![]() |
فاطمة المعمري...المرأة الأسطورة !
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد فاطمة المعمري...المرأة الأسطورة ! هي رائدة عمانية من رواد القرن الماضي أشرقت في زنجبار وعلمها أضاء نوراً في مصر واستقرت في حضن عُمان لم تتزوج وكانت أما حنونا لكل إخوانها وأخواتها وأبنائهم عاصرت حركة التنوير بمصر ونالت الدكتوراه بلندن عام 1955 عميد الأدب العربي يجبر مجلس الوزراء المصري على منحها الجنسية وإليكم التفاصيل . . . . الأستاذة الدكتورة "فاطمة المعمري" حياتها في أسطر حين نتكلم عن التفرد والتميز والنجومية، فقد اعتادت الاقلام ملء الصفحات بكلمات تمازج بين الواقع والخيال.. وربما تؤثر المبالغة على الحقيقة.. فتنبهر العيون بتعابير تكسي الرموز بريقا وتألقا.. ويغيب الوعي سعيا وراء سراب، ولكن ماذا عن حقيقة ما؟.. حقيقة عاشت بيننا وتعايشنا معها.. وفي يوم باتت شمس راحلة.. حلم يتلاشى مع الفجر.. نتألم لرحيله، ننفجع لذكراه، لكن يراودنا امل عسى مثيله كائنا في يوم ما.. طالما ان الزمن سرمدي. ان يكون الانسان في طليعة اقرانه او رائدا من رواد عصره.. فهو بلا شك شخص يستحق التقدير والتكريم.. ولكن ان يكون هذا الرائد (امرأة) متفردة في زمن لا يؤمن بتعليم المرأة ولا عملها.. وفي مجتمع كالمجتمع المصري ان حاول جاهدا ان يرقى نحو الافضلية، اكاد ازعم انه خفق في الانفصال الكامل عن توائمه من المجتمعات العربية الاخرى التي تسعى تطرفات الجهالة والتخلف فيها حثيثا نحو سبي كل سبل الفكر ودروب التنوير.. اننا حقا ازاء موقف يستوجب الدهشة والفخار والتوقف والدراسة للتعلم والاقتداء. انها الاستاذة الدكتورة فاطمة بنت سالم بن سيف بن سعيد المعمري. ولأن الحب هو التفتح نحو الآخر.. والتقبل.. وهو محاولة تقديم الآخر دون مبالغة او تحريف.. فاني لاستطيع التكهن بالمدى الذي يمكن ان يصل اليه هذا الصوت الذي يحاول ان يرسم فضاءات الذاكرة، وقد كرستها تجربة ذاتية مع هذا الآخر، الذي اكاد ازعم الآن وبعد كل هذه السنوات انه (انا)، فلكم قرأت صيرورتي على يديها، ولكم استبقت الزمن المقبل في عينيها، ولانني لست بصدد الخوض في تداعيات الذات، بقدر ما احاول ان اكون مجرد شاهد على تجربة انسانية فريدة وراكزة، فانني سأعمد الى بوح من نوع آخر.. بوح يمازج ما بين التاريخ والرؤية، التاريخ الذي هو دائما متاهة الرصد، والرؤية التي تظل دوما مشرعة بالاسئلة التي لا تنتظر الاجابات. التاريخ يقول: من واقع شهادة الميلاد، انها ولدت في بدايات العقد الثاني من القرن الماضي، والتاريخ يقول ايضا: اننا الآن في العام الثاني من بعد الالفين، ولكم ان تتخيلوا الظرفية الزمكانية التي يمكن ان تنضح باحتمالات الحدس والتأويل لامرأة اعتلت كل عظيم ونادر يسمها بالعلم والثقافة، قبل ان يأتي عصر ازدهار العلوم وتطور التقنية، ناهيك عن كونها امرأة فهل اتحدث اذا عن الريادية هنا؟ ام المسألة اعمق من ذلك؟ وقد تصل الى حد تجاوز الحقائق نفسها. الدكتورة: فاطمة بنت سالم بن سيف المعمري، التي اصبحت استاذة جامعية، حققت كينونتها بامتياز واستحقاق. وشهد على كفاءتها وخبرتها ودربها اعلام افذاذ ينتمون الى عصر العمالقة.. ومن لا وزن له لا يمكن ان يزعم اي وجود او فرض او تخيل في حياتها. والتاريخ ذاته الذي اكن له بكل التقدير.. يجعلنا في آحايين كثيرة نتوهم انه يدون كل التفاصيل الصغيرة منها والكبيرة.. وفي الحقيقة قد يسقط من ذاكرته المكتظة مثل هذا النوع من الرمز او العيار الثقيل.. وهنا يكمن خوفي من تلك الفجيعة التي نصاب بها بعد فوات الآوان.. ومن ثم فلابد من قلم يحفظ الاعتبار الزمني لمن مضوا عن دنيانا، ويحفظ لهم حقهم في التخليد ويرسم آثارهم واعمالهم وبصماتهم.. ولكم هي كثيرة حين تتصل بجيل من جيل الرواد.. وحين تتمثل في امرأة فضلى كفاطمة سالم، فان كنت مدينة لها بتربية الذائقة والحواس.. فأنا في الواقع مدينة لها بما انا فيه الآن، وهل كنت اظنني سأتوشح بدكتوراه النقد لولا ان الفقيدة جدتي؟ وان المسافة بيننا لا تسمح الا بوضعي على نفس الطريق التي اختطته لي، ولثلة من الاهل والاقرباء حين راهنوا على العلم كوجود والمعرفة كحياة، وحاولوا جاهدين ان ينسخوا من ذواتهم صورا اخرى على نسق المثال: فاطمة سالم. فاطمة سالم التي اعرفها، ربما ايقظت فيَّ شجون وايقظت بداخلي شكوكا ايضا، وانا اكتشف للتو فقط انها اصطفتني بأوراقها التي هي اغلى ما عندها لانها الشاهد الحقيقي على انجازاتها، والمكونة للمزجة الاسطورية للوصايا التي ربما تفوق العشر.. كي ادرك الآن كم هي عظيمة ونادرة. فللقارئ وللتاريخ سيرتها من واقع تاريخ العائلة، ومن اوراق ملف خدمتها رقم (321) بادارة كلية الآداب، جامعة الاسكندرية، ورقم (13) بمبنى رئاسة جامعة الاسكندرية، ومما هو مثبت في شهاداتها العلمية والعملية واوراقها الخاصة. اولا: الخلفية الاجتماعية: ولدت فاطمة بنت سالم بن سيف بن سعيد المعمري، بجزيرة (زنجبار) في الثالث من شهر مارس عام 1911م. الراحلة عمانية الجنسية والدتها هي: خديجة بنت عبدالله بن حمد البوسعيدي، ووالدها هو: سالم بن سيف بن سعيد المعمري، والمعمري اسم لقبيلة يرجع اصولها الى قرية (منصفة) بولاية (ابراء) منطقة (الشرقية) سلطنة عمان، حيث يوجد بيت الجد (سيف بن سعيد المعمري) الذي عرف بثرائه المالي، ومن ثم أُطلق على بيته اسم (البيت الكبير). ان القبائل العمانية ـ لا سيما المقتدرة منها ـ قد دأبت على الهجرة من عُمان الى جنوب شرق افريقيا (زنجبار ـ تنزانيا ـ بمبا ـ كينيا ـ بوروندي..) منذ القرن السادس عشر الميلادي، ابان الفتح العماني الاسلامي لتلك المنطقة والذي استمر حتى يناير عام 1964م، حيث ثورة الزنوج على العرب (العمانيين) في زنجبار. فـ(الجد)، سيف بن سعيد المعمري آثر ان يهاجر الى زنجبار التي كانت جزءا من دولة عُمان، لينجب فيها اولاده الثلاثة وهم: ماجد وسالم وسعيد. ومن ثم ولدت فاطمة سالم في كنف الارستقراطية العمانية بزنجبار، ارستقراطية تتمتع بحس حضاري، وبعد ثقافي وتؤمن ان الكيان الحقيقي للانسان يكمن في زاده الثقافي والمعرفي لا المالي او المادي. وحيث ان مصر هي منبع العلم والثقافة، ومصدر حركة التنوير في الشرق الاوسط إبان القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين. فالاخوان: سالم وسعيد آثرا الرحيل اليها لاسيما بعد وفاة الاخ الاكبر ماجد. ومن ثم تركا زنجبار ـ ابان الربع الاول من القرن العشرين ـ الى القاهرة لتعليم اولادهما وبناتهما. خاصة وان نظام التعليم آنذاك في زنجبار كان مقصورا على تلقين النشء القرآن في الكتاتيب، بينما اقتصر تعليم المواد الثقافية والتخصصية الاخرى على اللغة الانكليزية في مدارس التبشير الخاصة المشتركة (Co - Educational) (ST. JOSEPH'S CONVENT SCHOOL) تلك المدارس التي كان يفدها اولاد وبنات الطبقة الارستقراطية، فرغم ما اتسمت به من كفاية في التعليم والتدريس والتثقيف، فان من اسوأ آفاتها ان خريجيها لم يعرفوا اللغة العربية باعتبارها لغة ثقافة، الامر الذي نجم عنه ان فرض عليهم في مرحلة التعليم العالي تخصصات باللغة الانكليزية. وقد ساعد على اضمحلال اللغة العربية بزنجبار ان المجتمع العماني ـ لاسيما النساء فيه ـ لم يمارس اللغة على مستوى التعاملات الحياتية، بل كان يتكلم اللغة السواحلية. ومن ثم رحل (الاب) سالم بن سيف بن سعيد المعمري عن زنجبار الى القاهرة في عام 1920م ومعه اسرته باحثا عن مجتمع يتكلم اللغة العربية، ويحوي في طياته ثقافات متنوعة وآفاقا ارحب. سانده في ذلك قوة عزيمته وثرائه المالي الذي مكنه واسرته من الاستقرار في القاهرة، بل واقتناء بعض العقارات والاراضي بأحيائها المختلفة: (ميدان الجيزة ـ منيل الروضة ـ المنيرة ـ حدائق القبة ـ جاردن سيتي..) وفي نهاية الخمسينيات وحين اكتظت تلك المناطق بالسكان قرر سالم بن سيف ان يستقر في منطقة هادئة تعد زراعية حينذاك هي: المهندسين، فبني عليها فيلا صغيرة مسميا اياها (فيلا الوفاء)، اي وفاء للعلم وللثقافة ولمصر التي ربى بها اولاده وبناته، وشاءت الاقدار ان تكون فيلا الوفاء هي آخر بيت استقرت فيه أ.