ذكر سفره صلى الله عليه و سلم مع عمه أبي طالب إلى الشام و خبره مع بحيرا الراهب و ذكر نبذة من حفظ الله تعالى لرسوله عليه الصلاة و السلام قبل النبوة
قال أبو عمر : سنة ثلاث عشرة من الفيل . و شهد بعد ذلك بثمان سنين يوم الفجار سنة إحدى و عشرين . و قال أبو الحسن الماوردي : خرج به عليه الصلاة و السلام عمه أبو طالب إلى الشام في تجارة له و هو ابن تسع سنين . و ذكر ابن سعد بإسناد له عن داود بن الحصين : أنه كان ابن اثنتي عشرين سنة .
قال ابن إسحاق : ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام فلما تهيأ للرحيل صب به رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يزعمون فرق له أبو طالب ، و قال : و الله لأخرجن به معي و لا يفارقني و لا أفارقه أبداً أو كما قال . فخرج به معه ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام ، و بها راهب يقال له بحيرا في صومعة له ، و كان انتهى إليه علم أهل النصرانية ، و لم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب ، إليه يصير عملهم عن كتاب فيها ـ فيما يزعمون ـ يتوارثوه كابراً عن كابر . فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا ، و كانوا كثيراً ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم و لا يعرض لهم ، حتى كان ذلك العام ، فلما نزلوا به قريباً من صومعته صنع لهم الطعام كثيراً ، و ذلك فيما يزعمون عن شيء رآه و هو في صومعته ، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الركب حين أقبلوا و غمامة تظله من بين القوم ، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة منه ، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة و تهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته ، و قد أمر بذلك الطعام فصنع ، ثم أرسل إليهم : إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش و أحب أن تحضروا كلكم صغيركم و كبيركم ، و عبيدكم و حركم ، فقال له رجل منهم : و الله يا بحيرا إن بك اليوم لشأناً ، ما كنت تصنع هذا بنا و قد كنا نمر بك كثيراً ، ما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرا : صدقت ، قد كان ما تقول ، و لكنكم ضيف ، و قد أحببت أن أكرمكم و أصنع لكم طعاماً فتأكلوا منه كلكم ، فاجتمعوا إليه و تخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم ، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف و يجد عنده ، فقال : يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي . قالوا له : يا بحيرا ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام ، و هو أحدث القوم سناً ، فتخلف في رحالهم . قال : لا تفعلوا : ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم . فقال رجل من قريش : و اللات و العزى إن كان للؤماً بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا . ثم قام إليه فاحتضنه و أجلسه مع القوم ، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً ، و ينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم و تفرقوا ، قام إليه بحيرا ، فقال له : يا غلام ! أسألك بحق اللات و العزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ـ و إنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما ـ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تسألني باللات و العزى سيئاً فو الله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما . فقال له بحيرا : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسالك عنه فقال له : سلني عما بدا لك . فجعل يسأله عن أشياء من حاله : من نومه ، و هيئته ، و أموره . و يخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته . ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه من صفته التي عنده ، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ماهذا الغلام منك ؟ قال : ابني . قال : ما هو بابنك و ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً . قال فإنه ابن أخي . قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات و أمه حبلى به . قال : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده و احذر عليه يهود ، فو الله لئن رأوه و عرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، فأسرع به إلى بلاده . فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام ، فزعموا أن نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما رأى بحيرا في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب ، فأرادوه فردهم عنه بحيرا في ذلك ، و ذكرهم الله تعالى ، و ما يجدون في الكتاب من ذكره و صفاته ، و أنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه ، حتى عرفوا ما قال لهم و صدقوه بما قال ، فتركوه و انصرفوا عنه .
قو له : فصب به رسول الله صلى الله عليه و سلم ، الصبابة : رقة الشوق ، و صببت أصب . و عند بعض الرواة فضبث به : أي لزمه . قال السهيلي .
و روينا من طريق الترمذي : حدثنا الفضل بن سهل العباس الأعرج البغدادي ، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح ، قال : أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي بكر ابن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : خرج أبو طالب إلى الشام و خرج معه النبي صلى الله عليه و سلم في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم ، فخرج إليهم الراهب ، و كانوا قبل ذلك يورون به فلا يخرج إليهم و لا يلتفت . قال : فهم يحلون رحالهم ، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله ، ثم قال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين . فقال الأشياخ من قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق شجر و لا حجر إلا خر ساجداً ، و لا يسجدان إلا لنبي ، و إني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاماً ، فلما أتاهم به و كان هو في رعية الإبل . قال : أرسلوا إليه . فأقبل و عليه غمامة تظله ، فلما دنا من القوم و جدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه . قال : فبينما هو قائم عليهم و هو يناشدهم أن لا يذهبوا إلى الروم ، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه . فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم ، فاستقبلهم فقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا ، إن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس ، و إنا قد أخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا . فقال هل خلفكم أحد هو خير منكم ؟ قالوا : إنما اخترنا خيرة بعثنا لطريقك هذا . قال : أفرأيتم أمر أراد الله أن يقضيه ، هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا : لا . قال : فبايعوه و أقاموا معه . قال : أنشدكم بالله أيكم وليه ؟ قالوا : أبو طالب . فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب ، و بعث معه أبو بكر بلالاً ، و زوده الراهب من الكعك و الزيت . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
قلت : ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في الصحيح ، و عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح لقبه انفرد به البخاري . و يونس بن أبي إسحاق انفرد به مسلم .
