سرية كعب بن الأشرف
روينا عن ابن سعد : أنها كانت لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، على رأس خمسة و عشرين شهراً من مهاجره عليه الصلاة و السلام .
قال ابن إسحاق : و كان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب القليب يوم بدر ، و قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، و عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية ، بشيرين بالفتح ، قال كعب ـ و كان رجلاً من طيء ، ثم أحد بني نبهان ، و كانت أمه من بني النضير ـ : أحق هذا ؟ أترون أن محمداً قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان ، فهؤلاء أشراف العرب و ملوك الناس ، و الله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم ، لبطن الأرض خير من ظهرها . فلما أيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة ، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي ، و جعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ينشد الأشعار و يبكي على أصحاب القليب ، ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم .
و روينا من طريق ابن عائذ : " عن الوليد بن مسلم ، عن عبد الله بن ليعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، قال : ثم انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه و سلم و المؤمنين ، و يمتدح عدوهم ، و يحرضهم عليهم ، فلم يرض بذلك ، حتى ركب إلى قريش فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال له أبو سفيان و المشركون : أديننا أحب إليك أم دين محمد و أصحابه ؟ و أي دينينا أهدى في رأيك و أقرب إلى الحق ؟ فقال : أنتم أهدى منهم سبيلاً و أفضل وفية . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من لنا من ابن الأشرف ؟ فقد استعلن بعداوتنا و هجائنا ، و قد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا ، و قد أخبرني الله عز و جل بذلك ثم قدم أخبث ما كان ، ينتظر قريشاً تقدم عليه فيقاتلنا ، ثم قرأ على المسلمين ما أنزل الله تعالى عليه فيه : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " الآية [ آل عمران : 23 ] و خمس آيات فيه و في قريش " .
رجع إلى خبر ابن إسحاق : " فقال كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة : من لي من ابن الأشرف ؟ فقال له محمد بن مسلمة ـ أخو بني عبد الأشهل ـ : أنا لك به يا رسول الله ، أنا أقتله . قال : فافعل إن قدرت على ذلك . فرجع محمد بن مسلمة ، فمكث ثلاثاً لا يأكل و لا يشرب إلا ما تعلق به نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاه فقال له ، لم تركت الطعام و اشراب ؟ قال : يا رسول الله ! قلت لك قولاً لا أدري هل أفين به أم لا . قال : إنما عليك الجهد . قال : يا رسول الله ! إنه لا بد لنا من أن نقول . قال : قولوا ما بدا لكم ، فأنتم في حل من ذلك . فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة ، و سلكان بن سلامة بن وقش ، و كان أخاً لكعب من الرضاعة ، و عباد بن بشر ابن وقش أحد بني عبد الأشهل ، و الحارث بن أوس بن معاذ ، و أبو عبس بن جبر .
قلت : و هؤلاء الخمسة من الأوس " .
ثم قدموا إلى عدو الله كعب بن الأشرف قبل أن يأتوه سلكان بن سلامة ، فجاءه فتحدث معه ساعة ، و تناشدا شعراً ، و كان أبو نائلة سلكان يقول الشعر ، ثم قال : ويحك يا ابن الأشرف ! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك ، فاكتم عني . قال : أفعل . قال : كان قدوم هذا الرجل علينا بلاءً من البلاء ، عادتنا العرب ، و رمتنا عن قوس واحدة ، و قطعت عنا السبل ، حتى جاع العيال ، و جهدت الأنفس ، و أصبحنا قد جهدنا و جهد عيالنا . فقال كعب : أنا ابن الأشرف ، أما و الله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول . فقال له سلكان : إني قد أردت أن تبيعنا طعاماً و نرهنك و نوثق لك ، و نحسن في ذلك . قال : أترهنوني أبناءكم ؟ قال : لقد أردت أن تفضحنا ؟ إن معي أصحاباً على مثل رأيي ، و قد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم و تحسن في ذلك ، و نرهنك من الحلقة ما فيه وفاء ـ و أراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها ـ قال : إن في الحلقة لوفاءً . قال : فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره ، و أمرهم أن يأخذوا السلاح ، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه ، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال ابن هشام : و يقال : قال : أترهنوني نساءكم ؟ قالوا : كيف نرهنك نساءنا و أنت أشب أهل يثرب و أعطرهم ! قال : أترهنوني أبناءكم ؟ .