د. فاطمة سالم منذ نهاية الخمسينيات الى منتصف السبعينيات (1974م) حين رحلت عن مصر عائدة الى وطنها الام سلطنة عمان، ليسدل الستار على حياتها في مستشفى الدفاع بالخوض (مسقط) عن عمر يناهز واحد وتسعين عاما، وبعد رحلة مرض دامت سنوات، لتسلم روحها الى بارئها في تمام الساعة السابعة من مساء يوم الاثنين الموافق الثامن من شهر يوليو عام 2002م. |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد وفاطمة سالم هي الاخت الكبرى لكل من: اعتدال ومحمد وزكية وسميرة وعواطف وناصر وسيف، جميعهم تربوا بالقاهرة وعاشوا بها حتى مراحل تعليمهم الجامعي، وتبوأوا فيما بعد مراكز مرموقة بسلطنة عمان. ولفاطمة سالم اخت تكبرها غير شقيقة من ناحية الام تدعى (رية). وجدير بالذكر ان فاطمة سالم التي لم تتزوج كانت اما حنونا لكل اخوانها واخواتها، اذ رعت الاغلب الاعم من اولادهم وبناتهم فضلا عن احفادهم. ثانيا: مراحل التعليم: اقتداء بالاسلوب المتبع في مصر في بدايات القرن العشرين نحو تعليم الاولاد والبنات، اذ كانت العائلات ـ لا سيما المقتدرة منها ـ ترسل اولادها وبناتها للتعلم في المدارس بلغات مختلفة (العربية ـ الانكليزية ـ الفرنسية ـ الالمانية)، فإن (الاب) سالم بن سيف بن سعيد المعمري اتبع ذات الاسلوب حيث الحق اولاده وبناته بمدارس مختلفة تنوعت لغة الدراسة فيها بين العربية والانكليزية والفرنسية. ونصيب فاطمة سالم في التعليم المدرسي من المرحلة الابتدائية الى المرحلة الثانوية تمثل في مدرسة السنية التي يقع مبناها في (1 شارع خيرت المواجه لشارع المبتديان، مدخل حي السيدة زينب). تعد مدرسة السنية اعرق واول مدرسة ثانوية (حكومية) انشئت لتعليم البنات في مصر، اذ تأسست في عام 1873م من قبل نظارة المعارف (وزارة التربية والتعليم) التي عدتها نواة أولى لتعليم البنات في مصر تعليما صحيحا. وهذه المدرسة كان التعليم فيها مجانا، وهيئة تدريسها مكونة من مدرسات انكليزيات لجميع المواد عدا اللغة العربية، كما كان التعليم فيها ينقسم الى مرحلتين: الاولى المرحلة الابتدائية وتضم خمس سنوات، والثانية المرحلة الثانوية وتضم خمس سنوات ايضا، تحصل فيها الطالبة بعد ثلاث منها على شهادة (الكفاءة)، وفي نهاية المرحلة تحصل على (البكالوريا)؛ اي شهادة الثانوية العامة. وفاطمة سالم ضمن اوليات من حصلن على شهادة الكفاءة من مدرسة السنية وذلك في سنة 1927م، اعتمادا على مجلة (المصريات) (l'egyptienne)، وهي مجلة شهرية تصدر باللغة الفرنسية عن 2 شارع قصر النيل، القاهرة. والمجلة المخصصة ابوابها في شئون مصر السياسية وموضوعات المرأة والمجتمع والفن، ورد في السنة الثالثة من تاريخ صدورها، وفي شهر نوفمبر عام 1927م وتحديدا في العدد الثاني والثلاثين وفي الصفحة السادسة، صورة فوتوغرافية تضمنت اسماء البنات الاوليات اللائي حصلن على شهادة الكفاءة من مدرسة السنية في عام 1927م وهن ثماني بنات: فاطمة سالم وفضيلة عارف وعطية عبدالرزاق وسميرة سالم وزهيرة عبدالعزيز وفهيمة فهمي ونعيمة الايوبي وثروت التونسي. وتأكيدا على مانشرته مجلة المصريات في شهر نوفمبر 1927م. فان كتيب مدرسة السنية الثانوية للبنات الصادر في يناير 1973م. والخاص باحتفال المدرسة بعيدها المئوي (1873م ـ 1973م) اورد اسم فاطمة سالم ضمن اسماء اوليات خريجات المدرسة. هذا فضلا عن ان شهادة الدراسة الثانوية الخاصة بفاطمة سالم والصادرة عن الدولة المصرية، وزارة المعارف العمومية مثبت فيها ان (فاطمة سالم المولودة في زنجبار بتاريخ 3/3/1911م، تخرجت في القسم الادبي نظام الخمس سنوات في شهر يونيو 1929م) والشهادة مؤرخة بتاريخ 21 نوفمبر 1929، وهو ما يثبت بالفعل ان فاطمة سالم حصلت على شهادة الكفاءة سنة 1927م، ثم اكملت القسم الثاني (السنتين المتبقيتين) من المرحلة الثانوية لتتخرج في عام 1929م وهي حاصلة على شهادة الثانوية. وفي نفس السنة التحقت فاطمة سالم بكلية الآداب بالجامعة المصرية (القاهرة حاليا)، لتتخرج بعد اربع سنوات في دور مايو 1933م وهي حاصلة على درجة الليسانس في الآداب من قسم الدراسات القديمة، الامر المثبت في شهادة الليسانس الصادرة من الجامعة المصرية بتاريخ 6 يوليو من نفس السنة. ويلزم التنويه الى ان دخول فاطمة سالم الجامعة المصرية في سنة 1929م وكذا بعض زميلاتها من اوليات خريجات مدرسة السنية الثانوية، يعد حقا حدثا تاريخيا، ونقطة تحول في مسيرة تعليم البنات ليس في مصر فحسب، بل على مستوى العالم العربي اذ كان من المعتاد آنذاك ان اقصى مرحلة تصل اليها البنت في التعليم هي مرحلة فوق الابتدائي (الكفاءة)، كما يعكس الدخول ذاته حركة التنوير التي كانت في مصر ويؤكد احد اهدافها وهو النهوض بالمرأة اجتماعيا وفكريا. وفي عام 1936م التحقت فاطمة سالم بمعهد التربية للبنات لعام واحد لتتخرج في فبراير 1937م حاصلة على دبلوم التربية، المؤرخ بتاريخ 11/5/1937م، والصادر من وزارة المعارف المصرية بالدولة المصرية. وفي السادس عشر من شهر مايو سنة 1942م منحت فاطمة سالم درجة الماجستير برتبة الشرف الثانية من كلية الآداب، قسم الدراسات القديمة، جامعة فؤاد الاول (القاهرة حاليا) في المملكة المصرية، وقد صدرت الشهادة في شهر مارس سنة 1943م. وفي سنة 1951م ارسلت فاطمة سالم في بعثة دراسية الى جامعة لندن (universty of london) على نفقة الحكومة المصرية للحصول على درجة الدكتوراه، وبالفعل منحت درجة الدكتوراه في الفلسفة في الثامن من شهر نوفمبر 1955م من جامعة لندن، كلية الآداب في مجال اللغة اللاتينية. ألمقالة منقولة عن الدكتورة ( آسية البوعلي ) حفيدة الأديبة ( فاطمة سالم) . |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد إهــــداء ... ربما لأننا لا نمعن كثيرا في تأمل مَنْ هم حولنا وبالقدر الذي يجعلنا نستكشف أغوارهم العميقة, والأكثر توهجاً وتأثيراً في ذواتنا.. ربما لا نفعل ذلك إلا حين نفقدهم ويباعد بيننا فراق مؤقت أو أبدي .. لذا فإنني أهدي بحثي إلى روح صاحبة السمو السيدة: أميمة بنت سعيد بن تيمور آل سعيد, مَنْ طواها ثرى عاصمة الضباب قبل قراءة الصياغة الثانية لسيرة أستاذتها الراحلة أ.د فاطمة سالم (رحمة الله عليهما). تمهيـد إنها محاولة الاقتراب نحو الآخر.. محاولة تقديمه دون تحريف أو مبالغة.. بل هي لحظة صدق ووفاء لامرأة اعتلت كل عظيم لتغدو رمزا في عصر آمن بريادة المرأة وتنوير الفكر.. واكتظ كذلك بمشانق الخرافة والجهل. فهل ثمة استسلام لشراسة الواقع ؟ أم ثمة تخوف من التهام الرجعية والتخلف لشرنقة التطور والازدهار ؟ أم الحلم بمراوضة شمس الرحيل ما زال كائنا ؟ والأمل ممكنا لإحالة الخيال إلى حقيقة ؟ المخيلة في ممارستها طقس الكتابة الآن تستبق الآنية إلى زمن المستقبل, تتجاوز كل احتمالات التنبؤ واختلافات تأويله إلى حقيقة مؤكدة أيقنتها البشرية قبل الفلاسفة.. من أن اليوم والغد ما هما إلا أمس بمرجعية تاريخية, والتاريخ الذي يمتلك بماضيه كل مساحات التدوين.. حيث تقع الشخوص والأمكنة والمشاهد والأحداث جزءا من آليات رصده.. إنه نفسه في متاهة رصده قد يغير أو يطمس أو يسهو عن كثير من التفاصيل; الكبيرة منها والصغيرة.. وربما ب هلامية تكوينه وصيرورته قد يسقط من ذاكرته المكتظة رمزا نادرا أو عيارا ثقيلا .. من هنا كان موقع قلمي إذ تشكل حروفي وكلماتي محاولة غير منتهية, بيد أنها أكيدة نحو هدف الاحتفاظ بحق الآخر في التخليد والكشف الأمين عن آثاره وأعماله وبصماته.. خوفا من الاعتبار الزمني في شراسته, وإيمانا مني أن مثل هؤلاء يشكلون بداخلنا جملا مفيدة, تثري مواقع إعرابها ميادين حياتهم المتوجة بالمعاني العظيمة, والمفردات السامية. |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد إنها المرأة الفضلى والرائدة العظيمة الأستاذة الدكتورة: فاطمة بنت سالم بن سيف بن ماجد المعمري, مَنْ رسمت بخطاها خارطة مميزة من العطاء الفكري والإنساني, خارطة تستدعي الدهشة والفخار وتستوجب التوقف للدراسة والاقتداء.. لاسيما وأن ريادتها شكلتها ظرفية زمنية خاصة ونادرة, تنضج بما وهبته المرأة من حياتها للعلم, وما أعطته من وقتها للمعرفة.. حتى غدت علما , طليعة أقرانها, رائدة من رواد عصرها.. حققت كينونتها ومكانتها بامتياز واستحقاق ومن ثم شهد على كفاءتها وخبرتها ودربها أعلام أفذاذ ينتمون إلى عصر العمالقة. وريادة فاطمة سالم التي تؤكدها استثنائية الظرف التاريخي سواء من حيث التبكير في نيل درجة الدكتوراه ضمن ابتعاث خارجي في زمن لم يكن للمرأة أن تخرج أبعد من دارها, أو من حيث إسهامها المعتبر في طرح الأفكار واستخلاص المواقف المصيرية, فيقينا مجمل ذلك أهل ها لنجومية صاعدة إلى حد التتويج بالمناصب القيادية والأوسمة التكريمية, بيد أن هذه الريادة تمتزج دوما بداخلي بمزجة عبقرية يختلط فيها العام بالخاص, إذ أن الراحلة خالة لأمي ووجودها في مرتبة الجدة كان كفيلا في قربه وحميمته, أن يجعل لها مذاقا خاصا , وأن يشكل منها قوة الدفع تسعى دوما نحو الانكباب والتكرس لدراسة سيرتها لا بغرض التدوين التاريخي, أو تسليط الضوء فحسب, إذ الوثائق التاريخية تمنحها فيض ذلك ومجانيته, بل بغرض البحث عن انتصار لإرادة الإنسان فينا والكيفية التي تغدو بها هذه الإرادة معلما ما زال يقتفى ويسترشد به بين طلاب العلم وأستاذته.. ومن ثم فإن عالم فاطمة سالم بكل ما فيه من تجربة إنسانية فريدة وراكزة كان وما زال منبع دهشتي وتقديري, فإن كنت مدينة لها بتربية الذائقة والحواس.. فأنا في الواقع مدينة لها بما أنا فيه الآن, وهل كنت أظنني سأتوشح بدكتوراه النقد لولا أن الفقيدة جدتي ؟ وأن المسافة بيننا لا تسمح إلا بوضعي على نفس الطريق الذي اختطته لي, ولثلة من الأهل والأقرباء حين راهنوا على العلم كوجود والمعرفة كحياة, وحاولوا جاهدين محاكاة المثال: فاطمة سالم. فاطمة سالم التي أعرفها, أيقظت في شجونا وأيقظت بداخلي شكوكا أيضا , وأنا أكتشف للتو وفي اللحظة أنها اصطفتني دون بقية أحفادها بأوراقها - ربما للتطابق النفسي بيننا - التي هي أغلى ما عندها لأنها الشاهد الحقيقي على إنجازاتها, والمكونة للمزجة الأسطورية للوصايا التي ربما تفوق العشر.. كي أدرك الآن كم هي عظيمة ونادرة. ولا أعتقد أن هناك أوقع وأدل منبع لتدوين سيرتها, مما هو مدو ن في شهاداتها الرسمية: العلمية والعملية, المضمنة بملف خدمتها تحت رقم (321), بإدارة كلية الآداب, جامعة الإسكندرية, والموجود تحت رقم (13) بمبنى رئاسة ذات الجامعة, فضلا عن ما هو مثبت في أوراقها الخاصة ومعروف من واقع تاريخ العائلة. ولما كانت السير لا تكتمل إلا بتضافر شتى الخلفيات: الاجتماعية والعلمية والعملية, فللقارئ وللتاريخ سيرة أ.د. فاطمة سالم مدعمة بأشد البؤر ألقاً متمثلة في مختلف التكريم, وفي شهادات وأحاديث مَنْ عاصرها وعرفها عن قرب. أولا : الخلفية الاجتماعيـــة شهدت جزيرة (زنجبار) الواقعة في جنوب شرق القارة الأفريقية, مولد فاطمة بنت سالم بن سيف المعمري في الثالث من شهر (مارس) عام 1911م. بموجب شهادة ميلاد صادرة من أحد المستشفيات بالمنطقة, كما شهد مستشفى وزارة الدفاع, بمنطقة (الخوض) بمسقط عاصمة سلطنة عُمان لحظة رحيلها, حين أسدل الستار على حياتها الحافلة عن عمر يناهز واحدا وتسعين عاما , وكان ذلك تحديدا في تمام الساعة السابعة مساء يوم الاثنين الموافق الثامن من شهر يوليو عام 2002م. الراحلة عُمانية الجنسية, ابنة لأبوين عُمانيين والدتها هي: خديجة بنت عبدالله بن حمد البوسعيدي, ووالدها هو: سالم بن سيف بن سعيد بن ماجد المعمري, الذي يمتد بجذوره القبلية إلى قبيلة بني عمر (المعمري). وقبيلة بني عمر (المعمري) تنبع أصولها من وادي بني عمر المتصل بين منطقة الباطنة ومنطقة الظاهرة, وبالتحديد بين ولايتي صحم وعبري, لذلك فإن الأغلب الأعم ممن ينتمون إلى هذه القبيلة يتواجدون في ولايتي صحم وعبري, وإن كان ذلك لا ينفي أن بعض المجموعات من هذه القبيلة تتواجد أيضا في ولايات أخرى في السلطنة. |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد الأمر الذي شجع (سالم بن سيف المعمري) الأب على الرحيل عن زنجبار إلى القاهرة, التي اختارها مقرا له ولأسرته, بحثا عن مجتمع عربي وفي ذات الوقت يحوي ثقافات أخرى متنوعة, ويتسم برحابة الأفق. وإذا كان نجاح خطى القرار يتوقف على عوامل مساندة منها الثراء المالي, فإن النجاح الكامل لا يتأتى إلا بالإصرار وقوة العزيمة, وهو ما اتسم به والد فاطمة سالم, إذ بعد سنوات وجيزة من وصوله القاهرة استطاع أن يحيط أسرته بشعور الدفء واللاغربة ولدرايته التامة بأهمية هذا البعد في الاستقرار النفسي سارع في اقتناء بعض الأراضي والعقارات لأولاده وبناته- بمختلف أحياء القاهرة منها: (ميدان الجيزة - حي المنيرة - منطقة حدائق القبة - وحي جاردن سيتي - وأخيرا مدينة المهندسين), التي انتقل إليها في نهاية الخمسينيات وبعد بيع معظم أملاكه في المناطق الأخرى. ومدينة المهندسين أثناء تلك الفترة كانت تعد منطقة زراعية نائية نسبيا تتسم بالهدوء والسكينة, وعليه قرر سالم بن سيف أن يشتري بها قطعة أرض ليبني عليها بيتا صغيرا أطلق عليه (فيلا الوفاء), قاصدا بكلمة (الوفاء) وفاء لمصر التي ترعرع بها أبناؤه وبناته, ووفاء للعلم والثقافة. و(فيلا الوفاء) هي المكان الأخير الذي استقرت به فاطمة سالم بالقاهرة منذ نهاية الخمسينيات إلى قرابة منتصف السبعينيات (1974م), حيث عادت إلى موطنها الأصلي سلطنة عُمان. ثانيا :السكن ومواطن الاستقرار من مارس (1911م) حتى يوليو (2002م), هي سنوات حياة الراحلة فاطمة سالم التي حوت فترات: الطفولة والمراهقة والشباب إلى الشيخوخة, رحلة حياة طويلة يعجز الزمان عن محو آثارها, حيث البصمة مقروءة عبر تداعيات الذاكرة لمكتبتها الخاصة المكتظة بمختلف الكتب, وعبر كلمات أبحاثها, وعبر صمت المكان الذي ابتلع جسدها لا اسمها الذي سيظل خالدا دوما يشع بأبهى صور الجمال, الكامنة في ذكريات الآخرين عنها. فالراحلة سكنت واستقرت في مناطق بعينها أبرزها: - (فيلا الوفاء), (29) شارع إسماعيل أباظة (سنان سابقاً) بحي المهندسين, القاهرة. - (18) شارع هيرودوت الدور الأول شقة (1), حي الشاطبي, الإسكندرية. - (421) طريق الجيش (فيلا صغيرة) مقابل البحر, منطقة لوران, الإسكندرية. - (2411) رقم الطريق, منزل رقم (844), شقة رقم (2), منطقة مرتفعات القرم, مسقط, سلطنة عُمان. ثالثا :الحالة الاجتماعية الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيّب الأعراق (شاعر النيل: حافظ إبراهيم) حقاً إن الأمومة لا تعني العملية الفعلية للإنجاب فحسب, بل هي في المقام عطاء وحنان وتضحية ورعاية وتوجيه وإرشاد. وعليه فإن تعليم وتثقيف فاطمة سالم إلى أعلى مراحل العلم (الدكتوراه) قد نجم عنه غرس قيمة العلم بين أفراد عائلتها لتصل شهادة الدكتوراه إلى جيل أحفادها بفضل أمومة الراحلة وحنانها ورعايتها لكل إخوانها وأخواتها فضلاً عن أولادهم وبناتهم وأحفادهم. ففاطمة سالم العزباء هي الإبنة البكر لإخوة أشقاء هم: اعتدال ومحمد وزكية وسميرة وعواطف وناصر وسيف. ولدوا جميعا بزنجبار باستثناء الأخير, وتعلموا بمصر حتى المراحل الجامعية, ليتبوأوا جميعا مراكز مرموقة بعد ذلك بوطنهم سلطنة عُمان. ولفاطمة سالم أخت تكبرها غير