ. وأيضاً فإن هذا إنما يدل على أنها لازمة لا بد منها، فشبه لزومها وعدم انفكاك المولود عنها بالرهن . وقد يستدل بهذا من يرى وجوبها كالليث بن سعد والحسن البصري ، وأهل الظاهر . والله أعلم . فإن قيل : فكيف تصنعون في رواية همام عن قتادة في هذا الحديث "ويدمى" قال همام : سئل قتادة عن قوله : و "يدمى" كيف يصنع بالدم ؟ فقال : إذا ذبحت العقيقة ، أخذت منها صوفة ، واستقبلت بها أوداجها ، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى تسيل على رأسه مثل الخيط ، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق . قيل : اختلف الناس في ذلك ، فمن قائل : هذا من رواية الحسن عن سمرة، ولا يصح سماعه عنه ، ومن قال : سماع الحسن عن سمرة حديث العقيقة هذا صحيح ، صححه الترمذي وغيره ، وقد ذكره البخاري في صحيحه عن حبيب بن الشهيد قال : قال لي محمد بن سيرين : اذهب فسل الحسن ممن سمع حديث العقيقة ؟ فسأله فقال : سمعته من سمرة . ثم اختلف في التدمية بعد : هل هي صحيحة، أو غلط ؟ على قولين . فقال أبو داود في سننه : هي وهم من همام بن يحيى. وقوله : ويدمى، إنما هو "ويسمى" وقال غيره : كان في لسان همام لثغة فقال : "ويدمى" وإنما أراد أن يسمى، وهذا لا يصح ، فإن هماماً وإن كان وهم في اللفظ ، ولم يقمه لسانه فقد حكى عن قتادة صفة التدمية ، وأنه سئل عنها فأجاب بذلك ، وهذا لا تحتمله اللثغة بوجه . فإن كان لفظ التدمية بوجه . فإن كان لفظ التدمية هنا وهماً، فهو من قتادة، أو من الحسن ، والذين أثبتوا لفظ التدمية قالوا: إنه من سنة العقيقة، وهذا مروي عن الحسن وقتادة ، والذين منعوا التدمية ، كمالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، قالوا : "ويدمي" غلط ، وإنما هو "ويسمى" قالوا : وهذا كان من عمل أهل الجاهلية، فأبطله الإسلام ، بدليل ما رواه أبو داود ، عن بريدة بن الحصيب قال : كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام ، كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران . قالوا : وهذا وإن كان في إسناده الحسين بن واقد، ولا يحتج به ، فإذا انضاف إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أميطوا عنه الأذى"والدم أذى، فكيف يأمرهم أن يلطخوه بالأذى ؟ قالوا : ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش ، ولم يدمهما، ولا كان ذلك من هديه ، وهدي أصحابه ، قالوا : وكيف يكون من سنته تنجيس رأس المولود ، وأين لهذا شاهد ونظير في سنته ، وإنما يليق هذا بأهل الجاهلية .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:15 PM
فصل في عقه عن الحسن والحسين بكبش كبش
فصل
فإن قيل : عقه عن الحسن والحسين بكبش كبش ، يدل على أن هديه أن على الرأس رأساً ، وقد صحح عبد الحق الإشبيلي من حديث ابن عباس وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن بكبش ، وعن الحسين بكبش وكان مولد الحسن عام أحد والحسين في العام القابل منه .
وروى الترمذي من حديث علي رضي الله عنه قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة، وقال : "يا فاطمة احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة" ، فوزناه فكان وزنه درهماً أو بعض درهم وهذا وإن لم يكن إسناده متصلاً فحديث أنس وابن عباس يكفيان . قالوا : لأنه نسك ، فكان على الرأس مثله ، كالأضحية ودم المتمتع . فالجواب أن أحاديث الشاتين عن الذكر، والشاة عن الأنثى، أولى أن يؤخذ بها لوجوه .
أحدها: كثرتها، فإن رواتها: عائشة، وعبد الله بن عمرو، وأم كرز الكعبية ، وأسماء . فروى أبو داود عن أم كرز قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعن الجارية شاة" . قال أبو داود: وسمعت أحمد يقول : مكافئتان : مستويتان أو مقاربتان ، قلت : هو مكافأتان بفتح الفاء ، ومكافئتان بكسرها ، والمحدثون يختارون الفتح ، قال الزمخشري : لا فرق بين الروايتين ، لأن كل من كافأته ، فقد كافأك . وروي أيضاً عنها ترفعه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أقروا الطير على مكناتها "
وسمعته يقول : "عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعن الجاريتن شاة، لا يضركم أذكراناً كن أم إناثاً " وعنها أيضا ترفعه "عن الغلام شاتان مثلان ، وعن الجارية شاة" وقال الترمذي : حديث صحيح . وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده في ذلك ، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعن الجارية شاة . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وروى إسماعيل بن عياش ، عن ثابت بن عجلان، عن مجاهد عن أسماء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يعق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة". قال مهنا : قلت لأحمد: من أسماء ؟ فقال : ينبغي أن تكون أسماء بنت أبي بكر. وفي كتاب الخلال : قال مهنا : قلت لأحمد : حدثنا خالد بن خداش، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : حدثنا عمرو بن الحارث أن أيوب بن موسى حدثه ، أن يزيد بن عبد المزني حدثه ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يعق عن الغلام ، ولا يمس رأسه بدم " وقال : "في الإبل الفرع ، وفي الغم الفرع " فقال أحمد : ما أعرفه ، ولا أعرف عبد بن يزيد المزني ، ولا هذا الحديث . فقلت له : أتنكره ؟ فقال : لا أعرفه ، وقصة الحسن والحسين رضي الله عنهما حديث واحد . الثاني : أنها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحاديث الشاتين من قوله ، وقوله عام ، وفعله يحتمل الاختصاص . الثالث : أنها متضمنة لزيادة ، فكان الأخذ بها أولى. الرابع : أن الفعل يدل على الجواز ، والقول على الاستحباب ، والأخذ بهما ممكن ، فلا وجه لتعطيل أحدهما . الخامس : أن قصة الذبح عن الحسن والحسين كانت عام أحد والعام الذي بعده ، وأم كرز سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ما روته عام الحديبية سنة ست بعد الذبح عن الحسن والحسين ، قاله النسائي في كتابه الكبير. السادس : أن قصة الحسن والحسين يحتمل أن يراد بها بيان جنس المذبوح ، وأنه من الكباش لا تخصيصه بالواحد، كما قالت عاثشة : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة، وكن تسعاً ، ومرادها : الجنس لا التخصيص بالواحدة . السابع : أن الله سبحانه فضل الذكر على الأنثى، كما قال : وليس الذكر كالأنثى [آل عمران : 137 ] ومقتضى هذا التفاضل ترجيحه عليها في الأحكام ، وقد جاءت الشريعة بهذا التفضيل في جعل الذكر كالأنثيين ، في الشهادة والميراث ، والدية ، فكذلك ألحقت العقيقة بهذه الأحكام . الثامن : أن العقيقة تشبه العتق عن المولود، فإنه رهين بعقيقته ، فالعقيقة تفكه وتعتقه ، وكان الأولى أن يعق عن الذكر بشاتين ، وعن الأنثى بشاة، كما أن عتق الأنثيين يقوم مقام عتق الذكر . كما في جامع الترمذي وغيره عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيما امرىء مسلم أعتق امرءاً مسلماً، كان فكاكه من النار، يجزي كل عضو منه عضواً منه ، وأيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار، يجزي كل عضو منهما عضواً منه ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار، يجزي كل عضو منها عضواً منها "وهذا حديث صحيح .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:15 PM
فصل في عقه عن الحسن والحسين بكبش كبش
فصل
ذكر أبو داود في المراسيل عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهما ، أن ابعثوا إلى بيت القابلة برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:16 PM
فصل هل عق النبي عن نفسه
فصل
وذكر ابن أيمن من حديث أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد أن جاءته النبوة، وهذا الحديث قال أبو داود في مسائله : سمعت أحمد حدثهم بحديث الهيثم بن جميل ، عن عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه ، فقال أحمد: عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، عق عن نفسه ، قال مهنا: قال أحمد. هذا منكر، وضعف عبد الله بن المحرر.
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:17 PM
فصل في الأذان بأذن المولود
فصل
ذكر أبو داود عن أبي رافع قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته أمه فاطمة رضي اللة عنها بالصلاة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:17 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تسمية المولود وختانه
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في تسمية المولود وختانه
قد تقدم قوله في حديث قتادة عن الحسن ، عن سمرة في العقيقة : "تذبح يوم سابعه ويسمى" قال الميموني : تذاكرنا لكم يسمى الصبي ؟ قال لنا أبو عبد الله : يروى عن أنس أنه يسمى لثلاثة، وأما سمرة، فقال : يسمى في اليوم السابع . فأما الختان ، فقال ابن عباس : كانوا لا يختنون الغلام حتى يدرك . قال الميموني : سمعت أحمد يقول : كان الحسن يكره أن يختن الصبي يوم سابعه ، وقال حنبل : إن أبا عبد الله قال : وإن ختن يوم السابع ، فلا بأس ، وإنما كره الحسن ذلك لئلا يتشبه باليهود، وليس في هذا شيء . قال مكحول : ختن إبراهيم ابنه إسحاق لسبعة أيام ، وختن إسماعيل لثلاث عشرة سنة، ذكره الخلال . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فصار ختان إسحاق سنة في ولده ، وختان إسماعيل سنة في ولده ، وقد تقدم الخلاف في ختان النبي صلى الله عليه وسلم متى كان ذلك .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:18 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا ملك إلا الله " . وثبت عنه أنه قال : "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمام ، وأقبحها حرب ومرة " . وثبت عنه أنه قال : "لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح ، فإنك تقول : أثمة هو ؟ فلا يكون ، فيقال : لا " .
وثبت عنه أنه غير اسم عاصية، وقال : "أنت جميلة". وكان اسم جويرية برة ، فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم، باسم جويرية . وقالت زينب بنت أم سلمة : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمى بهذا الاسم . فقال : "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم" . وغير اسم أصرم بزرعة ، وغير اسم أبي الحكم بأبي شريح . وغير اسم حزن جد سعيد بن المسيب وجعله سهلاً فأبى، وقال : "السهل يوطأ ويمتهن" . قال أبو داود : وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزير وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب ، فسماه هشاماً ، وسمى حرباً سلماً ، وسمى المضطجع المنبعث ، وأرضاً عفرة سماها خضرة ، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى . وبنو الزنية سماهم بني الرشدة ، وسمى بني مغوية بني رشدة.
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:19 PM
فصل في فقه الأسماء والكنى
فصل
في فقه هذا الباب
لما كانت الأسماء قوالب للمعاني ، ودالة عليها ، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك ، والواقع يشهد بخلافه ، بل للأسماء تأثير في المسميات ، وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح ، والخفة والثقل ، واللطافة والكثافة ، كما قيل :
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
وكان صلى الله عليه وسلم يستحب الاسم الحسن ، وأمر إذا أبردوا إليه بريداً أن يكون حسن الإسم حسن الوجه . وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، كما رأى أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع ، فأتو برطب من رطب ابن طاب ، فأوله بأن لهم الرفعة في الدنيا ، والعاقبة في الآخرة، وإن الدين الذي قد اختاره الله لهم قد أرطب وطاب ، وتأول سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجىء سهيل بن عمرو إليه .
وندب جماعة إلى حلب شاة، "فقام رجل يحلبها، فقال : ما اسمك ؟ قال : مرة، فقال : اجلس ، فقام آخر فقال : ما اسمك ؟ قال : أظنه حرب ، فقال : اجلس، فقام آخر فقال : ما اسمك ؟ فقال : يعيش ، فقال : احلبها ". وكان يكره الأمكنة المنكرة الأسماء ويكره العبور فيها ، كما مر في بعض غزواته بين جبلين ، فسأل عن اسميهما فقالوا : فاضح ومخز، فعدل عنهما ، ولم يجز بينهما. ولما كان بين الأسماء والمسميات من الارتباط والتناسب والقرابة ، ما بين قوالب الأشياء وحقائقها، وما بين الأروح والأجسام ، عبر العقل من كل منهما إلى الآخر ، كما كان إياس بن معاوية وغيره يرى الشخص ، فيقول: ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت ، فلا يكاد يخطىء ، وضد هذا العبور من الإسم إلى مسماه ، كما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً عن اسمه ، فقال : جمرة ، فقال : واسم أبيك ؟ قال : شهاب ، قال ممن ؟ قال : من الحرقة، قال: فمنزلك ؟ قال : بحرة النار، قال : فأين مسكنك؟ قال : بذات لظى : قال : اذهب فقد احترق مسكنك ، فذهب فوجد الأمر كذلك فعبر عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها ، كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم من اسم سهيل إلى سهوله أمرهم يوم الحديبة ، فكان الأمر كذلك ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحسين أسمائهم ، وأخبر أنهم يدعون يوم القيامة ، بها ، وفي هذا - والله أعلم - تنبيه على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء ، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسن ، والوصف الناسب له . وتأمل كيف اشتق للنبي صلى الله عليه وسلم من وصفه اسمان متطابقان لمعناه ، وهما أحمد ومحمد ، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمد ، ولشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الإسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد ، وكذلك تكنيته صلى الله عليه وسلم لأبي الحكم بن هشام بأبي جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه ، وهو أحق الخلق بهذه الكنية ، وكذلك تكنية الله عز وجل لعبد العزى بأبي لهب ، لما كان مصيره إلى نار ذات لهب ، كانت هذه الكنية أليق به وأوفق ، وهو بها أحق وأخلق . ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، واسمها يثرب لا تعرف بغير هذا الإسم ، غيره بطيبة لما زال عنها ما في لفظ يثرب من التثريب بما في معنى طيبة من الطيب ، استحقت هذا الإسم ، وزادت به طيباً آخر ، فأثر طيبها في استحقاق الاسم ، وزادها طيباً إلى طيبها . ولما كان الاسم الحسن يقتضي مسماه ، ويستدعيه من قرب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده :" يا بني عبد الله ، إن الله قد حسن اسمكم واسم أبيكم " فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بحسن اسم أبيهم ، وبما فيه من المعنى المقتضي للدعوة، وتأمل أسماء الستة المتبارزين يوم بدر كيف اقتض القدر مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفار : شيبة ، وعتبة ، والوليد، ثلاثة أسماء من الضعف ، فالوليد له بداية الضعف ، وشيبة له نهاية الضعف ، كما قال تعالى: " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة " [الروم : 54] وعتبة من العتب ، فدلت أسماؤهم على عتب يحل بهم ، وضعف ينالهم ، وكان أقرانهم من المسلمين : علي ، وعبيدة، والحارث ، رضي الله عنهم ، ثلاثة أسماء تناسب أوصافهم ، وهي العلو، والعبودية ، والسعي الذي هو الحرث فعلوا عليهم بعبوديتهم وسعيهم في حرث الآخرة . ولما كان الاسم مقتضياً لمسماه ، ومؤثراً فيه ، كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه ، كعبد الله ، وعبدالرحمن ، وكان إضافة العبودية إلى اسم الله ، واسم الرحمن ، أحب إليه من إضافتها إلى غيرها كالقاهر، والقادر، فعبد الرحمن أحب إليه من عبد القادر، وعبد الله أحب إليه من عبد ربه ، وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة والتعلق الذي بين الله وبين العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده وكمال وجوده ، والغاية التي أوجده لأجلها أن يتأله له وحده محبة وخوفاً، ورجاء وإجلالاً وتعظيماً ، فيكون عبداً لله وقد عبده لما في اسم الله من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره ، ولما غلبت رحمته غضبه وكانت الرحمة أحب إليه من الغضب ، كان عبد الرحمن أحب إليه من عبد القاهر .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:19 PM
فصل في فقه بعض الأسماء والكنى
فصل
ولما كان كل عبد متحركاً بالإرادة ، والهم مبدأ الإرادة ، ويترتب على إرادته حركته وكسبه ، كان أصدق الأسماء اسم همام واسم حارث ، إذ لا ينفك مسماهما عن حقيقة معناهما، ولما كان الملك الحق لله وحده ، ولا ملك على الحقيقة سواه ، كان أخنع اسم وأوضعه عند الله ، وأغضبه له اسم " شاهان شاه " أي : ملك الملوك ، وسلطان السلاطين ، فإن ذلك ليس لأحد غير الله ، فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل ، والله لا يحب الباطل . وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا قاضي القضاة وقال : ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين ، الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له : كن فيكون . ويلي هذا الاسم في الكراهة والقبح والكذب : سيد الناس ، وسيد الكل ، وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، كما قال :" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " فلا يجوز لأحد أن يقول عن غيره . إنه سيد الناس وسيد الكل ، كما لا يجوز أن يقول : إنه سيد ولد آدم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:20 PM
فصل في كره بعض الأسماء والكنى
فصل
ولما كان مسمى الحرب والمرة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها، كان أقبح الأسماء حرباً ومرة، وعلى قياس هذا حنظلة وحزن ، وما أشبههما، وما أجدر هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها، كما أثر اسم حزن الحزونة في سعيد بن المسيب وأهل بيته .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:20 PM
فصل في ندبه للتسمية بأسماء الأنبياء
فصل
ولما كان الأنبياء سادات بني آدم ، وأخلاقهم أشرف الأخلاق ، وأعمالهم أصح الأعمال ، كانت أسماؤهم أشرف الأسماء ، فندب النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى التسمي بأسمائهم ، كما في سنن أبي داود والنسائي عنه "تسموا بأسماء الأنبياء "ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلا أن الاسم يذكر بمسماه ، ويقتضي التعلق بمعناه، لكفى به مصلحة مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذكرها ، وأن لا تنسى ، وأن تذكر أسماؤهم بأوصافهم وأحوالهم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:21 PM
فصل في النهي عن التسمية ببعض الأسماء
فصل
وأما النهي عن تسمية الغلام بـ : يسار وأفلح ونجيح ورباح ، فهذا لمعنى آخر قد أشار إليه في الحديث ، وهو قوله : فإنك تقول: أثمت هو؟ فيقال : لا - والله أعلم - هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع ، أو مدرجة من قول الصحابي ، وبكل حال فإن هذه الأسماء لما كانت قد توجب تطيراً تكرهه النفوس ، ويصدها عما هي بصدده ، كما إذا قلت لرجل : أعندك يسار ، أو رباح ، أو أفلح ؟ قال : لا، تطيرت أنت وهو من ذلك ، وقد تقطع الطيرة لا سيما على المتطيرين ، فقل من تطير إلا ووقعت به طيرته ، وأصابه طائره ، كما قيل :
تعلم أنه لا طير إلا على متطير فهو الثبور
اقتضت حكمة الشارع ، الرؤوف بأمته ، الرحيم بها ، أن يمنعهم من أسباب توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه ، وأن يعدل عنها إلى أسماء تحصل المقصود من غير مفسدة ، هذا أولى ، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الإسم عليه ، بأن يسمى يساراً من هو من أعسر الناس ، ونجيحاً من لا نجاح عنده ، ورباحاً من هو من الخاسرين ، فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى الله ، وأمر آخر أيضاً وهو أن يطالب المسمى بمقتضى اسمه ، فلا يوجد عنده ، فيجعل ذلك سبباً لذمه وسبه ، كما قيل :
سموك من جهلهم سديداً والله ما فيك من سداد
أنت الذي كونه فساداً في عالم الكون والفساد
فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمى به . ولي من أبيات :
وسميته صالحاً فاغتدى بضد اسمه في الورى سائراً
وظـن بأن اسمه سـاتـر لأوصـــافه فغــدا شـــــاهراً
وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً وموجباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس ، فإنه يمدح بما ليس فيه ، فتطالبه النفوس بما مدح به ، وتظنه عنده ، فلا تجده كذلك ، فتنقلب ذماً ، ولو ترك بغير مدح ، لم تحصل له هذه المفسدة ، ويشبه حاله حال من ولي ولاية سيئة ، ثم عزل عنها ، فإنه تنقص مرتبته عما كان عليه قبل الولاية ، وينقص في نفوس الناس عما كان عليه قبلها ، وفي هذا قال القائل :
إذا ما وصفت امرءاً لامرىء فلا تغل في وصفه واقصد
فإنك إن تغل تغل الـــظنـو ن فيه إلى الأمد الأبـــــعـد
فينقص من حيث عظمـته لفضل المغيب عن المشهـــد
وأمر آخر : وهو الظن المسمى واعتقاده في نفسه أنه كذلك ، فيقع في تزكية نفسه وتعظيمها وترفعها على غيره ، وهذا هو المعنى الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجله أن تسمى برة وقال : "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " . وعلى هذا فتكره التسمية بـ : التقي ، والمتقي ، والمطيع ، والطائع ، والراضي ، والمحسن ، والمخلص ، والمنيب ، والرشيد ، والسديد . وأما تسمية الكفار بذلك ، فلا يجوز التمكين منه ، ولا دعاؤهم بشيء من هذه الأسماء ، ولا الإخبار عنهم بها، والله عز وجل يغضب من تسميتهم بذلك .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:21 PM
فصل في الكنى
فصل
وأما الكنية فهي نوع تكريم للمكني وتنويه به كما قال الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
وكنى النبي صلى الله عليه وسلم صهيباً بأبي يحيى، وكنى علياً رضي الله عنه بأبي تراب إلى كنيته بأبي الحسن ، وكانت أحب كنيته إليه ، وكنى أخا أنس بن مالك وكان صغيراً دون البلوغ بأبي عمير . وكان هديه صلى الله عليه وسلم تكنية من له ولد، ومن لا ولد له، ولم يثبت عنه أنه نهى عن كنية إلا الكنية بأبي القاسم ، فصح عنه أنه قال :" تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" فاختلف الناس في ذلك على أربعة أقول : أحدها : أنه لا يجوز التكني بكنيته مطلقاً، سواء أفردها عن اسمه ، أو قرنها به ، وسواء محياه وبعد مماته ، وعمدتهم عموم هذا الحديث الصحيح وإطلاقه ، وحكى البيهقي ذلك عن الشافعي ، قالوا : لأن النهي إنما كان لأن معنى هذه التكنية والتسمية مختصة به صلى الله عليه وسلم ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : "والله لا أعطي أحداً، ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم ، أضع حيث أمرت " قالوا : ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره . واختلف هؤلاء في جواز تسمية المولود بقاسم ، فأجازه طائفة ، ومنعه آخرون ، والمجيزون نظروا إلى أن العلة عدم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما اختص به من الكنية، وهذا غير موجود في الاسم ، والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذي نهى عنه في الكنية موجود مثله هنا في الاسم سواء، أو هو أولى بالمنع ، قالوا : وفي قوله : "إنما أنا قاسم " إشعار بهذا الاختصاص. القول الثاني : أن النهي إنما هو عن الجمع بين اسمه وكنيته ، فإذا أفرد أحدهما عن الآخر، فلا بأس . قال أبو داود : باب من رأى أن لا يجمع بينهما ، ثم ذكر حديث أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تسمى باسمي فلا يتكن بكنيتي ، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسم باسمى " ورراه الترمذي وقال : حديث حسن غريب ، وقد رواه الترمذي أيضاً من حديث محمد بن عجلان عن أبي هريرة وقال : حسن صحيح ، ولفظه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع أحد بين اسمه وكنيته ، ويسمى محمداً : أبو القاسم . قال أصحاب هذا القول : فهذا مقيد مفسر لما في الصحيحين ، من نهيه عن التكني بكنيته ، قالوا : ولأن في الجمع بينهما مشاركة في الاختصاص بالاسم والكنية ، فإذا أفرد أحدهما عن الآخر زال الاختصاص. القول الثالث ، جواز الجمع بينهما وهو المنقول عن مالك ، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه أبو داود ، والترمذي من حديث محمد بن الحنيفية ، عن علي رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله إن لي ولد من بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك ؟ قال : "نعم " قال الترمذي: حديث حسن صحيح . وفي سنن أبي داود عن عائشة قالت : جاءت امرأة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إني ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم ، فذكر لي أنك تكره ذلك ؟ فقال : "ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي " أو " ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي" قال هؤلاء : وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين . القول الرابع : إن التكني بأبي القاسم كان ممنوعاً منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو جائز بعد وفاته ، قالوا : وسبب النهي إنما كان مختصاً بحياته ، فإنه قد ثبت في الصحيح من حديث أنس قال : نادى رجل بالبقيع : يا أبا القاسم ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني لم أعنك ، إنما دعوت فلاناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي " قالوا: وحديث علي فيه إشارة إلى ذلك بقوله : إن ولد لي من بعدك ولد، ولم يسأله عمن يولد له في حياته ، ولكن قال علي رضي الله عنه في هذا الحديث : "وكانت رخصة لي " وقد شذ من لا يؤبه لقوله ، فمنع التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم قياساً على النهي عن التكني بكنيته ، والصواب أن التسمي باسمه جائز ، والتكني بكنيته ممنوع منه ، والمنع في حياته أشد، والجمع بينهما ممنوع منه ، وحديث عائشة غريب لا يعارض بمثله الحديث الصحيح ، وحديث علي رضي الله عنه في صحته نظر، والترمذي فيه نوع تساهل في الصحيح ، وقد قال علي : إنها رخصة له ، وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:22 PM
فصل فيما كرهه السلف والخلف من الكنى
فصل
وقد كره قوم من السلف والخلف الكنية بأبي عيسى، وأجازها آخرون ، فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب ابنا له يكنى أبا عيسى، وأن المغيرة بن شعبة تكنى بأبي عيسى، فقال له عمر : أما يكفيك أن تكنى بأبي عبد الله ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له من ذنبه وما تأخر، وإنا لفي جلجتنا فلم يزل يكني بأبي عبد الله حتى هلك .
وقد كنى عائشة بأم عبد الله، وكان لنسائه أيضاً كنى كأم حبيبة ، وأم سلمة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:23 PM
فصل في النهي عن تسمية العنب كرماً
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن تسمية العنب كرماً وقال : "الكرم قلب المؤمن" ، وهذا لأن هذه اللفظة تدل على كثرة الخير والمنافع في المسمى بها، وقلب المؤمن هو المستحق لذلك دون شجرة العنب ، ولكن : هل المراد النهي عن تخصيص شجرة العنب بهذا الاسم ، وأن قلب المؤمن أولى به منه ، فلا يمنع من تسميته بالكرم كما قال في المسكين و الرقوب و المفلسأو المراد أن تسميته بهذا مع اتخاذ الخمر المحرم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيث المحرم ، وذلك ذريعة إلى مدح ما حرم الله وتهييج النفوس إليه ؟ هذا محتمل ، والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، والأولى أن لا يسمى شجر العنب كرماً.
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:23 PM
فصل في كراهة تسمية العشاء بالعتمة
قال صلى الله عليه وسلم : "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ، ألا وإنها العشاء ، وإنهم يسمونها العتمة" وصح عنه أنه قال : "لو يعلمون ما في العتمة والصبح ، لأتوهما ولو حبواً" فقيل: هذا ناسخ للمنع ، وقيل بالعكس ، والصواب خلاف القولين ، فإن العلم بالتاريخ متعذر ، ولا تعارض بين الحديثين ، فإنه لم ينه عن إطلاق اسم العتمة بالكلية ، وإنما نهى عن أن يهجر اسم العشاء ، وهو الإسم الذي سماها الله به في كتابه ، ويغلب عليها اسم العتمة ، فإذا سميت العشاء وأطلق عليها أحياناً العتمة، فلا بأس ، والله أعلم ، وهذا محافظة منه صلى الله عليه وسلم على الأسماء التى سمى الله بها العبادات ، فلا تهجر ، ويؤثر عليها غيرها، كما فعله المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص ، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها ، ونشأ بسبب هذا من الجهل والفساد ما الله به عليم ، وهذا كما كان يحافظ على تقديم ما قدمه الله ، وتأخير ما أخره ، كما بدأ بالصفا، وقال : "أبدأ بما بدأ الله به " وبدأ في العيد بالصلاة ، ثم جعل النحر بعدها ، وأخبر أن "من ذبح قبلها ، فلا نسك له " تقديماً لما بدأ الله به في قوله : " فصل لربك وانحر " وبدأ في أعضاء الوضوء بالوجه ، ثم اليدين ، ثم الرأس ، ثم الرجلين ، تقديماً لما قدمه الله ، وتأخيراً لما أخره ، وتوسيطاً لما وسطه ، وقدم زكاة الفطر على صلاة العيد تقديماً لما قدمه في قوله : " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى " [الأعلى : 13] ونظائره كثيرة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:23 PM
فصل في هديه في حفظ المنطق واختيار الألفاظ
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ
كان يتخير في خطابه ، ويختار لأمته أحسن الألفاظ ، وأجملها ، وألطفها ، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش ، فلم يكن فاحشاً ، ولا متفحشا ولا صخاباً ولا فظاً .
وكان يكره أن يستعمل اللفظ الشريف المصون في حق من ليس كذلك ، وأن يستعمل اللفظ المهين المكروه في حق من ليس من أهله .
فمن الأول منعه أن يقال للمنافق : يا سيدنا وقال : "فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل " ومنعه أن تسمى شجرة العنب كرماً ، ومنعه تسمية أبي جهل بأبي الحكم ، وكذلك تغييره لاسم أبي الحكم من الصحابة : بأبي شريح ، وقال : " إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم ".
