- إن الآية الكريمة ساقت التعبير بلفظ ( أو ) وهي تحتمل التخيير و التنويع ، ومن هنا كانت هذه العقوبات الأربع محل خلاف بين العلماء ، فمنهم من يرى أن الحاكم مخير بين ما فيه المصلحة من هذه العقوبات ، ومنهم من يرى بأن لكل نوع من الجرائم نوعا من العقوبة .
- إن جريمة الحرابة إن تاب مرتكبها قبل القدرة عليه والتمكن منه سقط الحد عنه .
- إن هذه التوبة لا تسقط حقوق العباد فعليه القصاص إن كان قد فعل ما يوجب القصاص وعليه رد المال إن كان قد أخذ المال ، وكما هو معروف أن حقوق العباد تقبل العفو عنها من صاحبها .
- التوبة بعد القدرة عليه لا تسقط عنه الحد .
• حد الردة :
الردة ( لغة ) إرجاع الشيء ردا (4) .
و( شرعا ) هي الرجوع عن دين الإسلام بعد الدخول فيه ومعرفة أركانه ودعائمه التي يقوم عليها وأحكامه التي علمت منه بالضرورة (5) .
وعقوبة المرتد ثابتة في القرآن و السنة .
قال تعالى : {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة و أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } (6)
(1) تطبيق الحدود ، د . عبد السميع إمام (ص/ 298)
(2) سورة المائدة (33-34)
(3) أثر تطبيق الحدود في المجتمع، للأستاذ الغزالي خليل عيد (ص/155)
(4) لسان العرب (3/173).
(5) تطبيق الحدود ، د . عبد السميع إمام ( ص/ 281)
(6) سورة البقرة (217)
وقال النبي صلى الله عليه و سلم : (من بدل دينه فاقتلوه )(1)
وقال عليه الصلاة و السلام : ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ، الثيب الزاني و النفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة )(2)
فإذا رجع عن إسلامه قصدا بارتكابه أحد الأمور التي تعتبر ردة فإنه يعتبر مرتدا تجري عليه أحكام الردة(3) ، وهي :
- لا يقتل المرتد إلا بعد أن يستتاب فإن تاب و إلا قتل .
- مال المرتد فيء للمسلمين .
- المرتد لا يرث ولا يورث .
* و من الأمور التي تعتبر ردة (4):
(1) الاستهزاء والعناد و المكابرة متى أدى ذلك إلى ارتكاب محرم كالسجود لصنم أو سب الله و رسوله.
(2) استباحة محرم مجمع على تحريمه أو معلوم من الدين بالضرورة كاستباحة الزنى أو ترك الصلاة .
(3) الامتناع من الإحتكام إلى الشريعة الإسلامية وترجيح القوانين الوضعية عليها .
* يشترط لتوقيع هذه العقوبة (5) :
أن يخرج المرتد عن دين الإسلام ، وأن يكون بالغا عاقلا ، وأن يكون مختارا فإذا أكره المسلم على الكفر فلا يعاقب على ما أظهره بلسانه دون قلبه لقوله تعالى : (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )(6) .
1. أخرجه البخاري – كتاب الجهاد والسير – باب لا يعذب بعذاب الله –(3/1098)- رقم 2854.
2. أخرجه مسلم – كتاب القسامة والمحاربين – باب ما يباح به دم المسلم –(3/1302) – رقم 1676.
3. أثر تطبيق الحدود ، الغزالي خليل عيد ( ص/ 157)
4. المرجع السابق (ص/ 157)
5. أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، حسن الشاذلي (ص/19)
6. النحل : 106
المبحث الثالث
مسائل في الحدود
أولا : تداخل الحدود :
اتفق الفقهاء على أن ما يوجب الحد من الزنى والسرقة والقذف ( إذا وقع على شخص واحد ) وشرب الخمر إذا تكرر قبل إقامة الحد ، أجزأ حد واحد بغير خلاف ، وبه قال عطاء والزهري وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر .
والأصل في ذلك قاعدة : إذا اجتمع أمران من جنس واحد ، ولم يختلف مقصودهما ، دخل أحدهما على الآخر غالبا ، وعلى هذا فيكتفى بحد واحد لجنايات اتحد جنسها بخلاف ما اختلف جنسها ، لأن المقصود من إقامة الحد هو الزجر وأنه يحصل بحد واحد (1) .