شقيقة تدعى رية. وإذا كان والد فاطمة سالم قد صمّم على تعليم ابنته وتثقيفها إلى أعلى المراحل العلمية, فإن من الأجدر أن نكشف عن طبيعة هذا المسار التعليمي, وكيفية تطوره وتصاعده. رابعا : المسار التعليمي بالنسبة للعائلات المقتدرة في مصر كان الشائع والمتبع في بدايات القرن العشرين إرسال تلك العائلات أبناءهم وبناتهم للتعليم في مدارس خاصة يتم التعليم فيها بلغات مختلفة: العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية ... إلخ, وسالم بن سعيد المعمري لم يختلف عن السائد. إذ أرسل أولاده وبناته إلى مدارس خاصة تنوعت لغة الدراسة فيها بين العربية والإنجليزية والفرنسية. |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد باستثناء ابنته فاطمة التي ألحقها بمدرسة حكومية هي: مدرسة (السنية) التي تقع بحي السيدة زينب, رقم (1) شارع خيرت المواجه لشارع المبتديان بالقاهرة. إن مدرسة السنية التي تعلمت فيها فاطمة سالم منذ المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الثانوية. كان - وما زال - التعليم فيها مجانا , وتعد المدرسة أعرق مدرسة ثانوية حكومية للبنات. إذ أنشئت سنة 1873م من قبل نظارة المعارف (وزارة التربية والتعليم) لتعليم البنات تعليما صحيحا . ولما كانت لغة الدراسة بالمدرسة هي اللغة الإنجليزية, باستثناء مادة اللغة العربية, فإن نظارة المعارف وفرت للمدرسة هيئة تدريسية مكونة من مدرسات إنجليزيات. كما قس مت مراحل التعليم بها إلى مرحلتين: الأولى المرحلة الابتدائية وتحوي خمس سنوات والثانية: المرحلة الثانوية وتحوي كذلك خمس سنوات مقسمة إلى قسمين: سنتان أوليان تؤهلان الطالبة للحصول على شهادة (الكفاءة), ثم يتبعها ثلاث سنوات هم نهاية المرحلة الثانوية, حيث تحصل الطالبة على شهادة (البكالوريا) أي الثانوية العامة. ومن مدرسة السني-ة حصلت فاطمة سالم على شهادة الكفاءة سنة 1927م, وهي بذلك ت عد ضمن أول ثماني بنات حصلن على ه-ذه الشه-ادة, وذلك بالرجوع إلى مجلة (l'egyptie nne); أي (المصريات), وهي مجلة شهرية كانت تصدر باللغة الفرنسية عن (2) شارع قصر النيل, القاهرة. والمجلة المخصصة أبوابها في شؤون مصر السياسية, فضلا عن موضوعات المرأة والمجتمع والفن. قد أوردت في العدد الثاني والثلاثين من شهر نوفمبر عام 1927م, وفي السنة الثالثة من تاريخ صدورها, وتحديدا في الصفحة السادسة, صورة فوتوغرافية تضمنت أوليات البنات اللائي حصلنا على شهادة (الكفاءة) من مدرسة السنية بوصفهن حدثا وهن ثماني بنات ذكرت المجلة أسماءهن على التوالي: فاطمة سالم, وفضيلة عارف, وعطية عبدالرزاق, وسميرة سالم, وزهيرة عبدالعزيز, وفهيمة فهمي, ونعيمة الأيوبي, وثروت التونسي. كما أن مدرسة السنية في احتفالها بعيدها المئوي (1873م - 1973م), أصدرت ك تيبا في يناير 1973م بمناسبة هذا الاحتفال, ذكرت فيه اسم فاطمة سالم ضمن أسماء أوليات خريجات المدرسة. وليس هناك أدل على حصول فاطمة سالم على شهادة (الكفاءة) سنة 1927م, من شهادة (البكالوريا) أو الثانوية العامة, المؤرخة بتاريخ 21 نوفمبر 1929م, والصادرة عن وزارة المعارف العمومية, والمدون بها: أن فاطمة سالم سيف المولودة في زنجبار بتاريخ 3/3/1911م. قد تخرجت من القسم الأدبي نظام الخمس سنوات في شهر يونيو 1929م. ومعنى هذا أنها حصلت على شهادة (الكفاءة) سنة 1927م ثم أكملت السنتين المتبقيتين من المرحلة الثانوية لتحصل على شهادة الثانوية العامة سنة 1929م. وإذا كان حصول فاطمة سالم وزميلاتها على شهادة (الكفاءة) ومن ثم (البكالوريا) عد حدثا في المجتمع المصري, فإن الحدث الأكبر كان التحاق هذه الدفعة الأولى من خريجات مدرسة السنية بالجامعة, إذ عد هذا الالتحاق نقطة تحول في مسار تعليم البنات على مستوى المجتمع المصري والوطن العربي بأكمله, بما في الالتحاق من نقلة نوعية وكسر لقاعدة تعليم البنات التي كانت لا تتجاوز مرحلة ما فوق الابتدائي, فضلا عما في الالتحاق ذاته من تأكيد لحركة التنوير السائدة في مصر آنذاك, بكل ما فيها من أهداف النهوض بالمرأة اجتماعيا وفكريا . وعليه التحقت فاطمة سالم سنة 1929م بكلية الآداب بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليا ) لتتخرج منها بعد أربع سنوات في دور مايو سنة 1933م, حاصلة على شهادة الليسانس في الآداب, قسم الدراسات القديمة, والشهادة الصادرة من الجامعة المصرية مؤرخة بتاريخ 6 يوليو سنة 1933م. وتلبية لمتطلبات العصر في إثبات دور المرأة في المجتمع, فضلا عن رغبة فاطمة سالم في العمل بالمجال التعليمي, اقتضى الأمر أن تلتحق بمعهد التربية للبنات لفترة عام واحد, لتتخرج منه في فبراير سنة 1937م, حاصلة على دبلوم التربية, المؤرخ بتاريخ 11 مايو سنة 1937م, والصادر من وزارة المعارف المصرية, بالدولة المصرية. وبعد ذلك واصلت فاطمة سالم, الدراسة الجامعية العليا بالجامعة المصرية, وفي السادس عشر (16) من شهر مايو سنة 1942م نالت درجة الماجستير بمرتبة الشرف الثانية, من كلية الآداب, قسم الدراسات القديمة, جامعة فؤاد الأول في المملكة المصرية, (لاحظ أن اسم الجامعة قد تغي ر من المصرية إلى فؤاد الأول), وقد صدرت شهادة الماجستير في مارس سنة 1943م. وفي سنـة 1951م أُرسلـت فاطمة سالم في بعثـة دراسيـة للدراسة في بريطانيا على نفقـة الحكومـة المصريـة بوصفها مواطنة مصرية, ومن جامعة لنـدن (universty of london) نالت درجة دكتوراه الفلسفة, من كلية الآداب في مجال اللغة اللاتينية, وذلك تحديدا في الثامن (8) من شهر نوفمبر سنة 1955م. |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد والسؤال الذي يطرح ذاته كيف لفاطمة سالم العمانية الجنسية أن أصبحت مصرية ؟ وما هي طبيعة ملابسات دراستها على نفقة الحكومة المصرية ؟ خامسا : فاطمة سالم والجنسية المصرية غني عن البيان أن ضمن شروط الحصول على الجنسية في الدستور المصري آنذاك أن يكون المقدم لها مولودا بمصر, فضلا عن أجداده وذويه من أجيال أسرته, أو أن تكون المرأة متزوجة من مصري, أو أن المطالب بالجنسية والدته مصرية - بموجب التعديل الأخير لقانون التجنس - وبالنظر إلى هذه الشروط نجدها لا تنطبق على فاطمة سالم العزباء المولودة بزنجبار من أبوين عُمانيين. ومع ذلك منحت الجنسية المصرية بأمر من مجلس الوزراء المصري, وبشكل استثنائي بحت. ولتوضيح ذلك, أن فاطمة سالم منذ أن تخرجت من مدرسة السنية عام 1929م, كانت طالبة مقربة لعميد الأدب العربي أ.د طه حسين الذي كان على صلة حميمة بأسرتها. ومن ثم كان بالنسبة لفاطمة سالم أباً روحياً; فهو الذي وجهها نحو التخصص في مجال الدراسات الأوروبية القديمة, في مرحلة الليسانس ومرحلة الماجستير وبمثالية مطلقة منحها حق البعثة الدراسية دون تفرقة بينها وبين الطلاب والطالبات المصريين. ومثالية أ.د طه حسين نابعة من إيمانه الكامل بأحقية الإنسان في التعليم, وبمبدأ الكفاءات في التوظيف بصرف النظر عن نوع الجنسية. ومن ثم فإن فاطمة سالم في سنة 1942م, حين منحت درجة الماجستير من كلية الآداب, جامعة فؤاد الأول, تقدمت بطلب إلى إدارة الجامعة فحواه أن تثبت في وظيفة مدرس بالكلية أسوة ببقية زميلاتها المصريات. ولما كان قانون التوظيف بالنسبة للجاليات الأجنبية في مصر يقتضي العمل بعقود مؤقتة قابلة للتجديد, فإن إدارة الجامعة لم تعترض على توظيف فاطمة سالم بيد أن اعتراضها انصب على شكل العقد وطبيعته, إذ أن العقد الثابت من حق المصريين, لما يترتب عليه من حقوق مستقبلية تتعلق بالمعاشات (مرحلة التقاعد), فضلا عن حقوق أخرى متعلقة بالبعثات الدراسية. ونتيجة لاستياء فاطمة سالم من هذه التفرقة. تقدمت بطلب إلى أستاذها أ.د طه حسين - الذي كان رئيسا لجامعة الإسكندرية آنذاك - شارحة فيه موقف الجامعة في رفض التثبيت الوظيفي فضلا عن البعثة الدراسية. فما كان من أ.