البجعة والبحر

يُحكى أنه كان هناك بجعة ثلجية الريش اعتادت السباحة في بحر السماء الصافية..

http://www.tntup.com/photo/img5/ace8...0754001xv5.jpg

وفي يومٍ من الأيام سمعت حواراً صاخباً بين جنون الإنسان وهدير أمواج البحر!!..

فتساءلت:

هل عاد البشر إلى التفنّن في الجنون كعادتهم؟!!


أجابتها إحدى السحب التي كانت تحملها برقة:

أجهل السرّ الذي بسببه يشذّ البشر ولا يصطبغون بما اصطبغ به الكون كله!!..

إن آفاق السماء وفجاج الأرض تسبّح بحمد ربها..

تتآلف جميع المخلوقات معاً في وحدة كوْنية نابضة بالمعرفة والمحبة لله..

باستثناء الإنسان الذي لا يعقل!!..

عصيانه وجحوده سبّب هذه النغمة النشاز في نظام سيمفونية الكون الجميلة!!..

إنه اختراق لقاعدة عامة، ولحنٌ فاجر بين ألحان ظاهرة!!..


ردّت البجعة بأسى:

وعلى الرغم من كل منجزاته الحضارية المبهجة، إلا أنه ينوح نوحاً مريراً على شقائه الروحي كنواح النغم الحزين المنفرد بحزنه من بين منظومة اللحن الضاحك البهيج..


وبينما يدور هذا الحوار الحضاري فوق السماء، يزداد صخب الحوار الأرضي في الأسفل، ويعلو صوت تحدّي الإنسان الجموح:

أنا.. أنا.. أنا..


هنا لم تتمالك البجعة نفسها وتنهدّت أعماقها بالألم:

كم أكره هذه الكلمة..

إنها سرّ النغمة النشاز..

فهي شعار إبليس ورايته التي يلوّح بها منذ القِدم:

أنا خيرٌ منه

لقد صارت تجري في الإنسان مجرى الدم بمقدار ما يقول الواحد منهم:

أنا.. أنا.. أنا خيرٌ منه


قالت السحابة:

عجباً لمن يحمل عقلاً ولا يعقل!!..

ألم يستوعب الدرس القديم بعد؟!!..

لقد طردت ( الأنا ) إبليس من رحمة الله..

أما آن أوان نضج هذا الطفل الكبير؟!!..


وقبل أن تشرع السحابة بذرف أمطار دموعها أجابتها البجعة:

على رسْلك أيها السحاب!!..

ليس كل البشر مجانين..

وما سمعناه للتوّ من هذه ( الأنا ) المغرورة لا تمثّل نظرة كل الإنس إلى البحر..

فقد إختلف الناس في نظرتهم إلى البحر..


إن البحر عند الطفل هو قصر الرمال الذي يبنيه على الشاطئ..

أما البحر عند الصيّاد فسطحٌ لامع ساكن ينطوي على السمك..

أما البحر عند الغوّاص فهو هذه الجواهر واللآلئ التي يمتلئ بها القاع..

والبحر عند عالم الأحياء هو الرحم الذي تحتشد في باطنه شعوب وممالك وأمم من الأحياء التي يأكل بعضها بعضا..

والبحر عند عالم الجيولوجيا هو النحّات اليومي الذي يقوم بتشكيل القارّات والشواطئ والسواحل، وهو الرافعة السحرية التي تنقل الجبال وتمهد الوديان..

والبحر عند الجندي هو جواد حربٍ هائج مجنون تجندل عنه فارسه فغمر الأرض لاهثاً ناخراً كأفواه مفتوحة للموت..

http://www.tntup.com/photo/img5/88d7...1236922re3.jpg

والبحر عند بني إسرائيل ستارٌ مائي أسدل سيناريو النهاية على العصر الفرعوني المُظلم..

والبحر عند السياسي قناعٌ ملوّن بالحيلة والدهاء، تنساب وحوشه المخيفة مستخفية استخفاء الماكر المراوغ تحت أجمل الألوان البديعة الزرقاء..

أما البحر عند الشاعر فهو سطورٌ من أبيات شعرٍ زرقاء تقبّل أقدام الشاطئ..

والبحر عند الفنّان هو هذا اللون الفيروزي الذي ينبض بتجربة يوشك أن يكتشف فيها ما لم يسبق اكتشافه..

والبحر عند الفيلسوف ليس إلا صورة، والإنسان هو البحر الحقيقي..

والبحر عند المؤمن بالغيْب سؤالٌ مغلّف بحنينٍ جارف:

إذا كان(( بحر الدنيا )) بهذا الجمال والعظمة!!..
فكيف يكون (( بحر الآخرة )) ؟!!..