ومن ذلك نهيه للمملوك أن يقول لسيده أو لسيدته : ربي وربتي ، وللسيد أن يقول ، لمملوكه : عبدي ، ولكن يقول المالك : فتاي وفتاتي ، ويقلول المملوك : سيدي وسيدتي ، وقال لمن ادعى أنه طبيب " أنت رجل رفيق ، وطبيبها لذي خلقها " والجاهلون يسمون الكافر الذي له علم بشيء من الطبيعة حكيماً ، وهو من أسفه الخلق .
ومن هذا قوله للخطيب الذي قال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى "بئس الخطيب أنت" .
ومن ذلك قوله : "لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان " وقال له رجل : "ما شاء الله وشئت ، قال : أجعلتني لله نداً ؟ قل : ما شاء الله وحده ".
وفي معنى هذا الشرك المنهي عنه قول من لا يتوقى الشرك : أنا بالله وبك ، وأنا في حسب الله وحسبك ، ومالي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، وهذا من الله ومنك ، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض ، ووالله ، وحياتك ، وأمثال هذا من الألفاظ التي يجعل فيها قائلها المخلوق نداً للخالق ، وهي أشد منعاً وقبحاً من قوله : ما شاء الله وشئت . فأما إذا قال : أنا بالله ، ثم بك ، وما شاء الله ، ثم شئت ، فلا بأس بذلك ، كما في حديث الثلاثة "لا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك "وكما في الحديث المتقدم الإذن أن يقال : ما شاء الله ثم شاء فلان .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:24 PM
فصل في النهي عن سب الدهر
فصل
وأما القسم الثاني وهو أن تطلق ألفاظ الذم على من ليس من أهلها ، فمثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن سب الدهر، وقال : "إن الله هو الدهر" وفي حديث آخر : "يقول الله على عز وجل : يؤذيني ابن آدم فيسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر اقلب الليل والنهار" وفي حديث آخر "لا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر".
في هذا ثلاث مفاسد عظيمة . إحداها: سبه من ليس بأهل أن يسب ، فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله ، منقاد لأمره ، مذلل لتسخيره ، فسابه أولى بالذم والسب منه .
الثانية : أن سبه متضمن للشرك ، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع ، وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق الضرر ، وأعطى من لا يستحق العطاء ، ورفع من لا يستحق العطاء ، ورفع من لا يستحق الرفعة ، وحرم من لا يستحق الحرمان ، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة ، وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جداً . وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه .
الثالثة : أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو أتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ، وإذا وقعت أهواؤهم ، حمدوا الدهر وأثنوا عليه . وفي حقيقة الأمر، فرب الدهر تعالى هو المعطي المانع ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، والدهر ليس له من الأمر شيء ، فمسبتهم للدهر مسبة لله عز وجل ، ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر" فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما . إما سبه لله ، أو الشرك به ، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك ، وإن اعتقد أن الله وحده فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك ، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسب من فعله ، فقد سب الله .
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم "لا يقولن أحدكم : تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يكون مثل البيت ، فيقول : بقوتي صرعتة ، ولكن ليقل : بسم الله ، فإنه يتصاغر حتى يكون مثل الذباب ".
وفي حديث آخر "إن العبد إذا لعن الشيطان يقول : إنك لتلعن ملعناً" .
ومثل هذا قول القائل : أخزى الله الشيطان ، وقبح الله الشيطان ، فإن ذلك كلة يفرحه ويقول : علم ابن ادم أني قد نلته بقوتي ، وذلك مما يعينه على إغوائه . ولا يفيده شيئاً ، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من مسه شيء من الشيطان أن يذكر الله تعالى ، ويذكر اسمه ، ويستعيذ بالله منه ، فإن ذلك أنفع له ، وأغيظ للشيطان .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:24 PM
فصل في النهي عن قول الرجل خبثت نفسي
فصل
من ذلك "نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل : خبثت نفسي ، ولكن ليقل : لقست نفسي " ومعناهما واحد، أي : غثث نفسي ، وساء خلقها، فكره لهم لفظ الخبث لما فيه من القبح والشناعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن ، وهجران القبيح ، وإبدال اللفظ المكروه بأحسن منه .
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فوات الأمر: "لو أني فعلت كذا وكذا"، وقال : "إن لو تفتح عمل الشيطان " وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة، وهو أن يقول : "قدر الله وما شاء فعل "وذلك لأن قوله : لو كنت فعلت كذا وكذا، لم يفتني ما فاتني ، أو لم أقع فيما وقعت فيه ، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة ، فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره ، وغير مستقيل عثرته بـ لو وفي ضمن لو ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه ، لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه ، فإن ما وقع مما يتمنى خلافه إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته ، فإذا قال : لو أني فعلت كذا، لكان خلاف ما وقع فهو محال ، إذ خلاف المقدر المقضي محال ، فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً ، وإن سلم من التكذيب بالقدر ، لم يسلم من معارضته بقوله : لو أني فعلت كذا، لدفعت ما قدر الله علي .
فإن قيل . ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له ، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضاً من القدر ، فهو يقول : لو وقفت لهذا القدر، لا ندفع به عني ذلك القدر ، فإن القدر يدفع بعضه ببعض ، كما يدفع قدر المرض بالدواء، وقدر الذنوب بالتوبة ، وقدر العدو بالجهاد ، فكلاهما من القدر .
قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه ، وأما إذا وقع، فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر، فهو أولى به من قوله : لو كنت فعلته ، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف أثر ما وقع ، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ، فإنه عجز محض. والله يلوم على العجز، ويحب الكيس ، ويأمر به ، والكيس : هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده ، فهذه تفتح عمل الخير . وأما العجز، فإنه يفتح عمل الشيطان ، فإنه إذا عجز عما ينفغه ، وصار إلى الأماني الباطلة بقوله : لو كان كذا وكذا، ولو فعلت كذا، يفتح عليه عمل الشيطان ، فإن بابه العجز والكسل ، ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما ، وهما مفتاح كل شر ، و يصدر عنهما الهم ، والحزن ، والجبن ، والبخل ، وضلع الدين ، وغلبة الرجال فمصدرها كلها عن العجز والكسل ، وعنوانها لو فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فإن لو تفتح عمل الشيطان فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، فإن التمنى رأس أموال المفاليس ، والعجز مفتاح كل شر .
وأصل المعاصي كلها العجز ، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات ، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي ، وتحول بينه وبينها ، فيقع في المعاصي ، فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ، ومباديه وغاياته ، وموارده ومصادره ، وهو مشتمل على ثماني خصال ، كل خصلتين منها قرينتان فقال : " أعوذ بك من الهم والحزن "وهما قرينان ، فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين ، فإنه إما أن يكون سببه أمراً ماضياً، فهو يحدث الحزن ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل ، فهو يحدث الهم ، وكلاهما من العجز، فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ، بل بالرضى، والحمد، والصبر، والإيمان بالقدر، وقول العبد : قدر الله وما شاء فعل . وما يستقبل لا يدفع أيضاً بالهم ، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه ، فلا يعجز عنه ، وأما أن لا تكون له حيلة في دفعه ، فلا يجزع منه ، ويلبس له لباسه ، ويأخذ له عدته ، ويتأهب له أهبته اللائقة به ، ويستجن بجنة حصينة من التوحيد، والتوكل ، والإنطراح بين يدي الرب تعالى، والاستسلام له والرضى به رباً في كل شيء ، ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره ، فإذا كان هكذا، لم يرض به رباً على الإطلاق ، فلا يرضاه الرب له عبداً على الإطلاق ، فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة، بل مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الإجتهاد فيما ينفعه ، ويقطعان عليه طريق السير، أو ينكسانه إلى وراء، أو يعوقانه ويقفانه ، أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه ، شمر إليه ، وجد في سيره ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر، بل إن عاقه الهم والحزن عن شهواته وإرادته التي تضره في معاشه ومعاده ، انتفع به من هذا الوجه ، وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ، الفارغة من محبته ، وخوفه ، ورجائه ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والأنس به ، والفرار إليه ، والانقطاع إليه ، ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم ، والأحزان والآلام القليبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية، وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار، وإن أريد بها الخير، كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد، والإقبال على الله ، والأنس به ، وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه ، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره ، هو المستولي على القلب ، الغالب عليه ، الذي متى فقده ، فقد قوته الذي لا قوام له إلا به ، ولا بقاء له بدونه ، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام التي هي أعظم أمراضه وأفسدها له إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، ولا يدل عليه إلا هو ، وإذا أراد عبده لأمر ، هيأ له ، فمنه الإيجاد ، ومنه الإعداد ، ومنه الإمداد ، وإذا أقامه في مقام أي مقام كان ، فيحمد أقامه فيه وبحكمته أقامه فيه ، ولا يليق به غيره ولا يصلح له سواه ، ولا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، ولا يمنع عبده حقاً هو للعبد، فيكون بمنعه ظالماً له ، بل إنما منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعبده وليتضرع إليه ، ويتذلل بين يديه ، ويتملقه ، ويعطي فقره إليه حقه ، بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه على تعاقب الأنفاس، وهذا هو الواقع في نفس الأمر ، وإن لم يشهده العبد فلم يمنع الرب عبده ما العبد محتاج إليه بخلاً منه ولا نقصاً من خزائنة، ولا استئثاراً عليه بما هو حق للعبد ، بل منعه ليرده إليه ، وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبرة بالانكسار بين يديه ، وليذيقه بمرارة المنع حلاوة الخضوع له ، ولذة الفقر إليه ، وليلبسه خلعة العبودية ، ويوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ، ورحمته في عزته ، وبره ولطفه في قهره . وأن منعه عطاء ، وعزله تولية . وعقوبته تأديب ، وامتحانه محبة وعطية ، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه به إليه . وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه ، وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ، ولا يحسن أن يتخطاه ، والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه وفضله ، والله أعلم حيث يجعل رسالته " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " [الأنعام : 53] فهو سبحانه أعلم بمواقع الفضل ، ومحال التخصيص ، ومحال الحرمان ، فبحمده وحكمته أعطى، وبحمده وحكمته حرم ، فمن رده المنع إلى الافتقار إليه ، والتذلل له ، وتملقه ، انقلب المنع في حقه عطاء، ومن شغله عطاؤه ، وقطعه عنه ، انقلب العطاء في حقه منعاً ، فكل ما شغل العبد عن الله ، فهو مشؤوم عليه ، وكل ما رده إليه فهو رحمة به ، والرب تعالى يريد من عبده أن يفعل ، ولا يقع الفعل حتى يريد سبحانه من نفسه أن يعينه ، فهو سبحانه أراد منا الاستقامة دائماً ، واتخاذ السبيل إليه ، وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتها عليها ومشيئته لنا ، فهما إرادتان : إرادة من عبده أن يفعل ، وإرادة من نفسه أن يعينه ، ولا سبيل له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة ، ولا يملك منها شيئاً ، كما قال تعالى : " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " [التكوير : 29 ] فإن كان مع العبد روح أخرى ، نسبتها إلى روحه ، كنسبة روحه إلى بدنه يستدعي بها إرادة الله لمن نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلاً ، وإلا فمحله غير قابل للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاء، فمن جاء بغير إناء، رجع بالحرمان ، ولا يلومن إلا نفسه . والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الهم والحزن ، وهما قرينان ، ومن العجز والكسل ، وهما قرينان ، فإن تخلف كمال العبد وصلاحه عنه إما أن يكون لعدم قدرته عليه ، فهو عجز، أو يكون قادراً عليه ، لكن لا يريد فهو كسل ، وينشأ عن هاتين الصفتين ، فوات كل خير، وحصول كل شر، ومن ذلك الشر تعطيله عن النفع ببدنه ، وهو الجبن ، وعن النفع بماله ، وهو البخل ، ثم ينشأ له بذلك غلبتان . غلبة بحق ، وهي غلبة الدين ، وغلبة بباطل ، وهي غلبة الرجال ، وكل هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل ، ومن هذا قوله في الحديث الصحيح للرجل الذي قضى عليه ، فقال : حسبي الله ونعم الوكيل ، فقال : "إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل" فهذا قال : حسبي الله ونعم الوكل ، بعد عجزه عن الكيس الذي لو قام به ، لقضى له على خصمه ، فلو فعل الأسباب التي يكون بها كيساً، ثم غلب فقال : حسبى الله ونعم الوكيل ، لكانت الكلمة قد وقعت موقعها، كما أن ابراهيم الخليل ، لما فعل الأسباب المأمور بها، ولم يعجز بتركها، ولا بترك شيء منها ، ثم غلبه عدوه وألقوه في النار، قال في تلك الحال : حسبي الله ونعم الوكيل فوقعت الكلمة موقعها ، واستقرت في مظانها ، فأثرت أثرها ، وترتب عليها مقتضاها .
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم أحد لما قيل لهم بعد انصرافهم من أحد: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فتجهزوا وخرجوا للقاء عدوهم ، وأعطوهم الكيس من نفوسهم ، ثم قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل .
فأثرت الكلمة أثرها ، واقتضت موجبها ، ولهذا قال تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " [الطلاق : 12 ] فجعل التوكل بعد التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها ، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه ، وكما قال في موضع آخر : " واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " [ المائدة : 11] فالتوكل والحسب بدون قيام الأسباب المأمور بها عجز محض ، فإن كان مشوباً بنوع من التوكل ، فهو توكل عجز، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً، ولا يجعل عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب المأمور بها التي لا يتم المقصود إلا بها كلها . ومن هاهنا غلط طائفتان من الناس ، إحداهما : زعمت أن التوكل وحده سبب مستقل كاف في حصول المراد، فعطلت له الأسباب التي اقتضتها حكمة الله الموصلة إلى مسبباتها، فوقعوا في نوع تفريط وعجز بحسب ما عطلوا من الأسباب ، وضعف توكلهم من حيث ظنوا قوته بانفراده عن الأسباب ، فجمعوا الهم كله وصيروه هماً واحداً ، وهذا وإن كان فيه قوة من هذا الوجه ، ففيه ضعف من جهة أخرى، فكلما قوي جانب التوكل بإفراده ، أضعفه التفريط في السبب الذي هو محل التوكل ، فإن التوكل محل الأسباب ، وكماله بالتوكل على الله فيها ، وهذا كتوكل الحراث الذي شق الأرض، وألقى فيها البذر، فتوكل على الله في زرعه وإنباته ، فهذا قد أعطى التوكل حقه ، ولم يضعف توكله بتعطيل الأرض وتخليتها بوراً ، وكذلك توكل المسافر في قطع المسافة مع جده في السير ، وتوكل الأكياس من النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه مع اجتهادهم في طاعته ، فهذا هو التوكل الذي يترتب عليه أثره ، ويكون الله حسب من قام به . وأما توكل العجز والتفريط ، فلا يترتب عليه أثره ، ويكون الله حسب صاحبه ، فإن الله إنما يكون حسب المتوكل عليه إذا اتقاه ، وتقواه فعل الأسباب المأمور بها ، لا إضاعتها . والطائفة الثانية : التي قامت بالأسباب ، ورأت ارتباط المسببات بها شرعاً وقدراً ، وأعرضت عن جانب التوكل ، وهذه الطائفة وإن نالت بما فعلته من الأسباب ما نالته ، فليس لها قوة أصحاب التوكل ، ولا عون الله لهم وكفايته إياهم ودفاعه عنهم ، بل هي مخذولة عاجزة بحسب ما فاتها من التوكل .
فالقوة كل القوة في التوكل على الله كما قال بعض السلف: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، فالقوة مضمونة للمتوكل ، والكفاية والحسب والدفع عنه ، وإنما ينقص عليه من ذلك بقدر ما ينقص من التقوى والتوكل ، وإلا فمع تحققه بهما لا بد أن يجعك الله له مخرجاً من كل ما ضاق على الناس ، ويكون الله حسبه وكافيه . والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد العبد إلى ما فيه غاية كماله ، ونيل مطلوبه ، أن يحرص على ما ينفعه ، ويبذل فيه جهده ، وحينئذ ينفعه التحسب وقول : حسبي الله ونعم الوكيل بخلاف من عجز وفرط حتى فاتته مصلحته ،ثم قال : حسبي الله ونعم الوكيل فإن الله يلومه ، ولا يكون في هذا الحال حسبه فإنما هو حسب من اتقاه ، وتوكل عليه .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:25 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في ذكراً لله عز وجل ، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه ، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكراً منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته ، وأحكامه وأفعاله ، ووعده ووعيده ، ذكراً منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده ، وتسبيحه ذكراً منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ، ورغبته ورهبته ذكراً منه له ، وسكوته وصمته ذكراً منه له بقلبه ، فكان ذاكراً لله في كل أحيانه، وعلى جميع أحواله ، وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه ، قائماً وقاعداً وعلى جنبه وفي مشيه وركوبه ومسيره ، ونزوله وظعنه وإقامته .
وكان إذا استيقظ قال : "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" .
وقالت عائشة : كان إذا هب من الليل ، كبر الله عشراً، وحمد الله عشراً ، وقال : سبحان الله وبحمده عشراً، سبحان الملك القدوس عشراً، واستغفر الله عشراً ، وهلل عشراً، لم قال : "اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا، وضيق يوم القيامة" عشراً، ثم يستفتح الصلاة . وقالت : أيضاً: كان إذا استيقظ من الليل قال : "لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " ذكرهما أبو داود.
وأخبر أن من استيقظ من الليل فقال : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد، وهو على كل شي قدير، الحمد لله ، وسبحان الله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم ] - ثم قال : اللهم اغفر لي - أو دعا - بدعاء آخر ، -استجيب له ، فإن توضأ وصلى، قبلت صلاته" ذكره البخاري.
وقال ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم ليلة مبيته عنده: إنه لما استيقظ ، رفع رأسه إلى السماء وقرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة (آل عمران ) " إن في خلق السماوات والأرض " إلى آخرها.
ثم قال : "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي ، لا إله إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا العلي العظيم" .
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كان إذا قام من الليل قال : "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
وربما قالت : كان يفتتح صلاته بذلك . وكان إذا أوتر ، ختم وتره بعد فراغه بقوله : "سبحان الملك القدوس " ثلاثاً ، ويمد بالثالثة صوته .
وكان إذا خرج من بيته يقول : "بسم الله ، توكلت على الله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ، أو أزل أو أزل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل علي " حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم : "من قال إذا خرج من بيته : بسم الله ، توكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له : هديت ، وكفيت ، ووقيت ، وتنحى عنه الشيطان " حديث حسن .
وقال ابن عباس عنه ليلة مبيته عنده : إنه خرج إلى صلاة الفجر وهو يقول : "اللهم اجعل في قلبي نوراً، واجعل في لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً ، واجعل في بصري نوراً ، واجعل من خلفي نوراً ، ومن أمامي نوراً ، واجعل من فوقي نوراً ، واجعل من تحتي نوراً ، اللهم أعظم لي نوراً".
وقال فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي هذا إليك ، فإني لم أخرج بطراً ولا أشراً ، ولا رياء، ولا سمعة، وإنما خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، إلا وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له ، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته".
وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال : "أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم ، فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد ، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، فإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك ".
وذكر عنه "أنه كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وآله وسلم ، ثم يقول : اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، فإذا خرج صلى على محمد وآله وسلم ، ثم يقولون : اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ".
وكان إذا صلى الصبح ، جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل .
وكان يقول إذا أصبح : "اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت ، وإليك النشور" حديث صحيح .
وكان يقول : "أصبحنا وأصبح الملك لله . ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذا اليوم ، وخير ما بعده ، وأعوذ بك من شر هذا اليوم ، وشر ما بعده ، رب أعوذ بك من الكسل ، وسوء الكبر ، رب أعوذ بك من عذاب في النار ، وعذاب في القبر، وإذا أمسى قال : أمسينا وأمسى الملك لله ......" إلى آخره . ذكره مسلم . وقال له أبو بكر الصديق رضي اللة عنه : مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت ، قال : قل : "اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب كل شيء ومليكه ومالكه ، أشهد أن لا إله إلآ أنت ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم " قال : قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضجعك حديث صحيح . وقال صلى الله عليه وسلم : "ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ، ثلاث مرات ، إلا لم يضره شيء " حديث صحيح . وقال : "من قال حين يصبح وحين يمسي : رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ، كان حقاً على الله أن يرضيه " صححه الترمذي والحاكم .
وقال : "من قال حين يصبح وحين يمسي : اللهم إني أصبحت أشهدك ، وأشهد حملة عرشك وملائكتك ، وجميع خلقك ، أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت ، وأن محمداً عبدك ورسولك ، أعتق الله ربعة من النار ، وإن قالها مرتين ، أعتق الله نصفة من النار، وإن قالها ثلاثاً ، أعتق الله ثلاثة ربعه من النار ، وإن قالها أربعاً، أعتقه الله من النار" حديث حسن.
وقال : "من قال حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك ، فمنك وحدك لا شريك لك ، لك الحمد، ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه ، ومن قال مثل ذلك حين يمسي ، فقد أدى شكر ليلته "حديث حسن .
وكان يدعو حين يصبح وحين يمسي بهذه الدعوات "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن روعاتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي " صححه الحاكم .
وقال : "إذا أصبح أحدكم ، فليقل : أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحة ونصرة ونوره وبركته وهدايته ، وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده، ثم إذا أمسى، فليقل مثل ذلك " حديث حسن .
وذكر أبو داود عنه أنه قال لبعض بناته : "قولي حين تصبحين: سبحان الله وبحمده ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شي علماً . فإنه من قالهن حين يصبح ، حفظ حتى يمسي ، ومن قالهن حين يمسي حفظ حتى يصبح ". وقال لرجل من الأنصار : "ألا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك ، وقضى عنك دينك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال قال : فقلتهن ، فأذهب الله همي ، وقضى عني ديني". وكان إذا أصبح قال : "أصبحنا على فطرة الإسلام ، وكلمة الإخلاص ، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين ". هكذا في الحديث "ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " وقد استشكله بعضهم وله حكم نظائره كقوله في الخطب والتشهد في الصلاة "أشهد أن محمداً رسول الله " فإنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالإيمان بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه ، ووجوب ذلك عليه أعظم من وجوبه على المرسل إليهم ، فهو نبي إلى نفسه وإلى الأمه التي هو منهم ، وهو رسول الله إلى نفسه وإلى أمته .
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة ابنته : "ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به : أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت : يا حي ، يا قيوم بك أستغيث ، فأصلح لي شأني ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ". ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل شكا إليه إصابة الآفات "قل : إذا أصبحت : بسم الله على نفسي ، وأهلي ومالي ، فإنة لا يذهب عليك شيء" .
ويذكر عنه أنه كان إذا أصبح قال: "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً " .
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا قال حين يصبح ثلاث مرات "اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأتمم علي نعمتك وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة ، وإذا أمسى ، قال ذلك ، كان حقاً على الله أن يتم عليه ".
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات ، كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة". ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه من قال هذه الكلمات في أول نهاره ، لم تصبة مصيبة حتى يمسي ، ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح : "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان ، ومالم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ، وشر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صرط مستقيم" وقد قيل لأبي الدرداء: قد احترق بيتك فقال : ما احترق ، ولم يكن الله عز وجل ليفعل ، لكلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرها . وقال : "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، من قالها حين يصبح موقناً بها فمات من يومه ، دخل الجنة، ومن قالها حين يمسي موقناً بها، فمات من ليلته ، دخل الجنة". "ومن قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان الله وبحمده مائة مرة ، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال ، أو زاد عليه ". وقال : " من قال حين يصبح عشر مرات لا إله الا الله وحده لاشريك له الملك ، وله الحمد، وهو على كل شي قدير، كتب الله بها عشر حسنات ، ومحا عنه بها عشر سيئات ، وكانت تعدل عشر رقاب ، وأجارة الله يومه من الشيطان الرجيم ، وإذا أمسى فمثل ذلك حتى يصبح". وقال : "من قال حين يصبح : لا إله إلا الله وحدة لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في اليوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب ، وكتب له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه". وفي المسند وغيره أنه صلى الله عليه وسلم علم زيد بن ثابت ، وأمره أن يتعاهد به أهله في كل صباح "لبيك اللهم لبيك ، لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، ومنك وبك وإليك ، اللهم ما قلت من قول ، أو حلفت من حلف ، أو نذرت من نذر ، فمشيئتك بين يدي ذلك كله ، ما شئت كان ، وما لم تشأ لم يكن ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، إنك على كل شيء قدير، اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت ، وما لعنت من لعنة، فعلى من لعنت ، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين ، اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، ذا الجلال والإكرام ، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ، وأشهدك -وكفى بك شهيداً -بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، لك الملك ، ولك الحمد، وأنت على كل شيء قدير ، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك ، وأشهد أن وعدك حق ، ولقاءك حق ، والساعة حق آتية لا ريب فيها، وأنك تبعث من في القبور ، وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاغفر لي ذنوبي كلها إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم ".
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:26 PM
فصل في هديه في الذكر عند لبس الثوب ونحوه
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر عند لبس الثوب ونحوه
كان صلى الله عليه وسلم إذا أتي ثوباً سماه باسمه ، عمامة، أو قميصاً، أو رداء، ثم يقول : "اللهم لك الحمد ، أنت كسوتنيه ، أسألك خيره ، وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره ، وشر ما صنع له" حديث صحيح.
ويذكر عنه أنه قال : "من لبس ثوباً فقال : الحمد لله الذي كساني هذا ، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه ". وفي جامع الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : "من لبس ثوباً جديداً فقال : الحمد لله الذي كساني بما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي ، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به ، كان في حفظ الله ، وفي كنف الله ، وفي سبيل الله ، حياً وميتاً" . وصح عنه أنه قال لأم خالد لما ألبسها الثوب الجديد : "أبلي وأخلقي ، ثم أبلي وأخلقي مرتين ". وفي سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم رأى على عمر ثوباً فقال : "أجديد هذا ، أم غسيل ؟ فقال : بل غسيل ، فقال : البس جديداً، وعش حميداً ، ومت شهيدا".
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:26 PM
فصل في هديه عند دخوله إلى منزله
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم عند دخوله إلى منزله
لم يكن صلى الله عليه وسلم ليفجأ أهله بغتة يتخونهم ، ولكن كان يدخل على أهله على علم منهم بدخوله ، وكان يسلم عليهم ، وكان إذا دخل ، بدأ بالسؤال ، أو سأل عنهم ، وربما قال : "هل عندكم من غداء؟ " وربما سكت حتى يحضر بين يديه ما تيسر . ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا انقلب إلى بيته :"الحمد لله الذي كفاني ، وآواني ، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني ، والحمد لله الذي من علي فأفضل ، أسألك أن تجيرني من النار" .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأنس: "إذا دخلت على أهلك ، فسلم يكن بركة عليك وعلى أهلك " قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم "إذا ولج الرجل بيتة، فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج ، وخير المخرج ، بسم الله ولجنا ، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله ". وفيها عنه صلى الله عليه وسلم "ثلاثة كلهم ضامن على الله : رجل خرج غازياً في سبيل الله ، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة ، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ، ورجل راح إلى المسجد ، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة ، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ، ورجل دخل بيتة بسلام ، فهو ضامن على الله" حديث صحيح . وصح عنه صلى الله عليه وسلم "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل ، فلم يذكر الله عند دخوله ، قال الشيطان : أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله عند طعامه ، قال : أدركتم المبيت والعشاء " ذكره مسلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:27 PM
فصل في هديه في الذكر عند دخوله الخلاء
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر عند دخوله الخلاء
ثبت عنه في الصحيحين أنه كان يقول عند دخوله الخلاء "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ". وذكر أحمد عنه أنه أمر من دخل الخلاء أن يقول ذلك . ويذكر عنه "لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول : اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس ، الخبيث المخبث ، الشيطان الرجيم " .
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم قال : "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الكنيف أن يقول : بسم الله ".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه . وأخبر أن الله سبحانه يمقت الحديث على الغائط : فقال : "لا يخرج الرجلان يضربان الحائط كاشفين عن عوراتهما يتحدثان ، فإن الله عز وجل يمقت على ذلك ".
وقد تقدم أنه كان لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول ولا بغائط ، وأنه نهى عن ذلك في حديث أبي أيوب ، وسلمان الفارسي ، وأبي هريرة ، ومعقل بن أبي معقل ، وعبد الله بن الحارث بن عمر، رضي الله عنهم ، وعامة هذه الأحاديث صحيحة، وسائرها حسن ، والمعارض لها إما معلول السند، وإما ضعيف الدلالة، فلا يرد صريح نهيه المستفيض عنه بذلك ، كحديث عراك عن عائشة، ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم ، فقال : "أوقد فعلوها حولوا مقعدتي قبل القبلة" رواه الإمام أحمد. وقال : هو أحسن ما روي في الرخصة وإن كان مرسلاً، ولكن هذا الحديث قد طعن فيه البخاري وغيره من أئمة الحديث ، ولم يثبتوه ، ولا يقتضي كلام الإمام أحمد تثبيته ولا تحسينه ، قال الترمذي في كتاب العلل الكبير له : سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث ، فقال : هذا حديث فيه اضطراب ، والصحيح عندي عن عائشة من قولها
انتهى.