د طه حسين إلا الاعتراض الشديد على موقف الجامعة, ومن ثم تقدم بطلب إلى مجلس الوزراء المصري يطلب فيه الجنسية المصرية لفاطمة سالم مزكيا إياه بما يؤمن به من أن الكفاءات لا تجمح, وحق الإنسان في العلم والثقافة لا يكبح بناء على شكل ونوع الجنسية. وبالفعل مُنحـت فاطمة سالم الجنسيـة المصريأة بقرار من مجلس الوزراء المصري في 15 ديسمبر سنة 1942م, وفي 15 يناير سنة 1943م صدر أمر تثبيتها بوظيفة مدرس بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول, التي غُير اسمها في تلك السنة إلى جامعة فاروق, الأمر الذي ترتب عليه في بداية الخمسينيات أن أرسلت فاطمة سالم إلى بريطانيا لنيل درجة الدكتوراه على نفقة الحكومة المصرية على اعتبار أنها مواطنة مصرية. سادسا :التدرج الوظيفي قبل حصول فاطمة سالم علي الجنسية المصرية عملت في وظائف عدة بعقود مؤقتة منذ عام 1936م حتى 1942م, وكان أول راتب تقاضته (15) خمسة عشر جنيها مصريا , وآخر راتب قارب (140) مائة وأربعين جنيها مصريا , وذلك في سنة 1973م والوظائف التي شغلتها هي: - في 10/10/1936م عملت بوزارة المعارف العمومية, مدرسة للغة الإنجليزية, بمدرسة الأميرة فوقية. - في 16/5/1937م استمر عملها بوزارة المعارف العمومية, بيد أنها نقلت خدماتها إلى مدرسة السنية لتدريس اللغة الإنجليزية. - في 11/9/1937م, وبناء على طلب الجامعة المصرية, انتدبت للعمل بكلية الآداب, بوصفها معيدة. في 27/9/1942م, تم تعيينها مدرساً بكلية الآداب, الجامعة المصرية, وذلك بعد حصولها على شهادة الماجستير, وفي ذات السنة وبناءً على طلب جامعة الإسكندرية, انتدبت للتدريس بها في كلية الآداب. - من سنة 1946م حتى سنة 1948م سافرت إلى العراق لتعمل مدرسا بكلية الآداب, جامعة بغداد. - في 21/4/1957م تم تعيينها أستاذاً مساعدا , بقسم الدراسات الأوروبية القديمة, كلية الآداب, جامعة الإسكندرية. - في 31/7/1966م نالت درجة الأستاذية, بجامعة الإسكندرية, كلية الآداب, قسم الدراسات الأوروبية القديمة. - في 1/11/1965م حتى 11/10/1969م. رأست قسم الدراسات الأوروبية القديمة, كلية الآداب, جامعة الإسكندرية. - في 1/1/1971م, قدمت استقالتها إلى جامعة الإسكندرية. - من أكتوبر 1971م حتى إبريل 1973م, انتدبت لتدريس اللغة اللاتينية بقسم الحضارة اليونانية والرومانية, كلية الآداب, جامعة الإسكندرية. - وأخيرا في بدايات سنة 1974م عادت فاطمة سالم إلى سلطنة عُمان, لتعمل في بدايات الثمانينيات, أستاذة للغة الإنجليزية, للضباط بوزارة الدفاع وقوات السلطان المسلحة. سابعا : بعض أبحاث أ.د فاطمة سالم للأستاذة الدكتـورة: فاطمـة سالـم أبحاث عديـدة, جديـر بالذكـر أن بعـض مقاطـع هذه الأبحـاث موجـودة علـى شبكـة المعلومـات العامـة فـي موقـع: (www. Middle- east- online. Com) فمن أبحاثها: رسالة ماجستير بعنوان: فن الهجاء عند الرومان في شعر هوراس وجوفنال مقابلة ومقارنة, جامعة فؤاد الأول, كلية الآداب, قسم الدراسات القديمة, مايو سنة 1942م. رسالة دكتوراه في الفلسفة, جامعة لندن, كلية الآداب, مجال اللغة اللاتينية نوفمبر 1955م. أندريا ترنتيوس, جامعة الإسكندرية, مجلة كلية الآداب, المجلد الثامن عشر سنة 1964م, ص ص 209- 229. فن الشعر لهوراتيوس النقد الأدبي, جامعة الإسكندرية, مجلة كلية الآداب, المجلد التاسـع عشر, سنـة 1965م, ص ص139ـ 192. |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد كيكـر والخطب الكتيلينيـة, القاهـرة, المطبعـة العالميـة بضريح سعد, سنة 1956م, ص ص 3-128. وبالرجوع إلى تلك الأبحاث سنلاحظ أن الأغلب الأعم منها كان بحوثا ترقية ن شرت بمجلة علمية (أكاديمية) محكمة هي: مجلة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية. بيد أن الملاحظ في هذه الأبحاث أنها أبحاث مطولة, تجاوز بعضها عدد المائة صفحة, الأمر الذي ي عد مخالفا لقانون النشر في مثل هذه المجلات بالنسبة لوقتنا الحالي, ذلك القانون الذي يقتضي أن لا يكون البحث كتابا وأن لا يتجاوز صفحاته عدد الخمس والعشرين صفحة, بحيث يكون ذلك شاملا لقائمة المصادر والمراجع. وهنا يجب التوضيح أن هذا الأسلوب كان متبعا ومسموحا به بالنسبة لجيل الرواد من الأساتذة لاسيما من يشتغلون في مجال الدراسات اليونانية واللاتينية وربما الطبيعة المطولة في أبحاثهم كانت سببا لقلتها. لما تنطوي عليه اللغتان اليونانية واللاتينية من صعوبة بالغة حين دراستهما. ومرجعية ذلك أن ترجمة كلتا اللغتين تقتضي وجود قواميس لغوية قد لا تتوافر في آحايين كثيرة, فضلا عن تراكيب نحوية خاصة بطبيعة اللغتين. وبالنسبة للغة اللاتينية التي تخصصت فيها أ.د فاطمة سالم. غني عن البيان أن طبيعة هذه اللغة ميتة أي غير منطوقة, وضمن صعوبات هذه اللغة أنها لغة تعنى بنهايات الكلمات أكثر من عنايتها بترتيب الجملة, تلك النهايات التي يطلق عليها بالخواتيم والتي تتغير وفقا لطبيعة الكلمة (اسم, فعل, حرف ... إلخ). فمثلا إذا كان ترتيب الجملة الفعلية في اللغة العربية يقتضي وجود فعل وفاعل ثم تكملة الجملة, وترتيب ذات الجملة في الإنجليزية يقتضي وجود فاعل وفعل وتكملة, فإن اللاتينية تختلف اختلافا بينا , إذ ليس بالضرورة أن يأتي الترتيب على النحو السابق فقد يكون الفعل في نهاية الجملة مفصولا عن فاعله وبقية كلمات الجملة بسطور عديدة. والترجمة الصحيحة لأي نص لاتيني لا تتم إلا بمعرفة موضع الفعل وطبيعة نهايته. فضلا عن أن دقة الترجمة تأتي بتحديد معنى الكلمة في إطار السياق وفي إطار علاقتها بالسوابق واللواحق. وتكمن صعوبة ترجمة الكلمة اللاتينية في البحث عن معناها من خلال معاجم أو قواميس وسيطة, إذ ليس هناك قاموس لاتيني عربي, ومن ثم يجب تحديد معنى الكلمة اللاتينية من خلال السياق أولا ثم البحث عن ترجمتها من خلال قاموس وسيط (لاتيني ـ إنجليزي) أو (لاتيني ـ فرنسي), ثم العودة إلى القاموس العربي للبحث عن معنى ملائم للكلمة اللاتينية, والموجه في ذلك هو المعنى الوسيط الإنجليزي أو الفرنسي. وعليه فإن ترجمة النصوص اللاتينية تستغرق زمنا طويلا . ثامنا : مقاطع من أبحاث أ.د فاطمة سالم تقول: أ.د فاطمة سالم شارحة منشأ الكوميديا في روما وكيف كان هذا المنشأ في الأصل رقصات تصاحب الناي ثم طورت من قبل الشباب, بإضافة حوارات إليها, طورت فيما بعد إلى عروض مسرحية غنائية تتضمن موضوعات مختلفة تؤدى بشعر غنائي يتألف من مختلف الأوزان ويطلق عليه فن (الساتورا) ففي ذلك تقول: <<الساتورا عرض مسرحي غنائي لمشاهد من مختلف الموضوعات تصور بمزيج من النثر والشعر بمصاحبة الموسيقى. وشعر الساتورا من مختلف الأوزان. ولكن رغم هذا المزج فإن أنغام الساتورا كانت تتألف مع كلماتها وحركات ممثليها تآلفا فنيا جميلا , ثم ارتقت الساتورا إلى عرض مسرحي تنقصه عقدة الملهاة يقوم به رجال محترفون. وساهمت الساتورا في تكوين الكوميديا والهجاء>> (أندريا ترنتيوس, 1964م, ص201). وفي موضع آخر من أبحاثها تتكلم عن (شيشرون) ووضعه أسس فن الخطابة والشروط التي يجب توافرها في الخطب فتقول: <<ولم ينس شيشرون أن يربط بين جمال الأسلوب ووضوح الفكرة, وهو يرى أن الفصاحة تكون دائما نتاجا بين هذا الجمال والوضوح على أنه يرى أن الفكرة يجب أن تسبق الكلام من ناحية ترتيبها والتأمل في مضمونها, ثم إنه يؤكد أن نجاح الخطيب يتوقف على إدراكه لطبيعة النفس الإنسانية ودراسة ميولها ورغباتها حتى تكون لغة الخطيب متسقة مع عواطف الناس وإحساساتهم, وحتى ينجح الخطيب في إثارة الناس وإذكاء حماسهم لما يقول وانفعالهم به واستجابتهم له, وعلى ذلك حدد شيشرون واجب الخطيب في ثلاث كلمات وهي أن <<يمتع ويعلم ويثير>> (فن الشعر لهوراتيوس, النقد الأدبي, كتاب الإسكندرية عبر العصور..., المجلد الأول, 2002م, ص182). كما تتكلم عن تأثير الرسائل في مجتمع روما إبان عام 63 قبل الميلاد فتقول: <<كانت الرسائل التي يتبادلها رجال السياسة وقادة الفكر والرأي في هذا الوقت فنا أدبيا رفيعا ينال من عناية الكاتب ومن اهتمام القارئ قسطا عظيما . وقد تتداول هذه الرسائل إن لم يكن لها صفة السرية, فتقرأ في حلقات الأصدقاء, وتقرأ أحيانا في الاجتماعات العامة ويعجب الناس بأسلوبها وبفنها وبلاغتها. فإن كانت خاصة فهي أصدق تعبيرا , وقد تكون أكثر استرسالا مع السليقة دون تعمل ولا تصنع>> (كيكرو الخطب الكتيلينية, 1956م, ص20). تاسعا: الريادة والتكريم حين الحديث عن ريادة أ.