أما البحر عند الصوفي فهو ليس أكثر من نافذة تشير إلى ما ورائها..

خيال يرمز إلى الحقيقة..


هذا جمال صنعك!!..
فكيف بجمالك يا سيدي؟!!..


هنا تسجد الروح بعد أن أدركتْ السرّ الذي دكّ الجبل، وخرّ بسببه موسى صعِقا حين تجلّى ذو الجمال و الجلال والكمال المطلق اللانهائي!!!..

سبحان من ليس كجماله جمال!!!..

سبحان من ليس كجلاله جلال!!!..

سبحان من ليس ككماله كمال!!!..


إن أحداً لا يصمد لجلال النور الإلهي..

ولا حتى الجبال الثقال..

صمتت البجعة بخشوع وهي تذرف الدموع، ثم شرعت تناجي روح الإنسان الأناني:

أيها الغرّ الجاهل

http://www.tntup.com/photo/img5/06d9...d0e4/24vn8.jpg

حين تقف أمام البحر، فلا تظنّن أنك تقف أمام كفء لك..

لا طاقة لك بتحدّي البحر، فأنت دون مياهه لا شيء!!..


هل توهّمت يوماً أنك تعيش على الأرض؟!!..

ما أجهلك!!..

إنك تعيش على الماء!!..

فقارّات الدنيا وبلادها ومدنها وقراها وطرقها كلها جزر صغيرة ضئيلة وسط موج بحري لا يكف عن لطم الشاطئ البرّي..


ألم تنتبه حين التقطت سفن الفضاء صوراً للكرة الأرضية إلى أن الكرة الأرضية ليست كرة أرضية؟!!..

إنها كرة مائية!!..

لقد ظهرت زرقاء في الصور الفلكية لأن أغلبية الأرض مياه، وهي أغلبية ساحقة تتيح للبحار أن تفوز في أي انتخابات بينها وبين الأرض..

أربعة أخماسها مياه، والخمس الباقي هو المعارضة!!..

http://www.tntup.com/photo/img5/ea5b...5360057zu6.jpg


ليس هذا فحسب، فبالرغم من أن بعض الكائنات تستطيع أن تعيش بلا هواء..
إلا أنه لا يوجد كائن حي واحد يمكن أن يعيش بلا ماء!!..

(( وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي ))

أيها الإنسيّ المغرور..

إن في جزيء قطرة بسيطة من مياه البحر معجزة تركع أمامها علوم الكيمياء والطبيعة والجيولوجيا، وتحار فيها عقول العارفين!!..

إن هذا الجزيء يخزن الطاقة ويفجّر الحياة ويذيب الصخر وينحت القارّات وينظم الطقس..

إنه اللؤلؤ المذاب، والماس السائل الذي يجري على حلق العطشان أحلى من السكر والعسل!!..

والحياة كلها عبارة عن محلول مائي..

والماء هو وسيط الفعل الإلهي في المخلوقات جميعها..

فعرش الله وسلطانه وقبضته تتم كلها من خلال الماء..

(( وكان عرشه على الماء ))

صدق الله العظيم..

منتهى التشريف أن يجيء ذكر الماء مقترناً بالعرش الإلهي..


يا إنسان المادة..

إن كان عقلك قد تحدّر إلى عينيك، فصرتَ لا تعقل إلا ما تراه عيناك من مادة..

إذن فيالحماقتك، إذ أن قدراتك العقلية متخلّفة حتى عن قدرة الشجر على الوعي!!..


تقف الأشجار أمام أسرار الله وقفة سجود طويل!!..

ويترجرج موج البحر أمام عظمة الخالق بسجودٍ يذوب في خشوع وإنابة!!..


قد يوهمك بصرك القاصر بأنها مخلوقات مقيّدة وأنت الحرّ الأوحد فيها..

إن توهّمت ذلك فضع نظارة البصيرة فوق البصر وانظر جيداً..

ستكتشف أن هذه المخلوقات قد قبلتْ مرتبة أقل في سلّم الخليقة، وأبتْ أن تكون حرّة حتى لا تقع في احتمال معصية الخالق!!..


(( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ))


والآن..

هل عرفت من هو العاقل بحق؟!!..

هنا سكتت الموسيقى العذبة التي كانت تنبعث من داخل البجعة..

وانبعثت من صدرها آهات عشقٍ من البحر الطويل..

هذه الصورة مصغره ... إنقر هنا لعرضها بالمقاس الحقيقي ... المقاس الحقيقي 506x300 والحجم 114 كيلوبايت .

.
.
.

http://www.tntup.com/photo/img5/1217...5621001mu5.jpg
المصدر : كُتِبَ بواسطة فِكر