![]() |
فصل في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في نومه وانتباهه
كان ينام على الفراش تارة ، وعلى النطع تارة ، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رماله ، وتارة على كساء أسود . قال عباد بن تميم عن عمه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى . وكان فراشه أدماً حشوه ليف . وكان له مسح ينام عليه يثنى بثنيتين ، وثني له يوماً أربع ثنيات ، فنهاهم عن ذلك وقال : "ردوه إلى حاله الأول ، فإنه منعني صلاتي الليلة " . والمقصود أنه نام على الفراش ، وتغطى باللحاف ، وقال لنسائه : " ما أتاني جبريل وأنا في لحاف امرأة منكن غير عائشة " . وكانت وسادته أدماً حشوها ليف . وكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال : " باسمك اللهم أحيا وأموت " . وكان يجمع كفيه ثم ينفث فيهما ، وكان يقرأ فيهما : " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ، ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . وكان ينام على شقه الأيمن ، ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ، ثم يقول : " اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك " . وكان يقول إذا أوى إلى فراشه : " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا ، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي " ذكره مسلم . وذكر أيضاً أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه : " اللهم رب السماوات والأرض ، ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شئ ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل ، والفرقان ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شئ ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن ، فليس دونك شئ ، إقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر " . وكان إذا استيقظ من منامه في الليل قال : " لا إله إلا أنت سبحانك ، اللهم إني أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب " . وكان إذا انتبه من نومه قال : " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور " . ثم يتسوك ، وربما قرأ العشر الآيات من آخر ( آل عمران ) من قوله : " إن في خلق السماوات والأرض " إلى آخرها [ آل عمران : 190-200 ] . وقال : " اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، أنت إلهي ، لا إله إلا أنت " . وكان ينام أول الليل ، ويقوم آخره ، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين ، وكان تنام عيناه ، ولا ينام قلبه . وكان إذا نام، لم يوقظوه حتى يكون هو الذي يستيقظ . وكان إذا عرس بليل ، اضطجع على شقه الأيمن ، وإذا عرس قبيل الصبح ، نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه ، هكذا قال الترمذي . وقال أبو حاتم في صحيحه : كان إذا عرس بالليل ، توسد يمينه ، وإذا عرس قبيل الصبيح ، نصب ساعده ، وأظن هذا وهماً ، والصواب حديث الترمذي . وقال أبو حاتم : والتعريس إنما يكون قبيل الصبح . وكان نومه أعدل النوم ، وهو أنفع ما يكون من النوم ، والأطباء يقولون : هو ثلث الليل والنهار ، ثمان ساعات . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الركوب
ركب الخيل والإبل والبغال والحمير ، وركب الفرس مسرجة تارة ، وعرياً أخرى ، وكان يجريها في بعض الأحيان ، وكان يركب وحده ، وهو الأكثر ، وربما أردف خلفه على البعير ، وربما أردف خلفه ، وأركب أمامه ، وكانوا ثلاثة على بعير ، وأردف الرجال ، وأردف بعض نسائه ، وكان أكثر مراكبه الخيل والإبل . وأما البغال ، فالمعروف أنه كان عنده منها بغلة واحدة أهداها له بعض الملوك ، ولم تكن البغال مشهورة بأرض العرب ، بل لما أهديت له البغلة قيل : ألا ننزي الخيل على الحمر ؟ فقال : " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " . |
فصل في اتخاذه الغنم والإماء والعبيد
واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم الغنم . وكان له مائة شاة ، وكان لا يحب أن تزيد على مائة ، فإذا زادت بهمة ، ذبح مكانها أخرى ، واتخذ الرقيق من الإماء والعبيد ، وكان مواليه وعتقاؤه من العبيد أكثر من الإماء . وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبي أمامة وغيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما امرئ أعتق امرءاً مسلماً ، كان فكاكه من النار ، يجزئ كل عضو منه عضواً منه ، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين ، كانتا فكاكه من النار ، يجزئ كل عضوين منهما عضواً منه " وقال : هذا حديث صحيح . وهذا يدل على أن عتق العبد أفضل ، وأن عتق العبد يعدل عتق أمتين ، فكان أكثر عتقائه صلى الله عليه وسلم من العبيد ، وهذا أحد المواضع الخمسة التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر ، والثاني : العقيقة ، فإنه عن الأنثى شاة ، وعن الذكر شاتان عند الجمهور ، وفيه عدة أحاديث صحاح وحسان . والثالث : الشهادة ، فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل . والرابع : الميراث . والخامس : الدية . |
فصل في بيعه وشرائه ومعاملاته
فصل وباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى ، وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله تعالى برسالته أكثر من بيعه ، وكذلك بعد الهجرة لا يكاد يحفظ عنه البيع إلا في قضايا يسيرة أكثرها لغيره ، كبيعه القدح والحلس فيمن يزيد ، وبيعه يعقوب المدبر غلام أبي مذكور ، وبيعه عبداً أسود بعبدين . وأما شراؤه ، فكثير ، وآجر ، واستأجر ، واستئجاره أكثر من إيجاره ، وإنما يحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم ، وأجر نفسه من خديجة في سفره بمالها إلى الشام . وإن كان العقد مضاربة ، فالمضارب أمين ، وأجير ، ووكيل ، وشريك ، فأمين إذا قبض المال ، ووكيل إذا تصرف فيه ، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل ، وشريك إذا ظهر فيه الربح . وقد أخرج الحاكم في مستدركه من حديث الربيع بن بدر ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : آجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جرش كل سفرة بقلوص ، وقال : صحيح الإسناد . قال في النهاية : جرش ، بضم الجيم وفتح الراء من مخاليف اليمن ، وهو بفتحهما بلد بالشام . قلت : إن صح الحديث ، فإنما هو المفتوح الذي بالشام ، ولا يصح ، فإن الربيع بن بدر هذا هو عليلة ، ضعفه أئمة الحديث . قال النسائي والدارقطني والأزدي : متروك ، وكأن الحاكم ظنه الربيع بن بدر مولى طلحة بن عبيد الله . وشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قدم عليه شريكه قال : أما تعرفني ؟ قال : " أما كنت شريكي ؟ فنعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري " . وتدارئ بالهمزة من المدارأة ، وهي مدافعة الحق ، فإن ترك همزها ، صارت من المداراة ، وهي المدافعة بالتي هي أحسن . ووكل وتوكل ، وكان توكيله أكثر من توكله . وأهدى ، وقبل الهدية ، وأثاب عليها ، ووهب ، واتهب ، فقال لسلمة بن الأكوع ، وقد وقع في سهمه جارية : " هبها لي " فوهبها له ، ففادى بها من أهل مكة أسارى من المسلمين . واستدان برهن ، وبغير رهن ، واستعار ، واشترى بالثمن الحال والمؤجل . وضمن ضماناً خاصاً على ربه على أعمال من عملها كان مضموناً له بالجنة ، وضماناً عاماً لديون من توفي من المسلمين ، ولم يدع وفاء أنها عليه وهو يوفيها وقد قيل : إن هذا الحكم عام للأئمة بعده ، فالسلطان ضامن لديون المسلمين إذا لم يخلفوا وفاء ، فإنها عليه يوفيها من بيت المال ، وقالوا : كما يرثه إذا مات ، ولم يدع وارثاً ، فكذلك يقضي عنه دينه إذا مات ولم يدع وفاء ، وكذلك ينفق عليه في حياته إذا لم يكن له من ينفق عليه . ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً كانت له ، جعلها صدقة في سبيل الله ، وتشفع ، وشفع إليه ، وردت بريرة شفاعته في مراجعتها مغيثاً ، فلم يغضب عليها ، ولا عتب ، وهو الأسوة والقدوة ، وحلف في أكثر من ثمانين موضعاً ، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع ، فقال تعالى : " ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق " [ يونس : 53 ] وقال تعالى : " وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم " [ سبأ : 3 ] وقال تعالى : " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير " [ التغابن : 7 ] وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر محمد بن داود الظاهري ، ولا يسميه بالفقيه ، فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له ، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود ، فتهيأ للحلف ، فقال له القاضي إسماعيل : أوتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟! فقال : وما يمنعني من الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه ، قال : أين ذلك ؟ فسردها له أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جداً ، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم . وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة ، ويكفرها تارة ، ويمضي فيها تارة ، والإستثناء يمنع عقد اليمين ، والكفارة تحلها بعد عقدها ، ولهذا سماها الله تحلة . وكان يمازح ، ويقول في مزاحه الحق ، ويوري ، ولا يقول في توريته إلا الحق ، مثل أن يريد جهة يقصدها فيسأل عن غيرها كيف طريقها ؟ وكيف مياهها ومسلكها ؟ أو نحو ذلك . وكان يشير ويستشير . وكان يعود المريض ويشهد الجنازة ، ويجيب الدعوة ، ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم ، وسمع مديح الشعر ، وأثاب عليه ، ولكن ما قيل فيه من المديح ، فهو جزء يسير جداً من محامده ، وأثاب على الحق . وأما مدح غيره من الناس ، فأكثر ما يكون بالكذب ، فلذلك أمر أن يحثى في وجوه المداحين التراب . |
فصل في مسابقته ومصارعته
وسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه على الأقدام ، وصارع ، وخصف نعله بيده ، ورقع ثوبه بيده ، ورقع دلوه ، وحلب شاته ، وفلى ثوبه ، وخدم أهله ونفسه ، وحمل معهم اللبن في بناء المسجد ، وربط على بطنه الحجر من الجوع تارة ، وشبع تارة ، وأضاف وأضيف ، واحتجم في وسط رأسه ، وعلى ظهر قدمه ، واحتجم في الأخدعين والكاهل وهو ما بين الكتفين ، وتداوى ، وكوى ولم يكتو ، ورقى ولم يسترق ، وحمى المريض مما يؤذيه . وأصول الطب ثلاثة : الحمية ، وحفظ الصحة ، واستفراغ المادة المضرة ، وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه ، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر ، فقال تعالى : " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " ( النساء : 43 و المائدة : 6 ) فأباح التيمم للمريض حمية له ، كما أباحه للعادم ، وقال في حفظ الصحة : " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ( البقرة : 184) فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظاً لصحته ، لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر ، فيضعف القوة والصحة . وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " ( البقرة : 196) فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه وهو محرم أن يحلق رأسه ، ويستفرغ المواد الفاسدة ، والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل ، كما حصل لكعب بن عجرة ، أو تولد عليه المرض ، وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله ، فذكر من كل جنس منها شيئاً ، وصورة ، تنبيهاً بها على نعمته على عباده في أمثالها من حميتهم ، وحفظ صحتهم ، واستفراغ مواد أذاهم ، رحمة لعباده ، ولطفاً بهم ، ورأفة بهم . وهو الرؤوف الرحيم . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في معاملته
كان أحسن الناس معاملة . وكان إذا استسلف سلفاً قضى خيراً منه . وكان إذا استسلف من رجل سلفاً ، قضاه إياه ، ودعا له ، فقال : " بارك الله لك في أهلك ومالك ، إنما جزاء السلف الحمد و الأداء " . واستسلف من رجل أربعين صاعاً ، فاحتاج الأنصاري ، فأتاه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما جاءنا من شئ بعد " فقال الرجل : وأراد أن يتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقل إلا خيراً ، فأنا خير من تسلف " فأعطاه أربعين فضلاً ، وأربعين سلفة ، فأعطاه ثمانين . ذكره البزار . واقترض بعيراً ، فجاء صاحبه يتقاضاه ، فأغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهم به أصحابه ، فقال : " دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ". واشترى