قلت : وله علة أخرى، وهي انقطاعه بين عراك وعائشة، فإنه لم يسمع منها، وقد رواه عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن رجل عن عائشة، وله علة أخرى ، وهي ضعف خالد بن أبي الصلت .
ومن ذلك حديث جابر : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستقبل القبلة ببول ، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها وهذا الحديث استغربه الترمذي بعد تحسينه ، وقال الترمذي في كتاب العلل : سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث ، فقال : هذا حديث صحيح ، رواه غير واحد عن ابن اسحاق ، فإذا كان مراد البخاري صحته عن ابن اسحاق ، لم يدل على صحته في نفسه ، وإن كان مراده صحته في نفسه ، فهي واقعة عين ، حكمها حكم حديث ابن عمر لما "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر الكعبة " ، وهذا يحتمل وجوهاً ستة : نسخ لمكان أو غيره ، وأن يكون بياناً، لأن النهي على التحريم ، ولا سبيل إلى الجزم بواحد من هذه الوجوه على التعيين ، وإن كان حديث جابر لا يحتمل الوجه الثاني منها، فلا سبيل إلى ترك أحاديث النهي الصحيحة الصريحة المستفيضة بهذا المحتمل . وقول ابن عمر : إنما نهي عن ذلك في الصحراء، فهم منه لاختصاص النهي بها، وليس بحكاية لفظ النهي ، وهو معارض بفهم أبي أيوب للعموم مع سلامة قول أصحاب العموم من التناقض الذي يلزم المفرقين بين الفضاء والبنيان ، فإنه يقال لهم : ما حد الحاجز الذي يجوز ذلك معه في البنيان ؟ ولا سبيل إلى ذكر حد فاصل ، وإن جعلوا مطلق البنيان مجوزاً لذلك ، لزمهم جوازه في الفضاء الذي يحول بين البائل وبينه جبل قريب أو بعيد، كنظيره في البنيان ، وأيضاً فإن النهي تكريم لجهة القبلة ، وذلك لا يختلف بفضاء ولا بنيان ، وليس مختصاً بنفس البيت ، فكم من جبل وأكمة حائل بين البائل وبين البيت بمثل ما تحول جدران البنيان وأعظم ، وأما جهة القبلة، فلا حائل بين البائل وبينها ، وعلى الجهة وقع النهي ، لا على البيت نفسه فتأمله .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:27 PM
فصل في هديه في الذكر عند خروجه من الخلاء
وكان إذا خرح من الخلاء قال :"غفرانك" ويذكر عنه أنه كان يقول :"الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ". ذكره ابن ماجة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 02:27 PM
فصل في هديه في أذكار الوضوء
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار الوضوء
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه وضع يديه في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال للصحابة : "توضؤوا بسم الله ".
وثبت عنه أنه قال لجابر رضي الله غه "ناد بوضوء" فجيء بالماء، فقال : "خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله قال : فصببت عليه ، وقلت : بسم الله ، قال : فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ".
وذكر أحمد عنه من حديث أبي هريرة، وسعيد بن زيد، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم : "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " وفي أسانيدها لين .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :"من أسبغ الوضوء ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" ذكره مسلم .
وزاد الترمذي بعد التشهد "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " وزاد الإمام احمد : ثم رفع نظرد الى السماء وزاد ابن
ماجة مع أحمد قول ذلك ثلاث مرات .
وذكر بقي بن مخلد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً " من توضأ ففرغ من وضوئه ، ثم قال : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب كتب في رق وطبع عليها بطابع ، ثم رفعت تحت العرش فلم يكسر إلى يوم القيامة" ورواه النسائي في كتابه الكبير من كلام أبي سعيد الخدري وقال النسائي : باب ما يقول بعد فراغه من وضوئه ، فذكر بعض ما تقدم . ثم ذكر بإسناد صحيح من حديث أبي موسى الأشعري قال : "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ، فسمعته يقول ويدعو : اللهم اغفر لي ذنبي ، ووسع لي في داري ، وبارك لي في رزقي فقلت : يا نبي الله : سمعتك تدعو بكذا وكذا، قال : وهل تركت من شيء ؟ "وقال ابن السني : باب ما يقول بين ظهراني وضوئه . . . فذكره.
اسير الصحراء
04-30-2006, 11:57 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأذان وأذكاره
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سن التأذين بترجيع وبغير ترجيع ، وشرع الإقامة مثنى وفرادى، ولكن الذي صح عنه تثنية كلمة الإقامة قد قامت الصلاة ولم يصح عنه إفرادها البتة ، وكذلك صح عنه تكرار لفظ التكبير في أول الأذان أربعاً ، ولم يصح
عنه الاقتصار على مرتين وأما حديث "أمر بلال أن يرفع الأذان ويوتير الإقامة " فلا ينافي الشفع بأربع ، وقد صح التربيع صريحاً في حديث عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب ، وأبي محذورة ، رضي الله عنهم .
وأما إفراد الإقامة، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما استثناء كلمة الإقامة ، فقال: إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين ، والإقامه مرة مرة ، غير أنه يقول : "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" وفي صحيح البخاري عن أنس : أمر بلال أن يشفع الأذان ، ويوتر الإقامة ، إلا الإقامة وصح من حديث عبد الله بن زيد وعمر في الإقامة "قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة" .
وصح من حديث أبي محذورة تثنية كلمة الإقامة مع سائر كلمات
الأذان . وكل هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة في شيء منها، وإن كان بعضها أفضل من بعض ، فالإمام أحمد أخذ بأذان بلال وإقامته ، والشافعي أخذ بأذان أبي محذورة ، وإقامة بلال وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة ، ومالك أخذ بما رأى عليه عمل أهل المدينة من الاقتصار على التكبير في الأذان مرتين ، وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة ، رحمهم الله كلهم ، فإنهم اجتهدوا في متابعة السنة .
اسير الصحراء
04-30-2006, 11:58 PM
فصل في هديه في الذكر عند الأذان وبعده
فصل
وأما هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر عند الأذان وبعده ، فشرع لأمته منه خمسة أنواع.
أحدها: أن يقول السامع ، كما يقول المؤذن ، إلا في لفظ "حي على الصلاة" "حي على الفلاح " فإنه صح عنه إبدالهما بـ "لا حول ولا قوة إلا بالله " ولم يجىء عنه الجمع بينها وبين "حي على الصلاة" "حي على الفلاح" ولا الاقتصار على الحيعلة، وهديه صلى الله عليه وسلم الذي صح عنه إبدالهما بالحوقلة ، وهذا مقتضى الحكمة المطابقة لحال المؤذن والسامع ، فإن كلمات الأذان ذكر فسن للسامع أن يقولها، وكلمة الحيعلة دعاء إلى الصلاة لمن سمعه ، فسن للسامع أن يستعين على هذه الدعوة بكلمة الإعانة وهي " لا حول ولا قوة إلا بالله " العلي العظيم .
الثاني : أن يقول : وأنا أشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً ، وأخبر أن من قال ذلك غفر له ذنبه .
الثالث : أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من إجابة المؤذن ، وأكمل ما يصلى عليه به ، ويصل اليه ، هي الصلاة الإبراهيمية كما علمه أمته أن يصلوا عليه ، فلا صلاة عليه أكمل منها وإن تحذلق المتحذلقون .
الرابع : أن يقول بعد صلاته عليه : "اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد "هكذا جاء بهذا اللفظ "مقاماً محموداً "بلا ألف ولا لام ، وهكذا صح عنه صلى الله عليه وسلم .
الخامس : أن يدعو لنفسه بعد ذلك ، ويسأل الله من فضله ، فإنه يستجاب له ، كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم "قل كما يقولون يعني المؤذنين ، فإذا انتهيت فسل تعطه ".
وذكر الإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم "من قال حين ينادي المنادي : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة النافعة ، صل على محمد وارض عنه رضى لا سخط بعده ، استجاب الله له دعوته ".
وقالت أم سلمة رضي الله عنها : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب : "اللهم إن هذا إقبال ليلك ، وإدبار نهارك ، وأصوات دعائك ، فاغفر لي " ذكره الترمذي .
وذكر الحاكم في المستدرك من حديث أبي أمامة يرفعه أنه كان إذا سمع الأذان قال : "اللهم رب هذه الدعوة التامة المستجابة، والمستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى، توفني عليها وأحيني عليها، واجعلني من صالحي أهلها عملاً يوم القيامة" وذكره البيهقي من حديث ابن عمر موقوفاً عليه .
وذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند الإقامة :"أقامها الله وأدامها ".
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة قالوا: فما نقول يا رسول الله ؟ قال : سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة "حديث صحيح .
وفيها عنه ساعتان ، يفتح الله فيهما أبواب السماء ، وقلما ترد على داع دعوته : عند حضور النداء ، والصف في سبيل الله .
وفلم تقدم هديه في أذكار الصلاة مفصلاً والأذكار بعد انقضائها، والأذكار في العيدين ، والجنائز، والكسوف ، وأنه أمر في الكسوف بالفزع إلى ذكر الله تعالى، وأنه كان يسبح في صلاتها قائماً رافعاً يديه يهتل ويكبر ويحمد ويدعو حتى حسر عن الشمس ، والله أعلم .
اسير الصحراء
04-30-2006, 11:59 PM
فصل ومن هديه إكثار الدعاء في عشر ذي الحجة
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء في عشر ذي الحجة، ويأمر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد.
ويذكر عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، فيقول : "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد" وهذا وإن كان لا يصح إسناده ، فالعمل عليه ، ولفظه هكذا يشفع التكبير ، وأما كونه ثلاثاً، فإنما روي عن جابر وابن عباس من فعلهما ثلاثاً فقط ، وكلاهما حسن . قال الشافعي : إن زاد فقال : الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، لا إله إلا الله والله أكبر ، كان حسناً .
اسير الصحراء
04-30-2006, 11:59 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر عند رؤية الهلال
يذكر عنه أنه كان يقول : "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله " قال الترمذي : حديث حسن .
ويذكر عنه أنه كان يقول عند رؤيته "الله أكبر، اللهم أهله علينا ، بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ربنا ويرضاه، ربنا وربك الله " ذكره الدارمي .
وذكر أبو داود عن قتادة أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال : "هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات ، ثم يقول : الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا" . وفي أسانيدها لين .
ويذكر عن أبي داود وهو في بعض نسخ سننه أنه قال : ليس في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مسند صحيح .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:00 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار الطعام قبله وبعده
كان إذا وضع يده في الطعام قال : " بسم الله " ويأمر الآكل بالتسمية ، ويقول : "إذا أكل أحدكم ، فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله ، فليقل : بسم الله في أوله وآخره "حديث صحيح .
والصحيح وجوب التسمية عند الأكل ، وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد، وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة، ولا معارض لها، ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرجها عن ظاهرها، وتاركها شريكة الشيطان في طعامه وشرابه .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:01 AM
فصل ومن هديه إكثار الدعاء في عشر ذي الحجة
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء في عشر ذي الحجة، ويأمر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد.
ويذكر عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، فيقول : "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد" وهذا وإن كان لا يصح إسناده ، فالعمل عليه ، ولفظه هكذا يشفع التكبير ، وأما كونه ثلاثاً، فإنما روي عن جابر وابن عباس من فعلهما ثلاثاً فقط ، وكلاهما حسن . قال الشافعي : إن زاد فقال : الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، لا إله إلا الله والله أكبر ، كان حسناً .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:03 AM
مسألة إذا كان الآكلون جماعة هل على كل واحد تسمية
فصل
وها هنا مسألة تدعو الحاجة إليها، وهي أن الآكلين إذا كانوا جماعة ، فسمى أحدهم ، هل تزول مشاركة الشيطان لهم في طعامهم بتسميته وحده ، أم لا تزول، إلا بتسمية الجميع ؟ فنص الشافعي على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين ، وجعله أصحابه كرد السلام ، وتشميت العاطس ، وقد يقال : لا ترفع مشاركة الشيطان للآكل إلا بتسميته هو، ولا يكفيه تسمية غيره ، ولهذا جاء في حديث حذيفة : إنا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فجاءت جارية كأنما تدفع ، فذهبت لتضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع ، فأخذ بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به ، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع يديهما" ثم ذكر اسم الله وأكل ، ولو كانت تسمية الواحد تكفي ، لما وضع الشيطان يده في ذلك الطعام .
ولكن قد يجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد وضع يده وسمى بعد، ولكن الجارية ابتدأت بالوضع بغير تسمية ، وكذلك الأعرابي ، فشاركهما الشيطان ، فمن أين لكم أن الشيطان شارك من لم يسم بعد تسمية غيره ؟ فهذا مما يمكن أن يقال ، لكن قد روى الترمذي وصححه من حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاماً في ستة من أصحابه ، فجاء أعرابي ، فأكله بلقمتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه لو سمى لكفاكم " ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولئك الستة سموا ، فلما جاء هذا الأعرابي فأكل ولم يسم ، شاركه الشيطان في أكله فأكل الطعام بلقميتن ، ولو سمى لكفى الجميع .
وأما مسألة رد السلام ، وتشميت العاطس ، ففيها نظر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا عطس أحدكم ؟ فحمد الله فحق على كل من سمعه أن يشمته " وإن سلم الحكم فيهما، فالفرق بينهما وبين مسألة الأكل ظاهر، فإن الشيطان إنما يتوصل إلى مشاركة الآكل في أكله إذا لم يسم ، فإذا سمى غيره لم تجز تسمية من سمى عمن لم يسم من مقارنة السيطان له ، فيأكل معه ، بل تقل مشاركة الشيطان بتسمية بعضهم ، وتبقى الشركة بين من لم يسم وبينه ، والله أعلم .
ويذكر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "من نسي أن يسمي على طعامه ، فليقرأ قل هو الله أحد إذا فرغ " وفي ثبوت هذا الحديث نظر .
وكان إذا رفع الطعام من بين يديد يقول :"الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، غير مكفي ولا مودع ولا مستغى عنه ربنا" عز وجل ذكره البخاري .
وربما كان يقول : "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ".
وكان يقول : "الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا" .
وذكر البخاري عنه أنه كان يقول : "الحمد لله الذي كفانا وآوانا" وذكر الترمذي عنه أنه قال : "من أكل طعاماً فقال : الحمد لله الذي أطعمني هذا من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه " حديث حسن .
ويذكر عنه أن كان إذا قرب إليه الطعام قال : "بسم الله " فإذا فرغ من طعامه قال : "الهم أطعمت وسقيت ، وأغنيت وأقنيت ، وهديت وأحييت ، فلك الحمد على ما أعطيت " وإسناده صحيح .
وفي السنن عنه أنه كان يقول إذا فرغ : "الحمد لله الذي من علينا وهدانا ، والذي أشبعنا وأروانا ، ومن كل الإحسان آتانا" حديث حسن . وفي السنن عنه أيضا "إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل : اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه . ومن سقاه الله لبنا، فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ، فإنه ليس شيء ويجزىء عن الطعام والشراب غير اللبن " حديث حسن .
ويذكر عنه أنه كان إذا شرب في الإناء تنفس ثلاثة أنفاس ، ويحمد الله كل نفس ، ويشكره في آخرهن .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:03 AM
فصل ما عاب صلى الله عليه وسلم طعاماً قط
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أهله ربما يسألهم : هل عندكم طعام ؟ وما عاب طعاماً قط ، بل كان إذا اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه وسكت وربما قال : "أجدني أعافه أني لا أشتهيه " .
وكان يمدح الطعام أحياناً، كقوله لما سأل أهله الإدام ، فقالوا : ما عندنا إلا خل ، فدعا به فجعل يأكل منه ويقول : "نعم الأدم الخل " وليس في هذا تفضيل له على اللبن واللحم والعسل والمرق ، وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها، ولو حضر لحم أو لبن ، كان أولى بالمدح منه ، وقال هذا جبراً وتطييباً لقلب من قدمه ، لا تفضيلاً له على سائر أنواع الإدام .
وكان إذا قرب إليه طعام وهو صائم قال : "إني صائم "وأمر من قرب إليه الطعام وهو صائم أن يصلي ، أي يدعو لمن قدمه ، وإن كان مفطراً أن يأكل منه . وكان إذا دعي لطعام وتبعه أحد، أعلم به رب المنزل ، وقال : "إن هذا تبعنا، فإن شئت أن تأذن له ، وإن شئت رجع ".
وكاذ يتحدث على طعامه ، كما تقدم في حديث الخل ، وكما قال لربيبه عمر بن أبي سلمة وهو يؤاكله : "سم الله ، وكل مما يليك ".
وربما كان يكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مرارأ، كما يفعله أهل الكرم ، كما في حديث "أبي هريرة عند البخاري في قصة شرب اللبن وقوله له مراراً : اشرب ، فما زال يقول : اشرب حتى قال : والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً ".
وكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم ، فدعا في منزل عبد الله بن بسر ، فقال : "اللهم بارك لهم فيما رزقتهم ، واغفر لهم ، وارحمهم" ذكره مسلم .
ودعا في منزل سعد بن عبادة فقال : "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة".
وذكر أبو داود "عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دعاه أبو الهيثم بن التيهان هو وأصحابه فأكلوا ، فلما فرغوا قال : أثيبوا أخاكم قالوا : يا رسول الله وما إثابته ؟ قال: إن الرجل إذا دخل بيته ، فأكل طعامه ، وشرب شرابة ، فدعوا له ، فذلك إثابته ".
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل منزلة ليلة، فالتمس طعاماً فلم يجده ، فقال : "اللهم أطعم من أطعمني ، واسق من سقاني ".
وذكر عنه أن عمرو بن الحمق سقاه لبناً فقال : اللهم أمتعه بشبابه ، فمرت عليه ثمانون سنة لم يجد شعرة بيضاء.
وكان يدعو لمن يضيف المساكين ، ويثني عليهم ، فقال مرة: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله، وقال للأنصاري وامراته الذين آثرا بقوتهما وقوت صبيانهما ضيفهما : "لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة".
وكان لا يأنف من مؤاكلة أحد صغيراً كان أو كبيراً، حراً أو عبداً ، أعرابياً أو مهاجراً، حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة فقال : "كل بسم الله ثقة بالله، وتوكلاً عليه ".
وكان يأمر بالأكل باليمين ، وينهى عن الأكل بالشمال ، ويقول : "إن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله " ومقتضى هذا تحريم الأكل بها ، وهو الصحيح ، فإن الآكل بها، إما شيطان ، وإما مشبه به . وصح عنه أنه قال لرجل أكل عنده ، فأكل بشماله : "كل بيمينك "، فقال : لا استطيع ، فقال : "لا استطعت " فما رفع يده إلى فيه بعدها فلو كان ذلك جائزاً، لما دعا عليه بفعله ، وإن كان كبره حمله على ترك امتثال الأمر، فذلك أبلغ في العصيان واستحقاق الدعاء عليه وأمر من شكوا إليه أنهم لا يشبعون : أن يجتمعوا على طعامهم ولا يتفرقوا وأن يذكروا اسم الله عليه يبارك لهم فيه .
وصح عنه أنه قال : "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة يحمده عليها ، ويشرب الشربة يحمده عليها" .
وروي عنه أنه قال : "أذيبوا طعامكم بذكر الله عز وجل والصلاة ، ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم " وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحا والواقع في التجربة يشهد به .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:04 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السلام والاستئذان وتشميت العاطس
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة أن أفضل السلام وخيره إطعام الطعام ، وأن تقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف .
وفيهما أن آدم عليه الصلاة والسلام لما خلفه الله قال له : اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة، فسلم عليهم ، واستمع ما يحيونك به، فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فقال : السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه "ورحمة الله".
وفيهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإفشاء السلام وأخبرهم أنهم إذا أفشوا السلام بينهم تحابوا ، وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يؤمنوا ، ولا يؤمثون حتى يتحابوا.
وقال البخاري في صحيحه : قال عمار: ثلاث من جمعهن ، فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار.
وقد تضمنت هذه الكلمات أصول الخير وفروعه ، فإن الإنصاف يوجب عليه أداء حقوق الله كاملة موفرة، وأداء حقوق الناس كذلك ، وأن لا يطالبهم بما ليس له ، ولا يحملهم فوق وسعهم ، ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه به ، ويعفيهم مما يحب أن يعفوه منه ، ويحكم لهم وعليهم بما يحكم به لنفسه وعليها، ويدخل في هذا إنصافه نفسه من نفسه ، فلا يدعي لها ما ليس لها، ولا يخبثها بتدنيسه لها، وتصغيره إياها، وتحقيرها بمعاصي الله ، وينميها ويكبرها ويرفعها بطاعة الله وتوحيده ، وحبه وخوفه ، ورجائه ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، وإيثار مرضاته ومحابه على مراضي الخلق ومحابهم ، ولا يكون بها مع الخلق ولا مع الله
، بل يعزلها من البين كما عزلها الله ، ويكون بالله لا بنفسه في حبه وبغضه ، وعطائه ومنعه ، وكلامه وسكوته ، ومدخله ومخرجه ، فينجي نفسه من البين ، ولا يرى لها مكانة يعمل عليها، فيكون ممن ذمهم الله بقوله " اعملوا على مكانتكم " [ الأنعام :35 ] فالعبد المحض ليس له مكانة يعمل عليها، فإنه مستحق المنافع والأعمال لسيده ، ونفسه ملك لسيده ، فهو عامل على أن يؤدي إلى سيده ما هو مستحق له عليه ، ليس له مكانة أصلاً بل قد كوتب على حقوق منجمة، كلما أدى نجماً حل عليه نجم آخر، ولا يزال المكاتب عبداً ما بقي عليه شيء من نجوم الكتابة .
والمقصود أن إنصافه من نفسه يوجب عليه معرفة ربه ، وحقه عليه ، ومعرفة نفسه ، وما خلقت له ، وأن لا يزاحم بها مالكها، وفاطرها ويدعي لها الملكة والاستحقاق ، ويزاحم مراد سيده ، ويدفعه بمراده هو ، أو يقدمه ويؤثره عليه ، أو يقسم إرادته بين مراد سيده ومراده ، وهي قسمة ضيزى ، مثل قسمة الذين قالوا : " هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " [الأنعام : 136] . فلينظر العبد لا يكون من لا يكون من أهل هذه القسمة بين نفسه وشركاته وبين الله لجهله وظلمه وإلا لبس عليه ، وهو لا يشعر، فإن الإنسان خلق ظلوماً جهولاً ، فكيف يطلب الإنصاف ممن وصفه الظلم والجهل ؟ وكيف ينصف الخلق من لم ينصف الخالق؟ كما في أثر إلهي يقول الله عز وجل : "ابن ادم ما أنصفتني ، خيري إليك نازل ، وشرك إلي صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم ، وأنا غني
عنك ، وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ، ولا يزال الملك الكريم يعرج إلى منك بعمل قبيح ".
وفي أثر آخر : "ابن ادم ما أنصفتني ، خلقتك وتعبد غيري ، وأرزقك وتشكر سواي " .
ثم كيف ينصف غيره من لم ينصف نفسه ، وظلمها أقبح الظلم ، وسعى في ضررها أعظم السعي ، ومنعها أعظم لذاتها من حيث ظن أنه يعطيها إياها، فأتعبها كل التعب ، وأشقاها كل الشقاء من حيث ظن أنه يريحها ويسعدها، وجد كل الجد في حرمانها حظها من الله ، وهو يظن أنه ينيلها حظوظها، ودساها كل التدسية، وهو يظن أنه يكبرها وينميها، وحقرها كل التحقير، وهو يظن أنه يعظمها، فكيف يرجى الإنصاف ممن هذا إنصافه لنفسه ؟ إذا كان هذا فعل العبد بنفسه ، فماذا تراه بالأجانب يفعل .
والمقصود أن قول عمار رضي الله عنه : ثلاث من جمعهن ، فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار ، كلام جامع لأصول الخير وفروعه .
وبذل السلام للعالم يتضمن تواضعه وأنه لا يتكبر على أحد، بل يبذل السلام للصغير والكبير ، والشريف والوضيع ، ومن يعرفه ومن لا يعرفه ، والمتكبر ضد هذا، فإنه لا يرد السلام على كل من سلم عليه كبراً منه وتيهاً، فكيف يبذل السلام لكل أحد .
وأما الإنفاق من الإقتار، فلا يصدر إلا عن قوة ثقة بالله ، وأن الله يخلفه ما أنفقه ، وعن قوة يقين ، وتوكل ، ورحمة، وزهد في الدنيا، وسخاء نفس بها، ووثوق بوعد من وعده مغفرة منه وفضلاً، وتكذيباً بوعد من يعده الفقر، ويأمر بالفحشاء، والله المستعان .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:05 AM
فصل في هديه في السلام على الصيبان
فصل
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بصيبان ، فسلم عليهم ، ذكره مسلم .
وذكر الترمذي في جامعه عنه صلى الله عليه وسلم مر يوماً، بجماعة نسوة ، فألوى بيده بالتسليم .
وقال أبو داود: عن أسماء بنت يزيد مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة، فسلم علينا ، وهي رواية حديث الترمذي ، والظاهر أن القصة واحدة وأنه سلم عليهن بيده . وفي صحيح البخاري :أن الصحابة كانوا ينصرفون من الجمعة فيمرون على عجوز في طريقهم ، فيسلمون عليها، فتقدم لهم طعاماً من أصول السلق والشعير . وهذا هو الصواب في مسألة السلام على النساء يسلم على العجوز وذوات المحارم دون غيرهن .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:06 AM
فصل في تسليم الصغير على الكبير والماشي على القاعد
فصل
وثبت عنه في صحيح البخاري وغيره تسليم الصغير على الكبير، والمار على القاعد ، والراكب على الماشي ، والقليل على الكثير. وفي جامع الترمذي عنه : يسلم الماشي على القائم . وفي مسند البزار عنه : يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والماشيان أيهما بدأ ، فهو أفضل . وفي سنن أبي داود عنه : "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام ".
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم السلام عند المجيء إلى القوم ، والسلام عند الإنصراف عنهم ، وثبت عنه أنه قال : "إذا قعد أحدكم ، فليسلم ، وإذا قام ، فليسلم ، وليست الأولى أحق من الآخرة".
وذكر أبو داود عنه "إذا لقي أحدكم صاحبه فليسلم عليه ، فإن حال بينهما شجرة أو جدار، ثم لقيه ، فليسلم عليه أيضاً".
وقال أنس : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشون ، فإذا استقبلتهم شجرة أو أكمة ، تفرقوا يميناً وشمالاً ، وإذا التقوا من ورائها ، سلم بعضهم على بعض .
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن الداخل إلى المسجد يبتدىء بركعتين تحية المسجد، ثم يجيء فيسلم على القوم ، فتكون تحية المسجد قبل تحية أهله ، فإن تلك حق الله تعالى، والسلام على الخلق هو حق لهم ، وحق الله في مثل هذا أحق بالتقديم ، بخلاف الحقوق المالية، فإن فيها نزاعاً معروفاً، والفرق بينهما حاجة الآدمي وعدم اتساع الحق المالي لأداء الحقين ، بخلاف السلام . وكانت عادة القوم معه هكذا ، يدخل أحدهم المسجد ، فيصلي ركعتين ، ثم يجيء ، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا جاء في حديث رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد يوماً قال رفاعة: ونحن معه إذ جاء رجل كالبدوي فصلى، فأخف صلاته ، ثم انصرف فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليك فارجع ، فصل ، فإنك لم تصل " . . . وذكر الحديث فأنكر عليه صلاته ، ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه صلى الله عليه وسلم إلى ما بعد الصلاة . وعلى هذا: فيسن لداخل المسجد إذا كان فيه جماعة ثلاث تحيات مترتبة : أن يقول عند دخوله : بسم الله والصلاة على رسول الله . ثم يصلي ركعتين تحية المسجد . ثم يسلم على القوم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:06 AM
فصل وكان إذا دخل على أهله بالليل يسلم تسليماً لا يوقظ النائم . ويسمع اليقظان
فصل
وكان إذا دخل على أهله بالليل ، يسلم تسليماً لا يوقظ النائم . ويسمع اليقظان ، ذكره مسلم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:07 AM
فصل في البدء بالسلام قبل الكلام
فصل
وذكر الترمذي عنه عليه السلام "السلام قبل الكلام ".
وفي لفظ آخر : "لا تدعوا أحداً إلى الطعام حتى يسلم" . وهذا وإن كان إسناده وما قبله ضعيفاً ، فالعمل عليه . وقد روى أبو أحمد بإسناد أحسن منه حديث عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "السلام قبل السؤال ، فمن بدأكم بالسؤال قبل السلام ، فلا تجيبوه ". ويذكر عنه أنه كان لا يأذن لمن لم يبدأ بالسلام . ويذكر عنه : "لا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام ". وأجود منها ما رواه الترمذي عن كلدة بن حنبل ، أن صفوان بن أمية بعثه بلبن ولبأ وجداية وضغابيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي قال : فدخلت عليه ، ولم أسلم ، ولم أستأذن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ارجع فقل : السلام عليكم ، أأدخل ؟" ، قال : هذا حديث حسن غريب .