د فاطمة سالم نجد هذه الريادة ترتبط بمستويين: الأول, هو الشرق الأوسط بصفة عامة والثاني, دول مجلس التعاون والخليج العربي بصفة خاصة. فبالنسبة للمستوى الأول, تعد أ.د فاطمة سالم سيف رائدة من رائدات القرن العشرين في المجال الأكاديمي, على مستوى الشرق الأوسط, وذلك لانتمائها إلى أول دفعة بنات تخرجن من الجامعة بدرجة ليسانس سنة 1933م. وأيضا لانتمائها إلى الدفعة الثانية من السيدات اللائي حصلن على درجة الدكتوراه سنة 1955م, إذ سبقت هذه الدفعة دفعة أولى تمثلت في الدكتورة: فاطمة عابدين أول إمرأة عربية (مصرية) نالت درجة الدكتوراه على مستوى الشرق الأوسط وذلك في سنة 1949م. في مجال الطب, تخصص علم (الباثولوجي). أما على مستوى الخليج العربي ودول مجلس التعاون وبالطبع منها سلطنة عُمان, ففاطمة سالم هي أول مَنْ حظي بالتعليم العالي وحصلت على الدكتوراه, إذ لم يسبقها في ذلك رجل ولا امرأة, وهذا من باب التصحيح التاريخي, ومن باب الإفادة إذ الكثير يغيب عنهم ذلك. ولكون أ.د فاطمة سالم رائدة من رائدات القرن الماضي, كان من الطبيعي أن تستتبع هذه الريادة بالاعتراف والتعبير بما تستحقه الشخصية, لما لها من تميز وخصوصية. ومن ثم تكريم فاطمة سالم أخذ أشكالا عدة ومستويات مختلفة. ـ فعلى مستوى الدولة, كرمت أ.د فاطمة سالم بميدالية ذهبية تذكارية, من قبل الزعيم الراحل: محمد أنور السادات, وذلك في سنة 1978م, خلال الاحتفال الذي أقامته جمهورية مصر العربية, تكريما وعرفانا للدور البناء الذي قام به جيل الأوائل من رواد ورائدات القرن العشرين. ـ وعلى المستوى الجامعي, كرمت أ.د فاطمة سالم في سنة 1978م بشهادة تقدير من قبل جامعة الإسكندرية تضمنت الشكر والامتنان والعرفان بجهودها في مجال الأبحاث العلمية, فضلاً عن أداء رسالتها في مجال التعليم وخدمة المجتمع طوال مدة خدمتها وبوصفها أستاذة للغة اللاتينية. ـ وبالانتقال إلى سلطنة عُمان كرمت أ.د فاطمة سالم على مستوى السلطنة وذلك في (1) ديسمبر سنة 1982م, في الاحتفال الذي أقامته وزارة التربية والتعليم وشؤون الشباب ـ بالنادي الجامعي (الثقافي حاليا) بمنطقة القرم, مسقط العاصمة ـ من أجل تكريم الخريجين, وقد تم تكريم أ.د فاطمة سالم بوصفها أول خريجة جامعية فضلاً عن نيلها درجة الدكتوراه على مستوى نساء ورجال السلطنة قاطبة. ولم يتوقف تكريم أ.د فاطمة سالم عند هذا الحد, بل أخذ أشكالا أخرى غير مباشرة, وغير منطوقة, بيد أنها تؤكد التواصل المستمر مع الذكرى ودلالات الخلود عبر الزمان. ـ إذ أن كليـة الآداب بجـامعـة الإسكندريـة, وبمناسبـة احتفالهـا باليوبيـل الذهبـي (سنة 1942مـ 1992م) أصدرت كتابا , طبعه دار المعرفة الجامعية, تضمن اسم أ.د فاطمة سالم في صفحة (29) ضمن أسماء الأساتذة المعترف بإسهاماتهم وجهودهم في النهوض بقسم الدراسات الأوروبية سنة 1963م. لاسيما بعد رحيل الأساتذة الأجانب خلال أزمة العلاقات المصرية البريطانية التي بدأت في سنة 1951م. |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد وبمناسبة افتتاح مكتبة الإسكندرية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك, تحديدا في أكتوبر 2002م, ذلك الافتتاح الذي عد حدثا ثقافيا جللا على مستوى العالم بأكمله. فبمناسبة هذا الحدث الثقافي شاركت جامعة الإسكندرية بإصدار عدد تذكاري لمجلة كلية الآداب, يتكون من خمسة مجلدات, حوت دراسات عريقة وأبحاث جادة كتبها كبار الأكاديميين المتخصصين عن كل ما يتعلق بالإسكندرية. وبلغات مختلفة: العربية والإنجليزية والفرنسية, وغنى عن البيان أن الغرض من إعادة نشر تلك الأبحاث, وضعها موضع التناول للجميع من أجل المعرفة والإفادة, ومن ثم أختير بحث أ.د فاطمة سالم (فن الشعر لهوراتيوس) لإعادة نشره في كتاب: (الإسكندرية عبر العصور في ذاكرة المجلة ـ بمناسبة افتتاح مكتبة الإسكندرية), طبعة جامعة الإسكندرية, كلية الآداب, المجلد الأول, ص ص 175ـ235. وبالرجوع إلى ما سبق نلاحظ أن اسم أ.د فاطمة سالم قد ضم ضمن الواجهة الثقافية التي أحيطت بالإسكندرية مرتين: الأولى حين إنشاء جامعة الإسكندرية سنة 1942م في القرن الماضي, والثانية: حين إعادة بناء مكتبة الإسكندرية وافتتاحها سنة 2002م, القرن الحادي والعشرين. ومن ثم فإن تكريم فاطمة سالم جاء عظيما قويا , معززا بصور أخرى حية أكيدة تتمثل في كلمات زملائها وطلابها وكل مَنْ عرفها. وليس بغرو أن هذه الشخصية التي اتسمت بالتواضع الاجتماعي الشديد الذي حال دون توقع عظمة مكانتها في مواقف كثيرة, أن تنال مكانة خاصة ومعاملة مميزة خلال مرحلة حياتها الثانية المتمثلة في وطنها الأم سلطنة عُمان من (سنة 1974م ـ سنة 2002م), فرغم أن السواد الأعظم من الناس لم يعرف ما لها من مرجعية مكانية وتاريخ, إلا أن الجميع احترمها وقدرها لاسيما أصحاب وصاحبات السمو من أفراد العائلة المالكة (آل سعيد), وبعض الشخصيات المرموقة ومسؤولي الدولة الذين كانوا على دراية تامة بمكانتها ومن ثم قدروها وأحاطوها برعاية جمة ومعاملة خاصة أثناء حياتها وحتى وفاتها. عاشراً: ماذا قالوا عنها ؟ ها هي الأمكنة: جامعة الإسكندرية, حي الشاطبي, شارع هيرودوت حي الأزاريطة, شارع بورسعيد, حي سموحة وسيدى بشر, ميدان علي بن أبي طالب, دار أحمس خليفة للمسنين.. جميعها أمكنة شهد مَنْ فيها ذكرى فاطمة سالم.. فالشخصيات تستنطق مفردات الأماكن وتجتر ذكرياتها, لتنثر على أريكة الزمان مختلف المشاهد والصور التي ستبقى دوما شاهدا على المرأة التي كانت يوما وهج تلك الأمكنة وبريق زمانها.. ولأنها كذلك فإن ما قيل عنها من أ ناس عاصروها وعرفوها عن كثب لا ي عد مجرد شهادات, بل أحاديث تسمو إلى أعلى درجات الرصد والتوثيق للواقعة والمشهد, ولا تدع أدنى مجال للشك, إذ صدرت الأقوال عن دراية كاملة للملمح الحقيقي لشخصية الفضلى فاطمة سالم: الباحثة والمربية والمبدعة, وقبل كل ذلك الإنسانة التي كر ست حياتها خدمة للع لم والبحث واستشراقا للموضوعية والمنهاجية. ومن ثم دعونا نسمع كيف سيحكي شهود العيان ذكرياتهم معها ؟ وكيف سيرد وصفهم لها ؟ إذ قربهم منها كان كفيلا بقهر أي طمس زمني, فجاءت كلماتهم عن الأمس البعيد وكأنه قريب.. مشجوة بلحظات وخلجات تمور بالحيوية والصدق وبأبهى صور الحب, كما أن الكلمات تفتح آفاقا للمخيلة كي تتماهى مع زمن رغم ماضيه يظل حاضرا يفيض بسرابية الحلم ووضوح الأمنية. ولأنهم كانوا الأصدقاء والأهل والزملاء والتلاميذ فهم الأحرى بالرواية الصحيحة عنها. فترى ماذا قالوا عنها ؟ الأستاذ الدكتور: سامي شنودة كان طالبا لدى أ.د فاطمة سالم ثم زميلا لها فيما بعد بنفس قسم الآثار والحضارة اليونانية والرومانية القديمة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية. يسترسل قائلا عن الراحلة في حزن عميق يؤكده فيض دموعه تأثرا بالموقف حين علم بوفاتها.. فاطمة سالم بالنسبة لي تعني كل شيء.. حياتي بأكملها بالإسكندرية.. دخولي والتحاقي بالقسم ليس هذا فحسب, بل إنشاء القسم وتطوره ورحلاته, وكل ما يتعلق به يرتبط بفاطمة سالم. ومن ثم إذا ما قلت فاطمة سالم لا أستطيع أن أربط هذا الاسم بموقف أو بشيء معين لأن حياتي كلها مرتبطة بها. وعلاقتي بالمرحومة أ.