مرة شيئاً وليس عنده ثمنه فأربح فيه ، فباعه ، وتصدق بالربح على أرامل بني عبد المطلب ، وقال : " لا أشتري بعد هذا شيئاً إلا وعندي ثمنه " ذكره أبو داود ، وهذا لا يناقض الشراء في الذمة إلى أجل ، فهذا شئ ، وهذا شئ . وتقاضاه غريم له ديناً ، فأغلظ عليه ، فهم به عمر بن الخطاب فقال : " مه يا عمر كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء . وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر " ، وباعه يهودي بيعاً إلى أجل ، فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنه ، فقال : لم يحل الأجل ، فقال اليهودي : إنكم لمطل يا بني عبد المطلب ، فهم به أصحابه ، فنهاهم ، فلم يزده ذلك إلا حلماً ، فقال اليهودي : كل شئ منه قد عرفته من علامات النبوة ، وبقيت واحدة ، وهي أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، فأردت أن أعرفها ، فأسلم اليهودي . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه
كان إذا مشى ، تكفأ تكفؤاً ، وكان أسرع الناس مشية ، وأحسنها وأسكنها قال أبو هريرة : ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنما الأرض تطوى له ، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب ، وقال مرة : إذا مشى ، تقلع قلت : والتقلع : الإرتفاع من الأرض بجملته ، كحال المنحط من الصبب ، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة ، وهي أعدل المشيات وأرواحها للأعضاء ، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت ، فإن الماشي ، إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة ، كأنه خشبة محمولة ، وهي مشية مذمومة قبيحة ، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج ، وهي مشية مذمومة أيضاً ، وهي دالة على خفة عقل صاحبها ، ولا سيما إن كان يكثر الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً ، وإما أن يمشي هوناً ، وهي مشية عباد الرحمن ، كما وصفهم بها في كتابه ، فقال : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " ( الفرقان : 63) قال غير واحد من السلف : بسكينة ووقار من غير تكبر ولا تماوت ، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب ، وكأنما الأرض تطوى له ، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث ، وهذا يدل على أمرين : أن مشيته لم تكن مشية بتماوت ولا بمهانة ، بل مشية أعدل المشيات . والمشيات عشرة أنواع ، هذه الثلاثة منها ، والرابع : السعي . والخامس : الرمل ، وهو أسرع المشى مع تقارب الخطا ، ويسمى : الخبب ، وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم خب في طوافه ثلاثاً ، ومشى أربعاً . السادس : النسلان ، وهو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي ، ولا يكرثه . وفي بعض المسانيد أن المشاة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشى في حجة الوداع ، فقال : " استعينوا بالنسلان ". والسابع : الخوزلى ، وهي مشية التمايل ، وهي مشية ، يقال : إن فيها تكسراً وتخنثاً . والثامن : القهقرى ، وهي المشية إلى وراء . والتاسع : الجمزى ، وهي مشية يثب فيها الماشي وثباً . والعاشر : مشية التبختر ، وهي مشية أولي العجب والتكبر ، وهي التي خسف الله سبحانه بصاحبها لما نظر في عطفيه وأعجبته نفسه ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة . وأعدل هذه المشيات مشية الهون والتكفؤ . وأما مشيه مع أصحابه ، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم ، ويقول : " دعوا ظهري للملائكة " ولهذا جاء في الحديث : وكان يسوق أصحابه . وكان يمشي حافياً ومنتعلاً ، وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعة ، ومشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه ، وسال منها الدم ، فقال : هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت وكان في السفر ساقة أصحابه : يزجي الضعيف ، ويردفه ، ويدعو لهم ، ذكره أبو داود . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في جلوسه واتكائه