وكان إذا أتى باب قوم ، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن ، أو الأيسر ، فيقول : السلام عليكم ، السلام عليكم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:07 AM
فصل في التسليم على من يواجهه وتحمله السلام للغائب
فصل
وكان يسلم بنفسه على كل من يواجهه ، ويحمل السلام لمن يريد السلام من الغائبين عنه ، ويتحمل السلام لمن يبلغه إليه ، كما تحمل السلام من الله عز وجل على صديقة النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لما قال له جبريل : "هذه خديجة قد أتتك بطعام ، فاقرأ [عليها] السلام من ربها، [ومني] وبشرها ببيت في الجنة". وقال للصديقة الثانية بنت الصديق عائشة رضي الله عنها : "هذا جبريل يقرأ عليك السلام " فقالت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، يرى ما لا أرى.
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:08 AM
فصل في انتهاء السلام إلى وبركاته
فصل
وكان هديه انتهاء السلام إلى وبركاته فذكر النسائي عنه "أن رجلاً جاء فقال : السلام عليكم ، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : عشرة ثم جلس ، ثم جاء آخر، فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : عشرون ثم جلس وجاء آخر، فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : ثلاثون" رواه النسائي ، والترمذي من حديث عمران بن حصين ، وحسنه .
وذكره أبو داود من حديث معاذ بن أنس ، وزاد فيه : "ثم أتى آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال : أربعون فقال : هكذا تكون الفضائل ". ولا يثبت هذا الحديث . فإن له ثلاث علل : إحداهما : إنه من رواية أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون ، ولا يحتج به . الثانية : إن فيه أيضاً سهل بن معاذ وهو أيضاً كذلك. الثالثة : أن سعيد بن أبي مريم أحد رواته لم يجزم بالرواية، بل قال : أظن أني سمعت نافع بن يزيد.
وأضعف من هذا الحديث الآخر "عن أنس : كان رجل يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : السلام عليك يا رسول الله ، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه فقيل له : يا رسول الله تسلم على هذا سلاماً ما تسلمه على أحد من أصحابك ؟ فقال : وما يمنعي من ذلك ، وهو ينصرف بأجر بضعة عشر رجلاً ، وكان يرعى على أصحابه" .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:08 AM
فصل في التسليم ثلاثاً
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يسلم ثلاثاً كما في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمتن أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم ثلاثاً ولعل هذا كان هديه في السلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغهم سلام واحد، أو هديه في إسماع السلام الثاني والثالث ، إن ظن أن الأول لم يحصل به الإسماع كما سلم لما انتهى إلى منزل سعد بن عبادة ثلاثاً، فلما لم يجبه أحد رجع وإلا فلو كان هديه الدائم التسليم ثلاثاً لكان أصحابه يسلمون عليه كذلك ، وكان يسلم على كل من لقيه ثلاثاً ، وإذا دخل بيته ثلاثاً، ومن تأمل هديه ، علم أن الأمر ليس كذلك ، وأن تكرار السلام كان منه أمراً عارضاً في بعض الأحيان ، والله أعلم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:09 AM
فصل في بدئه من لقيه بالسلام والرد على التحية بمثلها أو أفضل منها
فصل
وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، وإذا سلم عليه أحد، رد عليه مثل تحيته أو أفضل منها على الفور من غير تأخير، إلا لعذر، مثل حالة الصلاة، وحالة قضاء الحاجة . وكان يسمع المسلم رده عليه ، ولم يكن يرد بيده ولا رأسه ولا أصبعه إلا في الصلاة، فإنه كان يرد على من سلم عليه إشارة، ثبت ذلك عنه في عدة أحاديث ، ولم يجىء عنه ما يعارضها إلا بشيء باطل لا يصح عنه كحديث يرويه أبو غطفان رجل مجهول ، عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم "من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته" قال الدارقطني : قال لنا ابن أبي داود : أبو غطفان هذا رجل مجهول . والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في الصلاة، رواه أنس وجابر وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:09 AM
فصل في صفة السلام
فصل
وكان هديه في ابتداء السلام أن يقول : "السلام عليكم ورحمة الله" وكان يكره أن يقول للمبتدىء : عليك السلام . قال أبو جري الهجيمي : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : عليك السلام يا رسول الله ، فقال : " لا تقل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الموتى " حديث صحيح .
وقد أشكل هذا الحديث على طائفة، وظنوه معارضاً لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في السلام على الأموات بلفظ "السلام عليكم" بتقديم السلام ، فظنوا أن قوله:" فإن عليك السلام تحية الموتى" إخبار عن المشروع ، وغلطوا في ذلك غلطاً أوجب لهم ظن التعارض ، وإنما معنى قوله : "فإن عليك السلام تحية الموتى"إخبار عن الواقع ، لا المشروع ، أي : إن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة كقول قائلهم :
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيى بتحية الأموات ، ومن كراهته لذلك لم يرد على المسلم بها .
وكان يرد على المسلم وعليك السلام بالواو، وبتقديم عليك على لفظ السلام . وتكلم الناس ها هنا في مسألة ، وهي لو حذف الراد الواو فقال : عليك السلام هل يكون صحيحاً ؟ فقالت طائفة منهم المتولي وغيره : لا يكون جواباً ، ولا يسقط به فرض الرد، لأنه مخالف لسنة الرد، ولأنه لا يعلم : هل هو رد، أو ابتداء تحية؟ فإن صورته صالحة لهما، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا سلم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : وعليكم " فهذا تنبيه منه على وجوب الواو في الرد على أهل الإسلام ، فإن الواو في مثل هذا الكلام تقتضي تقرير الأول ، وإثبات الثاني ، فإذا أمر بالواو في الرد على أهل الكتاب الذين يقولون : السام عليكم ، فقال : "إذا سلم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : وعليكم " فذكرها في الرد على المسلمين أولى وأحرى . وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك رد صحيح كما لو كان بالواو. ونص عليه الشافعي رحمه الله في كتابه الكبير، واحتج لهذا القول بقوله تعالى " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام " [الذريات : 24 ] أي : سلام عليكم ، لا بد من هذا، ولكن حسن الحذف في الرد ، لأجل الحذف في الابتداء، واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "خلق الله آدم طوله ستعون ذراعاً، فلما خلقة، قال له : اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فاستمع ما يحيونك ، فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله" فزادوه ورحمة الله فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه تحيته وتحية ذريته ، قالوا : ولأن المسلم عليه مأمور أن يحيي المسلم بمثل تحيته عدلاً، وبأحسن منها فضلاً ، فإذا رد عليه بمثل سلامه ، كان قد أتى بالعدل .
وأما قوله : "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم " فهذا الحديث قد اختلف في لفظة الواو فيه ، فروي على ثلاثة أوجه ، أحدهما : بالواو ، قال أبو داود: كذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينار، ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار ، فقال فيه : فعليكم وحديث سفيان في الصحيحين ورواه النسائي من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن دينار بإسقاط الواو ، وفي لفظ لمسلم والنسائي : فقل : عليك بغير واو . وقال الخطابي : عامة المحدثين يروونه وعليكم بالواو، وكان سفيان بن عيينة يرويه عليكم بحذف الواو، وهو الصواب ، وذلك أنه إذا حذف الواو، صار قولهم الذي قالوه بعينه مردوداً عليهم ، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم ، والدخول فيما قالوا، لأن الواو حرف للعطف والاجتماع بين الشيئين . انتهى كلامه. وما ذكره من أمر الواو ليس بمشكل ، فإن السام الأكثرون على أنه الموت ، والمسلم والمسلم عليه مشتركون فيه ، فيكون في الإتيان بالواو بيان لعدم الاختصاص ، وإثبات المشاركة ، وفي حذفها إشعار بأن المسلم أحق به وأولى من المسلم عليه وعلى هذا فيكون الإتيان بالواو هو الصواب ، وهو أحسن من حذفها ، كما رواه مالك وغيره ، ولكن قد فسر السام بالسآمة ، وهي الملالة وسآمة الدين ، قالوا: وعلى هذا فالوجه حذف الواو ولا بد، ولكن هذا خلاف المعروف من هذه اللفظة في اللغة، ولهذا جاء في الحديث "إن الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام "ولا يختلفون أنه الموت . وقد ذهب بعض المتحذلقين إلى أنه يرد عليهم السلام بكسر السين ، وهي الحجارة ، جمع سلمة ، ورد هذا الرد متعين .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:10 AM
فصل في هديه في السلام على أهل الكتاب
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في السلام على أهل الكتاب
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تبدؤوهم بالسلام ، وإذا لقيتموهم في الطريق ، فاضطروهم إلى أضيق الطريق " لكن قد قيل : ان هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريظة قال : "لاتبدؤوهم بالسلام " فهل هذا حكم عام لأهل الذمة مطلقاً، أو يختص بمن كانت حاله بمثل حال أولئك ؟ هذا موضع نظر، ولكن قد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق ، فاضطروه إلى أضيقه" والظاهر أن هذا حكم عام . وقد اختلف السلف والخلف في ذلك ، فقال أكثرهم : لا يبدؤون بالسلام ، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يرد عليهم ، روي ذلك عن ابن عباس ، وأبي أمامة وابن محيريز، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله ، لكن صاحب هذا الوجه قال : يقال له : السلام عليك فقط بدون ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد : وقالت : طائفة : يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجه تكون له إليه، أو خوف من أذاه ، أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك ، يروى ذلك عن ابراهيم النخعي ، وعلقمة . وقال الأوزاعي : إن سلمت ، فقد سلم الصالحون ، وإن تركت ، فقد ترك الصالحون .
واختلفوا في وجوب الرد عليهم ، فالجمهور على وجوبه ، وهو الصواب ، وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم ، كما لا يجب على أهل البدع وأولى، والصواب الأول ، والفرق أنا مأمورون بهجر أهل البدع تعزيراً لهم ، وتحذيراً منهم ، بخلاف أهل الذمة .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:10 AM
فصل في هديه في السلام على مجلس فيه المسلمين والمشركين واليهود
فصل
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين ، والمشركين عبدة الأوثان ، واليهود ، فسلم عليهم .
وصح عنه أنه كتب إلى هرقل وغيره: السلام على من اتبع الهدى .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:11 AM
فصل هل يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم
فصل
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم " فذهب إلى هذا الحديث من قال : إن الرد فرض كفاية يقوم فيه الواحد مقام الجميع ، لكن ما أحسنه لو كان ثابتاً ، فإن هذا الحديث رواه أبو داود من رواية سعيد بن خالد الخزاعي المدني ، قال أبو زرعة الرازي : مدني ضعيف . وقال أبو حاتم الرازي : ضعيف الحديث ، وقال البخاري : فيه نظر . وقال الدارقطني : ليس بالقوي .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:12 AM
فصل في هديه إذا بلغه أحد السلام عن غيره أن يرد عليه وعلى المبلغ
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أحد السلام عن غيره أن يرد عليه وعلى المبلغ ، كما في السنن أن رجلاً قال له : إن أبي يقرئك السلام ، فقال له : "عليك وعلى أبيك السلام ".
وكان من هديه ترك السلام ابتداء ورداً على من أحدث حدثاً حتى يتوب منه ، كما هجر كعب بن مالك وصاحبيه ، وكان كعب يسلم عليه ، ولا يدري هل حرك شفتيه برد السلام عليه أم لا ؟ وسلم عليه عماربن ياسر، وقد خلقه أهله بزعفران ، فلم يرد عليه ، فقال : "اذهب فاغسل هذا عنك ". وهجر زينب بنت جحش شهرين وبعض الثالث لما قال لها: "أعطي صفية ظهراً لما اعتل بعيرها" فقالت : أنا أعطي تلك اليهودية ؟ ذكرهما أبو داود .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:13 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستئذان
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك وإلا فارجع ". وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". وصح عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه أراد أن يفقأ عين الذي نظر إليه من جحر في حجرته ،
وقال : "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر".
وصح عنه أنه قال : "لو أن امرءاً اطلع عليك بغير إذن ، فخذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح ".
وصح عنه أنه قال : "من اطلع على قوم في بيتهم بغير إذنهم ، فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه ".
وصح عنه أنه قال : "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ، ففقؤوا عينه ، فلا دية له ، ولا قصاص ".
وصح عنه : التسليم قبل الاستئذان فعلاً وتعليماً ، واستأذن عليه رجل ، فقال : أألج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : "اخرج إلى هذا، فعلمه الاستئذان ". فقال له : قل : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فسمعه الرجل ، فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل .
ولما استأذن عليه عمر رضي الله عنه ، وهو في مشربته مؤلياً من نسائه ، قال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليكم ، أيدخل عمر؟ .
وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لكلدة بن حنبل لما دخل عليه ولم يسلم ، "ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل ؟" .
وفي هذه السنن رد على من قال : يقدم الاستئذان على السلام ، ورد على من قال : إن وقعت عينه على صاحب المنزل قبل دخوله ، بدأ بالسلام ، وإن لم تقع عينه عليه ، بدأ بالاستئذان ، والقولان ، مخالفان للسنة .
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا استأذن ثلاثاً ولم يؤذن له ، انصرف ، وهو رد على من يقول : إن ظن أنهم لم يسمعوا، زاد على الثلاث ، ورد على من قال : يعيده بلفظ آخر، والقولان مخالفان للسنة .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:13 AM
فصل في المستأذن كيف يرد إذا سئل عن اسمه
فصل
وكان من هديه أن المستأذن إذا قيل له : من أنت ؟ يقول : فلان بن فلان ، أو ذكر يذكر كنيته ، أو لقبه ، ولا يقول : أنا ، كما قال جبريل للملائكة في ليلة المعراج لما استفتح باب السماء فسألوه من ؟ فقال : جبريل . واستمر ذلك في كل سماء سماء .
وكذلك في الصحيحين لما "جلس النبي صلى الله عليه وسلم في البستان ، وجاء أبو بكر رضي الله عنه ، فاستأذن فقال : من ؟ قال : أبو بكر، ثم جاء عمر، فاستأذن فقال : من ؟ قال : عمر، ثم عثمان كذلك" .
وفي الصحيحين ، "عن جابر، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدققت الباب ، فقال :من ذا؟ فقلت : أنا ، فقال : أنا أنا "، كأنه كرهها . ولما استأذنت أم هانىء، قال لها : من هذه ؟ قالت : أم هانىء ، فلم يكره ذكرها الكنية . وكذلك لما قال لأبي ذر: من هذا؟ قال : أبو ذر. وكذلك لما قال لأبي قتادة : من هذا؟ قال : أبو قتادة .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:14 AM
فصل
وقد روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم من حديث قتادة، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة : "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" : وفي لفظ : "إذا دعي أحدكم إلى طعام ، ثم جاء مع الرسول ، فإن ذلك إذن له ". وهذا الحديث فيه مقال ، قال أبو علي اللؤلؤي : سمعت أبا داود يقول : قتادة لم يسمع من أبي رافع . وقال البخاري في صحيحه : وقال سعيد : عن قتادة، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم "هو إذنه " ، فذكره تعليقاً لأجل الانقطاع في إسناده .
وذكر البخاري في هذا الباب حديثاً يدل على ان اعتبار الاستئذان بعد الدعوة، وهو "حديث مجاهد عن أبي هريرة ، دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجدت لبناً في قدح ، فقال : اذهب إلى أهل الصفة ، فادعهم إلي قال : فأتيتهم ، فدعوتهم ، فأقبلوا ، فاستأذنوا، فأذن لهم ، فدخلوا" وقد قالت طائفة : بأن الحديثين على حالين ، فإن جاء الداعي على الفور من غير تراخ ، لم يحتج إلى استئذان ، وإن تراخى مجيئه عن الدعوة ، وطال الوقت ، احتاج إلى استئذان .
وقال آخرون : إن كان عند الداعي من قد أذن له قبل مجيء المدعو، لم يحتج إلى استئذان آخر، وإن لم يكن عنده من قد أذن له ، لم يدخل حتى يستأذن . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا دخل إلى مكان يحب الانفراد فيه ، أمر من يمسك الباب ، فلم يدخل عليه أحد إلا بإذن .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:14 AM
فصل في الاستئذان الذي أمر الله به المماليك ومن لم يبلغ الحلم
فصل
وأما الاستئذان الذي أمر الله به المماليك ، ومن لم يبلغ الحلم ، في العورات الثلاث : قبل الفجر، ووقت الظهيرة، وعند النوم ، فكان ابن عباس يأمر به ، ويقول : ترك الناس العمل بها، فقالت طائفة : الآية منسوخة، ولم تأت بحجة .
وقالت طائفة : أمر ندب وإرشاد، لا حتم وإيجاب ، وليس معها ما يدل على صرف الأمر عن ظاهره ، وقالت طائفة: المأمور بذلك النساء خاصه ، وأما الرجال ، فيستأذنون في جميع الأوقات ، وهذا ظاهر البطلان ، فإن جمع الذين لا يختص به المؤنث ، وإن جاز إطلاقه عليهن مع الذكور تغليباً. وقالت طائفة عكس هذا: إن المأمور بذلك الرجال دون النساء، نظرا إلى لفظ الذين في الموضعين ، ولكن سياق الآية يأباه فتأمله . وقالت طائفة : كان الأمر بالاستئذان في ذلك الوقت للحاجة، ثم زالت ، والحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، فروى أبو داود في سننه أن نفراً من أهل العراق قالوا لابن عباس : يا ابن عباس كيف ترى هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ، ولا يعمل بها أحد " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " الآية [ النور :58 ]. فقال ابن عباس : إن الله حكيم رحيم بالمؤمنين ، يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربما دخل الخادم ، أو الولد أو يتيمة الرجل ، والرجل على أهله ، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحداً يعمد بذلك بعد .
وقد أنكر بعضهم ثبوت هذا عن ابن عباس ، وطعن في عكرمة، ولم يصنع شيئاً، وطعن في عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، وقد احتج به صاحبا الصحيح ، فإنكار هذا تعنت واستبعاد لا وجه له . وقالت طائفة : الآية محكمة عامة لا معارض لها ولا دافع ، والعمل بها واجب ، وإن تركه أكثر الناس .
والصحيح : أنه إن كان هناك ما يقوم مقام الاستئذان من فتح باب فتحه دليل على الدخول ، أو رفع ستر، أو تردد الداخل والخارح ونحوه ، أغنى ذلك عن الاستئذان ، وإن لم يكن ما يقوم مقامه ، فلا بد منه ، والحكم معلل بعلة قد أشارت إليها الآية ، فإذا وجدت ، وجد الحكم ، وإذا انتفت انتفى ، والله أعلم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:15 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار العطاس
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب العطاس ، ويكره التثاؤب ، فإذا عطس أحدكم وحمد الله ، كان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له : يرحمك الله، وأما التثاؤب ، فإنما هو من الشيطان ، فإذا تثاءب أحدكم ، فليرده ما استطاع ، فإن أحدكم إذا تثاءب ، ضحك منه الشيطان " ذكره البخاري . وثبت عنه في صحيحه : "إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله ، وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك الله ، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل : يهديكم الله ويصلح بالكم " . وفي الصحيحين عن أنس : أنه عطس عنده رجلان ، فشمت أحدهم ، ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته : عطس فلان فشمته ، وعطست ، فلم تشمتني ، فقال : هذا حمد الله ، وأنت لم تحمد الله .
وثبت عنه في صحيح مسلم : "إذا عطس أحدكم فحمد الله ، فشمتوه، فإن لم يحمد الله ، فلا تشمتوه ".
وثبت عنه في صحيحه : من حديث أبي هريرة : "حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته ، فسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، واذا استنصحك ، فانصح له ، وإذا عطس وحمد الله ، فشمته ، وإذا مرض ، فعده ، وإذا مات فاتبعه ".
وروى أبو داود عنه بإسناد صحيح : "إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله على كل حال ، وليقل أخوه أو صاحبه : يرحمك الله ، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم ".
وروى الترمذي ، أن رجلاً عطس عند ابن عمر، فقال : الحمد لله ، والسلام على رسول الله . فقال ابن عمر : وأنا أقول : الحمد لله والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن علمنا أن نقول الحمد لله على كل حال .
وذكر مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر: كان إذا عطس فقيل له : يرحمك الله ، قال : يرحمنا الله وإياكم ، ويغفر لنا ولكم .
فظاهر الحديث المبدوء به : أن التشميت فرض عين على كل من سمع العاطس يحمد الله ، ولا يجزىء تشميت الواحد عنهم ، وهذا قولي أحد قولي العلماء ، واختاره ابن أبي زيد ، وأبو بكر بن العربي المالكيان ، ولا دافع له .
وقد روى أبو داود : أن رجلاً عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : السلام عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وعليك السلام وعلى أمك " ثم قال : "إذا عطس أحدكم ، فليحمد الله " قال : فذكر بعض المحامد ، وليقل له من عنده : يرحمك الله ، وليرد -يعني عليهم -يغفر الله لنا ولكم .
وفي السلام على أم هذا المسلم نكتة لطيفة، وهي إشعاره بأن سلامه قد وقع في غير موقعه اللائق به ، كما وقع هذا السلام على أمه ، فكما أن سلامه هذا في غير موضعه كذلك سلامه هو.
ونكتة أخرى ألطف منها ، وهي تذكيره بأمه ، ونسبه إليها ، فكأنه أمي محض منسوب إلى الأم ، باق على تربيتها لم تربه الرجال ، وهذا أحد الأقوال في الأمي، أنه الباقي على نسبته إلى الأم .
وأما النبي الأمي : فهو الذي لا يحسن الكتابة ، ولا يقرأ الكتاب . وأما الأمي الذي لا تصح الصلاة خلفه ، فهو الذي لا يصحح الفاتحة ولو كان عالماً بعلوم كثيرة . ونظير ذكر الأم هاهنا ذكر هن الأب لمن تعزى بعزاء الجاهلية فيقال له : اعضض هن أبيك ، وكان ذكر هن الأب ها هنا أحسن تذكيراً لهذا المتكبر بدعوى الجاهلية بالعضو الذي خرج منه ، وهو هن أبيه ، فلا ينبغي له أن يتعدى طوره ، كما أن ذكر الأم هاهنا أحسن تذكيراً له ، بأنه باق على أميته . والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم . ولما كان العاطس قد حصل له بالعطاس نعمة ومنفعة بخروج الأبخرة المحتقنة في دماغه التي لو بقيت فيه أحدثت له أدواء عسرة ، شرع له حمد الله على هذه النعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها، ولهذا يقال : سمته وشمته بالسين والشين فقيل . هما بمعنىً واحد، قاله أبو عبيدة وغيره . قال : وكل داع بخير، فهو مشمت ومسمت . وقيل: بالمهملة دعاء له بحسن السمت ، وبعوده إلى حالته من السكون والدعة، فإن العطاس يحدث في الأعضاء حركة وانزعاجاً . وبالمعجمة : دعاء له بأن يصرف الله عنه ما يسمت به أعداءه ، فشمته : إذا أزال عنه الشماتة، كقرد البعير: إذا أزال قراده عنه . وقيل : هو دعاء، له بثباته على قوائمه في طاعة الله ، مأخوذ من الشوامت ، وهي القوائم.
وقيل : هو تشميت له بالشيطان ، لإغاظته بحمد الله على نعمة العطاس ، وما حصل له به من محاب الله ، فإن الله يحبه ، فإذا ذكر العبد الله وحمده ، ساء ذلك الشيطان من وجوه ، منها : نفس العطاس الذي يحبه الله ، وحمد الله عليه ، ودعاء المسلمين له بالرحمة ، ودعاؤه لهم بالهداية ، وإصلاح البال ، وذلك كله غائظ للشيطان ، محزن له ، فتشميت المؤمن بغيظ عدوه وحزنه وكآبته ، فسمي الدعاء له بالرحمة تشميتاً له ، لما في ضمنه من شماتته بعدوه ، وهذا معنى لطيف إذا تنبه له العاطس والمشمت ، انتفعا به ، وعظمت عندهما منفعة نعمة العطاس في البدن والقلب ، وتبين السر في محبة الله له ، فلله الحمد الذي هو أهله كما ينبغي لكريم وجهه وعز جلاله .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:15 AM
فصل في غض الصوت في العطاس
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في العطاس ما ذكره أبو داود والترمذي ، عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس ، وضع يده أو ثوبه على فيه ، وخفض ، أو غض به صوته قال الترمذي : حديث صحيح. ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم: إن التثاوب الشديد ، والعطسة الشديدة من الشيطان . ويذكر عنه : "إن الله يكره رفع الصوت بالتثاؤب والعطاس ".
وصح عنه : إنه عطس عنده رجل ، فقال له : "يرحمك الله " . ثم عطس أخرى، فقال : الرجل مزكوم . هذا لفظ مسلم أنه قال في المرة الثانية وأما الترمذي : فقال فيه "عن سلمة بن الأكوع : عطس رجل عند رسول صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد، فقال رسول الله : يرحمك الله ، ثم عطس الثانية والثالثة، فقال رسول الله : هذا رجل مزكوم ". قال الترمذي : هذا حديث صحيح . وقد روى أبو داود عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة موقوفاً "شمت أخاك ثلاثاً ، فما زاد ، فهو زكام ". وفي رواية عن سعيد، قال : لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه . قال أبو داود: رواه أبو نعيم ، عن موسى بن قيس ، عن محمد عجلان ، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. وموسى بن قيس هذا الذي رفعه هو الحضرمي الكوفي يعرف بعصفور الجنة. قال يحيى بن معين : ثقة . وقال أبو حاتم الرازي : لا بأس به . وذكر أبو داود، عن عبيد بن رفاعة الزرقي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تشمت العاطس ثلاثاً، فإن شئت ، فشمته ، وإن شئت فكف ، ولكن له علتان ، إحداهما: إرساله ، فإن عبيداً هذا ليست له صحبة، والثانية : أن أبا فيه خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالاني ، وقد تكلم فيه .
وفي الباب حديث آخر، عن أبي هريرة يرفعه : "إذا عطس أحدكم ، فليشمته جليسه ، فإن زاد على الثلاثة ، فهو مزكوم ، ولا تشمته بعد الثلاث " وهذا الحديث هو حديث أبي داود الذي قال فيه : رواه أبو نعيم ، عن موسى بن قيس ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد، عن أبي هريرة ، وهو حديث حسن . فإن قيل : إذا كان به زكام ، فهو أولى أن يدعى له ممن لا علة به ؟ قيل : يدعى له كما يدعى للمريض ، ومن به داء ووجع . وأما سنة العطاس الذي يحبه الله ، وهو نعمة، ويدل على خفة البدن ، وخروج الأبخرة المحتقنة، فإنما يكون إلى تمام الثلاث ، وما زاد عليها يدعى لصاحبه بالعافية . وقوله في هذا الحديث : الرجل مزكوم تنبيه على الدعاء له بالعافية، لأن الزكمة علة، وفيه اعتذار من ترك تشميته بعد الثلاث ، وفيه تنبيه له على هذه العلة ليتداركها ولا يهملها، فيصعب أمرها، فكلامه صلى الله عليه وسلم كله حكمة ورحمة ، وعلم وهدى .
وقد اختلف الناس في مسألتين : إحداهما: أن العاطس إذا حمد الله ، فسمعه بعض الحاضرين دون بعض ، هل يسن لمن لم يسمعه تشميته ؟ فيه قولان ، والأظهر: أنه يشمته إذا تحقق أنه حمد الله ، وليس المقصود سماع المشمت للحمد، وإنما المقصود نفس، حمده ، فمتى تحقق ترتب عليه التشميت ، كما لو كان المشمت أخرس ، ورأى حركة شفتيه بالحمد . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : فإن حمد الله ، فشمتوه هذا هو الصواب . الثانية : إذا ترك الحمد، فهل يستحب لمن حضره أن يذكره الحمد؟ قال ابن العربي : لا يذكره ، قال : وهذا جهل من فاعله . وقال النووي : أخطأ من زعم ذلك ، بل يذكره ، وهو مروي عن إبراهيم النخعي . قال : وهو من باب النصيحة ، والأمر بالمعروف ، والتعاون على البر والتقوى، وظاهر السنة يقوي قول ابن العربي لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشمت الذي عطس ، ولم يحمد الله ، ولم يذكره ، وهذا تعزير له ، وحرمان لبركة الدعاء لما حرم نفسه بركة الحمد، فنسي الله ، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له ، ولو كان تذكيره سنة، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمها ، والإعانة عليها .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:16 AM
الرد على من عطس من اليهود
فصل
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن اليهود كانوا يتعاطسون عنده ، يرجون أن يقول لهم : يرحمكم الله ، فكان يقول : يهديكم الله ويصلح بالكم ".
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:16 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار السفر وآدابه
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علآم الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ، وعاجل أمري وآجله ، فاقدرة لي ، ويسره لي ، وبارك لي فيه ، وإن كنت تعلمه شراً لي في ديني ومعاشي ، وعاجل أمرى وآجله ، فاصرفة عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به " قال : ويسمي حاجته ، قال : رواه البخاري .