د فاطمة سالم بدأت منذ عام 1940م واستمرت إلى أن رحلت عن مصر وانقطعت أخبارها بيد أنها ظلت دائما في القلب والخاطر. لذلك أتذكر لها مواقف كثيرة تنم بالفرادة منها: أنها حصلت على الدكتوراه من جامعة لندن, قد لا أستطيع تحديد التاريخ بالضبط, لكن ذلك كان من المؤكد في منتصف الخمسينيات لأنني أتذكر جيدا أن قبل عام 1956م. لم يكن عميد الكلية حاملا لدرجة الدكتوراه ولا من جاء من بعده من عمداء, وعليه فإن الكلية خلال 1956م, قامت باستبعاد بعض الأساتذة من القسم لعدم نيلهم درجة الدكتوراه باستثناء الدكاتره: فاطمة سالم, محمد مندور, علي حافظ. ولما كانت اللغة اللاتينية تدرس منذ 1942م بقسم الآثار والحضارة اليونانية والرومانية, بكلية الآداب جامعة الإسكندرية, وكانت عبارة عن مقرر إلزامي لكل مراحل التعليم الجامعي, فإن مَنْ قام بتدريسها كانوا أساتذة أجانب باستثناء الدكتورة: فاطمة سالم فقد كانت أول امرأة مصرية عربية تجرؤ على تدريس هذه اللغة. وحين أقول: امرأة مصرية عربية أو عربية مصرية أقصد بهذه الثنائية علمي بجذور عائلتها, إذ أن فاطمة سالم تنتهي بأصولها العربية إلى زنجبار وأعلم أنها من مواليد أرقى العائلات العربية بتلك المنطقة, وكانت تتحدث اللغة السواحلية بجانب اللغات الأخرى, كما كانت تعلمنا مقاطع منها ورغم علمي ويقيني أن فاطمة سالم كانت مصرية بالتجنس فقط, فإنني لم أكن أعلم أن أصولها العربية تعود إلى سلطنة عُمان قبل زنجبار, ولكن أود أن أؤكد أن مسألة الجنسيات بالنسبة لزماننا لم تكن موضع اهتمام أو نقاش فقد كنا نتعامل كعائلة واحدة. وبما أن الدكتورة فاطمة سالم كانت متخصصة في اللغة اللاتينية فإنني كنت أحد طلابها, وأتذكر أنه في السنة الأولى من دراستي لهذه اللغة حصلت على أعلى درجة إذ منحتني أستاذتي أربع عشرة درجة من عشرين, وهي تعد درجة ممتازة إذ أقصى درجة كان يطمح إليها الطالب آنذاك في مادة اللغة اللاتينية هي اثنتا عشرة درجة. أ.د فاطمة سالم درستني لمدة ثلاث سنوات وكنا في سنة 1942م لا نتجاوز الخمسة طلاب في المحاضرة مع العلم أن بالقسم كان يوجد خمسة أساتذة أجانب فضلا عن عدد محدود من المصريين منهم فاطمة سالم والدكتور مندور. وكانت محاضراتنا عادة بعد الظهر ولذلك كانت أ.د فاطمة سالم تسافر من القاهرة إلى الإسكندرية, إذ كانت في تلك الفترة لم تستقر بعد في الإسكندرية, ورغم عناء ومشقة السفر كانت لا تنسى أن تشتري لنا خمسة باكوات شوكولاته (كورونا), باكو لكل واحد منا, في الحقيقة كانت امرأة حميمة في معاملاتها لنا فقد كنا بالنسبة لها طلابها وأولادها وإخوانها إلى درجة أنها حين استقرت بالإسكندرية وأخذت شقة بحي الشاطبي بجوار الكلية, كانت تهتم جدا أيام الامتحانات أن تعزمنا في شقتها وتطبخ لنا الملوخية والفراخ.. ونتغدى جميعا من أكل لذيذ من ص نع يديها. إن معاملة فاطمة سالم لنا كانت ذات بصمة خاصة, إذ تشعرك هذه المعاملة بتلاشي كل الفجوات الجافة التي قد تكون بين الإنسان والآخر. لأن بطبعها الإنساني كانت حساسة جدا حنونة ولماحة لشعور احتياج الآخر لها, والعطاء لديها لم يكن له حدود يكفي أن أقول: إنها كانت مستعدة للشرح ولفتح الكتاب في أي وقت وفي أي مكان طالما أن الطالب جاد في مطلبه. فاطمة سالم كانت تنتمي إلى جيل الرواد من الأساتذة وهذا الجيل كان له سماته الكثيرة منها: معرفتهم لكل طلابهم والمتابعة الدقيقة لهم, إذ أن محدودية عدد الطلاب كان يعزز الرسالة السامية للتعليم من حيث كونها علاقة بناءة على كل المستويات التي تربط بين طرفين: الأستاذ من جهة والطالب من جهة أخرى, ومن ثم العلاقة بين الطرفين لم تكن لتنتهي مع انتهاء المحاضرة, بل تمتد لخارج أسوار الجامعة. ويكفي أن أمثل على ذلك بأننا في رحلاتنا الجامعية كان يصطحبنا أساتذتنا جميعا وعلى رأسهم عميد الكلية.. طبعا مثل هذه المثالية في العلاقة لا وجود لها الآن على الإطلاق لاسيما مع التزايد الرهيب لأعداد الطلاب والطالبات في الجامعة . |
بسم الله الرحمن الرحيم آللهمَ صل على محمد وآلِ محمد ... حين تأخذني الذاكرة لبعيد فأتذكر شخصية أستاذتي فاطمة سالم دائما خيالي يجعلني أتوقف عند سمة الثبات في شخصيتها, وإلى أي مدى كانت هذه السمة غالبة عليها في كل المواقف وحين أقول: الثبات أعني بذلك الثبات على تكوين معين ففاطمة سالم كانت دائما شخصية واحدة في كل المواقف تمثل لي: القيمة والخلق والمثل الأعلى في الثقافة والجدية. فضلا عن الالتزام والثقة بالذات وقوة الشخصية في العمل والإنسانية. ولذلك مثل هذا النوع من الشخصيات بما لديها من ثبات وقوة وثقة بالذات لم يكن يهمها مطلقا ما يطرح عليها من مناصب أو نفوذ, إذ كانت فاطمة سالم وجيلها برمته من الرواد شغلهم الشاغل العلم والبحث يؤمنون تماما أن مكانة الإنسان تنبع من مدى علمه وسعة ثقافته لا من رئاسة لقسم في الكلية أو استحواذه لسلطة ما. ويختتم أ.د سامي شنودة حديثه بكلمات تنطقها عيناه وقد أغرورقت بالدموع: رحمة الله على فاطمة سالم الأستاذة والزميلة فهي ذكرى لا تنسى. الأستـاذ الدكتـور: لطفـي عبدالوهـاب يحيـى, أستاذ تاريخ الحضارة بقسم الحضارة اليونانية والرومانية حاصل على الدكتوراه من جامعة يونيفرستي كوليدج ـ لندن (Universty College of London) يقول: إنني عاصرت أ.د فاطمة سالم في مصر من قبل ابتعاثي إلى لندن فضلا عن أنني عرفتها بشكل أكثر قربا في لندن, لأن الجامعة التي درست فيها هي ذاتها التي واصلت فيها فاطمة سالم دراستها الجامعية مرحلة الدكتوراه, وأتذكر جيدا وقبل حصولي على الدكتوراه في بداية الخمسينيات أنني كنت أقابل فاطمة سالم كثيرا بجامعة لندن إذ كانت تعد أبحاثا هناك. ولما كانت الغربة تتيح مساحة أوسع للاقتراب من الآخر ومعرفته فضلا عن استكشاف جوهره, فإنني في لندن عرفت أشياء جميلة وطريفة في مكنون فاطمة سالم لم أكن أعرفها خلال معرفتي بها في مصر. من هذه الأشياء واقعة لن أنساها من كثرة غرابتها وطرافتها. إذ كان لنا صديق مشترك من كينيا اسمه (جوزيف مورمبي) وفي ذلك الوقت كان نائبا لرئيس حزب الاتحاد الأفريقي, ولأنني كنت على صلة حميمة به كنت أدعوه لإلقاء المحاضرات في الندوات التي تقام في جامعة لندن بخصوص قضية استقلال كينيا. فصديقنا هذا الذي أصبح فيما بعد نائبا لرئيس جمهورية كينيا بعد استقلالها, أتى معي في يوم للغذاء في كفتيريا الجامعة, وبما أنني كنت أقابل فاطمة سالم كثيرا في الكافتيريا فقد صادف هذا اليوم أن قابلناها.. وفوجئت في الجلسة أن فاطمة سالم تتكلم مع صديقي الكيني بلغة لم أفهمها, وعرفت فيما بعد أنها اللغة السواحلية فمن هذا الموقف فقط عرفت أن فاطمة سالم رغم جنسيتها المصرية أنها تمتد بجذورها العائلية إلى زنجبار وأنها من مواليد هذه الجزيرة, أسعدتني المفاجأة وضحكت لها كثيرا بيد أنها أدهشتني كذلك لأنني كنت أحسب أن فاطمة سالم مصرية أبا عن أم. بالنسبة إلي أعتبر أ.