تسأولات أمام الحوار : الحوار تآلف أم تخالف؟
بقلم د. سعيد بن ناصر الغامدي
"...وفي خضم ذلك تسمع من الاستدلالات ما يثير الاستغراب ، كالقول بأن الحوار لو كان صحيحاً لما غاب عنه فلان ، أو القول بأنه لو كان فاسداً لما حضره فلان ، وهكذا في صيغ استدلالية هشة تجعل الحق معروفاً بالرجال وليس العكس ..."
من الطبيعي في النفس البشرية أن تتوجس وتتردد أمام أي قضية جديدة فيها تغيير عن الوضع السابق .
والتغيير حقيقة حياتية وسنة كونية في الأنفس والمجتمعات , ويمكن للبصير المتأمل اكتشافه , بيد أن الراسخ في الفهم هو الذي يستطيع أن يتعايش معه ، أما الحكيم العبقري فهو الذي يوجد التغيير ويرسم للآخرين مسارات المشي على دروبه , في حين أن أكثرية الناس يريدون الأمور أن تبقى كما هي ,، ويعتقدون أن التغيير سيئٌ أو يمكن أن يحمل في طياته السوء .
بيد أن هناك جملة من المنطلقات الإنسانية يمكنها أن تبين لنا مستويات الوجود النفسي وأثر ذلك التعبير عن طريقة التفكير التي يفكر بها الإنسان , من هذه المنطلقات :
أ - أن طبيعة الإنسان ليست ثابتة ولا مستقرة ، بل هي ـ في الأعم الأغلب ـ تتغير بتغير أحواله وما يحيط به , لينتج منظومة حياتية جديدة ، مع احتفاظه بالمنظومات السابقة .
ب - عندما تنشط المنظومة الجديدة في الإنسان ، تتغير نفسيته وشروط الحياة لديه ، وكيفية التعامل من المتطلبات الجديدة .
ج - استجابة الفرد أو المجتمع لطرق الإدارة ووسائل التربية والمعايير والمتطلبات المرحلية ، تكون إيجابية إذا كانت هذه الطرق والوسائل والمعايير والمتطلبات منسجمة مع مستوى الوجود النفسي الذي يعيشه الإنسان .
وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير ما حصل (محليا ً ) من جدل حول ( قضية الحوار ) ، فقد انقسم أهل العلم والدعوة إلى عدة أقسام :
القسم الأول : رحب به وتوجه إليه ممارسة أو تأييدا.
القسم الثاني : رفضه وامتنع من ممارسة أو تأييده .
القسم الثالث : ينتظر ويتأمل ويقيس , ويترقب الفرصة المناسبة للتكيف مع جو إحدى الطائفتين السابقتين .
ولكل وجهة هو موليها في أسباب قبوله ورفضه أو توقفه .
وليس المقام هنا مقام مناقشة لهذه المواقف وأسبابها ودواعيها ، بل لوضع نوع من الإضاءة التي - ربما أدت إلى - تحريك المتحفظ والمتوقف وكبح عنفوان المستعجل .
إضاءة أرجو أن تلامس المقصد ، وتفضي إلى المتوخى عند الجميع : (خير البلاد والعباد ) .
لابد من الاعتراف أولا ً بأن أكثر ما يعيق الإنسان هو تفكيره الذاتي وتصوره للأمور ، كما أن أغلب ما يجعله متحركا ً منطلقا ً
هو قناعاته وتصوراته ، فمن رأى في الحوار فرصة للتعبير عن المكنون ، ووسيلة لإيضاح فكرته أو تخفيف حدة خصمه ، أو بيان موقفه من القضايا الفكرية والعملية ، أو لتحصيل منفعة عامة
وجد أن المشاركة في الحوار أو التوافق معه له فائدة كبيرة ومصلحة واضحة
ولا تثريب عليه في ذلك , فهذا مدرك من مدارك الاجتهاد
وله حظ من النظر وأدلة من الشرع في أصل مشروعية الحوار مع المخالف والمؤالف .
ومن رأى أن أهداف الحوار غامضة بالنسبة له
أو فيها تمكين لمن لا ينبغي له أن يمكن ، أو خشي من التنازل ، أو خاف من الدوافع المحركة لهذا الأمر فشعاره : الاكتفاء بالموجود أفضل من التشوق لمجهول مفقود
وهذا أيضا ً لا تثريب عليه , فقوله ورأيه من مواضع الاجتهاد , وله حظ من النظر والأدلة .
إلى هنا والأمر لا ضير فيه ولا إشكال معه ، فحال الاختلاف في هذه المسألة كحال الاختلاف في المسائل الظنية والقضايا الاجتهادية .
وإنما الضير والفساد ينشأ من التعصب واحتكار الصواب ، واتهام المخالف ، والتثريب عليه والاستخفاف برأيه وموقفه ، ونحو ذلك من الأمور التي تندرج تحت قوله تعالى : ( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا ً بينهم ) ، فالبغي بالعلم والرأي والاجتهاد مسلك سلبي
والجزم في القضايا التي تقبل النظر والتأمل طريق مغلق
وكم هي فداحة الخسارة باحتكار الصواب ؟ بحيث يصبح المحتكر في موقف
يجعله يقطع في محل الظن ويجزم في موطن الاجتهاد .
وقد يتجاوز الأمر حده عند البعض ـ تعصبا ً أو جهلا ً ـ فيسم المخالف بسيماء لا يرضى بأن يوسم هو بها .
فقد تجد من اقتنع بالحوار يصف المخالفين بالجمود أو القسوة أو قصر النظر .
وقد تجد من يعارض الحوار يصف المخالف له بالتميع والضعف ، والمهادنة الفاسدة ، والتحالف الخاطئ, والسير وفق إرادة الفاسدين أو المتحكمين .
وفي خضم ذلك تسمع من الاستدلالات ما يثير الاستغراب
كالقول بأن الحوار لو كان صحيحا ً لما غاب عنه فلان ، أو القول بأنه لو كان فاسداً لما حضره فلان
وهكذا في صيغ استدلالية هشة تجعل الحق معروفا ً بالرجال وليس العكس .
ولعل من المفيد أن تنضج الاجتهادات على ضوء الاختلاف المحمود ، والتعاذر المبرور ، والتغافر المطلوب ، ولعل من نافلة القول أن يشار إلى فضيلة الاستفادة من قواعد النظر والاجتهاد وضوابطها الشرعية المدونة في كتب أهل العلم
والموصوفة في سيرهم من عهد الصحابة إلى الآن ، ففيها من فسحة الإعذار ، ما يجعل المتحمس لرأيه أو لشيخه أو لفئة معينة يزن الأمور بميزان التأني والرفق والحلم ملقيا ً عن كاهله عصا الاتهام والتجريح ، متأملا في شروط الحياة
( الزمان والمكان والمشكلات والظروف )
ومستويات الوجود
( العقائد القيم التصورات طريقة التفكير )
ثم النظر الحكيم في التأثير المتبادل بين شروط الحياة ومستويات الوجود ، ليتم بعد ذلك الثبات من غير تجمد ، والتطور من غير ترهل .
وعساكم تستفيدون من هذا المقال
   
توقيع عطــر الأماكنــ |
شفت المقفي وربي مـــــــا أتبعه لـــو خطوتين وأصبعي وهو أصبعي لامـــــــــــن غدرني أقطعه بسألك سؤال واحـــــــد والجـــــــــواب بكلمتين لاصار قدرك والهوى خصمين من تقف معه؟!!
|
|