فعوض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء، عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين ، يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب ، ولهذا سمى ذلك استقساماً، وهو استفعال من القسم ، والسين فيه للطلب ، وعوضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار، وعبودية وتوكل ، وسؤال لمن بيده الخير كله ، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه ، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم ، واختيار الطالع ونحوه . فهذا الدعاء ، هو الطالع الميمون السعيد ، طالع أهل السعادة والتوفيق ، الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء ، زالخذلان ، الذين يجعلون مع الله إلها آخر ، فسوف يعلمون .
فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه ، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة ، والإقرار بربوبيته ، وتفويض الأمر إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، والخروج من عهدة نفسه ، والتبري من الحول والقوة إلا به ، واعترافت العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله ، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله ، وسخطه بما قضى الله ".
فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفاً بأمرين : التوكل الذي هو مضمون الاستخارة قبله ، والرضى بما يقضي الله له بعده ، وهما عنوانا السعادة . وعنوان الشقاء أن يكتنفه ترك التوكل والاستخارة قبله ، والسخط بعده ، والتوكل قبل القضاء. فإذا أبرم القضاء وتم ، انتقلت العبودية إلى الرضى بعده ، كما في المسند، وزاد النسائي في الدعاء المشهور : "واسألك الرضى بعد القضاء". وهذا أبلغ من الرضى بالقضاء، فإنه قد يكون عزماً فإذا وقع القضاء، تنحل العزيمة ، فإذا حصل الرضى بعد القضاء ، كان حالاً أو مقاماً . والمقصود أن الاستخارة توكل ، على الله وتفويض إليه ، واستقسام بقدرته وعلمه ، وحسن اختياره لعبده ، وهي من لوازم الرضى به ربا ، الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك ، وإن رضي بالمقدور بعدها ، فذلك علامة سعادته . وذكر البيهقي وغيره ، عن أنس رضي الله عنه قال : لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا قال حين ينهض من جلوسه : "اللهم بك انتشرث ، وإليك توجهت ، وبك اعتصمت ، وعليك توكلت ، اللهم أنت ثقتي ، وأنت رجائي ، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم به، وما أنت أعلم به مني ، عز جارك ، وجل ثناؤك ، ولا إله غيرك ، اللهم زودني التقوى ، واغفر لي ذنبي ، ووجهني للخير أينما توجهت"، ثم يخرح .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:16 AM
فصل فيما يقوله إذا ركب راحلته
فصل
وكان إذا ركب راحلته ، كبر ثلاثاً، ثم قال : "سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون " . ثم يقول : "اللهم إني أسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده ، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا" . وإذا رجع قالهن وزاد فيهن : "آيبون تائبون ، عابدون لربنا حامدون ". وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : "أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من الضبنة في السفر والكآبة في المنقلب ، اللهم اقبض لنا الأرض ، وهون علينا السفر" . وإذا أراد الرجوع قال : "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون " . وإذا دخل أهله قال : "توباً توباً، لربنا أوباً، لا يغادر علينا حوبا ". وفي صحيح مسلم : أنه كان إذا سافر يقول : "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب ، ومن الحور بعد الكور ، ومن دعوة المظلوم ، ومن سوء المنظر في الأهل والمال" .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:17 AM
الذكر عند ركوب الدابة
فصل
وكان إذا وضع رجله في الركاب لركوب دابته ، قال : "بسم الله " فإذا استوى على ظهرها، قال : "الحمد لله " ثلاثاً "الله أكبر" ثلاثاً، ثم يقول : "سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون " ثم يقول : "الحمد لله"، "الله أكبر" ثلاثاً ، ثم يقول :"سبحان الله " ثلاثاً ، ثم يقول :"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، سبحانك إني ظلمت نفسي ، فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ". وكان إذا ودع أصحابه في السفر يقول لأحدهم :"استودع الله دينك وأمانتك ، وخواتيم عملك ". وجاء إليه رجل وقال : يا رسول الله : إني أريد سفراً، فزوذني . فقال : "زودك الله التقوى" . قال : زدني . قال : "وغفر لك ذنبك " . قال : زدني . قال : "ويسر لك الخير حينما كنت " . وقال له رجل : إني أريد سفراً، فقال : "أوصيك بتقوى الله ، والتكبير على كل شرف " فلما ولى، قال : "اللهم ازو له الأرض ، وهون عليه السفر" . وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذا علوا الثنايا ، كبروا ، وإذا هبطوا ، سبحوا ، فوضعت الصلاة على ذلك . وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا علا شرفاً من الأرض ، أو نشزاً ، قال : "اللهم لك الشرف على كل شرف ، ولك الحمد على كل حمد" . وكان سيره في حجه العنق ، فإذا وجد فجوة ، رفع السير فوق ذلك ، وكان يقول : "لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس ". وكان يكره للمسافر وحده أن يسير بالليل ، فقال : "لو يعلم الناس ما في الوحدة ما سار أحد وحده بليل ". يل كان يكره السفر للواحد بلا رفقة ، وأخبر : "أن الواحد شيطان . والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب " . وكان يقول: "إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، فإنه لايضره شيء حتى يرتحل منه ". ولفظ مسلم : "من نزل منزلاً ثم قال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ". وذكر أحمد عنه أنه كان إذا غزا أو سافر، فأدركه الليل ، قال : " يا أرض ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ، وشر ما خلق فيك ، وشر ما دب عليك ، أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود، وحية وعقرب ، ومن شر ساكن البلد ، ومن شر والد، وما ولد". وكان يقول : "إذا سافرتم في الخصب ، فأعظوا الإبل حظها من الأرض ، وإذا سافرتم في السنة ، فبادروا نقيها" . وفي لفظ : "فأسرعوا عليها السير ، وإذا عرستم ، فاجتنبوا الطريق ، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل ". وكان إذا رأى قرية يريد دخولها قال حين يراها : "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الريح وما ذرين ، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها". وكان إذا بدا له الفجر في السفر، قال : "سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار".
وكان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو . وكان ينهى المرأة أن تسافر بغير محرم ، ولو مسافة بريد. وكان يأمر المسافر إذا قضى نهمته من سفره ، أن يعجل الأوبة إلى أهله . وكان إذا قفل من سفره يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ، ثم يقول : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحد " . وكان ينهى أن يطرق الرجل أهله ليلا إذا طالت غيبته عنهم .
وفي الصحيحين : "كان لا يطرق أهله ليلاً يدخل عليهن غدوة أو عشية ". وكان إذا قدم من سفره يلقى بالولدان من أهل بيته . قال عبد الله بن جعفر وإنه قدم مرة من سفر، فسبق بي إليه ، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة، إما حسن وإما حسين ، فأردفه خلفه . قال : فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة . وكان يعتنق القادم من سفره ، ويقبله إذا كان من أهله . قال الزهري عن عروة، عن عائشة : قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فأتاه فقرع الباب ، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرياناً يجر ثوبه ، والله مما رأيته عرياناً قبله ولا بعده ، فاعتنقه وقبله .
قالت عائشة : لما قدم جعفر وأصحابه ، تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم فقبل معاً بين عينيه واعتنقه .
قال الشعبي : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدموا من سفر، تعانقوا . وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد ، فركع فيه ركعتين .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:17 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار النكاح
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه علمهم خطبة الحاجة: "الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ثم يقرأ الآيات الثلاث : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " [آل عمران : 102] " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " [النساء : 1] " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما " [الأحزاب : 70 - 71] قال شعبة : قلت لأبي إسحاق : هذه في خطبة النكاح ، أو في غيرها ؟ قال : في كل حاجة ". وقال : "إذا أفاد أحدكم امرأة ، أو خادماً ، أو دابة ، فليأخذ بناصيتها ، وليدع الله بالبركة ويسمي الله عز وجل ، وليقل : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه ، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه " . وكان يقول للمتزوج : "بارك الله لك وبارك عليك ، وجمع بينكما في خير".
وقال : "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله ، قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك ، لم يضره شيطان أبداً" .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:18 AM
فصل في هديه فيما يقول من رأى ما يعجبه من أهله وماله
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في فيما يقول من رأى ما يعجبه من أهله وماله
يذكر عن أنس عنه أنه قال : "ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ، ولا مال ، أو ولد، فيقول : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، فيرى فيه آفة دون الموت ، وقد قال تعالى : " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " [الكهف : 39]" .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:19 AM
فصل فيما يقول من رأى مبتلى
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من رجل رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً إلا لم يصبه ذلك البلاء كائناً ما كان " .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:19 AM
فصل فيما يقوله من لحقته الطيرة
ذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكرت الطيرة عنده ، فقال: "أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً ، فإذا رأيت من الطيرة ما تكره فقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك ". وكان كعب يقول : "اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا رب غيرك ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، والذي نفسي بيده ، إنها لرأس التوكل ، وكنز العبد في الجنة، ولا يقولهن عبد عند ذلك ، ثم يمضي إلا لم يضره شيء" .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:19 AM
فصل فيما يقوله من رأى في منامه ما يكرهه
صح عنه صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان ، فمن رأى رؤيا يكره منها شيئاً، فلينفث عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من الشيطان ، فإنها لا تضره ، ولا يخبر بها أحداً . وإن رأى رؤيا حسنة ، فليستبشر ، ولا يخبر عنها إلا من يحب ". وأمر من رأى ما يكرهه أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، وأمره أن يصلي . فأمره بخمسة أشياء: أن ينفث عن يساره ، وأن يستعيذ بالله من الشيطان ، وأن لا يخبر بها أحداً، وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه ، وأن يقوم يصلي ، ومتى فعل ذلك ، لم تضره الرؤيا المكروهة ، بل هذا يدفع شرها . وقال : "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت ، وقعت ، ولا يقصها إلا على واد ، أو ذي رأي ".
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذا قصت عليه الرؤيا، قال : اللهم إن كان خيراً فلنا ، وإن كان شراً ، فلعدونا .
ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من عرضت عليه رؤيا، فليقل لمن عرض عليه خيراً". ويذكر عنه أنه كان يقول للرائي قبل أن يعبرها له : "خيراً رأيت " ثم يعبرها . وذكر عبد الرزاق ، عن معمر، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال: كان أبو بكر الصديق إذا أراد أن يعبر رؤيا ، قال : إن صدقت رؤياك ، يكون كذا وكذا .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:20 AM
فصل فيما يقوله ويفعله من ابتلي بالوسواس ، وما يستعين به على الوسوسة
روى صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن مسعود يرفعه : "إن للملك الموكل بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحق ، ورجاء صالح ثوابه . ولمة الشيطان ، إيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ، وقنوط من الخير، فإذا وجدتم لمة الملك ، فاحمدوا الله ، وسلوه من فضله ، وإذا وجدتم لمة الشيطان ، فاستعيذوا بالله فاستغفروه ".
وقال له عثمان بن أبي العاص : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي ، قال : "ذاك شيطان يقال له : خنزب ، فإذا أحسسته ، فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثاً" .
وشكى إليه الصحابة أن احدهم يجد في نفسه -يعرض بالشيء - لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به ، فقال : "الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".
وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين ، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ أن يقرأ: " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " [الحديد : 13 ].
كذلك قال ابن عباس لأبي زميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله : ما شيء أجده في صدري ؟ قال : ما هو؟ قال : قلت : والله لا أتكلم به . قال : فقال لي : أشيء من شك ؟ قلت : بلى، فقال لي : ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل : " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " [يونس : 94 ] قال : فقال لي : فإذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل : " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " .
فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل ، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء ، كما تغتب كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء ، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء ، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء ، ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه ، لكان ذلك هو الرب الخلاق ، ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق ، وغني عن غيره ، وكل شيء فقير إليه ، قائم بنفسه ، وكل شيء قائم به ، موجود بذاته ، وكل شيء موجود لا به . قديم لا أول له ، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه ، باق بذاته ، وبقاء كل شيء به ، فهو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، والباطن الذي ليس دونه شيء .
وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقول قائلهم : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليستعذ بالله ولينته " ، وقد قال تعالى : " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " [فصلت : 36 ].
ولما كان الشيطان على نوعين : نوع يرى عياناً ، وهو شيطان الإنس ، ونوع لا يرى، وهو شيطان الجن ، أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه ، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن ، ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه ، والعفو، وجيع بين النوعين في سورة الأعراف ، وسورة المؤمنين ، وسورة فصلت ، والاستعاذة في القراءة والذكر أبلغ في دفع شر شياطين الجن ، والعفو والإعراض والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شر شياطن الإنس .
قال :
فما هو إلا الاستعاذة ضارعاً أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب
فهذا دواء الداء من شر مايرى وذاك دواء الداء من شر محجوب
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:20 AM
فصل فيما يقوله ويفعله من اشتد غضبه
أمره صلى الله عليه وسلم أن يطفىء عنه جمرة الغضب بالوضوء ، والقعود إن كان قائماً، والاضطجاع إن كان قاعداً ، والاستعادة بالله من الشيطان الرجيم. ولما كان الغضب والشهوة جمرتين من نار في قلب ابن آدم ، أمر أن يطفئهما بالوضوء، والصلاة، والاستعاذة من الشيطان الرجيم ، كما قال تعالى : " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " الآية [البقرة : 44]. وهذا إنما يحمل عليه شدة الشهوة، فأمرهم بما يطفئون بها جمرتها، وهو الاستعانة بالصبر والصلاة، وأمر تعالى بالاستعاذة من الشيطان عند نزغاته . ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة ، وكان نهاية قوة الغضب القتل ، ونهاية قوة الشهوة الزنى، جمع الله تعالى بين القتل والزنى، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام وسورة الإسراء ، وسورة الفرقان وسورة الممتحنة . والمقصودة أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:21 AM
فصل فيما يقوله إذا رأى من يحب
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب ، قال :" الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات " . وإذا رأى ما يكره ، قال : "الحمد لله على كل حال".
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:21 AM
فصل وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لمن تقرب إليه بما يحب وبما يناسب
، فلما وضع له ابن عباس وضوءه قال : "اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل ".
ولما دعمه أبو قتادة في مسيره بالليل لما مال عن راحلته ، قال : "حفظك الله بما حفظت به نبيه ".
وقال : "من صنع إليه معروف ، فقال لفاعله : جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء" . واستقرض من عبد الله بن أبي ربيعة مالاً، ثم وفاه إياه ، وقال : "بارك الله لك في أهلك ومالك ، إنما جزاء السلف الحمد والأداء" . ولما أراحة جرير بن عبد الله البجلي من ذي الخلصة : صنم دوس ، برك على خيل قبيلته أحمس ورجالها خمس مرات . وكان صلى الله عليه وسلم إذا أهديت إليه هدية فقبلها، كافأ عليها بأكثر منها، وإن ردها اعتذر إلى مهديها، كقوله صلى الله عليه وسلم للصب بن جثامة لما أهدى إليه لحم الصيد : "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " والله أعالم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:22 AM
فصل فيما يقوله من سمع نهيق الحمار أو صياح الديكة
فصل
وأمر صلى الله عليه وسلم أمته إذا سمعوا نهيق الحمار أن يتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ، وإذا سمعوا صياح الديكة ، أن يسألوا الله من فضله . ويروى عنه صلى الله عليه وسلم، أنه أمرهم بالتكبير عند رؤية الحريق ، فإن التكبير يطفئه .
وكره صلى الله عليه وسلم لأهل المجلس أن يخلوامجلسهم من ذكرالله عزوجل ، وقال :" ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا على مثل جيفة الحمار" .
وقال : "من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه ، كان عليه من الله ترة" والترة : الحسرة .
وفي لفظ : "وما سلك أحد طريقاً لم يذكر الله فيه، إلا كانت عليه ترة". وقال صلى الله عليه وسلم :" من جلس في مجلس ، فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" . وفي سنن أبي داود و مستدرك الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك إذا أراد أن يقوم من المجلس ، فقال له رجل : يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى . قال : "ذلك كفارة لما يكون في المجلس ".
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:22 AM
فصل فيما يقوله من شكا الأرق بالليل
فصل
وشكى إليه خالد بن الوليد الأرق بالليل ، فقال له : "إذا أويت إلى فراشك فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ، ورب الأرضين السبع وما أقلت ، ورب الشياطين وما أضلت ، كن لي جاراً، من شر خلقك كلهم جميعاً من أن يفرط أحد منهم علي ، أو أن يطغى علي ، عز جازك ، وجل ثناوك ، ولا إله إلا أنت ". وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه من الفزع : "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه ومن شر عباده ، ومن شر همزات الشياطين ، وأن يحضرون ".
ويذكر أن رجلاً شكى إليه صلى الله عليه وسلم أنه يفزع في منامه ، فقال : "إذا أويت إلى فراشك فقل ... " ثم ذكرها، فقالها فذهب عنه .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:23 AM
فصل في ألفاظ كان صلى الله عليه وسلم يكره أن تقال
فمنها : أن يقول : خبثت نفسي ، أو جاشت نفسي ، وليقل: لقست. ومنها: أن يسمي شجر العنب كرماً ، نهى عن ذلك، وقال : " لا تقولوا الكرم ، ولكن قولوا : العنب والحبلة". "وكره أن يقول الرجل : هلك الناس . وقال : إذا قال ذلك ، فهو أهلكهم ". وفي معنى هذا : فسد الناس ، وفسد الزمان ونحوه . ونهى أن يقال : ما شاء الله ، وشاء فلان ، بل يقال : ما شاء الله، ثم شاء فلان . فقال له رجل : ما شاء الله وشئت . فقال : "أجعلتني لله نداً ؟ قل : ما شاء الله وحده" . وفي معنى هذا: لولا الله وفلان ، لما كان كذا، بل وهو أقبح وأنكر ، وكذلك : أنا بالله وبفلان ، وأعوذ بالله وبفلان ، وأنا في حسب الله وحسب فلان ، وأنا متوكل على الله وعلى فلان ، فقائل هذا، قد جعل فلاناً نداً لله عز وجل. ومنها: أن يقال : مطرنا بنوء كذا وكذا، بل يقول : مطرنا بفضل الله ورحمته . ومنها: أن يحلف بغير الله . صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من حلف بغير الله فقد أشرك" .
ومنها: أن يقول في حلفه : هو يهودي ، أو نصراني، أو كافر، إن فعل كذا. ومنها : أن يقول لمسلم : يا كافر. ومنها : أن يقول للسلطان : ملك الملوك . وعلى قياسه قاضي القضاة . ومنها : أن يقول السيد لغلامه وجاريته : عبدي ، وأمتى، ويقول الغلام لسيده : ربي ، وليقل السيد : فتاي وفتاتي ، وليقل الغلام : سيدي وسيدتي . ومنها: سب الريج إذا هبت ، بل يسأل الله خيرها، وخير ما أرسلت به ، ويعوذ بالله من شرها وشر ما أرسلت به . ومنها : سب الحمى، نهى عنه ، وقال : "إنها تذهب خطايا بني آدم ، كما يذهب الكير خبث الحديد".
ومنها : النهي عن سب الديك ، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تسبوا الديك ، فإنه يوقظ للصلاة".
ومنها : الدعاء بدعوى الجاهلية، والتعزي بعزائهم ، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ، ومثله التعصب للمذاهب ، والطرائق ، والمشايخ ، وتفضيل بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونه منتسباً إليه ، فيدعو إلى ذلك ، ويوالي عليه ، ويعادي عليه ، ويزن الناس به ، كل هذا من دعوى الجاهلية . ومنها: تسمية العشاء بالعتمة تسمية غالبة يهجر فيها لفظ العشاء. ومنها : النهي عن سباب المسلم ، وأن يتناجى اثنان دون الثالث . وأن تخبر المرأة زوجها بمحاسن امرأة أخرى .
ومنها : أن يقول في دعائه . "اللهم اغفر لي إن شئت ، وارحمني إن شئت ".
ومنها : الإكثار من الحلف. ومنها : كراهة أن يقول : قوس قزح لهذا الذي يرى في السماء . ومنها : أن يسأل أحداً بوجه الله . ومنها : أن يسمي المدينة بيثرب . ومنها : أن يسأل الرجل فيم ضرب امرأته، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك . ومنها أن يقول : صمت رمضان كله ، أو قمت الليل كله.
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:23 AM
فصل بعض الألفاظ المكروهة
فصل
ومن الألفاظ المكروهة الإفصاح عن الأشياء التي ينبغي الكناية عنها بأسمائها الصريحة . ومنها : أن يقول : أطال الله بقاءك ؟ وأدام أيامك ، وعشت ألف سنة ونحو ذلك . ومنها : أن يقول الصائم : وحق الذي خاتمه على فم الكافر . ومنها: أن يقول للمكوس : حقوقاً. وأن يقول لما ينفقة في طاعة الله : غرمت أو خسرت كذا وكذا : وأن يقول : أنفقت في هذه الدنيا مالاً كثيراً . ومنها : أن يقول المفتي : أحل الله كذا، وحرم الله كذا في المسائل الاجتهادية ، وإنما يقوله فيما ورد النص بتحريمه . ومنها : أن يسمي أدلة القران والسنة ظواهر لفظية ومجازات ، فإن هذه التسمية تسقط حرمتها من القلوب ، ولا سيما إذا أضاف إلى ذلك تسمية شبه المتكلمين والفلاسفة قواطع عقلية، فلا إله إلا الله ، كم خصك بهاتين التسميتين من فساد في العقول والأديان ، والدنيا والدين .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:23 AM
فصل كراهة أن يحدث الرجل بجماع أهله ، وما يكون بينه وبينها
فصل
ومنها: أن يحدث الرجل بجماع أهله ، وما يكون بينه وبينها ، كما يفعله السفلة . ومما يكره من الألفاظ : زعموا، وذكروا ، وقالوا ، ونحوه . ومما يكره منها أن يقول للسلطان : خليفة الله ، أو نائب الله في أرضه ، فإن الخليفة والنائب إنما يكون عن غائب ، والله سبحانه وتعالى خليفة الغائب في أهله ، ووكيل عبده المؤمن .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:24 AM
التحذير من "أنا" و "لي" و "عندي"
فصل
وليحذر كل الحذر من طغيان أنا ، ولي ، وعندي ، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس ، وفرعون ، وقارون ، " أنا خير منه " لإبليس ، و" لي ملك مصر " لفرعون ، و " إنما أوتيته على علم عندي " لقارون . وأحسن ما وضعت أنا في قول العبد : أنا العبد المذنب ، المخطىء ، المستغفر، المعترف ونحوه . ولي ، في قوله : لي الذنب ، ولي الجرم ، ولي المسكنة ، ولي الفقر والذل : وعندي في قوله : " اغفر لي جدي ، وهزلي ، وخطئي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي " .
بعونه تعالى وتوفيقه تم طبع الجزء الثاني من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الثالث وأوله فصل في هديه في الجهاد والغزوات
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:25 AM
"
"
"
"
((( زاد المعاد الجزء الثالث )))
"
"
"
"
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:26 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والمغازي والسرايا والبعوث
لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته ، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة ، كما لهم الرفعة في الدنيا ، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه ، واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب ، والجنان ، والدعوة ، والبيان ، والسيف ، والسنان ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد ، بقلبه ، ولسانه، ويده . ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً ، وأعظمهم عند الله قدراً .
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه ، وقال : " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا " ( الفرقان : 52) فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار ، بالحجة ، والبيان ، وتبليغ القرآن ، وكذلك جهاد المنافقين ، إنما هو بتبليغ الحجة ، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام ، قال تعالى : " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير " ( التوبة : 73) . فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار ، وهو جهاد خواص الأمة ، وورثة الرسل ، والقائمون به أفراد في العالم ، والمشاركون فيه ، والمعاونون عليه ، وإن كانوا هم الأقلين عدداً ، فهم الأعظمون عند الله قدراً .
ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض ، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه ، كان للرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - من ذلك الحظ الأوفر ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكمل الجهاد وأتمه .
ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج ، وأصلاً له ، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به ، وتترك ما نهيت عنه ، ويحاربها في الله ، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج ، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه ، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له ، متسلط عليه ، لم يجاهده ، ولم يحاربه في الله ، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه ، حتى يجاهد نفسه على الخروج .
فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما ، وبينهما عدو ثالث ، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده ، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ، ويخذله ، ويرجف به ، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق ، وترك الحظوظ ، وفوت اللذات ، والمشتهيات ، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده ، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما ، وهو الشيطان ، قال تعالى : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " ( فاطر : 6) . والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ، ومجاهدته ، كأنه عدو لا يفتر ، ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس .
فهذه ثلاثة أعداء ، أمر العبد بمحاربتها وجهادها ، وقد بلى بمحاربتها فى هذه الدار ، وسلطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء ، فأعطى الله العبد مدداً وعدة وأعواناً وسلاحاً لهذا الجهاد ، وأعطى أعداءه مدداً وعدة وأعواناً وسلاحاً ، وبلا أحد الفريقين بالآخر ، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم ، ويمتحن من يتولاه ، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه ، كما قال تعالى : " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " ( الفرقان : 20) . وقال تعالى " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " ( محمد : 4) ، وقال تعالى : " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " ( محمد : 31) . فأعطى عباده الأسماع والأبصار ، والعقول والقوى ، وأنزل عليهم كتبه ، وأرسل إليهم رسله ، وأمدهم بملائكته ، وقال لهم : " أني معكم فثبتوا الذين آمنوا " ( الأنفال : 12 ) وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم ، وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به ، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم ، وأنه إن سلطه عليهم ، فلتركهم بعض ما أمروا به ، ولمعصيتهم له ، ثم لم يؤيسهم ، ولم يقنطهم ، بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم ، ويداووا جراحهم ويعودوا إلى مناهضة عدوهم فينصرهم عليه ويظفرهم بهم ، فأخبرهم أنه مع المتقين منهم ، ومع المحسنين ، ومع الصابرين ، ومع المؤمنين ، وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم ، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم ، ولولا دفاعه عنهم ، لتخطفهم عدوهم ، واجتاحهم .
وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم ، وعلى قدره ، فإن قوي الإيمان ، قويت المدافعة ، فمن وجد خيراً ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه .
وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده ، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته ، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله ، فيكون كله لله ، وبالله لا لنفسه ، ولا بنفسه ، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده ، ومعصية أمره ، وارتكاب نهيه ، فإنه يعد الأماني ، ويمني الغرور ، ويعد الفقر ، ويأمر بالفحشاء ، وينهى عن التقى والهدى ، والعفة والصبر ، وأخلاق الإيمان كلها ، فجاهده بتكذيب وعده ، ومعصية أمره ، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان ، وعدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله ، لتكون كلمة الله هى العليا .
واختلفت عبارات السلف في حق الجهاد :
فقال ابن عباس : هو استفراغ الطاقة فيه ، وألا يخاف في الله لومة لائم . وقال مقاتل : اعملوا لله حق عمله ، واعبدوه حق عبادته . وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى . ولم يصب من قال : إن الآيتين منسوختان لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يطاق ، وحق تقاته وحق جهاده : هو ما يطيقه كل عبد في نفسه ، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة ، والعجز ، والعلم ، والجهل . فحق التقوى ، وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شئ ، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شئ ، وتأمل كيف عقب الأمر بذلك بقوله : " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " ( الحج : 78) والحرج : الضيق ، بل جعله واسعاً يسع كل أحد ، كما جعل رزقه يسع كل حي ، وكلف العبد بما يسعه العبد، ورزق العبد ما يسع العبد ، فهو يسع تكليفه ، ويسعه رزقه ، وما جعل على عبده في الدين من حرح بوجه ما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنيفية السمحة " أي : بالملة ، فهي حنيفية في التوحيد ، سمحة في العمل .
وقد وسع الله سبحانه وتعالى على عباده غاية التوسعة في دينه ، ورزقه ، وعفوه ، ومغفرته ، وبسط عليهم التوبة ما دامت الروح في الجسد ، وفتح لهم باباً لها لا يغلقه عنهم إلى أن تطلع الشمس من مغربها ، وجعل لكل سيئة كفارة تكفرها من توبة ، أو صدقة ، أو حسنة ماحية ، أو مصيبة مكفرة ، وجعل بكل ما حرم عليهم عوضاً من الحلال أنفع لهم منه ، وأطيب ، وألذ ، فيقوم مقامه ليستغني العبد عن الحرام ، ويسعه الحلال ، فلا يضيق عنه ، وجعل لكل عسر يمتحنهم به يسراً قبله ، ويسراً بعده ، فلن يغلب عسر يسرين فإذا كان هذا شأنه سبحانه مع عباده ، فكيف يكلفهم ما لا يسعهم فضلاً عما لا يطيقونه ولا يقدرون عليه .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:27 AM
مراتب الجهاد
فصل
إذا عرف هذا ، فالجهاد أربع مراتب : جهاد النفس ، وجهاد الشيطان ، وجهاد الكفار ، وجهاد المنافقين .
فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً :
إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ، ودين الحق الذي لا فلاح لها ، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ، ومتى فاتها علمه ، شقيت في الدارين .
الثانية : أن يجاهدها على العمل به بعد علمه ، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .
الثالثة : أن يجاهدها على الدعوة إليه ، وتعليمه من لا يعلمه ، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ، ولا ينفعه علمه ، ولا ينجيه من عذاب الله .
