اللبان.. شجرة عمانية قدستها حضارات الشرق
تشتهر محافظة ظفار ذلك الجزء الغالي من عمان باللبان الذي أصبح معروفا عالميا .. وكانت هذه الشجرة في العصور القديمة تروى حولها القصص والأساطير لكونها مستخرج البخور المقدس عند الديانات الفرعونية واليونانية والرومان والهنود كما عبر العديد من المؤرخين الذين كتبوا عن شجرة (اللبان) في ظفار وقصة البخور المقدس عند الحضارات القديمة .
وقد ذهب الاغريقيون القدماء إلى أن أصل البخور هو (الدورادو)، وهي كلمة تعني موطناً أسطورياً. وقد سعى الرومان والإغريق إلى معرفة موطن اللبان، وقيل إن حملة أغسطس المشؤومة التي أرسل فيها اليوس جالس إلى الجزيرة العربية في سنة 24 قبل الميلاد كانت للكشف عن مصادر البخور والذهب، لكن هذه الحملة منيت بالفشل الذريع .
البخور عند الحضارات القديمة
يقول الشيخ عبد القادر الغساني ـ وصاحب البحث القيّم (ظفار أرض اللبان) أن البخور في الحضارات القديمة كان له شأن كبير باعتبار أن البخور كما يعتقدون يطرد الأرواح الشريرة ويجلب التفاؤل والسعادة .. الخ .
وقد أوضح المؤرخ بريستد في كتابه (تاريخ مصر) أن المر والبخور قد استخدما وبكميات وفيرة من السلالة الأولى (أربعة آلاف سنة) ق.م وعند الفراعنة الذين تبعوهم وقد وجدت كرات من البخور في مقبرة (توت عنخ آمون). وأضاف: وظهر أيضاً استخدام البخور في الأغراض الدينية في مخطوطات المصريين القدماء أيام الا(سرة الخامسة والا)سرة السادسة. وكانت حملات برية تفد إلى أرض اللبان بعد القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، واستخدامه في مراسم دفن الجثث لم يظهر إلا بعد ان ظهر فن التحنيط ولم يستخدم اللبان بكثرة لندرته في بادئ الأمر وشاع استعمال هذه المادة في التحنيط بعد حوالي ألف سنة من اكتشاف عملية التحنيط وذلك لأن البخور كان غالي الثمن ولم يتوفر إلا بعد هذه المدة .. واستخدم البخور في أشياء كثيرة .. وقد دأب الأباطرة القدماء على أداء قسم الولاء لبلادهم عند توليهم مقاليد الحكم على ضوء نيران البخور المشتعل فيعبق الجو برائحته الزكية وتضاء الساحات بنوره المتوهج. ويقال إن نيرون استطاع أن يحرق كمية من بخور اللبان تفوق كل إنتاج جنوب الجزيرة العربية في عام .
ويذكر بعض المؤرخين أن الحضارات القديمة الراقية قد استخدمت البخور المعطر الرائحة في الحقبة التاريخية ما بين خمس آلاف وأربعة آلاف قبل الميلاد .. ويذكر الدكتور / جص فان بيك عالم الآثار الذي نقب في شبه الجزيرة العربية أن (بلقيس) ملكة سبأ أهدت النبي سليمان عليه السلام بعضاً من البخور المعطر ( اللبان ) .
وقد استخدم نبي الله موسى اللبان كمطهر. وأمر اليهود أن يتبخروا باللبان وقد أمر هارون أن يحمل مبخراً في أوساط المصلين ان حل بالناس الطاعون .
خاصية مادة الفنول المطهرة
أما الأشوريون فقد استولوا على عمان وكانوا بحاجة شديدة إلى البخور لكي يحرقوه في معابد آلهتهم (مردوخ) وكان ذلك في زمن ملكهم (تفلت بلاستر) الأشوري، وقد كان (البخور) مقدساً كما كانت تستعمله معابد النيل والفرات والصين والهند وفارس. وكان الفاتحون للجزء الجنوبي الشرقي من الجزيرة العربية يشترطون في دفع الجزية بخور اللبان المعطر .