و مع ذلك ففي متنه نكارة و هي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه و سلم بلالا . و كيف و أبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين فإن النبي صلى الله عليه و سلم أسن من أبي بكر بأزيد من عامين ، و كانت للنبي صلى الله عليه و سلم تسعة أعوام على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري و غيره ، أو اثنا عشر على ما قاله آخرون ، و أيضاً فإن بلالاً لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً ، فإنه كان لنبي خلف الجمحيين ، و عندما عذب في الله على الإسلام اشتراه أبو بكر رضي الله عنه رحمة له و استنفاذاً له من أيديهم ، و خبره بذلك مشهور . و قوله : فبايعوه ، إن كان المراد بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه و سلم فقريب ، و إن كان غير ذلك فلا أدري ما هو .
رجع إلى خبر ابن إسحاق : و كان صلى الله عليه و سلم يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره أنه قال : " لقد رأيتني في غلمان من قريش ، ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان ، كلنا قد تعرى و أخذ إزاراً و جعله على رقبته يحمل عليها الحجارة ، فإني لأقبل معهم كذلك و أدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ، ثم قال : شد عليك إزارك . قال : فأخذته فشددته علي ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي ، و إزاري علي من بين أصحابي " .
قال السهيلي : و هذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في خبر بنيان الكعبة ، كان صلى الله عليه و سلم يحمل الحجارة و إزاره مشدودة عليه ، فقال له العباس : يا ابن أخي ، لو جعلت إزارك على عاتقك ، ففعل ، فسقط مغشياً عليه . ثم قال : " إزاري إزاري " فشد عليه إزاره ، و قام يحمل الحجارة . و في حديث آخر : أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه ، و سأله عن شأنه ، فأخبره أنه نودي من السماء : أن اشدد عليك إزارك يا محمد . قال : و إنه لأول ما نودي . قال : و حديث ابن إسحاق إن صح محمول على أن هذا الأمر كان مرتين : في حال صغره . و عند بنيان الكعبة .
و ذكر البخاري عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين " .
و قد قرأت على أبي عبد الله بن أبي الفتح الصوري بمرج دمشق : " أخبركم أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني سماعا عليه ، قال : أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل ابن بشر بن أحمد الإسفرايني ، قال : أخبرنا أبو الحسين محمد بن مكي بن عثمان الأزدي ، أخبرنا القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن إسحاق الحلبي ، حدثنا أبو عبد الله الحسين ابن إسماعيل المحاملي ببغداد ، حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق . قال : و حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة ، عن الحسن بن محمد بن علي ، عن أبيه ، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر ، كلتاهما عصمني الله عز و جل منهما : قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها : أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان . قال : نعم . فخرجت فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء و صوت دفوف و مزامير ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : فلان تزوج فلانة لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش ، فلهوت بذلك الغناء و بذلك الصوت حتى غلبتني عيني فنمت ، فما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت إلى صاحبي . فقال : ما فعلت ؟ فأخبرته . ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك ، فخرجت فسمعت مثل ذلك ، فقيل لي مثل ما قيل لي ، فسمعت كما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس ، ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت ؟ فقلت : ما فعلت شيئاً . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله ما هممت بغيرهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله عز و جل بنبوته " .
و ذكر الواقدي عن أم أيمن قالت : كانت بوانة صنماً تحضره قريش ، و تعظمه و تنسك له و تحلق عنده ، و تعكف عليه يوماً إلى الليل في كل سنة ، فكان أبو طالب يحضره مع قومه ، و يكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحضر ذلك العيد معهم ، فيأبى ذلك . قالت : حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ، و رأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب و جعلن يقلن : إن لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا ، و يقلن : ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيداً و لا تكثر لهم جمعاً ؟ ! فلم يزالوا به حتى ذهب ، فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوباً فزعاً ، فقلنا : ما دهاك ؟ قال : " إني أخشى أن يكون بي لمم " . فقلنا : ما كان الله عز و جل ليبتليك بالشيطان ، و كان فيك من خصال الخير ما كان ، فما الذي رأيت ؟ قال : " كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي : وراءك يا محمد لا تمسه . قالت : فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ صلى الله عليه و سلم " .