
12-17-2005, 11:04 PM
|
أما عندما يأتي على ذكر أسماء السفن وأنواعها: البغلة والسنبوك والبوم، والغنجة أو عروس البحر كما كان يحلو له تسميتها، فإن من يستمع إليه لا يمكنه إلا أن يشعر بالعشق الذي يكنه للبحر والسفن وحين يغالي في وصفها ويستطرد، يغدو حديثه حينئذ وكأنه يصف مخلوقات" حية لها قلوب تنبض وعيون ترى وآذن تسمع!
وطوال تلك الجلسات التي تمتد أحياناً إلى منتصف الليل، كنت أتوسد فخذ أبي وأتدفأ بردائه وأنا أصغي بشغف لقصص البحر والبحارة وأتابع حديثه الجذل عن "عروس البحر" المتماهية كبرا بهيكلها الانسيابي الضخم ونقوش مؤخرتها وزخارف أكليل رأسها البديع وصلابة بدنها وقدرتها على شق الأمواج والسير عكس الرياح والتيارات البحرية!
كان البدو يجلسون وهم يصغون إليه بانتباه شديد، لكنهم لا يكفون عن مقاطعته والاستفسارعن مفردات لم تألفها أذانهم، أو جوانب يصعب عليهم بحكم بيئتهم تخيلها. وكانوا يلفون أجسادهم الهزيلة . إذا كان الوقت شتاء . بأردية نسجتها زوجاتهم من صوف الماعز أو وبر الجمال، ويدسون أقدامهم داخل "زرابيل"
(1) ويدفنوننها تحت الرمل الناعم بحثا عن دفء حرارة الشمس التي يحتفظ بها الرمل خلال فترة طويلة بعد غيابها. وكان الحديث يطول ويتشعب ولا يتوقف حتى يذكر من يهم بالمغادرة الجالسين أن " كل علة وأبوها البرد" !
*** بعد مضي ثلاث سنوات على ذلك الصباح حين وقفت أتأمل الشمس بعينين مفتوحتين على وسعهما وهي تبزغ من بحر العرب، وفي مدرسة المرقاب الابتدائية بدولة الكويت ، قال مدرس مادة "الاجتماعيات" لتلاميذ الصف الرابع الابتدائي وهو يسحب إصبعي إلى اليمين قليلا إثر طول بحث عن موقع مدينة " صور" بعد أن حددت موقع عمان على خارطة الوطن العربي المعلقة على أحد جدران الفصل: "إنها أول أرض عربية تطلع عليها الشمس". فتذكرت ذلك اللقاء الصباحي المدهش حين طبعت يدي على التراب الرطب ووقفت أتأمل الشمس وهي تثير أشعتها الذهبية على وجه الماء . وفي سري تساءلت من يدري؟. لعلي كنت أول صبي عربي تلامس الشمس صفحة خده ذلك الصباح!، وعرفت من المدرس أيضا أني كنت أقف على مرمى حجر من أكثر خطوط الملاحة أهمية حيث تمر فيه أكثر من نصف صادرات العالم من النفط حينئذ!
*** مثله في ذلك مثل غيره من جوّابي البحار الذين يعتقدون أن سفن الماء تصنع الرجال وتقرب الأرحام مثلما نفعل سفن الصحراء، قرر والدي أن الوقت حان لتعليمي بعض مهارات الإبحار والتعرف عن كثب على البحر، ولم يكن ثمة أفضل وسيلة لخوض تلك التجربة على ظهر
سفينة العائلة الملقبة بـ (( صوت العرب)). وهي سفينة شحن ونقل ركاب تبلغ حمولتها حوالي 150 طناً، وقد اشتهرت خلال الستينيات وأوائل السبعينات بسرعتها ومهارة بحّارتها .. خاصة في حركة نقل المسافرين والبضائع بين مسقط وصور، ولهذا أطلع الصوريون عليها ذلك اللقب
نسبة إلى إذاعة ((صوت العرب)) التي كانت تبث حينئذ من القاهرة وتسمع على نطاق واسع في العالم العربي، والتي اشتهرت بسرعة إذاعة الأخبار قبل غيرها من الإذاعات.
كان الوقت ظهرا عندما تعاون البحارة على سحب المرساة أو ال(( أنجر))
(2)( وهم يغنون واحدة من (( شلات الباورة )) (3) وقبل ادارالدفة شرقا، وكعادة بحارة (( صوت العرب)) دائما، أدار الـ(( سكوني)) (4) مقدمة السفينة نحو اليابسة ثم استدار إلى اليسار وقادها بمحاذاة شاطئ أم قريمتين (5) (( الحي القديم من مدينة )) في حركة استعراضية لتوديع أهلنا والجيران من الأحياء المجاورة الذين اصطفوا على طول ساحل ((مخرمة)) وهم يلوحون بأياديهم مودعين، وأجهشت النساء اللواتي وقفن على أسطح المنازل بالبكاء، وأثناء ذلك كنت أجلس في مكان مرتفع حيث يلتقي الفرمال بالدقل (5) .. أراقب ما يدور على ظهر السفينة وألوح بيدي لنساء وأطفال بيتنا اللواتي اخرجن أذرعهن من بين قضبان الحديد في نوافذ السبلة المطلة على البحر.
وعندما بلغت السفينة حلق خور البطح (6)، أدار السكوني دولاب الدفة بسرعة إلى اليسار وأبقى السفينة تسير بمحاذاة الممر الضيق للخور حتى تجاوزت رأس (( الميل )) وما كاد السكوني يدير الدفة يمينا حتى أسرع أجد البحارة بإنزال الـ (( بنديرة )) (7) دلالة على بدء الرحلة. ومن هناك أبحرت صوت العرب شرقا باتجاه رأس الحد مرورا بشياع وخور الحجر وخور جراما ومنطقة رأس الحد في أول رحلة لها إلى المكلا باليمن
تابع الصفحة الثالثة >>>
توقيع مرجان |

.......................................
مرجان ..
وجه محترق كالحرة بلهيب الشمس
مرجان..
يقرؤني في التاريخ الماضي
بالقطعة والحرف
بالكسرة . والضمة
أحياناً بالفتح
وحيناً بالحذف
فألملم أطراف الأحداث
وأنظمُها في خيط الكلماتْ
حتى تشهقَ..
أن لا مرجانَ.. سوى مرجانْ !!
|
|