ويستطرد الشيخ الأستاذ عبد القادر بن سالم الغساني في حديثه : إن هذا البخور عندما يحرق تتطاير منه مادة (الفنول) وهي مادة مطهرة كما يقال. وربما اكتشف الأقدمون هذه الخاصية في بخور اللبان، حيث أنهم قد استخدموه بغرض الاستطباب لكثير من الأمراض حيث أن بليني الأكبر قد أوصى كما قيل باستخدام سائل (اللبان) كترياق ضد السم. كما وصفه (ابن سيناء) طبيب القرن الحادي عشر لجميع الأمراض تقريباً .
رواج تجارة البخور
وقد سلك البخور طريقه إلى الطقوس الدينية منذ آلاف السنين وذكر المؤرخ اليوناني (هيرودوت) أن ما يقدر بطنين ونصف من اللبان كانت تحرق كل عام في معبد بل في بابل. وقد استخدم البخور أيضاً في طقوس المسيحية خلال القرنين الرابع والخامس الميلادي. وكان القساوسة ما زالوا يتعرضون لكثير من البخور بغرض اكتسابهم المناعة الكافية ضد العدوى التي هم معرضون لها من احتكاكهم بالمرضى المصابين في التجمعات الكبرى .
ويضيف الشيخ عبد القادر بن سالم الغساني: كما أن البخور قد امتلك قيمة دينية بالإضافة إلى استخداماته في الزيوت الأثيرية ومواد التجميل في الشرق الأدنى ومنطقة البحر المتوسط. وكانت حاجة سكان هذه المناطق لا يلبيها إلا سكان الجزيرة العربية. وقد كان سوق البخور يملك رواجا كبيرا يجعل من السهل على المرء أن يفهم أن كثيرا من تاريخ جنوب الجزيرة العربية على تجارة البخور. ففي الألف قبل الميلاد كان سكان جنوب الجزيرة عشائر رحل بمعنى الكلمة، فالقبائل أصبحت مستقرة ونمت ثقافتها الخاصة بها .
أما الإسلام فقد استبعد حرق البخور في الشعائر الدينية واعتبر هذه العادة من المخلفات الوثنية التي ذهبت إلى حد الاعتقاد بأن البخور اللبان إذا ما جمع بحرص شديد دون أن يلوث بشيء فإن بخوره يكفل الخلود والشهرة الدائمة .
سكان ظفار والبخور
أما سكان ظفار فانهم يستعملون ( اللبان ) في ماء الشرب حيث توضع ثلاثة أو أربعة فصوص منه في قدح الماء .. ويعتقد انه يساعد على الإدرار كما يساعد على جعل الماء باردا ، واصحاب النجد يستخدمونه بخورا في الصباح والمساء في أماكن تجمع الماشية اعتقادا منهم بأن البخور يبعد عنهم الأذى كما يستخدمونه في منازلهم لتعطيرها من جهة ولاعتقادهم بأنه يطرد الشياطين من جهة أخرى .
ومن ضمن التقاليد المرعية التي يستخدم فيها البخور بمدينة صلالة ما يسمى بالتنوير وهي عادة متبعة عند قدوم السلطان من العاصمة مسقط إلى محافظة ظفار، ففي مساء ذلك اليوم وكتعبير عن الفرحة بقدوم جلالته يصعد السكان إلى أسطح المنازل بعد احضارهم قدرا من بخور اللبان كل حسب طاقته ثم يفرقونه كومات صغيرة متباعدة على جدار السطح بالمنزل والمطلي فناؤه الخارجي ثم يرشون عليه الزيت ويشعلون النار فيه فترتفع رائحة البخور في المدينة وتبدو وكأنها شعلة من نور توهج ضياها وطاب اريجها وراع منظرها ويتم التنوير بحرق بخور اللبان أيضاً عند قدوم المسافرين من الهند بعد رحلة شاقة خطيرة تقوم بها أسرهم وأقاربهم تعبيرا عن فرحتهم بعودة المسافرين سالمين. وهنا تعبق المنازل برائح البخور المعطرة .
ومن هذه التقاليد ما يحدث عند الزواج لأول مرة بالنسبة للرجل وذلك بإعداد مباخر ضخمة من الفخار تحمل عادة على الرأس وتملأ بكمية من الرماد توضع فوقها جمرات من الخشب المحترق تلقى عليها فصوص من البخور اللبان فتذوب.
تبدأ قصة البخور في ظفار مع ظهور شجرة اللبان التاريخية والتي تقع في هذه المنطقة ويتصاعد بخورها محدثا رائحة منعشة محببة. وتحمل هذه المباخر عادة خادمات تدعى لمثل هذه المناسبة لإطلاق الزغاريد خلف زفة العريس التي تزفه الى الميدان الكبير الذي تقام فيه رقصات (الهبوت) التي تقيمها مجموعة من القبائل والعشائر في ظفار وتدعى لمثل هذه المناسبة التي تبادلها الجميع ينشدون الأهازيج في الإشادة بالمحتفى به أولاً ثم التعريض للأحداث الجارية بينهم وتتكون الهبوت على شكل دائرة كبيرة قطرها حوالي مائة متر تقريبا توضع المباخر في وسط هذه لتبقى متوهجة بالبخور طيلة فترة أهازيج الهبوت بعد صلاة العصر الى الغروب وكأنهن بهذا العمل يقمن بتحصين العريس من الأعين الشريرة .. أيضاً يسود الاعتقاد لديهم وهذا كان قبل فترة بان إطلاق البخور أمام المنزل يجلب المسرة للأسرة طوال اليوم .
كما جرت العادة في حالة الولادة أن تكون مبخرة اللبان على مقربة من مهد الطفل مما يعطر الغرفة ويطرد الروائح غير المستحبة .
موانئ تصدير بخور اللبان
ويعد ميناء سمهرم بخور روري قرب ولاية طاقة من الموانئ المعروفة في ظفار التي كانت في القرن الأخير .. وقد عثرت البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان من خلال الفحص والتنقيب على اثر للبان من موانئ البحر المتوسط في القرن الأول للميلاد ووجوده في هذا المكان يشير بالطبع إلى الاتصال التجاري الذي كان بين سكان جنوب الجزيرة العربية وسكان البحر المتوسط في ذلك العهد .
أيضاً منطقة حنون وهي تقع شمالي جبال القرى في حدود النجد على بعد ستين كيلومتراً شمالي مدينة صلالة وتعتبر حنون من أكبر مراكز تجميع اللبان في ظفار .. وقد أكدت الحفريات التي قامت بها بعثة (وندل فيليبس) في منطقة حنون أن هذه المدينة كانت مركزاً يتوسط منطقة نمو أشجار اللبان وتعتبر منطقة حنون من أجود مناطق اللبان .
وأيضاً واحة اندهور وهي تقع على بعد 40 ميلاً شمالي مرباط وقد اشتهرت بأنها منطقة تجميع أجود أنواع بخور اللبان في شبه الجزيرة العربية قاطبة وتعود أهميتها القصوى إلى أنها تقع على أهم الطرق التي تربط حضرموت بالخليج العربي .
ميناء ظفار كان من الموانئ المهمة لتصدير اللبان، حيث كان يحمل إليه من جبال ظفار وبه يقسم ويوزع ولا يسمح بحمله إلى غيره، وهذا الميناء هو المنطقة المعروفة الآن ' بالبليد ' وتقع على الساحل إلى الشرق من صلالة وقد أطلق عليها اسم (المنصورة) في أيام أحمد بن محمد آل حبوضي .
وتشير بعض المصادر التاريخية. إلى أنه لم يكن هناك إلا طريق واحد للبخور كما ذكر (بليني)' واصفاً إياه بأنه طريق واحد وضيق. بل هناك مسالك فرعية تغذي الطريق العام الرئيسي المعروف. فقد كان البخور والمر ينقل في بداية الأمر من ظفار محملاً على قوافل الجمال وعلى القوارب الساحلية إلى الخليج العربي إلى مركز التوزيع في (جرها) وكانت هناك تجارة ساحلية مستمرة مع الهند لتبادل البخور بالعطور والبهارات
|