كان يجلس على الأرض ، وعلى الحصير ، والبساط ، وقالت قيلة بنت مخرمة : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء ، قالت : فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كالمتخشع في الجلسة ، أرعدت من الفرق . ولما قدم عليه عدي بن حاتم ، دعاه إلى منزله ، فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها ، فجعلها بينه وبين عدي ، وجلس على الأرض . قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك . وكان يستلقي أحياناً ، وربما وضع إحدى رجليه على الأخرى ، وكان يتكئ على الوسادة ، وربما اتكأ على يساره ، وربما اتكأ على يمينه . وكان إذا احتاج في خروجه ، توكأ على بعض أصحابه من الضعف . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم عند قضاء الحاجة
كان إذا دخل الخلاء قال : " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " . " الرجس النجس الشيطان الرجيم " . وكان إذا خرج يقول : "غفرانك " . وكان يستنجي بالماء تارة ، ويستجمر بالأحجار تارة ، ويجمع بينهما تارة . وكان إذا ذهب في سفره للحاجة ، انطلق حتى يتوارى عن أصحابه ، ربما كان يبعد نحو الميلين . وكان يستتر للحاجة بالهدف تارة ، وبحائش النخل تارة ، وبشجر الوادي تارة . وكان إذا أراد أن يبول في عزاز من الأرض - وهو الموضع الصلب - أخذ عوداً من الأرض ، فنكت به حتى يثرى ، ثم يبول . وكان يرتاد لبوله الموضع الدمث - وهو اللين الرخو من الأرض- وأكثر ما كان يبول وهو قاعد ، حتى قالت عائشة : " من حدثكم أنه كان يبول قائماً ، فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعداً " وقد روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة أنه بال قائماً . فقيل : هذا بيان للجواز وقيل : إنما فعله من وجع كان بمأبضية . وقيل : فعله استشفاء . قال الشافعي رحمه الله : والعرب تستشفي وجع الصلب بالبول قائماً ، والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزهاً وبعداً من إصابة البول ، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو ملقى الكناسة ، وتسمى المزبلة ، وهي تكون مرتفعة ، فلو بال فيها الرجل قاعداً ، لارتد عليه بوله، وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها ، وجعلها بينه وبين الحائط ، فلم يكن بد من بوله قائماً ، والله أعلم . وقد ذكر الترمذي عن عمر بن الخطاب قال : رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً ، فقال : " يا عمر لا تبل قائماً " ، قال : فما بلت قائماً بعد . قال الترمذي : وانما رفعه عبد الكريم بن أبي المخارق ، وهو ضعيف عند أهل الحديث . وفي مسند البزار وغيره ، من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من الجفاء : أن يبول الرجل قائماً ، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته ، أو ينفخ في سجوده " . ورواه الترمذي وقال : هو غير محفوظ ، وقال البزار : لا نعلم من رواه عن عبد الله بن بريدة إلا سعيد بن عبيد الله ، ولم يجرحه بشئ . وقال ابن أبي حاتم : هو بصري ثقة مشهور . وكان يخرج من الخلاء ، فيقرأ القرآن ، وكان يستنجي ، ويستجمر بشماله ، ولم يكن يصنع شيئاً مما يصنعه المبتلون بالوسواس من نتر الذكر ، والنحنحة ، والقفز ، ومسك الحبل ، وطلوع الدرج ، وحشو القطن في الإحليل ، وصب الماء فيه ، وتفقده الفينة بعد الفينة ، ونحو ذلك من بدع أهل الوسواس . وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا بال ، نتر ذكره ثلاثاً . وروي أنه أمر به ، ولكن لا يصح من فعله ولا أمره . قاله أبو جعفر العقيلي . وكان إذا سلم عليه أحد وهو يبول ، لم يرد عليه ، ذكره مسلم في صحيحه عن ابن عمر . وروى البزار في مسنده في هذه القصة أنه رد عليه ، ثم قال : " إنما رددت عليك خشية أن تقول : سلمت عليه ، فلم يرد علي سلاماً ، فإذا رأيتني هكذا فلا تسلم علي ، فإني لا أرد عليك السلام ". وقد قيل : لعل هذا كان مرتين ، وقيل : حديث مسلم أصح ، لأنه من حديث الضحاك بن عثمان ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وحديث البزار من رواية أبي بكر رجل من أولاد عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عنه . قيل : وأبو بكر هذا : هو أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، روى عنه مالك وغيره ، والضحاك أوثق منه . وكان إذا استنجى بالماء ، ضرب يده بعد ذلك على الأرض ، وكان إذا جلس لحاجته، لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض . |
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الفطرة وتوابعها
قد سبق الخلاف هل ولد صلى الله عليه وسلم مختوناً ، أو ختنته الملائكة يوم شق صدره لأول مرة ، أو ختنه جده عبد المطلب ؟ وكان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وأخذه وعطائه ، وكانت يمينه لطعامه وشرابه وطهوره ، ويساره لخلائه ونحوه من إزالة الأذى . وكان هديه في حلق الرأس تركه كله ، أو أخذه كله ، ولم يكن يحلق بعضه ، ويدع بعضه ، ولم يحفط عنه حلقه إلا في نسك . وكان يحب السواك ، وكان يستاك مفطراً وصائماً ، ويستاك عند الانتباه من النوم ، وعند الوضوء ، وعند الصلاة ، وعند دخول المنزل ، وكان يستاك بعود الأراك . وكان يكثر التطيب ، ويحب الطيب ، وذكر عنه أنه كان يطلي بالنورة . وكان أولاً يسدل شعره ، ثم فرقه ، والفرق : أن يجعل شعره فرقتين ، كل فرقة ذؤابة ، والسدل : أن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين . ولم يدخل حماماً قط ، ولعله ما رآه بعينه ، ولم يصح في الحمام حديث . وكان له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثاً عند النوم في كل عين . واختلف الصحابة في خضابه ، فقال أنس : لم يخضب . وقال أبو هريرة : خضب ، وقد روى حماد بن سلمة عن حميد ، عن أنس قال : رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوباً ، قال حماد : وأخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل قال : رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك مخضوباً ، وقالت طائفة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر الطيب قد احمر شعره ، فكان يظن مخضوباً . ولم يخضب . وقال أبو رمثة : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن لي ، فقال : " أهذا ابنك ؟ " قلت : نعم أشهد به ، فقال : " لا تجني عليه ، ولا يجني عليك " ، قال : ورأيت الشيب أحمر . قال الترمذي : هذا أحسن شئ روي في هذا الباب وأفسره ، لأن الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الشيب . قال حماد بن سلمة عن سماك بن حرب : قيل لجابر بن سمرة : أكان في رأس النبي صلى الله عليه وسلم شيب ؟ قال : لم يكن في رأسه شيب إلا شعرات في مفرق رأسه إذا ادهن وأراهن الدهن . قال أنس : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ولحيته ، ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيات . وكان يحب الترجل ، وكان يرجل نفسه تارة ، وترجله عائشة تارة . وكان شعره فوق الجمة ودون الوفرة ، وكانت جمته تضرب شحمة أذنيه ، وإذا طال ، جعله غدائر أربعاً ، قالت أم هانئ : قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قدمة ، وله أربع غدائر ، والغدائر : الضفائر ، وهذا حديث صحيح . وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب ، وثبت عنه في حديث صحيح مسلم أنه قال : " من عرض عليه ريحان فلا يرده ، فإنه طيب الرائحين ، خفيف المحمل " ، هذا لفظ الحديث ، وبعضهم يرويه " من عرض عليه طيب فلا يرده " وليس بمعناه ، فإن الريحان لا تكثر المنة بأخذه ، وقد جرت العادة بالتسامح في بذله ، بخلاف المسك والعنبر والغالية ونحوها ، ولكن الذي ثبت عنه من حديث عزرة بن ثابت ، عن ثمامة ، قال أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب . وأما حديث ابن عمر يرفعه " ثلاث لا ترد : الوسائد ، والدهن ، واللبن " فحديث معلول ، رواه الترمذي وذكر علته ، ولا أحفظ الآن ما قيل فيه ، إلا أنه من رواية عبد الله بن مسلم بن جندب ، عن أبيه ، عن ابن عمر . ومن مراسيل أبي عثمان النهدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أعطي أحدكم الريحان ، فلا يرده ، فإنه خرج من الجنة " . وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكة يتطيب منها ، وكان أحب الطيب إليه المسك ، وكان يعجبه الفاغية قيل : وهي نور الحناء . |
الساعة الآن 11:19 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][