د فاطمة سالم من جيل أساتذتي وأعد نفسي من جيل طلابها ورغم أنني لم أكن تلميذا مباشرا لها, فإنني أتذكر لها مواقف كثيرة يشوبها الحكمة منها على سبيل المثال: قيامها في منتصف الستينيات بأعباء رئاسة القسم خلفا للدكتور علي حافظ, وقد كانت رئاستها محبوبة لدينا جميعا إذ كانت تتسم بكل الاتزان والعدل مع الآخرين, ولذلك فإنني لا أستطيع أن أنسى شخصيتها.. لقد كانت شخصية جبارة في حقيقتها وهذه الصورة راسخة في ذهني لأنها مع ذلك كانت متواضعة جدا رغم عظمة مكانتها وأستاذيتها تواضع غير عادي ـ فمثلا ـ رغم معرفتي في قرارة نفسي بقدري وضآلة حجمي العلمي أمامها إلا أنها كانت تشعرني وكأنني في نفس مستواها العلمي.. ليس فقط ذلك بل لديها القدرة أن تجعلك أن تصدق ذلك.. فمثلا : كانت في مواقف كثيرة تأتيني لتأخذ رأيي في موضوع من الموضوعات العلمية, ليس بغرض التقييم من حيث الخطأ أو الصواب, بل بغرض المشاركة في الرأي العلمي وقد كنت ـ وما زلت ـ أرى ذلك قمة في الثقة بالذات وسعة أفق في التعامل الأكاديمي, وفرادة شخصية فاطمة سالم كانت في مواقف أخرى كثيرة حتى على المستوى الاجتماعي ـ فمثلا ـ أتذكر ونحن في لندن كانت كثيرا ما تسألني عن الزملاء حين لا تراهم لفترة طويلة وكنت دائما أشعر من طريقة السؤال ونبرة الصوت أن السؤال ليس الغرض منه الفضول, بل الشعور الصادر برغبة الاطمئنان عليهم. ومثل هذه الصفات كانت من القوة والأساس بحيث تجعل الصورة راسخة في الذهن دائما بالنسبة لجيل الرواد الذي كانت فاطمة سالم منه, ذلك الجيل الذي أعده محل تقديري وأنظر إليه دائما بنظرة تقديس فقد كانوا حقا أ ناس يستحقون أكثر من ذلك إذ أنهم كانوا مستغرقين في العلم يجيدون ما يفعلون بدون تظاهر أو ادعاء علمي وإنما جدية في كل شيء ومعرفة حقيقية فحين أقارنهم في ذاتي بالجيل الحالي لا أرى وجها للمقارنة فقد كانوا ممتازين في كل ما يفعلونه... حبهم للمعرفة إلى درجة تتبعها وتقصيها وإيمانهم العميق بأن المعرفة هي البصمة المميزة أو العلامة للأستاذية الحقيقية لا الدرجات العلمية أو الأكاديمية فحسب مثل: مدرس أو أستاذ مساعد أو أستاذ. لذلك كل هذه الدرجات أو المسميات الأكاديمية لم تكن موضع اهتمام بالنسبة إليهم, إذ كانت تأتي بشكلها الطبيعي من جراء مجهودهم العلمي دون سعي ورائها, ولذلك حين أتذكر أستاذتي فاطمة سالم وغيرها ممن رحلوا عن دنيانا من أساتذة جيل الرواد أقف لهم جميعا في قرارة نفسي, وقفة إجلال واحترام, حقا لم تكن مسألة الأستاذية لديهم وظيفة, بقدر ما كانت رسالة سامية تستحق كل التضحية. إنني حزين لرحيل أ.د فاطمة سالم وأتمزق ألما من الداخل لاسيما حين أتذكر مواقفها الكثيرة ولمساتها الخاصة. فقد كان كل موقف من مواقفها كافيا ليستشف منه مبدأ وحكمة وفلسفة في الحياة.. وحتى لا تبدو كلماتي وكأنها مبالغة, الذاكرة تسترجع موقفين من تلك المواقف التي يستشف منها الكثير.. أنني أتذكر خلال الستينيات وحين تحول اسم قسم الآثار اليونانية والرومانية إلى قسم الحضارة اليونانية والرومانية وض م إليه قسم (الكلاسيك) أو الدراسات الأوروبية القديمة والذي ض م إليه بعد ذلك قسم الآثار فأصبح اسمه قسم الحضارة اليونانية والرومانية, الذي كان يرأسه الدكتور عواد ونتيجة لسفره الأخير لإعارة خارجية, كان من الطبيعي والمفترض أن تكون أ.د فاطمة سالم هي رئيسة القسم. بيد أنها رفضت بشدة وتنازلت عن هذه الرئاسة ورغم إلحاح الجميع عليها ومحاولتي جاهدا من موقع التلميذ الذي يحاول أن يقنع أستاذته بالموقف, فإنها رفضت بشدة ولن أنسى جملتها إذ أدهشتني حين قالت: (حنكون رؤساء أكثر من مرة كفاية كده علشان إنتم كمان تأخذوا فرصتكم) وحدث ما لم أكن أتوقعه أنها صممت بأن أكون أنا رئيس القسم رغم أنني آنذاك لم أكن أستاذا مثلها, بل أستاذا مساعدا فقط. وحين أتأمل هذا الموقف النادر حدوثه في زمننا الحالي, أراه ينطوي على معان كثيرة منها: أن أ.د فاطمة سالم كانت على درجة من العمق والنظرة الفاحصة للآخرين من حولها, وعليه فإنها كانت تسبر أغوار الآخر لاكتشاف نواحي كفاءته وقدراته, ومن وجهة نظرها ليس بالضرورة أن ترتبط هذه النواحي بدرجة أكاديمية معينة. إذ أن هذه الدرجات في قرارة نفس فاطمة سالم مجرد شكليات ورئاسة القسم تحتاج إلى الكفاءة الإدارية في المقام الأول لا إلى درجة الأستاذية فحسب, كما أن تنازل فاطمة سالم وهي الأستاذ عن رئاسة القسم يؤكد فكرها وسلوكها من حيث كونها لا تلقي اهتماما لمسألة المنصب, وأن الأخير ليس موضع اهتمامها سواء رأست القسم مرة أو مرتين أو لم ترأسه على الإطلاق ففاطمة سالم هي فاطمة سالم رمز من الرموز سواء برئاسة القسم أو بدونها, وموقعها كرمز سيظل خالدا ومحفوظا سواء بوظيفة إدارية أو بدونها إذ المناصب بالنسبة إليها مجرد مسؤوليات. وكما أسلفت أن فاطمة سالم كانت سيدة ذات لمسات خاصة ضمن هذه اللمسات ما زلت أسترجعها, أنه حين عودتي من البعثة من لندن, كنت أنا وزوجتي نقطن فيلا صغيرة بالإسكندرية, فجاءت أ.د فاطمة سالم لزيارتنا كي تبارك لنا وكانت هذه الزيارة هي زيارتها الأولى لنا بعد عودتي من البعثة ولن أنسى هديتها اللاتقليدية إذ اشترت لنا فانوسا صغيرا وجميلا وغاليا جدا أحضرته خصيصا كقطعة ديكور لتزين بلكون (شرفة) الفيلا. وحين أتأمل طبيعة الهدية أجدها حقا تعكس فكر فاطمة سالم الذي يرمي دائما إلى الأمام والبعيد, فهي حتى في هذا الموقف البسيط, أرادت أن نتذكرها بشيء جميل وأيضا نافع ومستديم. بينما نجد السواد الأعظم من الناس في مثل هذه المواقف يقدمون هدايا تقليدية مؤقتة مثل زهور أو علبة شكولاته سرعان ما ت ستهلك فت نسى. الأستاذ الدكتور: مصطفى عبدالحميد العبادي أستاذ الدراسات الكلاسيكية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية يقول:اسم فاطمة سالم اسم عزيز جدا علي ولولا هذا الاسم ما اقترنت معرفتي بالتراث اليوناني والروماني, ذلك لأنني التحقت بكلية الآداب عام 1947م, وكان نظام الدراسة وقتها يسمح باختيار مواد تتصل بمجال التخصص, ولما كانت رغبتي تتجه نحو دراسة التاريخ اليوناني والروماني, فإنني قمت باختيار دراسة اللغة اللاتينية في الفرقة الأولى بجانب المواد التخصصية الإلزامية الأخرى والمقررة على كل السنوات في مراحل الدراسة مثل: مادة التاريخ واللغتين الإنجليزية والعربية.. ومن ثم كانت أ.د فاطمة سالم هي أول مَنْ علمتني اللغة اللاتينية في الفرقة الأولى, ومن هنا بدأت معرفتي بهذه اللغة كثقافة جديدة وغريبة علي , فضلا عن معرفتي بأستاذتي والتي استمرت من سنة 1947م حتى يومنا هذا. وحقيقة الأمر أن معرفتي بالدكتورة فاطمة سالم لم يوطدها محدودية عدد الطلاب الذين كانوا يدرسون اللاتينية معها فحسب; إذ كنا اثني عشر طالبا من مختلف الأقسام: تاريخ إنجليزي.. إلخ, بحكم أن طبيعة المادة كانت اختيارية فعددنا القليل وتدريس فاطمة سالم لنا أربع مرات في الأسبوع كان ضمن أسباب توطيد هذه الصلة, بل بالنسبة إلي بالإضافة إلى ما سبق كان هناك أسباب أخرى لتوطيد هذه الصلة; إذ أن أ.د فاطمة سالم كانت تعرف والدي منذ أن كانت في جامعة القاهرة, وهي نفس الجامعة التي كان يدرس فيها والدي قبل قدومه إلى جامعة الإسكندرية وعمله أستاذا بقسم التاريخ بكلية الآداب, وفيما بعد عميدا للكلية. وكنت دائما أسمع الكثير عن أ.د فاطمة سالم من والدي فمثلا من خلاله عرفت أنها من خريجات جامعة القاهرة, فضلا عن أنها كانت من الطالبات المقربات جدا للأستاذ الدكتور: طه حسين ـ رحمه الله ـ فهو الذي شجعها على التخصص في الدراسات الأوروبية القديمة (لاتيني ويوناني), وفيما بعد حين تعرفت على د. فاطمة سالم كانت تقول لي نفس ما كنت أسمعه عنها من والدي. ورغم أنها لم تكن طالبة مباشرة للأستاذ الدكتور طه حسين, ذلك لأن في الفترة التي التحقت فيها فاطمة سالم بجامعة القاهرة وكان ذلك تقريبا في نهاية العشرينيات بداية الثلاثينيات, كان أ.د طه حسين عميدا لكلية الآداب بجامعة القاهرة وأستاذا للأدب العربي, وكان معروفا عنه اهتماماته بمجال التاريخ اليوناني حتى أنه في سنة 1925م حين تأسست جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا ), قام بتدريس التاريخ اليوناني وهي نفس المادة التي كان ي درسها فور عودته من البعثة في بداية العشرينيات, ومن هذا المنطلق كان تشجيعه الدائم لفاطمة سالم على التخصص في مجال الدراسات الرومانية واليونانية القديمة أو ما يطلق عليها الدراسات الكلاسيكية, ومن هنا كانت الصلة الوطيدة بين فاطمة سالم وطه حسين ... |
الساعة الآن 06:42 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][