قال ابن إسحاق : " فحدثني ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : مشى معهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بقيع الغرقد ، ثم و جههم و قال : انطلقوا على اسم الله ، اللهم أعنهم . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيته و هو في ليلة مقمرة ، و أقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ، فهتف به أبو نائلة ، و كان حديث عهد بعرس ، فوثب في ملحفته ، فأخذت امرأته بناحيتها و قالت : إنك امرؤ محارب ، و إن أصحاب الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة . قال إنه أبو نائلة ، لو و جدني نائماً ما أيقظني . فقالت : و الله إني لأعرف في صوته الشر .
قال : يقول لها كعب : لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب . فنزل فتحدث معهم ساعة و تحدثوا معه ، و قالوا : هل لك يا ابن الأشرف أن تمشي معنا إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا ، فقال : إن شئتم . فخرجوا يتماشون ، فمشوا ساعة ، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ، ثم شم يده ، فقال : ما رأيت كالليلة طيباً أعطر ، ثم مشى ساعة ، ثم عاد لمثلها ، حتى اطمأن ، ثم مشى ساعة ، ثم عاد لمثلها ، فأخذ بفود رأسه ، ثم قال : اضربوا عدو الله . فضربوه ، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً قال محمد بن مسلمة : فذكرت مغولاً في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئاً . قال محمد بن مسلمة : فذكرت مغولاً في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئاً ، فأخذته و قد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصت إلا أوقدت عليه نار . قال فوضعته في ثنته ، ثم تحاملت عليه حتى بلغ عانته ، فوقع عدو الله . و قد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ ، فخرج في رأسه أو في رجله ، أصابه بعض أسيافنا . قال : فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد ، ثم على بني قريظة ، ثم على بعاث ، حتى أسندنا في حرة العريض ، و قد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ، و نزفه الدم ، فوقفنا له ساعة ، ثم أتانا يتبع آثارنا ، قال : فاحتملناه ، فجئنا به رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر الليل و هو قائم يصلي ، فسلمنا عليه ، فخرج إلينا ، فأخبرناه بمقتل عدو الله ، و تفل على جرح صاحبنا ، و رجعنا إلى أهلنا ، فأصبحنا و قد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله ، فليس بها يهودي إلا و هو يخاف على نفسه " . انتهى خبر ابن إسحاق .
و قال عباد بن بشر في ذلك شعراً :
صرخت به فلم يعرض لصوتي و أوفى طالعاً من رأس خدر
فعدت له فقال من المنادي فقلت : أخوك عباد بن بشر
و هذي درعنا رهنا فخذها لشهر إن وفى أو نصف شهر
فقال : معاشر سغبوا و جاعوا و ما عدموا الغنى من غير فقر
فأقبل نحونا يهوي سريعاً و قال لنا : لقد جئتم لأمر
و في أيماننا بيض حداد مجربة بها الكفار نفري
فعانقه ابن مسلمة المردي به الكفار كالليث الهزبر
و شد بسيفه صلتا عليه فقطره أبو عبس بن جبر
و كان الله سادسنا ، فأبنا بأنعم نعمة و أعز نصر
و جاء برأسه نفر كرام هم ناهيك من صدق و بر
و استشهد عباد بن بشر يوم اليمامة . و ذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب ، قال : و ممن شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عباد بن بشر و قتل يوم اليمامة شهيداً ، و كان له يومئذ بلاء و غناء ، فاستشهد و هو ابن خمس و أربعين سنة .