الرابعة : أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله ، وأذى الخلق ، ويتحمل ذلك كله لله . فإذا استكمل هذه المراتب الأربع ، صار من الربانيين ، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ، ويعمل به ، ويعلمه ، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:27 AM
فصل في جهاد الشيطان
فصل
وأما جهاد الشيطان ، فمرتبتان ، إحداهما : جهاده على دفع ما يلقى إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان .
الثانية : جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات ، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين ، والثاني يكون بعده الصبر . قال تعالى : " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " ( السجدة : 24) فأخبر أن إمامة الدين ، إنما تنال بالصبر واليقين ، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة ، واليقين يدفع الشكوك والشبهات .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:28 AM
فصل في جهاد الكفار والمنافقين
فصل
وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فأربع مراتب : بالقلب ، واللسان ، والمال ، والنفس ، وجهاد الكفار أخص باليد ، وجهاد المنافقين أخص باللسان .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:28 AM
فصل في جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات
فصل
وأما جهاد أرباب الظلم ، والبدع ، والمنكرات ، فثلاث مراتب : الأولى : باليد إذا قدر ، فإن عجز ، انتقل إلى اللسان ، فإن عجز ، جاهد بقلبه ، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد ، و من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسة بالغزو ، مات على شعبة من النفاق .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:28 AM
فصل فيما يتم الجهاد به
فصل
ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة ، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان ، والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة . قال تعالى : " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " ( البقرة : 218) .
وكما أن الإيمان فرض على كل أحد ، ففرض عليه هجرتان في كل وقت : هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد ، والإخلاص ، والإنابة ، والتوكل ، والخوف ، والرجاء ، والمحبة ، والتوبة ، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة ، والانقياد لأمره ، والتصديق بخبره ، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته الى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه . وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله ، وجهاد شيطانه ، فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد .
وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فقد يكتفى فيه ببعض الأمة اذا حصل منهم مقصود الجهاد .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:29 AM
فصل فيمن كمل مراتب الجهاد كلها
فصل
وأكمل الخلق عند الله ، من كمل مراتب الجهاد كلها ، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله ، تفاوتهم في مراتب الجهاد ، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله ، فإنه كمل مراتب الجهاد ، وجاهد في الله حق جهاده ، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل ، فإنه لما نزل عليه : " يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر " ( المدثر :1-4) شمر عن ساق الدعوة ، وقام في ذات الله أتم قيام ، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهاراً ، ولما نزل عليه : " فاصدع بما تؤمر " ( الحجر : 94) فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم ، فدعا إلى الله الصغير ، والكبير ، والحر والعبد ، والذكر ، والأنثى ، والأحمر ، والأسود ، والجن ، والإنس .
ولما صدع بأمر الله ، وصرح لقومه بالدعوة ، وناداهم بسب آلهتهم ، وعيب دينهم ، اشتد أذاهم له ، ولمن استجاب له من أصحابه ، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى ، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى : " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " ( فصلت : 43) . وقال : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن " ( الأنعام :112) وقال : " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون " ( الذاريات : 52 ، 53) .
فعزى سبحانه نبيه بذلك ، وأنى له أسوة بمن تقدمه من المرسلين ، وعزى أتباعه بقوله : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " ( البقرة : 214) . وقوله : " الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون * ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين * ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين " ( العنكبوت :1- 11) .
فليتأمل العبد سياق هذه الآيات ، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم ، فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنا ، وإما ألا يقول ذلك ، بل يستمر على السيئات والكفر ، فمن قال : آمنا ، امتحنه ربه ، وابتلاه ، وفتنه ، والفتنة : الابتلاء والاختبار ، ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن لم يقل : آمنا ، فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه ، فإنه إنما يطوي المراحل في يديه .
وكيف يفرالمرء عنه بذنبه إذا كان تطوى في يديه المراحل
فمن آمن بالرسل وأطاعهم ، عاداه أعداؤهم وآذوه ، فابتلي بما يؤلمه وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم ، عوقب في الدنيا والآخرة ، فحصل له ما يؤلمه ، وكان هذا المؤلم له أعظم ألماً وأدوم من ألم أتباعهم ، فلا بد ، من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ، ثم يصير إلى الألم الدائم . وسئل الشافعي رحمه الله أيما أفضل للرجل ، أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال : لا يمكن حتى يبتلى ، والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة ، وإنما يتفاوت أهل الالآم في العقول ، فأعقلهم من باع ألماً مستمراً عظيماً ، بألم منقطع يسير ، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير ، بالألم العظيم المستمر .
فإن قيل : كيف يختار العاقل هذا ؟ قيل : الحامل له على هذا النقد ، والنسيئة .
والنفس موكلة بحب العاجل .
" كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة " ( القيامة :20) . " إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا " ( الدهر : 27) . وهذا يحصل لكل أحد ، فإن الإنسان مدني بالطبع ، لا بد له أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات ، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها ، فإن لم يوافقهم ، آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم ، حصل له الأذى والعذاب ، تارة منهم ، وتارة من غيرهم ، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ، ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم ، أو سكوته عنهم ، فإن وافقهم ، أو سكت عنهم ، سلم من شرهم في الابتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء ، لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم ، فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم ، فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية : من أرضى الله بسخط الناس ، كفاه الله مؤنة الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً .
ومن تأمل أحوال العالم ، رأى هذا كثيراً فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة ، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هرباً من عقوبتهم ، فمن هداه الله وألهمه رشده ، ووقاه شر نفسه ، امتنع من الموافقة على فعل المحرم ، وصبر على عدوانهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين ، والأنصار ، ومن ابتلي من العلماء ، والعباد ، وصالحي الولاة ، والتجار ، وغيرهم .
ولما كان الألم لا محيص منه البتة ، عزى الله - سبحانه - من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله :" من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم " (العنكبوت :5) . فضرب لمدة هذا الألم أجلاً ، لا بد أن يأتي ، وهو يوم لقائه ، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله ، وفي مرضاته ، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله ، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ، ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل ، بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به ، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه الشوق إلى لقائه ، فقال في الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان : " اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ، أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى ، وأسألك القصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيماً لا ينفد ، وأسألك قرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضى بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك ، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين " .
فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه ، ويقرب عليه الطريق ، ويطوي له البعيد ، ويهون عليه الآلام و المشاق ، وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ، ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال ، هما السبب الذي تنال به ، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال ، عليم بتلك الأفعال ، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ، ويشكرها ، ويعرف قدرها ، ويحب المنعم عليه ، فتصلح عنده هذه النعمة ، ويصلح بها كما قال تعالى : " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " ( الأنعام : 53) ، فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه ، فليقرأ على نفسه : " أليس الله بأعلم بالشاكرين " .
ثم عزاهم تعالى بعزاء آخر ، وهو أن جهادهم فيه ، إنما هو لأنفسهم ، وثمرته عائدة عليهم ، وأنه غني عن العالمين ، ومصلحة هذا الجهاد ، ترجع إليهم ، لا إليه سبحانه ، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين .
ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة ، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله ، وهي أذاهم له ، ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم ، جعل ذلك في فراره منهم ، وتركه السبب الذي ناله ، كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان ، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم ، فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان ، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب ، وهذا لضعف بصيرته ، فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله ، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه ، بمنزلة ألم عذاب الله ، وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار ، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد ، وإذا نصر الله جنده وأولياءه ، قال : إني كنت معكم ، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق .
والمقصود : أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ، ومن يصلح لموالاته وكراماته ، ومن لا يصلح ، وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان ، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه ، إلا بالامتحان ، إذ النفس فى الأصل جاهلة ظالمة ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية ، فإن خرج في هذه الدار ، وإلا ففي كير جهنم ، فإذا هذب العبد ونقي ، أذن له في دخول الجنة .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:29 AM
السابقون إلى الاسلام من الرجال والنساء
فصل
ولما دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل ، استجاب له عباد الله من كل قبيلة ، فكان حائز قصب سبقهم ، صديق الأمة ، وأسبقها إلى الإسلام ، أبو بكر رضي الله عنه ، فآزره في دين الله ، ودعا معه إلى الله على بصيرة ، فاستجاب لأبي بكر: عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص .
وبادر إلى الاستجابة له صلى الله عليه وسلم صديقة النساء : خديجة بنت خويلد ، وقامت بأعباء الصديقية ، وقال لها : " لقد خشيت على نفسي " . فقالت له : أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ثم استدلت بما فيه من الصفات الفاضلة ، والأخلاق والشيم ، على أن من كان كذلك لا يخزى أبداً ، فعلمت بكمال عقلها وفطرتها ، أن الأعمال الصالحة ، والأخلاق الفاضلة ، والشيم الشريفة ، تناسب أشكالها من كرامة الله ، وتأييده ، وإحسانه ، ولا تناسب الخزي والخذلان ، وإنما يناسبه أضدادها ، فمن ركبه الله على أحسن الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليق به كرامته وإتمام نعمته عليه ، ومن ركبه على أقبح الصفات وأسوإ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبها ، وبهذا العقل والصديقية استحقت أن يرسل إليها ربها بالسلام منه مع رسوليه جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:30 AM
السابقون إلى الاسلام من الصبيان
فصل
وبادر إلى الإسلام على بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثمان سنين ، وقيل : أكثر من ذلك ، وكان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذه من عمه أبي طالب إعانة له في سنة محل .
وبادر زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاماً لخديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ، وقدم أبوه وعمه في فدائه ، فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : هو في المسجد ، فدخلا عليه ، فقالا : يا ابن عبد المطلب ، يا ابن هاشم ، يا ابن سيد قومه ، أنتم أهل حرم الله وجيرانه ، تفكون العاني وتطعمون الأسير ، جئناك في ابننا عندك ، فامنن علينا ، وأحسن إلينا في فدائه ، قال : " ومن هو ؟" قالوا : زيد بن حارثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا غيرذلك " قالوا : ما هو ؟ قال : " أدعوه فأخيره ، فإن اختاركم ، فهو لكم ، وإن اختارني ، فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً " قالا : قد رددتنا على النصف ، وأحسنت ، فدعاه فقال : "هل تعرف هؤلاء ؟ " قال : نعم ، قال : " من هذا ؟ " قال : هذا أبي ، وهذا عمي ، قال : " فأنا من قد علمت ورأيت ، وعرفت صحبتي لك ، فاخترني أو اخترهما " قال : ما أنا بالذي أختار عليك أحداً أبداً ، أنت مني مكان الأب والعم ، فقالا : ويحك يا زيد ، أتختار العبودية على الحرية ، وعلى أبيك وعمك ، وعلى أهل بيتك ؟! قال : نعم ، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، أخرجه إلى الحجر ، فقال :" أشهدكم أن زيداً ابني ، يرثنى وأرثه " فلما رأى ذلك أبوه وعمه ، طابت نفوسهما ، فانصرفا ، ودعي زيد بن محمد ، حتى جاء الله بالإسلام : فنزلت : " ادعوهم لآبائهم " ( الأحزاب : 5) فدعي من يومئذ : زيد بن حارثة . قال معمر في جامعه عن الزهري : ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة وهو الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه أنعم عليه ، وأنعم عليه رسوله ، وسماه باسمه . وأسلم القس ورقة بن نوفل ، وتمنى أن يكون جذعاً إذ يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، وفي جامع الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة ، وفي حديث آخر : أنه رأه في ثياب بياض .
ودخل الناس في الدين واحداً بعد واحد ، وقريش لا تنكر ذلك ، حتى بادأهم بعيب دينهم ، وسب آلهتهم ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة ، فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب ، لأنه كان شريفاً معظماً في قريش، مطاعاً في أهله ، وأهل مكة لا يتجاسرون على مكاشفته بشئ من الأذى .
وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه ، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها .
وأما أصحابه ، فمن كان له عشيرة تحميه ، امتنع بعشيرته ، وسائرهم تصدوا له بالأذى والعذاب ، منهم عمار بن ياسر ، وأمه سمية ، وأهل بيته ، عذبوا فى الله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول : " صبراً يا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة " .
ومنهم بلال بن رباح ، فإنه عذب في الله أشد العذاب ، فهان على قومه ، وهانت عليه نفسه في الله ، وكان كلما اشتد عليه العذاب يقول : أحد أحد ، فيمر به ورقة بن نوفل . فيقول : إي والله يا بلال أحد أحد ، أما والله لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:30 AM
اشتداد أذى المشركين على من أسلم
فصل
ولما اشتد أذى المشركين على من أسلم ، وفتن منهم من فتن ، حتى يقولوا لأحدهم : اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول: نعم ، وحتى إن الجعل ليمر بهم ، فيقولون : وهذا إلهك من دون الله ، فيقول : نعم . ومر عدو الله أبو جهل بسمية أم عمار بن ياسر ، وهي تعذب ، وزوجها وابنها ، فطعنها بحربة في فرجها حتى قتلها .
كان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب ، اشتراه منهم ، وأعتقه ، منهم بلال ، وعامر بن فهيرة ، وأم عبيس ، وزنيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وجارية لبني عدي كان عمر يعذبها على الإسلام قبل إسلامه ، وقال له أبوه : يا بني أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت قوماً جلداً يمنعونك ، فقال له أبو بكر : إني أريد ما أريد .
فلما اشتد البلاء ، أذن الله سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة ، وكان أول من هاجر إليها عثمان بن عفان ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلاً ، وأربع نسوة : عثمان ، وامرأته ، وأبو حذيفة ، وامرأتة سهلة بنت سهيل ، وأبو سلمة ، وامرأته أم سلمة هند بنت أبي أمية ، والزببر بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة ، وأبو سبرة بن أبي رهم ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل بن وهب ، وعبد الله بن مسعود . وخرجوا متسللين سراً ، فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار ، فحملوهم فيهما إلى أرض الحبشة ، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من المبعث ، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر ، فلم يدركوا منهم أحداً ، ثم بلغهم أن قريشاً قد كفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجعوا ، فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار ، بلغهم أن قريشاً أشد ما كانوا عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل من دخل بجوار ، وفي تلك المرة دخل ابن مسعود ، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ، فلم يرد عليه ، فتعاظم ذلك على ابن مسعود ، حتى قال له النبى صلى الله عليه وسلم :" إن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة " هذا هو الصواب ، وزعم ابن سعد وجماعة أن ابن مسعود لم يدخل ، وأنه رجع إلى الحبشة حتى قدم فى المرة الثانية إلى المدينة مع من قدم ، ورد هذا بأن ابن مسعود شهد بدراً ، وأجهز على أبي جهل ، وأصحاب هذه الهجرة إنما قدموا المدينة مع جعفر بن أبى طالب وأصحابه بعد بدر بأربع سنين أو خمس .
قالوا : فإن قيل : بل هذا الذي ذكره ابن سعد يوافق قول زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل صاحبه ، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : " وقوموا لله قانتين " ( البقرة : 238) فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام ، وزيد بن أرقم من الأنصار ، والسورة مدنية ، وحينئذ فابن مسعود سلم عليه لما قدم وهو في الصلاة ، فلم يرد عليه حتى سلم ، وأعلمه بتحريم الكلام ، فاتفق حديثه وحديث ابن أرقم .
قيل : يبطل هذا شهود ابن مسعود بدراً ، وأهل الهجرة الثانية إنما قدموا عام خيبر مع جعفر وأصحابه ، ولو كان ابن مسعود ممن قدم قبل بدر ، لكان لقدومه ذكر ، ولم يذكر أحد قدوم مهاجري الحبشة إلا في القدمة الأولى بمكة ، والثانية عام خيبر مع جعفر ، فمتى قدم ابن مسعود في غير هاتين المرتين ومع من ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق ، قال : وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى الحبشة إسلام أهل مكة ، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك ، حتى إذا دنوا من مكة ، بلغهم أن إسلام أهل مكة كان باطلاً ، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار ، أو مستخفياً . فكان ممن قدم منهم ، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة ، فشهد بدراً وأحداً فذكر منهم عبد الله بن مسعود .
فإن قيل : فما تصنعون بحديث زيد بن أرقم ؟ قيل : قد أجيب عنه بجوابين ، أحدهما : أن يكون النهي عنه قد ثبت بمكة ، ثم أذن فيه بالمدينة ، ثم نهي عنه . والثاني : أن زيد بن أرقم كان من صغار الصحابة ، وكان هو وجماعة يتكلمون في الصلاة على عادتهم ، ولم يبلغهم النهي ، فلما بلغهم انتهوا ، وزيد لم يخبر عن جماعة المسلمين كلهم بأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة إلى حين نزول هذه الآية ، ولو قدر أنه أخبر بذلك لكان وهماً منه .
ثم اشتد البلاء من قريش على من قدم من مهاجري الحبشة وغيرهم ، وسطت بهم عشائرهم ، ولقوا منهم أذى شديداً ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية ، وكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب ، ولقوا من قريش تعنيفاً شديداً ، ونالوهم بالأذى ، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم ، وكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً ، إن كان فيهم عمار بن ياسر ، فإنه يشك فيه ، قاله ابن إسحاق ، ومن النساء تسع عشرة امرأة .
قلت : قد ذكر في هذه الهجرة الثانية عثمان بن عفان وجماعة ممن شهد بدراً ، فإما أن يكون هذا وهماً ، وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر ، فيكون لهم ثلاث قدمات : قدمة قبل الهجرة ، وقدمة قبل بدر ، وقدمة عام خيبر ، ولذلك قال ابن سعد وغيره : إنهم لما سمعوا مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ، ومن النساء ثمان نسوة ، فمات منهم رجلاً بمكة ، وحبس بمكة سبعة ، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً .
فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام ، وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري ، فلما قرىء عليه الكتاب ، أسلم ، وقال: لئن قدرت أن آتيه لآتينه .
وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت فيمن هاجر إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش ، فتنصر هناك ومات ، فزوجه النجاشي إياها ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، وكان الذي ولي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص .
وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ، ويحملهم ، ففعل ، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فوجدوه قد فتحها ، فكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهامهم ، ففعلوا .
وعلى هذا فيزول الإشكال الذي بين حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ، ويكون ابن مسعود قدم في المرة الوسطى بعد الهجرة قبل بدر إلى المدينة ، وسلم عليه حينئذ ، فلم يرد عليه ، وكان العهد حديثاً بتحريم الكلام ، كما قال زيد بن أرقم ، ويكون تحريم الكلام بالمدينة ، لا بمكة ، وهذا أنسب بالنسخ الذي وقع في الصلاة والتغيير بعد الهجرة ، كجعلها أربعاً بعد أن كانت ركعتين ، ووجوب الاجتماع لها .
فإن قيل : ما أحسنه من جمع وأثبته لو لا أن محمد بن إسحاق قد قال : ما حكيتم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة بعد رجوعه من الحبشة حتى هاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً ، وهذا يدفع ما ذكر .
قيل : إن كان محمد بن إسحاق قد قال هذا ، فقد قال محمد بن سعد في طبقاته : إن ابن مسعود مكث يسيراً بعد مقدمه ، ثم رجع الى أرض الحبشة ، وهذا هو الأظهر ، لأن ابن مسعود لم يكن له بمكة من يحميه ، وما حكاه ابن سعد قد تضمن زيادة أمر خفي على ابن إسحاق ، وابن إسحاق لم يذكر من حدثه ، ومحمد بن سعد أسند ما حكاه إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، فاتفقت الأحاديث ، وصدق بعضها بعضاً ، وزال عنها الإشكال ، ولله الحمد والمنة .
وقد ذكر ابن إسحاق في هذه الهجرة إلى الحبشة أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس ، وقد أنكر عليه ذلك أهل السير ، منهم محمد بن عمر الواقدي وغيره ، وقالوا : كيف يخفى ذلك على ابن إسحاق أو على من دونه ؟ قلت : وليس ذلك مما يخفى على من دون محمد بن إسحاق فضلاً عنه ، وإنما نشأ الوهم أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى أرض الحبشة إلى عند جعفر وأصحابه لما سمع بهم ، ثم قدم معهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، كما جاء مصرحاً به في الصحيح فعد ذلك ابن إسحاق لأبي موسى هجرة ، ولم يقل : إنه هاجر من مكة إلى أرض الحبشة لينكر عليه .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:31 AM
هجرة المسلمين إلى الحبشة حين اشتد الأذى عليهم
فصل
فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النجاشي آمنين ، فلما علمت قريش بذلك ، بعثت في أثرهم عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص ، بهدايا وتحف من بلدهم إلى النجاشي ليردهم عليهم ، فأبى ذلك عليهم ، وشفعوا إليه بعظماء بطارقته ، فلم يجبهم إلى ما طلبوا ، فوشوا إليه : إن هؤلاء يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، يقولون : إنه عبد الله ، فاستدعى المهاجرين إلى مجلسه ، ومقدمهم جعفر بن أبي طالب ، فلما أرادوا الدخول عليه ، قال جعفر : يستأذن عليك حزب الله ، فقال للآذن : قل له يعيد استئذانه ، فأعاده عليه ، فلما دخلوا عليه قال : ما تقولون في عيسى ؟ فتلا عليه جعفر صدراً من سورة ( كهيعص ) فأخذ النجاشى عوداً من الأرض فقال : ما زاد عيسى على هذا ولا هذا العود ، فتناخرت بطارقته عنده ، فقال: وإن نخرتم ، قال : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ، من سبكم غرم . والسيوم : الآمنون في لسانهم ، ثم قال للرسولين : لو أعطيتموني دبراً من ذهب ، يقول : جبلاً من ذهب ، ما أسلمتهم إليكما ، ثم أمر فردت عليهما هداياهما ورجعا مقبوحين .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:33 AM
إسلام حمزة عم النبي وجماعة كثيرين وفشو الاسلام
فصل
ثم أسلم حمزة عمه وجماعة كثيرون ، وفشا الإسلام ، فلما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو ، والأمور تتزايد ، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم ، وبني المطلب ، وبني عبد مناف ، أن لا يبايعوهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يكلموهم ، ولا يجالسوهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتبوا بذلك صحيفة ، وعلقوها في سقف الكعبة ، يقال : كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم ، ويقال : النضر بن الحارث ، والصحيح : أنه بغيض بن عامر بن هاشم فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشلت يده ، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم ، إلا أبا لهب ، فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم ، وبني المطلب ، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشعب شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم ، سنة سبع من البعثة ، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة ، وبقوا محبوسين ومحصورين ، مضيقاً عليهم جداً ، مقطوعاً عنهم الميرة والمادة ، نحو ثلاث سنين ، حتى بلغهم الجهد ، وسمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب ، وهناك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة أولها :
جزىالله عناعبد شمس ونوفلاً عقوبة شرعاجلاً غير آجل
وكانت قريش في ذلك بين راض وكاره ، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهاً لها ، وكان القائم بذلك هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك ، مشى في ذلك إلى المطعم بن عدي وجماعة من قريش ، فأجابوه إلى ذلك ، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم ، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم ، إلا ذكر الله عز وجل ، فأخبر بذلك عمه ، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا ، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقاً ، رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا ، قالوا : قد أنصفت ، فأنزلوا الصحيفة ، فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ازدادوا كفراً إلى كفرهم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب . قال ابن عبد البر : بعد عشرة أعوام من المبعث ، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر ، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام ، وقيل : غير ذلك .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:34 AM
خبر نقض الصحيفة
فصل
فلما نقضت الصحيفة ، وافق موت أبي طالب وموت خديجة ، وبينهما يسير ، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه ، وتجرؤوا عليه ، فكاشفوه بالأذى ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه ، ويمنعوه منهم ، ودعاهم إلى الله عز وجل فلم ير من يؤوي ، ولم ير ناصراً ، وآذوه مع ذلك أشد الأذى ، ونالوا منه ما لم ينله قومه ، وكان معه زيد بن حارثة مولاه ، فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه ، فقالوا : أخرج من بلدنا ، وأغروا به سفهاءهم ، فوقفوا له سماطين ، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه ، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج فى رأسه ، فانصرف راجعاً من الطائف إلى مكة محزوناً ، وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور دعاء الطائف :" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتى ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلا من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ؟ أو إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل علي غضبك ، أو أن ينزل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال ، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة ، وهما جبلاها اللذان هي بينهما ، فقال : " لا ، بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً " .
فلما نزل بنخلة مرجعه ، قام يصلي من الليل ، فصرف إليه نفر من الجن ، فاستمعوا قراءته ، ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين " ( الأحقاف : 29-32) .
وأقام بنخلة أياماً ، فقال له زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم ، وقد أخرجوك ؟ يعني قريشاً ، فقال : " يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه " .
ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي : أدخل فى جوارك ؟ فقال : نعم ، ودعا بنيه وقومه ، فقال : البسوا السلاح ، وكونوا عند أركان البيت ، فإني قد أجرت محمداً ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة ، حتى انتهى إلى المسجد الحرام ، فقام المطعم بن عدي على راحلته ، فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرت محمداً ، فلا يهجه أحد منكم ، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن ، فاستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف إلى بيته ، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:34 AM
الإسراء والمعراج
فصل
ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، راكباً على البراق ، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فنزل هناك ، وصلى بالأنبياء إماماً وربط البراق بحلقة باب المسجد .
وقد قيل : إنه نزل ببيت لحم ، وصلى فيه ، ولم يصح ذلك عنه البتة .
ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ، ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر ، فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه ، وأرواح الأشقياء عن يساره ، ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما ، فردا عليه، ورحبا به ، وأقرا بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه ، فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس . فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الخامسة ، فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء السادسة ، فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، فلما جاوزه ، بكى موسى ، فقيل له ، ما يبكيك ؟ فقال : أبكي ، لأن غلاماً بعث من بعدي ، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، ثم عرج به إلى السماء السابعة ، فلقى فيها إبراهيم ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته ، ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور ، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله ، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة . فرجع حتى مر على موسى ، فقال له : بم أمرت ؟ قال : بخمسين صلاة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار أن نعم إن شأت ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى ، وهو في مكانه . هذا لفظ البخاري في بعض الطرق ، فوضع عنه عشراً ، ثم أنزل حتى مر بموسى ، فأخبره فقال : إرجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى ، وبين الله عز وجل حتى جعلها خمساً ، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال : قد استحييت من ربى ، ولكن أرضى وأسلم فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي .
واختلف الصحابة : هل رأى ربه تلك الليلة ، أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه ، وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده .
وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك ، وقالا : إن قوله : " ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى " ( النجم : 13) إنما هو جبريل .
وصح عن أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ فقال : " نور أنى أراه " أي : حال بيني وبين رؤيته النور كما قال في لفظ آخر : " رأيت نوراً " .
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : وليس قول ابن عباس : إنه رآه مناقضاً لهذا ، ولا قوله : رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال : " رأيت ربي تبارك وتعالى " ولكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه ، وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، وقال : نعم رآه حقاً ، فإن رؤيا الأنبياء حق ، ولا بد ، ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى : إنه رآه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك ، فقد وهم عليه ، ولكن قال مرة : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده فحكيت عنه روايتان ، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه : أنه رآه بعيني رأسه ، وهذه نصوص أحمد موجودة ، ليس فيها ذلك .
وأما قول ابن عباس : أنه رآه بفؤاده مرتين ، فإن كان استناده إلى قوله تعالى : " ما كذب الفؤاد ما رأى " ( النجم :11) ثم قال : " ولقد رآه نزلة أخرى " ( النجم :13) والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل ، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها ، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد في قوله : رآه بفؤاده ، والله أعلم .
وأما قوله تعالى في سورة النجم : " ثم دنا فتدلى " ( النجم : 8) فهو غير الدنو والتدلي في قصة الإسراء ، فإن الذي في ( سورة النجم ) هو دنو جبريل وتدليه ، كما قالت عائشة وابن مسعود ، والسياق يدل عليه ، فإنه قال : " علمه شديد القوى " ( النجم :5) وهو جبريل " ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى " ( النجم :6-8) ، فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى ، وهو ذو المرة ، أي : القوة ، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى ، وهو الذي دنى فتدلى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى ، فأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء ، فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتدليه ولا تعرض في ( سورة النجم ) لذلك ، بل فيها أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، وهذا هو جبريل ، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين : مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى ، والله أعلم .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:35 AM
اشتداد أذى المشركين وتكذيبهم حين أخبرهم رسول الله بالإسراء
فصل
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه ، أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى ، فاشتد تكذيبهم له ، وأذاهم وضراوتهم عليه ، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس ، فجلاه الله له حتى عاينه ، فطفق يخبرهم عن آياته ، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئاً .
وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه ، وأخبرهم عن وقت قدومها وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها ، وكان الأمر كما قال ، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً ، وأبى الظالمون إلا كفوراً .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:35 AM
تحقيق القول فى أن الإسراء كان بجسده وروحه
فصل
وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا : إنما كان الإسراء بروحه ، ولم يفقد جسده ، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك ، ولكن ينبغى أن يعلم الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناماً ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده ، وبينهما فرق عظيم ، وعائشة ومعاوية لم يقولا : كان مناماً ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده ، وفرق بين الأمرين ، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة ، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء ، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض ، وروحه لم تصعد ولم تذهب ، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال ، والذين قالوا : عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان : طائفة قالت : عرج بروحه وبدنه ، وطائفة قالت : عرج بروحه ولم يفقد بدنه ، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناماً ، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها ، وعرج بها حقيقة ، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة ، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة ، فتقف بين يدي الله عز وجل ، فيأمر فيها بما يشاء ، ثم تنزل إلى الأرض والذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة .
ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم ، لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مقام خرق العوائد ، حتى شق بطنه، وهو حي لا يتألم بذلك ، عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة ، ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة ، فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان ، وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت ، وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومع هذا ، فلها إشراف على البدن وإشراق وتعلق به ، بحيث يرد السلام على من سلم عليه وبهذا التعلق رأى موسى قائماً يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ، ثم رد إليه ، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها ، فرآه يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة ، كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقراً هناك ، وبدنه في ضريحه غير مفقود ، وإذا سلم عليه المسلم رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يفارق الملأ الأعلى ، ومن كثف إدراكه ، وغلظت طباعه عن إدراك هذا ، فلينظر إلى الشمس في علو محلها ، وتعلقها ، وتأثيرها في الأرض ، وحياة النبات والحيوان بها ، هذا وشأن الروح فوق هذا ، فلها شأن ، وللأبدان شأن ، وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها ، مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم ، فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف .
فقل للعيون الرمد إياك أن تري سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:35 AM
الصحيح أن الاسراء كان مرة واحدة
فصل
قال موسى بن عقبة عن الزهري : عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه الى المدينة بسنة . وقال ابن عبد البر وغيره : كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى .
وكان الإسراء مرة واحدة . وقيل : مرتين : مرة يقظة ، ومرة مناماً ، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك ، وقوله : ثم استيقظت ، وبين سائر الروايات ، ومنهم من قال : بل كان هذا مرتين ، مرة قبل الوحي لقوله في حديث شريك : وذلك قبل أن يوحى إليه ومرة بعد الوحي ، كما دلت عليه سائر الأحاديث ، ومنهم من قال : بل ثلاث مرات : مرة قبل الوحي ، ومرتين بعده ، وكل هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات ، جعلوه مرة أخرى ، فكلما اختلفت عليهم الروايات ، عددوا الوقائع ، والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة .
ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه مراراً ، كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه فى كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً ، ثم يقول : أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ، ثم يحطها عشراً عشراً ، وقد غلط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء ومسلم أورد المسند منه ثم قال : فقدم وأخر وزاد ونقص ، ولم يسرد الحديث ، فأجاد رحمه الله .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:36 AM
مبدأ الهجرة إلى المدينة
فصل
في مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه ، وجعلها مبدأ لإعزاز دينه ونصر عبده ورسوله : قال الواقدي : حدثني محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ، ثم أعلن في الرابعة ، فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين ، يوافي الموسم كل عام ، يتبع الحاج في منازلهم ، وفي المواسم بعكاظ ، ومجنة ، وذي المجاز ، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة ، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه ، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ، ويقول : " يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، وتملكوا بها العرب ، وتذل لكم بها العجم ، فإذا آمنتم ، كنتم ملوكاً في الجنة " وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابىء كذاب ، فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ، ويؤذونه ، ويقولون : أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ، وهو يدعوهم إلى الله ، ويقول : " اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا " قال: وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم ، وعرض نفسه عليهم : بنو عامر بن صعصعة ، ومحارب بن حصفة ، وفزارة ، وغسان ، ومرة ، وحنيفة ، وسليم ، وعبس ، وبنو النضر ، وبنو البكاء ، وكندة ، وكلب ، والحارث بن كعب ، وعذرة ، والحضارمة ، فلم يستجب منهم أحد .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:36 AM
لقياه لمن قدم من الأوس والخزرج
فصل
وكان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبياً من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج ، فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ، وكانت الأنصار يحجون البيت كما كانت العرب تحجه دون اليهود ، فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله عز وجل ، وتأملوا أحواله ، قال بعضهم لبعض : تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه . وكان سويد بن الصامت من الأوس قد قدم مكة ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يبعد ولم يجب حتى قدم أنس بن رافع أبو الحيسر في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقال إياس بن معاذ وكان شاباً حدثاً : يا قوم هذا والله خير مما جئنا له ، فضربه أبو الحيسر وانتهره ، فسكت ، ثم لم يتم لهم الحلف ، فانصرفوا إلى المدينة.
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:37 AM
لقي النبي ستة نفر من الخزرج
فصل
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة فى الموسم ستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج ، وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، ورافع بن مالك ، وقطبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله بن رئاب ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلموا .
ثم رجعوا إلى المدينة ، فدعوهم إلى الإسلام ، ففشا الإسلام فيها حتى لم يبق دار إلا وقد دخلها الإسلام ، فلما كان العام المقبل ، جاء منهم اثنا عشر رجلاً ، الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ، ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم ، وذكوان بن عبد القيس ، وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة ، فيقال : إنه مهاجري أنصاري ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وأبو الهيثم بن التيهان وعويمر بن مالك هم اثنا عشر .
وقال أبو الزبير: عن جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم ، ومجنة ، وعكاظ ، يقول :" من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالات ربي ، وله الجنة ، " فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه ، حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن إلى ذي رحمه ، فيأتيه قومه فيقولون له : احذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عز وجل ، وهم يشيرون إليه بالأصابع ، حتى بعثنا الله من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب إلى أهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين ، يظهرون الإسلام ، وبعثنا الله إليه ، فائتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف ، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم ، فواعدنا بيعة العقبة ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك ، إني ذو معرفة بأهل يثرب ، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس في وجوهنا ، قال : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، هؤلاء أحداث ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : " تبايعوني على السمع والطاعة ، في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" فقمنا نبايعه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وهو أصغر السبعين ، فقال : رويداً يا أهل يثرب : إنا لم نضرب إليه أكباد المطى إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك ، فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله ، فقالوا : يا أسعد أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر هذه البيعة ، ولا نستقيلها ، فقمنا إليه رجلاً رجلاً ، فأخذ علينا وشرط ، يعطينا بذلك الجنة .
ثم انصرفوا إلى المدينة ، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم ، ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ، ويدعوان إلى الله عز وجل ، فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة ، وكان مصعب بن عمير يؤمهم ، وجمع بهم لما بلغوا أربعين فأسلم على يديهما بشر كثير ، منهم أسيد بن الحضير ، وسعد بن معاذ ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل الرجال والنساء ، إلا أصيراً عمرو بن ثابت بن وقش ، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، وأسلم حينئذ ، وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله سجدة ، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "عمل قليلاً ، وأجر كثيراً " .
وكثر الإسلام بالمدينة ، وظهر ، ثم رجع مصعب إلى مكة ، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين ، وزعيم القوم البراء بن معرور ، فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية من قومهم ، ومن كفار مكة ، على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم ، فكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور ، وكانت له اليد البيضاء ، إذ أكد العقد ، وبادر إليه ، وحضر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لبيعته كما تقدم ، وكان إذ ذاك على دين قومه ، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيباً ، وهم : أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، وكان إسلامه تلك الليلة ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبادة بن الصامت ، فهؤلاء تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس : أسيد بن الحضير ، وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر . وقيل : بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه .
وأما المرأتان : فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو ، وهي التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد ، وأسماء بنت عمرو بن عدي .
فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل العقبة بأسيافهم ، فلم يأذن لهم في ذلك ، وصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمع : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا أزب العقبة ، هذا ابن أزيب ، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ".
ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم ، فلما أصبح القوم ، غدت عليهم جلة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة ، وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا ، وايم الله ما حي من العرب أبغض إلينا من أن ينشب بيننا وبينه الحرب منكم ، فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين ، يحلفون لهم بالله : ما كان هذا وما علمنا ، وجعل عبد الله بن أبي بن سلول يقول : هذا باطل ، وما كان هذا ، وما كان قومي ليفتاتوا علي مثل هذا ، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني ، فرجعت قريش من عندهم ، ورحل البراء بن معرور ، فتقدم إلى بطن يأجج ، وتلاحق أصحابه من المسلمين ، وتطلبتهم قريش ، فأدركوا سعد بن عبادة ، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ، وجعلوا يضربونه ويجرونه ، ويجذبونه بجمته حتى أدخلوه مكة ، فجاء مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية ، فخلصاه من أيديهم ، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه ، فإذا سعد قد طلع عليهم ، فوصل القوم جميعاً إلى المدينة .
فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة ، فبادر الناس إلى ذلك ، فكان أول من خرج إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة ، ولكنها احتبست دونه ، ومنعت من اللحاق به سنة ، وحيل بينها وبين ولدها سلمة ، ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى المدينة ، وشيعها عثمان بن أبي طلحة .
ثم خرج الناس أرسالاً يتبع بعضهم بعضاً ، ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعلي ، أقاما بأمره لهما ، وإلا من احتبسه المشركون كرهاً ، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج ، وأعد أبو بكر جهازه .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:38 AM
لقي النبي ستة نفر من الخزرج
فصل
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة فى الموسم ستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج ، وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، ورافع بن مالك ، وقطبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله بن رئاب ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلموا .
ثم رجعوا إلى المدينة ، فدعوهم إلى الإسلام ، ففشا الإسلام فيها حتى لم يبق دار إلا وقد دخلها الإسلام ، فلما كان العام المقبل ، جاء منهم اثنا عشر رجلاً ، الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ، ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم ، وذكوان بن عبد القيس ، وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة ، فيقال : إنه مهاجري أنصاري ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وأبو الهيثم بن التيهان وعويمر بن مالك هم اثنا عشر .
وقال أبو الزبير: عن جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم ، ومجنة ، وعكاظ ، يقول :" من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالات ربي ، وله الجنة ، " فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه ، حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن إلى ذي رحمه ، فيأتيه قومه فيقولون له : احذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عز وجل ، وهم يشيرون إليه بالأصابع ، حتى بعثنا الله من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب إلى أهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين ، يظهرون الإسلام ، وبعثنا الله إليه ، فائتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف ، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم ، فواعدنا بيعة العقبة ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك ، إني ذو معرفة بأهل يثرب ، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس في وجوهنا ، قال : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، هؤلاء أحداث ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : " تبايعوني على السمع والطاعة ، في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" فقمنا نبايعه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وهو أصغر السبعين ، فقال : رويداً يا أهل يثرب : إنا لم نضرب إليه أكباد المطى إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك ، فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله ، فقالوا : يا أسعد أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر هذه البيعة ، ولا نستقيلها ، فقمنا إليه رجلاً رجلاً ، فأخذ علينا وشرط ، يعطينا بذلك الجنة .
ثم انصرفوا إلى المدينة ، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم ، ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ، ويدعوان إلى الله عز وجل ، فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة ، وكان مصعب بن عمير يؤمهم ، وجمع بهم لما بلغوا أربعين فأسلم على يديهما بشر كثير ، منهم أسيد بن الحضير ، وسعد بن معاذ ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل الرجال والنساء ، إلا أصيراً عمرو بن ثابت بن وقش ، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، وأسلم حينئذ ، وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله سجدة ، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "عمل قليلاً ، وأجر كثيراً " .
وكثر الإسلام بالمدينة ، وظهر ، ثم رجع مصعب إلى مكة ، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين ، وزعيم القوم البراء بن معرور ، فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية من قومهم ، ومن كفار مكة ، على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم ، فكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور ، وكانت له اليد البيضاء ، إذ أكد العقد ، وبادر إليه ، وحضر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لبيعته كما تقدم ، وكان إذ ذاك على دين قومه ، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيباً ، وهم : أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، وكان إسلامه تلك الليلة ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبادة بن الصامت ، فهؤلاء تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس : أسيد بن الحضير ، وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر . وقيل : بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه .
وأما المرأتان : فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو ، وهي التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد ، وأسماء بنت عمرو بن عدي .
فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل العقبة بأسيافهم ، فلم يأذن لهم في ذلك ، وصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمع : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا أزب العقبة ، هذا ابن أزيب ، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ".
ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم ، فلما أصبح القوم ، غدت عليهم جلة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة ، وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا ، وايم الله ما حي من العرب أبغض إلينا من أن ينشب بيننا وبينه الحرب منكم ، فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين ، يحلفون لهم بالله : ما كان هذا وما علمنا ، وجعل عبد الله بن أبي بن سلول يقول : هذا باطل ، وما كان هذا ، وما كان قومي ليفتاتوا علي مثل هذا ، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني ، فرجعت قريش من عندهم ، ورحل البراء بن معرور ، فتقدم إلى بطن يأجج ، وتلاحق أصحابه من المسلمين ، وتطلبتهم قريش ، فأدركوا سعد بن عبادة ، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ، وجعلوا يضربونه ويجرونه ، ويجذبونه بجمته حتى أدخلوه مكة ، فجاء مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية ، فخلصاه من أيديهم ، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه ، فإذا سعد قد طلع عليهم ، فوصل القوم جميعاً إلى المدينة .
فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة ، فبادر الناس إلى ذلك ، فكان أول من خرج إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة ، ولكنها احتبست دونه ، ومنعت من اللحاق به سنة ، وحيل بينها وبين ولدها سلمة ، ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى المدينة ، وشيعها عثمان بن أبي طلحة .
ثم خرج الناس أرسالاً يتبع بعضهم بعضاً ، ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعلي ، أقاما بأمره لهما ، وإلا من احتبسه المشركون كرهاً ، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج ، وأعد أبو بكر جهازه .
اسير الصحراء
05-01-2006, 12:38 AM
تآمر المشركين للفتك به وإيذان الله له بالهجرة
فصل
فلما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا ، وخرجوا ، وحملوا ، وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج ، وعرفوا أن الدار دار منعة ، وأن القوم أهل حلقة وشوكة وبأس ، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم ، فيشتد عليهم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ، ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره ، وحضرهم وليهم وشيخهم إبليس في صورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصماء في كسائه ، فتذاكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار كل أحد منهم برأي ، والشيخ يرده ولا يرضاه ، إلى أن قال أبو جهل : قد فرق لي فيه رأي ما أراكم قد وقعتم عليه ، قالوا : ما هو ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاماً نهداً جلداً ، ثم نعطيه سيفاً صارماً ، فيضربونه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنع ، ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ، ونسوق إليهم ديته ، فقال الشيخ : لله در الفتى ، هذا والله الرأي ، قال : فتفرقوا على ذلك ، واجتمعوا عليه ، فجاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى ، فأخبره بذلك ، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة .
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها متقنعاً ، فقال له : "أخرج من عندك " فقال : إنما هم أهلك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر : الصحابة يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " فقال أبو بكر : فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتى هاتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بالثمن " .
وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة ، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ، ويريدون بياته، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأخذ حفنة من البطحاء ، فجعل يذره على رؤوسهم ، وهم لا يرونه ، وهو يتلو : " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ( يس: 9 ) ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبى بكر ، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً ، وجاء رجل ، ورأى القوم ببابه فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمداً ، قال : خبتم وخسرتم قد والله مر بكم وذر على رؤوسكم التراب ، قالوا : والله ما أبصرناه ، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، وهم : أبو جهل ، والحكم بن العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وأبو لهب ، وأبي بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، فلما أصبحوا ، قام علي عن الفراش ، فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا علم لي به .
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور ، فدخلاه ، وضرب العنكبوت على بابه .
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي ، وكان هادياً ماهراً بالطريق ، وكان على دين قومه من قريش ، وأمناه على ذلك ، وسلما إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ، وجدت قريش في طلبهما ، وأخذوا معهم القافة ، حتى انتهوا إلى باب الغار ، فوقفوا عليه .
ففي الصحيحين أن أبا بكر قال : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا فقال : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن فإن الله معنا " وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعان كلامهم فوق رؤوسهما ، ولكن الله سبحانه عمى عليهم أمرهما ، وكان عامر بن فهيرة يرعى عليهما غنماً لأبي بكر ، ويتسمع ما يقال بمكة ، ثم يأتيهما بالخبر ، فإذا كان السحر سرح مع الناس .
قالت عائشة : وجهزناهما أحث الجهاز ، ووضعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ، فأوكت به الجراب ، وقطعت الأخرى فصيرتها عصاماً لفم القربة ، فلذلك لقبت ، ذات النطاقين .
وذكر الحاكم في مستدركه عن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ، ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله ، فقال له : يا رسول الله أذكر الطلب ، فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد ، فأمشي بين يديك فقال : " يا أبا بكر لو كان شئ أحببت أن يكون بك دوني ؟ " قال : نعم والذي بعثك بالحق ، فلما انتهى إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار ، فدخل ، فاستبرأه ، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة ، فقال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة ثم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل فمكثا في الغار ثلاث ليال حتى خمدت عنهما نار الطلب ، فجاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين ، فارتحلا ، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة ، وسار الدليل أمامهما ، وعين الله تكلؤهما ، وتأييده يصحبهما ، وإسعاده يرحلهما وينزلهما .
ولما يئس المشركون من الظفر بهما ، جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما ، فجد الناس في الطلب ، والله غالب على أمره ، فلما مروا بحي بني مدلج مصعدين من قديد ، بصر بهم رجل من الحي ، فوقف على الحي فقال : لقد رأيت آنفاً بالساحل أسودة ما أراها إلا محمداً وأصحابه ، ففطن بالأمر سراقة بن مالك ، فأراد أن يكون الظفر له خاصة ، وقد سبق له من الظفر ما لم يكن في حسابه ، فقال : بل هم فلان وفلان ، خرجا في طلب حاجة لهما ، ثم مكث قليلاً ، ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه : اخرج بالفرس من وراء الخباء ، وموعدك وراء الأكمة ، ثم أخذ رمحه ، وخفض عاليه يخط به الأرض حتى ركب فرسه ، فلما قرب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر يكثر الالتفات ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض ، فقال : قد علمت أن الذي أصابني بدعائكما ، فادعوا الله لي ، ولكما علي أن أرد الناس عنكما ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأطلق ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً ، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة ، فجاءه بالكتاب فوفاه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يوم وفاء وبر ، وعرض عليهما الزاد والحملان ، فقالا : لا حاجة لنا به ، ولكن عم عنا الطلب ، فقال : قد كفيتم ، ورجع فوجد الناس فى الطلب ، فجعل يقول : قد استبرأت لكم الخبر ، وقد كفيتم ما ها هنا ، وكان أول النهار جاهداً عليهما ، وآخره حارساً لهما .
اسير الصحراء
05-05-2006, 09:50 PM
فصل مروره بخيمتي أم معبد
ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة ذلك حتى مر بخيمتي أم معبد الخزاعية ، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة ، ثم تطعم وتسقي من مر بها ، فسألاها : هل عندها شئ ؟ فقالت : والله لو كان عندنا شئ ما أعوزكم القرى ، والشاء عازب ، وكانت سنة شهباء ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة ، فقال : " ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ " قالت : شاة خلفها الجهد عن الغنم ، فقال : " هل بها من لبن "؟ قالت : هي أجهد من ذلك ، فقال : " أتأذنين لي أن أحلبها ؟" قالت : نعم بأبي وأمي ، إن رأيت بها حلباً فاحلبها ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها ، وسمى الله ودعا ، فتفاجت عليه ، ودرت ، فدعا بإناء لها يربض الرهط ، فحلب فيه حتى علته الرغوة ، فسقاها فشربت حتى رويت ، وسقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب ، وحلب فيه ثانياً ، حتى ملأ الإناء ، ثم غادره عندها ، فارتحلوا ، فقلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً ، يتساوكن هزالاً لا نقي بهن ، فلما رأى اللبن ، عجب ، فقال : من أين لك هذا ، والشاة عازب ؟ ولا حلوبة في البيت ؟ فقالت : لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت ، ومن حاله كذا وكذا . قال : والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه ، صفيه لي يا أم معبد ، قالت : ظاهر الوضاءة ، أبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تعبه ثجلة ، ولم تزر به صعلة ، وسيم قسيم ، في عينيه دعج ، وفي أشفاره وطف ، وفي صوته صحل ، وفي عنقه سطع ، أحور ، أكحل ، أزج ، أقرن ، شديد سواد الشعر ، إذا صمت علاه الوقار ، وإن تكلم ، علاه البهاء ، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد ، وأحسنه وأحلاه من قريب ، حلو المنطق ، فصل ، لا نزر ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ، ربعة ، لا تقحمه عين من قصر ، ولا تشنؤه من طول ، غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة منظراً ، وأحسنهم قدراً ، له رفقاء يحفون به ، إذا قال : استمعوا لقوله ، وإذا أمر ، تبادروا إلى أمره ، محفود محشود ، لا عابس ولا مفند ، فقال أبو معبد : والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا ، لقد هممت أن أصحبه ، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً ، وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعونه ولا يرون القائل :
جزى الله رب العرش خير جزائــه رفيقين حـــلا خيمتـي أم معبـد
همــــا نزلا بالبــــر وارتحــلا بـــه وأفلــح من أمسى رفيق محمد
فيا لقصـــي مــــا زوى الله عنــكم به من فعال لا يجازى وسـودد
ليهـــن بني كعـــب مكان فتاتهــــم ومقعدهـــا للمــؤمنين بمــرصــد
سلــوا أختكم عــن شاتها وإنــائها فإنكم إن تسألوا الشاء تشــهد
قالت أسماء بنت أبي بكر : ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة ، فأنشد هذه الأبيات ، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ، ولا يرونه حتى خرج من أعلاها ، قالت : فلما سمعنا قوله ، عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن وجهه إلى المدينة .
اسير الصحراء
05-05-2006, 09:51 PM
خروج الأنصار إلى ظاهر المدينة لاستقباله
فصل
وبلغ الأنصار مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وقصده المدينة ، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار ، فإذا اشتد حر الشمس ، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم ، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة ، خرجوا على عادتهم ، فلما حمي حر الشمس رجعوا ، وصعد رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شأنه ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين ، يزول بهم السراب ، فصرخ بأعلى صوته : يا بنى قيلة هذا صاحبكم قد جاء ، هذا جدكم الذي تنتظرونه ، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف ، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه ، وخرجوا للقائه ، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة ، فأحدقوا به مطيفين حوله ، والسكينة تغشاه ، والوحي ينزل عليه " فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " ( التحريم : 4 ) ، فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف ، فنزل على كلثوم بن الهدم ، وقيل : بل على سعد بن خيثمة ، والأول أثبت ، فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء ، وهو أول مسجد ، أسس بعد النبوة .
فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر الله له ، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف ، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي .
ثم ركب ، فأخذوا بخطام راحلته ، هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة ، فقال : " خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة " فلم تزل ناقته سائرة به لا تمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم ، ويقول : " دعوها فإنها مأمورة " فسارت حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم ، وبركت ، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً ، ثم التفتت ، فرجعت ، فبركت في موضعها الأول ، فنزل عنها ، وذلك في بني النجار أخواله صلى الله عليه وسلم . وكان من توفيق الله لها ، فإنه أحب أن ينزل على أخواله ، يكرمهم بذلك ، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم ، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله ، فأدخله بيته ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المرء مع رحله " وجاء أسعد بن زرارة، فأخذ بزمام راحلته ، وكانت عنده وأصبح كما قال أبو قيس صرمة الأنصاري ، وكان ابن عباس يختلف إليه يتحفظ منه هذه الأبيات :
ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكــر لــو يلقى حبيباً مواتيــــا
ويعرض في أهل المواسم نفســـه فلم ير من يؤوي ولم ير داعيــــا
فلمـــا أتــانـــا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بطيبة راضيــــا
وأصبح لا يخشى ظـــلامة ظــــالم بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنــا لــه الأموال من حـــل مالنـــا وأنــفسنا عنــد الوغـــى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعـاً وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلـــم أن الـلـــــه لا رب غـيــــره وأن كتـــاب الله أصبـــح هاديـــا
قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فأمر بالهجرة وأنزل عليه : " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " ( الإسراء : 80) .
قال قتادة : أخرجه الله من مكة إلى المدينة مخرج صدق ونبي الله يعلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان ، فسأل الله سلطاناً نصيراً ، وأراه الله عز وجل دار الهجرة ، وهو بمكة فقال : أريت دار هجرتكم بسبخة ذات نخل بين لابتين .
وذكر الحاكم في مستدركه عن علي بن أبي طالب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : " من يهاجر معي ؟ " قال : أبو بكر الصديق .
قال البراء : أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرئان الناس القرآن ، ثم جاء عمار وبلال وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه في عشرين راكباً ، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيت الناس فرحوا بشئ كفرحهم به حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون : هذا رسول الله قد جاء .
وقال أنس : شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط ، كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة علينا ، وشهدته يوم مات ، فما رأيت يوماً قط ، كان أقبح ولا أظلم من يوم مات .
فأقام في منزل أبي أيوب حتى بنى حجره ومسجده ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع ، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه ، وسودة بنت زمعة زوجته ، وأسامة بن زيد ، وأمه أم أيمن ، وأما زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمكنها زوجها أبو العاص بن الربيع من الخروج ، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر ، ومنهم عائشة فنزلوا في بيت حارثة بن النعمان .
اسير الصحراء
05-05-2006, 09:51 PM
فصل في بناء المسجد
قال الزهري : بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم موضع مسجده وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين ، وكان مربداً لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار ، كانا في حجر أسعد بن زرارة ، فساوم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين بالمربد ، ليتخذه مسجداً ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فابتاعه منهما بعشرة دنانير ، وكان جداراً ليس له سقف ، وقبلته إلى بيت المقدس ، وكان يصلي فيه ويجمع أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيه شجرة غرقد وخرب ونخل وقبور للمشركين ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت ، وبالخرب فسويت وبالنخل والشجر فقطعت وصفت في قبلة المسجد ، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع ، والجانبين مثل ذلك أو دونه ، وجعل أساسه قريباً من ثلاثة أذرع ، ثم بنوه باللبن ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني معهم ، وينقل اللبن والحجارة بنفسه ويقول :
اللهم لا عيش إلا عيش الآخــــرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكان يقول :
هــذا الحمــال لا حمـــال خــيبــر هــذا أبــــر ربنــا وأطهــر
وجعلوا يرتجزون ، وهم ينقلون اللبن ، ويقول بعضهم في رجزه :
لئن قـعدنــا والرســـول يعمـــــل لــذاك منــا العمــل المضلــل
وجعل قبلته إلى بيت المقدس ، وجعل له ثلاثة أبواب : باباً في مؤخره ، وباباً يقال له : باب الرحمة ، والباب الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل عمده الجذوع ، وسقفه بالجريد ، وقيل له : ألا تسقفه ، فقال : " لا ، عريش كعريش موسى " وبنى إلى جنبه بيوت أزواجه باللبن ، وسقفها بالجريد والجذوع ، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد قبليه ، وهما مكان حجرته اليوم ، وجعل لسودة بنت زمعة بيتاً آخر .
اسير الصحراء
05-05-2006, 09:52 PM
مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار
فصل
ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك ، وكانوا تسعين رجلاً ، نصفهم من المهاجرين ، ونصفهم من الأنصار ، آخى بينهم على المواساة ، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر ، فلما أنزل الله عز وجل : " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " ( الأحزاب :6) رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة .
وقد قيل : إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية ، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه والثبت الأول ، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام ، وأخوة الدار ، وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار ، ولو آخى بين المهاجرين ، كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه ورفيقه في الهجرة ، وأنيسه في الغار ، وأفضل الصحابة وأكرمهم عليه أبو بكر الصديق وقد قال : " لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام أفضل " وفي لفظ " ولكن أخي و صاحبي " وهذه الأخوة في الإسلام وإن كانت عامة ، كما قال : " وددت أن قد رأينا إخواننا قالوا : ألسنا إخوانك ؟ قال أنتم أصحابي ، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني " فللصديق من هذه الأخوة أعلى مراتبها ، كما له من الصحبة أعلى مراتبها ، فالصحابة لهم الأخوة ، ومزية الصحبة ، ولأتباعه بعدهم الأخوة دون الصحبة .
اسير الصحراء
05-05-2006, 09:52 PM
موادعته من بالمدينة من اليهود
فصل
ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بالمدينة من اليهود ، وكتب بينه وبينهم كتاباً ، وبادر حبرهم وعالمهم عبد الله بن سلام ، فدخل في الإسلام ، وأبى عامتهم إلا الكفر .
وكانوا ثلاث قبائل : بنو قينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة ، وحاربه الثلاثة ، فمن على بني قينقاع ، وأجلى بني النضير ، وقتل بني قريظة ، وسبى ذريتهم ، ونزلت ( سورة الحشر ) في بني النضير، و ( سورة الأحزاب ) في بني قريظة .
اسير الصحراء
05-05-2006, 09:53 PM
فصل في تحويل القبلة
فصل
وكان يصلي إلى قبلة بيت المقدس ، ويحب أن يصرف إلى الكعبة ، وقال لجبريل : " وددت أن يصرف الله وجهي عن قبلة اليهود " فقال : إنما أنا عبد فادع ربك ، واسأله فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام " ( البقرة : 144) وذلك بعد ستة عشر شهراً من مقدمه المدينة قبل وقعة بدر بشهرين .