وإن أقيم عليه الحد ، ثم حدثت منه جناية أخرى ففيها الحد ، لعموم النصوص ولوجود الموجب ، ولما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: ( إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير) (2)
ثانيا : الشفاعة في الحدود:
لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنه لا تجوز الشفاعة في الحدود بعد وصولها للحاكم، والثبوت عنده ، لأنه طلب ترك الواجب(3) .
ولقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة عندما أراد أن يشفع للمرأة المخزومية : (أتكلمني في حد من حدود الله ) ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)(4)
ولقوله صلى الله عليه وسلم :( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله)(5)
1. الموسوعة الفقهية (17/132).
2. أخرجه مسلم في صحيحه – كتاب الحدود - باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى – (3/1329)- رقم1703 .
3. الموسوعة الفقهية (17 / 133)
4. أخرجه البخاري في صحيحه – باب مقام النبي بمكة زمن الفتح - (4/1566) – حديث رقم 4053
5. أخرجه أبو داود في سننه – كتاب الأقضيه – باب فيمن يعين على خصومه – (3/305)- رقم 3597
و صححه الألباني ( الصحيحة رقم 438)
سقوط الحدود بالشبهة :
أجمع الفقهاء على أن الحدود تدرأ بالشبهات(1) .
* و قد جاءت أحاديث عديدة في ذلك منها :
(1) حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم لمسلم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ بالعقوبة )(2)
(2) ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال :
( لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات)(3)
(3) ما روي عن معاذ وعبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر أنهم قالوا :
( إذا اشتبه عليك الحد فادرأه )(4)
والشبهة ما يشبه الثابت وليس بثابت :
- سواء كانت في الفاعل : كمن وطىء امرأة ظنها حليلته .
- أو في المحل : بأن يكون للواطيء فيها ملك أو شبهة ملك كالأمة المشتركة .
- أو في الطريق : بأن يكون حراما عند قوم ، حلالا عند آخرين(5) .
سقوط الحدود بالرجوع عن الإقرار :
إذا ثبتت الحدود بالإقرار ، فلا خلاف بين الفقهاء في أنها تسقط بالرجوع ، إذا كان الحد حقا لله تعالى ، لما روي أن ماعزا لما أقر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنى لقنه الرجوع ، فعن جابر بن سمرة قال:( رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل قصير أعضل ليس عليه رداء فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلعلك قال لا والله إنه قد زنى الأخر قال فرجمه )(6)
فلو لم يكن محتملا للسقوط بالرجوع ما كان للتلقين فائدة . ولأنه يورث الشبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات .
والرجوع عن الإقرار: قد يكون نصا ، وقد يكون دلالة ، بأن يأخذ الناس في رجمه فيهرب ولا يرجع ، أو يأخذ الجلاد في الجلد فيهرب ، ولا يرجع ، فلا يتعرض له ، لأن الهرب في هذه الحالة دلالة الرجوع .
واستثنوا حد القذف ،فإنه لا يسقط بالرجوع ، لأنه حق العبد ، وهو لا يحتمل السقوط بالرجوع بعد ما ثبت كالقصاص ، وكذلك إذا ثبت الحد بالبينة(7) .
1. الموسوعة الفقهية ( 17 /134)
2. أورده الحاكم في المستدرك – (4/426) – حديث رقم (8163) وقال : حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه .
3. أورده ابن أبي شيبة في مصنفه – باب في درء الحدود بالشبهات – ( 5/511) - رقم 28494.
4. أورده ابن أبي شيبة في مصنفه – باب في درء الحدود بالشبهات – ( 5/ 511) – رقم 28495.
5. الموسوعة الفقهية ( 17 / 135)
6. أخرجه مسلم في صحيحه – كتاب الحدود – باب من اعترف على نفسه بالزنى – (3/1319) – رقم 1629
7. الموسوعة الفقهية ( 17 / 134)
المبحث الرابع :
آثار إقامة الحدود في استقرار المجتمع
والعواقب الوخيمة الناجمة عن إهمال الحدود
أولا : آثار إقامة الحدود في استقرار المجتمع .
مما تقدم يتجلى لنا أن في إقامة الحدود فوائد عظيمة ، و يترتب على إقامتها في البلاد فوائد عديدة في جميع جوانب الحياة أذكر فيما يلي أهم هذه الفوائد :
• الجانب الإجتماعي :
إن إقامة الحدود تعود على المجتمع بآثار عظيمة فالحدود تحفظ للإنسان مقومات حياته وهي :