قال محمد بن سعد : أخبرنا هاشم بن القاسم ، قال : أنبأنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : ما خالف نبي نبياً قط في قبلة ، ولا في سنة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهراً ، ثم قرأ : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك " ( الشورى : 13) .
وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ، ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين .
فأما المسلمون ، فقالوا : سمعنا وأطعنا وقالوا : " آمنا به كل من عند ربنا " ( آل عمران : 7) وهم الذين هدى الله ، ولم تكن كبيرة عليهم .
وأما المشركون ، فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا وما رجع إليها إلا أنه الحق .
وأما اليهود ، فقالوا : خالف قبلة الأنبياء قبله ، ولو كان نبياً ، لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء .
وأما المنافقون ، فقالوا : ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقاً ، فقد تركها ، وإن كانت الثانية هي الحق ، فقد كان على باطل ، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس ، وكانت كما قال الله تعالى : " وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ( البقرة :143) وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ، ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه .
ولما كان أمر القبلة وشأنها عظيماً ، وطأ - سبحانه - قبلها أمر النسخ وقدرته عليه ، وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ، ثم عقب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينقد له ، ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى ، وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شئ ، وحذر عباده المؤمنين من موافقتهم ، واتباع أهوائهم ، ثم ذكر كفرهم وشركهم به ، وقولهم : إن له ولداً ، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً ، ثم أخبر أن له المشرق والمغرب ، وأينما يولي عباده وجوههم ، فثم وجهه ، وهو الواسع العليم ، فلعظمته وسعته وإحاطته أينما يوجه العبد ، فثم وجه الله .
ثم أخبر أنه لايسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه ، ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، وأنه إن فعل ، وقد أعاذه الله من ذلك ، فماله من الله من ولي ولا نصير ، ثم ذكرأهل الكتاب بنعمته عليهم ، وخوفهم من بأسه يوم القيامة ، ثم ذكر خليله باني بيته الحرام ، وأثنى عليه ومدحه وأخبر أنه جعله إماماً للناس ، يأتم به أهل الأرض ، ثم ذكر بيته الحرام ، وبناء خليله له ، وفي ضمن هذا أن باني البيت كما هو إمام للناس ، فكذلك البيت الذي بناه إمام لهم ، ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس ، ثم أمرعباده أن يأتموا برسوله الخاتم ، ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم ، وإلى سائر النبيين ، ثم رد على من قال : إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هوداً أو نصارى ، وجعل هذا كله توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة ، ومع هذا كله ، فقد كبر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم ، وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة ، بعد ثالثة ، وأمر به رسوله حيثما كان ، ومن حيث خرج ، وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذي هداهم إلى هذه القبلة ، وأنها هي القبلة التي تليق بهم ، وهم أهلها ، لأنها أوسط القبل وأفضلها ، وهم أوسط الأمم وخيارهم ، فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم ، كما اختار لهم أفضل الرسل ، وأفضل الكتب ، وأخرجهم في خير القرون ، وخصهم بأفضل الشرائع ، ومنحهم خير الأخلاق ، وأسكنهم خير الأرض ، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل ، وموقفهم في القيامة خير المواقف ، فهم على تل عال ، والناس تحتهم ، فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة ، ولكن الظالمون الباغون يحتجون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت ، ولا يعارض الملحدون الرسل إلا بها وبأمثالها من الحجج الداحضة ، وكل من قدم على أقوال الرسول سواها فحجته من جنس حجج هؤلاء .
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليتم نعمته عليهم ، وليهديهم ، ثم ذكرهم نعمه عليهم بإرسال رسوله إليهم ، وإنزال كتابه عليهم ، ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، ثم أمرهم بذكره وبشكره ، إذ بهذين الأمرين يستوجبون إتمام نعمه ، والمزيد من كرامته ، ويستجلبون ذكره لهم ، ومحبته لهم ، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به ، وهو الصبر والصلاة ، وأخبرهم أنه مع الصابرين .
اسير الصحراء
05-05-2006, 09:54 PM
مشروعية الأذان
فصل
وأتم نعمته عليهم مع القبلة بأن شرع لهم الأذان في اليوم والليلة خمسة مرات ، وزادهم في الظهر والعصر والعشاء ركعتين أخريين بعد أن كانت ثنائية ، فكل هذا كان بعد مقدمه المدينة .
اسير الصحراء
05-05-2006, 09:55 PM
مشروعية قتال الكفار والمشركين
فصل
فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وأيده الله بنصره ، بعباده المؤمنين الأنصار ، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم ، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر ، وبذلوا نفوسهم دونه وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج ، وكان أولى بهم من أنفسهم ، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة ، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة ، وصاحوا بهم من كل جانب ، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة ، واشتد الجناح ، فأذن لهم حينئذ في القتال ، ولم يفرضه عليهم ، فقال تعالى : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " ، ( الحج :39) .
وقد قالت طائفة : إن هذا الإذن كان بمكة ، والسورة مكية ، وهذا غلط لوجوه :
أحدها : أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال ، ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة .
الثاني : أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة ، وإخراجهم من ديارهم ، فإنه قال : " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله " ( الحج : 40) وهؤلاء هم المهاجرون .
الثالث : قوله تعالى : " هذان خصمان اختصموا في ربهم " ( الحج : 19) نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين .
الرابع : أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " والخطاب بذلك كله مدني ، فأما الخطاب( يا أيها الناس) فمشترك .
الخامس : أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد وغيره ، ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة ، فأما جهاد الحجة ، فأمر به في مكة بقوله : " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به " أي : بالقرآن " جهادا كبيرا " ( الفرقان: 52) فهذه سورة مكية ، والجهاد فيها هو التبليغ ، وجهاد الحجة ، وأما الجهاد المأمور به في ( سورة الحج ) فيدخل فيه الجهاد بالسيف .
السادس : أن الحاكم روى في مستدركه من حديث الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن ، فأنزل الله عز وجل : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا "
( الحج : 39 ) وهي أول آية نزلت في القتال . وإسناده على شرط الصحيحين وسياق السورة يدل على أن فيها المكي والمدني ، فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنية الرسول مكية ، والله أعلم .
اسير الصحراء
05-05-2006, 10:22 PM
فصل انواع الجهاد
ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " ( البقرة :195) .
ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة ، وكان محرماً ، ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرض عين على أحد القولين ، أو فرض كفاية على المشهور .
والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب ، وإما باللسان ، وإما بالمال ، وإما باليد ، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع .
أما الجهاد بالنفس ، ففرض كفاية ، وأما الجهاد بالمال ، ففي وجوبه قولان ، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء ، كما قال تعالى : " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ( التوبة :41) وعلق النجاة من النار به ، ومغفرة الذنب ، ودخول الجنة ، فقال : " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم "
( الصف : 10) وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك ، أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب فقال : " وأخرى تحبونها " ( الصف : 12) أي : ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد ، وهي " نصر من الله وفتح قريب " وأخبر سبحانه أنه " اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " ( التوبة : 110) وأعاضهم عليها الجنة ، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء ، وهي التوارة والإنجيل والقرآن ، ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى ، ثم أكد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه ، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم .
فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجله ، فإن الله عز وجل هو المشتري ، والثمن جنات النعيم ، والفوز برضاه ، والتمتع برؤيته هناك ، والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم . عليه من الملائكة والبشر ، وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم :
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين ، فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة ، بالله ما هزلت فيستامها المفلسون ، ولا كسدت ، فيبيعها بالنسيئة المعسرون ، لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد ، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس ، فتأخر البطالون ، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن ، فدارت السلعة بينهم ، ووقعت في يد " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " ( المائدة : 54 ) .
لما كثر المدعون للمحبة ، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى ، فلو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى الخلي حرفة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود ، فقيل : لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " ( آل عمران :31) فتأخر الخلق كلهم ، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه ، فطولبوا بعدالة البينة ، وقيل : لا تقبل العدالة إلا بتزكية " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " ( المائدة : 54) فتأخر أكثر المدعين للمحبة ، وقام المجاهدون ، فقيل لهم : إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم ، فسلموا ما وقع عليه العقد ، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين ، فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن ، وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ، ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد ، عرفوا أن للسلعة قدراً وشأناً ليس لغيرها من السلع ، فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة ، تذهب لذتها وشهوتها ، وتبقى تبعتها وحسرتها ، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء ، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضى واختياراً من غير ثبوت خيار ، وقالوا : والله لا نقيلك ولا نستقيلك فلما تم العقد ، وسلموا المبيع ، قيل لهم : قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا ، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " ( آل عمران : 69) لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلباً للربح عليكم ، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان ، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن . تأمل قصة جابر بن عبد الله وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيره ، ثم وفاه الثمن وزاده ، ورد عليه البعير وكان أبوه قد قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد ، فذكره بهذا الفعل حال أبيه مع الله ، وأخبره أن الله أحياه ، وكلمه كفاحاً وقال : يا عبدي تمن علي فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق ، فقد أعطى السلعة ، وأعطى الثمن ، ووفق لتكميل العقد ، وقبل المبيع على عيبه ، وأعاض عليه أجل الأثمان ، واشترى عبده من نفسه بماله ، وجمع له بين الثمن والمثمن ، وأثنى عليه ، ومدحه بهذا العقد ، وهو سبحانه الذي وفقه له ، وشاءه منه .
فحيهلا إن كنت ذا همــة فقـــــد حدا بك حادي الشوق فاطو المراجلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهــــــم إذا مــا دعــا لبيـــك ألفـــاً كوامــــلا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظــرت إلى الأطلال عــدن حــوائــلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعــــد ودعــه فــإن الشوق يكفيــك حـــاملا
وخذ منهم زاداً إليهم وسرعلـــى طريق الهـدى والحــب تصبح واصــلا
وأحي بذكراهم شراك إذا دنـت ركابــك فالذكـرى تعيــدك عـامــــلا
وأما تخافن الكلال فقل لهـــــــا أمامك ورد الوصــل فابغــي المناهلا
وخذ قبساً من نورهم ثم سر بـه فنـــورهم يهـــديــك ليس المشاعـــلا
وحى على وادي الأراك فقل بـه عسـاك تراهــم ثــم إن كنـت قــائـــلا
وإلاففي نعمان عندي معرف الـ ــأحبـة فاطلبــهم إذا كنــت سائــــلا
وإلا ففـــي جمـــع بليــلته فــإن تفـت فمنى يـا ويح من كــان غــافلا
وحي على جنات عدن فإنـــــها منــازلــك الأولــى بهــــا كنـت نــازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجـل ذا وقفــت على الأطلال تبكــي المنـــازلا
وحي على يوم المزيد بجنة الــــ خلود فجـــد بالنــفس إن كنــت باذلا
فدعها رسوماً دارسات فما بها مقيـــل وجــاوزهـــا فليســت منــازلا
رسوماًعفت ينتابهاالخلق كم بها قتيــل وكم فيـها لـذا الخلــق قـــاتــلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي عليـــه ســرى وفــــد الأحبــة آهــــلا
وقل ساعدي يانفس بالصبرساعة فعنــد اللقــا ذا الكــد يصبــح زائــــلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضــــــي ويصبح ذو الأحــزان فرحـــان جـــاذلا
لقد حرك الداعى إلى الله ، وإلى دار السلام النفوس الأبية ، والهمم العالية ، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية ، وأسمع الله من كان حياً ، فهزه السماع إلى منازل الأبرار ، وحدا به في طريق سيره ، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار فقال : انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي ، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ، ثم أحيا ، ثم أقتل ، ثم أحيا ، ثم أقتل .
وقال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة .
وقال : غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها .
وقال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة ، وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة .
وقال : جاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم .
وقال : أنا زعيم - والزعيم الحميل - لمن آمن بي ، وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة ، وببيت في وسط الجنة ، وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم ، وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة ، وببيت في وسط الجنة ، وببيت في أعلى غرف الجنة ، من فعل ذلك ، لم يدع للخير مطلباً ، ولا من الشر مهرباً يموت حيث شاء أن يموت .
وقال : من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة ، وجبت له الجنة .
وقال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة .
وقال لأبي سعيد : " من رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً ، وجبت له الجنة " ، فعجب لها أبو سعيد ، فقال: أعدها على يا رسول الله ، ففعل ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " .
وقال : " من أنفق زوجين في سبيل الله ، دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب ، أي فل هلم ، فمن كان من أهل الصلاة ، دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد ، دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة ، دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام ، دعي من باب الريان " فقال أبو بكر : بأبى أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة ، فهل يدعى من تلك الأبواب كلها ؟ قال : " نعم وأرجو أن تكون منهم " .
وقال : " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله ، فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، وعاد مريضاً أو أماط الأذى عن طريق ، فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله في جسده فهو له حطة " .
وذكر ابن ماجة عنه : من أرسل بنفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله ، وأنفق في وجهه ذلك ، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية : " والله يضاعف لمن يشاء "
( البقرة :261) .
وقال : " من أعان مجاهداً في سبيل الله أو غارماً في غرمه أو مكاتباً في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " .
وقال : " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار " .
وقال : " لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل واحد ، ولا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد " وفي لفظ في قلب عبد وفي لفظ فى جوف امرىء وفي لفظ في منخري مسلم .
وذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى : من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار ، فهما حرام على النار .
وذكر عنه أيضاً أنه قال : " لا يجمع الله في جوف رجل غباراً فى سبيل الله ودخان جهنم ، ومن اغبرت قدماه في سبيل الله ، حرم الله سائر جسده على النار ، ومن صام يوماً في سبيل الله ، باعد الله عنه النار مسيرة ألف سنة للراكب المستعجل ، ومن جرح جراحة في سبيل الله ، ختم له بخاتم الشهداء ، له نور يوم القيامة لونها لون الزعفران ، وريحها ريح المسك يعرفه بها الأولون والآخرون ، ويقولون : فلان عليه طابع الشهداء ، ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة ، وجبت له الجنة " .
وذكر ابن ماجة عنه : "من راح روحة في سبيل الله ، كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكاً يوم القيامة " .
وذكر أحمد - رحمه الله - عنه : " ما خالط قلب امرىء رهج في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار " .
وقال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها " .
وقال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات ، جرى عليه عمله الذى كان يعمله ، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ".
وقال : " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ، ويؤمن من فتنة القبر " .
وقال : " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " .
وذكر ابن ماجة عنه : " من رابط ليلة في سبيل الله ، كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها " .
وقال : " مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة ، أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة ، جاهدوا في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة ، وجبت له الجنة ".
وذكر أحمد عنه : " من رابط في شئ من سواحل المسلمين ثلاثة أيام ، أجزأت عنه رباط سنة " .
وذكر عنه أيضاً : " حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ، ويصام نهارها " .
وقال : " حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله ، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله " .
وذكر أحمد عنه : " من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعاً لا يأخذه سلطان ، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم ، فإن الله يقول : " وإن منكم إلا واردها " " .
وقال لرجل حرس المسلمين ليلة في سفرهم من أولها إلى الصباح على ظهر فرسه لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة : " قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها ".
وقال : " من بلغ بسهم في سبيل الله ، فله درجة في الجنة " .
وقال : " من رمى بسهم في سبيل الله ، فهو عدل محرر ، ومن شاب شيبة في سبيل الله ، كانت له نوراً يوم القيامة " وعند النسائي تفسير الدرجة عام ، .
وقال : " إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والممد به ، والرامي به ، وأرموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ، وكل شئ يلهو به الرجل فباطل إلا رميه بقوسه ، أو تأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته ، ومن علمه الله الرمي ، فتركه رغبة عنه ، فنعمة كفرها " رواه أحمد وأهل السنن وعند ابن ماجة " من تعلم الرمي ثم تركه ، فقد عصاني " . وذكر أحمد عنه أن رجلاً قال له : أوصني فقال : " أوصيك بتقوى الله ، فإنه رأس كل شئ ، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن ، فإنه روحك في السماء ، وذكر لك في الأرض " .
وقال : " ذروة سنام الإسلام الجهاد ". وقال : " ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سييل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف ".
وقال : " من مات ، ولم يغز ، ولم يحدث به نفسه ، مات على شعبة من نفاق " .
وذكر أبو داود عنه : " من لم يغز ، أو يجهز غازياً ، أو يخلف غازياً فى أهله بخير ، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة " .
وقال : " إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، أنزل الله بهم بلاء ، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم " .
وذكر ابن ماجة عنه : " من لقي الله عز وجل ، وليس له أثر في سبيل الله ، لقي الله ، وفيه ثلمة " .
وقال تعالى : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ( البقرة :195) ، وفسر أبو أيوب الأنصاري الالقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهاد ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم : " إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " .
وصح عنه : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله " .
وصح عنه : " إن النار أول ما تسعر بالعالم والمنفق والمقتول في الجهاد إذا فعلوا ذلك ليقال " .
وصح عنه : " أن من جاهد يبتغي عرض الدنيا ، فلا أجر له " .
وصح عنه أنه قال لعبد الله بن عمرو : " إن قاتلت صابراً محتسباً ، بعثك الله صابراً محتسباً ، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً ، بعثك الله مرائياً مكاثراً ، يا عبد الله بن عمرو على أي وجه قاتلت أو قتلت ، بعثك الله على تلك الحال " .
اسير الصحراء
05-05-2006, 10:25 PM
استحباب القتال أول النهار
فصل
وكان يستحب القتال أول النهار ، كما يستحب الخروج للسفر أوله ، فإن لم يقاتل أول النهار ، أخر القتال حتى تزول الشمس ، وتهب الرياح وينزل النصر .
اسير الصحراء
05-05-2006, 10:26 PM
ما ورد في فضل الشهيد
فصل
قال : " والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سببل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم ، والريح ريح المسك" .
وفي الترمذي عنه " ليس شئ أحب إلى الله من قطرتين أو أثرينلا، قطرة دمعة من خشية الله ، وقطرة دم تهراق في سبيل الله ، وأما الأثران ، فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله " .
وصح عنه أنه قال : " ما من عبد يموت ، له عند الله خير لا يسره أن يرجع إلى الدنيا ، وأن له الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا ، فيقتل مرة أخرى " وفي لفظ : " فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة " .
وقال لأم حارثة بنت النعمان ، وقد قتل ابنها معه يوم بدر ، فسألته أين هو ؟ قال : " إنه في الفردوس الأعلى " .
وقال : " إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ فقالوا : أي شئ نشتهي ، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ، ففعل بهم ذلك ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا " .
وقال : " إن للشهيد عند الله خصالاً أن يغفر له من أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلية الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها . ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه " ذكره أحمد وصححه الترمذي .
وقال لجابر : " ألا أخبرك ما قال الله لأبيك ؟" قال : بلى ، قال : " ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب ، وكلم أباك كفاحاً ، فقال : يا عبدي تمن علي أعطك ، قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية ، قال : إنه سبق مني " أنهم إلينا لا يرجعون " قال : يا رب فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " "( آل عمران : 169) .
وقال : لما أصيب إخوانكم ، بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم ، قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله على رسوله هذه الآيات : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا " .
وفي المسند مرفوعاً : " الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية " .
وقال : " لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى يبتدره زوجتاه ، كأنهما طيران أضلتا فصيليهما ببراح من الأرض بيد كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها " .
وفي المستدرك والنسائي مرفوعاً : " لأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل المدر والوبر " .
وفيهما : "ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة " .
وفي السنن : "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" .
وفي المسند :" أفضل الشهداء الذين إن يلقوا في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا ، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة ، ويضحك إليهم ربك ، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا ، فلا حساب عليه " .
وفيه : " الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو، فصدق الله حتى قتل ، فذلك الذي يرفع إليه الناس أعناقهم ، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه حتى وقعت قلنسوته ، ورجل مؤمن جيد الإيمان ، لقي العدو فكأنما يضرب جلده بشوك الطلح أتاه سهم غرب ، فقتله ، هو في الدرجة الثانية ، ورجل مؤمن جيد الإيمان خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الثالثة ، ورجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافاً كثيراً لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذلك في الدرجة الرابعة " .
وفي المسند و صحيح ابن حبان :" القتلى ثلاثة : رجل مؤمن جاهد بماله ونفسه في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل ، فذاك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه ، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة ، ورجل مؤمن فرق على نفسه من الذنوب والخطايا ، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقى العدو ، قاتل حتى يقتل ، فتلك ممصمصة محت ذنوبه وخطاياه ، إن السيف محاء الخطايا ، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء ، فإن لها ثمانية أبواب ، ولجهنم سبعة أبواب ، وبعضها أفضل من بعض ، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله ، حتى إذا لقي العدو ، قاتل في سبيل الله حتى يقتل ، فإن ذلك في النار ، إن السيف لا يمحو النفاق " .
وصح عنه : " أنه لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً " .
وسئل أي الجهاد أفضل ؟ فقال : " من جاهد المشركين بماله ونفسه " قيل : فأي القتل أفضل ؟ قال : " من أهريق دمه ، وعقر جواده في سبيل الله " .
وفي سنن ابن ماجة : " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" وهو لأحمد والنسائي مرسلاً .
وصح عنه : " أنه لا تزال طائفة من أمته يقاتلون على الحق لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة " وفي لفظ : " حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال " .
اسير الصحراء
05-05-2006, 10:26 PM
فصل في مبايعته أصحابه في الحرب على ألا يفروا
فصل
باب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في الحرب على ألا يفروا ، وربما بايعهم على الموت ، وبايعهم على الجهاد كما بايعهم على الإسلام ، وبايعهم على الهجرة قبل الفتح ، وبايعهم على التوحيد ، والتزام طاعة الله ورسوله ، وبايع نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً .
وكان السوط يسقط من يد أحدهم ، فينزل عن دابته ، فيأخذه ، ولا يقول لأحد : ناولني إياه .
وكان يشاور أصحابه في أمر الجهاد ، وأمر العدو ، وتخير المنازل ، وفي المستدرك عن أبي هريرة : ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان يتخلف في ساقتهم في المسير ، فيزجي الضعيف ، ويردف المنقطع ، وكان أرفق الناس بهم في المسير .
وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها ، فيقول مثلاً إذا أراد غزوة حنين : كيف طريق نجد ومياهها ومن بها من العدو ونحو ذلك. وكان يقول : " الحرب خدعة " .
وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوه ، ويطلع الطلائع ، ويبيت الحرس .
وكان إذا لقي عدوه ، وقف ودعا ، واستنصر الله ، وأكثر هو أصحابه من ذكر الله ، وخفضوا أصواتهم .
وكان يرتب الجيش والمقاتلة ، ويجعل في كل جنبة كفئاً لها ، وكان يبارز بين يديه بأمره ، وكان يلبس للحرب عدته ، وربما ظاهر بين درعين ، وكان له الألوية والرايات .
وكان إذا ظهر على قوم ، أقام بعرصتهم ثلاثاً ، ثم قفل .
وكان إذا أراد أن يغير ، انتظر ، فإن سمع في الحي مؤذناً ، لم يغر وإلا أغار . وكان ربما بيت عدوه ، وربما فاجأهم نهاراً .
وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرة النهار ، وكان العسكر إذا نزل انضم بعضه إلى بعض حتى لو بسط عليهم كساء لعمهم .
وكان يرتب الصفوف ويعبئهم عند القتال بيده ، ويقول : " تقدم يا فلان ، تأخر يا فلان " .
وكان يستحب للرجل منهم أن يقاتل تحت راية قومه .
وكان إذا لقي العدو ، قال : " اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم ، وانصرنا عليهم "، وربما قال : " سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " .
وكان يقول : " اللهم أنزل نصرك " وكان يقول : " اللهم أنت عضدي وأنت نصيري ، وبك أقاتل " . وكان إذا اشتد له بأس، وحمي الحرب ، وقصده العدو ، يعلم بنفسه ويقول :
أنا النبي لا كــــذب أنا ابن عبــد المطلـــب
وكان الناس إذا اشتد الحرب اتقوا به صلى الله عليه وسلم وكان أقربهم إلى العدو .
وكان يجعل لأصحابه شعاراً في الحرب يعرفون به إذا تكلموا ، وكان شعارهم مرة : أمت أمت ومرة :يا منصور ومرة: حم لا ينصرون .
وكان يلبس الدرع والخوذة ، ويتقلد السيف ، ويحمل الرمح والقوس العربية ، وكان يتترس بالترس ، وكان يحب الخيلاء في الحرب وقال : " إن منها ما يحبه الله ، ومنها ما يبغضه الله فأما الخيلاء التي يحبها الله ، فاختيال الرجل بنفسه عند اللقاء ، واختياله عند الصدقة ، وأما التي يبغض الله عز وجل ، فاختياله في البغي والفخر ".
وقاتل مرة بالمنجنيق نصبه على أهل الطائف . وكان ينهى عن قتل النساء والولدان وكان ينظر في المقاتلة ، فمن رآه أنبت ، قتله ، ومن لم ينبت ، استحياه .
وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله ، ويقول : " سيروا بسم الله وفي سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، ولا تمثلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليداً " .
وكان ينهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو .
وكان يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إما إلى الإسلام والهجرة ، أو إلى الإسلام دون الهجرة ، ويكونون كأعراب المسلمين ، ليس لهم في الفيء نصيب ، أو بذل الجزية ، فإن هم أجابوا إليه ، قبل منهم ، وإلا استعان بالله وقاتلهم .
وكان إذا ظفر بعدوه ، أمر منادياً ، فجمع الغنائم كلها ، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها ، ثم أخرج خمس الباقي ، فوضعه حيث أراه الله ، وأمره به من مصالح الإسلام ، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد ، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش ، للفارس ثلاثة أسهم : سهم له ، وسهمان لفرسه ، وللراجل سهم هذا هو الصحيح الثابت عنه .
وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة ، وقيل : بل كان النفل من الخمس ، وقيل وهو أضعف الأقوال : بل كان من خمس الخمس .
وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس ، فأعطاه أربعة أسهم لعظم غنائه في تلك الغزوة .
وكان يسوي الضعيف والقوي في القسمة ما عدا النفل .
وكان إذا أغار في أرض العدو ، بعث سرية بين يديه ، فما غنمت ، أخرج خمسه ، ونفلها ربع الباقي ، وقسم الباقي بينها وبين سائر الجيش ، وإذا رجع ، فعل ذلك ، ونفلها الثلث ومع ذلك ، فكان يكره النفل ويقول : " ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم ".
وكان له صلى الله عليه وسلم سهم من الغنيمة يدعى الصفي ، إن شاء عبداً ، وإن شاء أمة وإن شاء فرساً يختاره قبل الخمس.
قالت عائشة : وكانت صفية من الصفي رواه أبو داود . ولهذا جاء في كتابه إلى بني زهير بن أقيش " إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وسهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله" .
وكان سيفه ذو الفقار من الصفى .
وكان يسهم لمن غاب عن الوقعة لمصلحة المسلمين ، كما أسهم لعثمان سهمه من بدر ، ولم يحضرها لمكان تمريضه لامرأته رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله " فضرب له سهمه وأجره .
وكانوا يشترون معه في الغزو ويبيعون ، وهو يراهم ولا ينهاهم ، وأخبره رجل أنه ربح ربحاً لم يربح أحد مثله ، فقال : " ما هو؟ " قال : ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية ، فقال : " أنا أنبئك بخير رجل ربح " قال : ما هو يا رسول الله ؟ قال : "ركعتين بعد الصلاة " .
وكانوا يستأجرون الأجراء للغزو على نوعين ، أحدهما : أن يخرج الرجل ، ويستأجر من يخدمه في سفره . والثاني : أن يستأجر من ماله من يخرج في الجهاد ، ويسمون ذلك الجعائل ، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم : " للغازي أجره ، وللجاعل أجره وأجر الغازي " .
وكانوا يتشاركون في الغنيمة على نوعين أيضاً . أحدهما : شركة الأبدان ، والثاني : أن يدفع الرجل بعيره إلى الرجل أو فرسه يغزو عليه على النصف مما يغنم حتى ربما اقتسما السهم ، فأصاب أحدهما قدحه ، والآخر نصله وريشه .
وقال ابن مسعود : اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر ، فجاء سعد بأسيرين ، ولم أجيء أنا وعمار بشئ .
وكان يبعث بالسرية فرساناً تارة ، ورجالاً أخرى ، وكان لا يسهم لمن قدم من المدد بعد الفتح .
اسير الصحراء
05-05-2006, 10:27 PM
إعطاء سهم ذي القربى لبني هاشم وبني المطلب
فصل
وكان يعطي سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب دون إخوتهم من بني عبد شمس وبني نوفل ، وقال : " إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد" وشبك بين أصابعه ، وقال : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام " .
UNBREAKABLE
12-11-2006, 11:16 AM
ما كلنه شوي اللي كاتبنه؟؟
هع
UNBREAKABLE
12-11-2006, 11:18 AM
عالعموم مشششكور صديقي
هع
vBulletin® v3.8.11, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir