منتديات جعلان > جعلان العامة > جعلان للمواضيع الاسلامية | ||
صـــــور من حياة الصحابة |
الملاحظات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
حذيفة بن اليمان - عدوّ النفاق وصديق الوضوح
خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.. خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا الصحابي الجليل الذي سمعوا الكثير عو ورعه وتقاه.. وسمعوا أكثر عن بلائه العظيم في فتوحات العراق.. واذ هم ينتظرون الموكب الوافد، أبصروا أمامهم رجلا مضيئا، يركب حمارا على ظهره اكاف قديم، وقد أسدل الرجل ساقيه، وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا، وهو يأكل ويمضغ طعامه..! وحين توسط جمعهم، وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون، كاد صوابهم يطير..!! ولكن فيم العجب..؟! وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر..؟! الحق أنهم معذورون، فما عهدت بلادهم أيام فارس، ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز الجليل.!! وسار حذيفة، والناس محتشدون حوله، وحافون به.. وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثا، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال: " اياكم ومواقف الفتن"..!! قالوا: وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله..!! قال: " أبواب الأمراء".. يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه"..! وكان استهلالا بارعا، بقدر ما هو عجيب..!! واستعاد الانس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد، من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت النفاق ويحتقره. وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد، وعن منهجه في الحكم والولاية.. ** فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق، وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة. ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعنق ثلاثتهم الاسلام، والاسلام يزيد موهبته هذه مضاء وصقلا.. فلقد عانق دينا قويا، نظيفا، شجاعا قويما.. يحتقر الجبن والنفاق، والكذب... وتأدّب على يدي رسول الله واضح كفق الصبح، لا تخفى عليهم من حياته، ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين..يحب الأقوياء في الحق، ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!! فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا المجال، في رحاب هذا الدين، وبين يدي هذا الرسول، ووسط هذا ارّعيل العظيم من الأصحاب..!! ولقد نمت موهبته فعلا أعظم نماء.. وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلوكنه الأعماق المستترة، والدخائل المخبوءة. في غير عناء.. ولقد بلغ من ذلك ما يريد، حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو الملهم الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة، وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم. ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه، ومظانه.. وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار، والنفاق والمؤمنين.. يقول: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.. قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.. قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.. قلت: وما طخنه..؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر.. قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟ قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها.. قلت: يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم.. قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟ قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!! أرأيتم قوله:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟؟ لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن، مسالك الشرور ليتقها، وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا، وخبرة بالانس، ومعرفة بالزمن.. وكلن يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصانة حكيم... ويقول رضي الله عنه: " ان اله تعالى بعث محدا صلى الله عليه وسلم، فدعا الانس من الضلالة الى الهدى، ومن الكفر الى الايمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتا... ومات بالباطل من كان حيا.. ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها.. ثم يكون ملكا عضوضا..!! فمن الانس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا لحق.. ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافا يده، فهذا ترك شعبة من الحق.. ومنهم من ينكر بقلبه، كافا يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق.. ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء"...! ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول: " القلوب أربعة: قلب أغلف، فذلك قلب الكافر.. وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق.. وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.. وقلب فيه نفاق وايمان، فمثلالايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب، غلب"...!! وخبرة حذيفة بالشر، واصراره على مقاومته وتحدّيه، أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة، وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة: فيقول: " جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ان لي لسانا ذربا على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار.. فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من الاستغفار..؟؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"... ** هذا هو حذيفة عدو النفاق، صديق الوضوح.. ورجل من هذا الطراز، لا يكون ايمانه الا وثيقا.. ولا يكون ولاؤه الا عميقا.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولائه.. لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم أحد..وبأيد مسلمة، قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشريكن..!! وكان حذيفة يتلفت مصادفة، فرأى السيوف تنوشه، فصاح في ضاربيه: أبي... أبي.. انه أبي..!! لكن القضاء كان قد حم.. وحين عرف المسلمون، تولاهم الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة، وقال: " يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين".. ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلاءه، ويؤدي واجبه.. وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله عنه، ويتصدّق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حبا له وتقديرا... ** وايمان حذيفة وولاؤه، لا يعترفان بالعجز، ولا بالضعف..بل ولا بالمستحيل.... في غزوة الحندق..وبعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود، أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه. كان اليل مظلما ورهيبا.. وكانت العواصف تزأر وتصطخب، كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع، وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. فمن يملك آنئذ القوة،وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء ويقتحمه، أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟؟ ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر.. ترى من يكون البطل..؟ انه هو..حذيفة بن اليمان..! دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبى، ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيرا بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه، ويخشى عواقبها، والقيام بها تحت وطأة الجوع، والصقيع، والاعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو يزيد..! وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا... فاقد قطع المسافة بين المعسكرين، واخترق الحصار.. وتسلل الى معسكر قريش، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر، فخيّم عليه الظلام،واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين... وخشي أبوسفيان قائد قؤيش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع: " يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه". يقول حذيفة" " فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري، وقلت لهمن أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"... وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلام..! واستأنف أبو سفيان نداءه الى الجيش قائلا:" يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _ أي الخيل_ والخف_ أي الابل_، وأخلفتنابنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني مرتحل".. ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون.. يقول حذيفة: " لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني، لقتلته بسهم".. وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره الخبر، وزف البشرى اليه... ** ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون.. ورجل الصومعة العابد، المتأمل لا يكاد يحمل شيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر الأبصار.. وحسبنا أن نعلم، أنه كان ثالث ثلاثة، أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..! وفي همدان والري والدينور تم الفتح على يديه.. وفي معركة نهاوند العظنى، حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفا.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة.. وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه يقول: " اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل أمير جيشه.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن.. فاذا استشهد النعمان، فليأخذ الراية حذيفة، فاذا استشهد فجرير بن عدالله.. وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع... والتقى الجيشان.. الفرس في مائة ألف وخمسين ألفا.. والمسلمون في ثلاثين ألفا لاغير... وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا.. وسقط قائد المسلمين قتيلا، سقط النعمان بن مقرّن، وقبل أن تهوي الراية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد تسلمها بيمينه، وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم... ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان... حمل الراية من فوره، وأوصى بألا ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة.. ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما له.. أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور، بديهيته المشرقة.. ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا: " الله أبكر صدق وعده!! الله أكبر نصر جنده!!" ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين في جيوشه ونادى: يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار.. هيا يا رجال بدر.. تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك.. لقد احتفظ حذيفة بكا حماسة المعركة وأشواقها، ان لم يكن قد زاد منها وفيها.. وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيرا..!! ** هذا العبقري في حمته، حين تضمّه صومعته.. والعبقري في فدائيته، حين يقف فوق أرض القتال.. هو كذلك العبقري في كل مهمةتوكل اليه، ومشورةتطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة واستوطنوها.. وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا. مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة، فينتقل بالمسلمين اليها.. يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟ انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه سلمان بن زياد، يرتادان لمسلمين المكان الملائم.. فلما بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله.. وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة... وما كاد المسلمون ينتقلون اليها، حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!! لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائما: " ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"... ** وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم: أجئتم معكم بأكفان..؟؟ قالوا: نعم.. قال: أرونيها.. فلما رآها، وجدها جديدة فارهة.. فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم: " ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص.. فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!! وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها: " مرحبا بالموت.. حبيب جاء على شوق.. لا أفلح من ندم".. وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر، ومن أكثرها تقى، وتآلقا، واخباتا... |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
عمّار بن ياسر - رجل من الجنة..!!
لو كان هناك أناس يولدون في الجنة، ثم يشيبون في رحابها ويكبرون.. ثم يجاء بهم الى الرض ليوكون زينة لها، ونورا، لكان عمّار، وأمه سميّة، وأبوه ياسر من هؤلاء..!! ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا مفترض هذا الاتراض، وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟ وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال: " صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة".. بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه.. خرج ياسر والد عمّار، من بلده في اليمن يطلب أخا له، ويبحث عنه.. وفي مكة طاب له المقام، فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة.. وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه سميّة بنت خياط.. ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا.. وكان اسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله.. وشأن الأبرار المبكّرين أيضا، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!! ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر.. فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة، تولوهم بالوعيد والتهديد، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك، ولنضعنّ شرفك، ولنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية. وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها، أو عبيدها، أصلتهم سعيرا. ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق.. ووكل أمر تعذيبهم الى بني مخزوم، يخرجون بهم جميعا.. ياسر، سمية وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة، ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!! ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا ان شاء الله مع جلال تضحيتها، وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات.. وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول الى آخرها شرفا لا ينفد، وكرامة لا ينصل بهاؤها..! موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!! ** كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون.. ولم يكن ىنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا.. وكانت تلك مشيئة الله.. فالدين الجديد، ملة ابراهيم حنيفا، الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة اصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكا بطولاته، وتضحياته ومخاطراته... ان هذه التضحيات النبيلة الهائلة، هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول، وخلودا لا يبلى..!!! انها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء، وغبطة وحبورا. وانها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة الى حقيقة الدين، وصدقه وعظمته.. وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للاسلام تضحياته وضحاياه، ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية... فهو يقول: (أحسب الناس أن يتركوا، أن يقولوا آمنّا، وهم لا يفتنون)؟! (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ويعلم الصابرين)؟ (ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا، وليعلمنّ الكاذبين). (أم حسبتم أن تتركوا، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم..) (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب).. (وما أصابكم يوم التقى الجمعان، فباذن الله، وليعلم المؤمنين). أجل هكذا علم القرآن حملته وأبناءه، أن التضحية جوهر الايمان، وأن مقاومة التحديّات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالاصرار.. انما تشكّل أبهى فضائل الايمان وأروعها.. ومن ثمّ فان دين الله هذا وهو يضع قواعده، ويرسي دعائمه، ويعطي مثله، لا بد له أن يدعم وجوده بالتضحية، ويزكّي نفسه بالفداء، مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون قدوة سامقة ومثلا عاليا للمؤمنين القادمين. ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اهتارتها مقادير الاسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها واصراراها وثيقة عظمته وخلوده.. ** قلنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر، محيّيا صمودها، وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوبرحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به. وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار: " يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ".. فنا داه الرسول: صبرا أبا اليقظان.. صبرا آل ياسر.. فان موعدكم الجنة".. ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة. فيقول عمرو بن الحكم: " كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول". ويقول عمرو بن ميمون: " أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار، كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم".. على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح عمار، وان فدح ظهره ودغدغ قواه.. ولم يشعر عمار بالهلاك حقا، الا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي بالنار، الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه، وتتسلخ قروحه وجروحه.. في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير، وأخذوا يقولون له، وهو يردد وراءهم القول في غير شعور. في لك اليوم، وبعد أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه، تذكّر ما قاله فطار صوابه، وتجسمت هذه الهفوة أما نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات، أوقع به الشعور بالاثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!! ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة.. لقد كان يحتمل الهول المنصّب على جسده، لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك.. لكن الله العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه.. وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا، وهاتفا به: انهض أيها البطا.. لا تثريب عليك ولا حرج.. ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي، فجعل يمسح دموعه بيده، ويقول له: " أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا.. وكذا..؟؟" أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله... فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم:" ان عادوا، فقل لهم مثل قولك هذا"..!! ثم تلا عليه الآية الكريمة: ( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان).. واستردّ عمّار سكينة نفسه، ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما، ولم يعد يلقي له وبالا.. لقد ربح روحه، وربح ايمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة، فليكن بعدئذ ما يكون..!! وصمد عمّار حتى حل الاعياء بجلاديه، وارتدّوا أمام اصراره صاغرين..!! ** استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها، وأخذ المجتمع الاسلامي هناك يتشكّل سريعا، ويستكمل نفسه.. ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ عمار مكانه عليّا..!! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا حمّا، ويباهي أصحابه بايمانه وهديه.. يقول عنه صلى الله عليه وسلم/ : ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه". وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد، قال رسول الله:" من عادى عمارا، عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله" ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الاسلام الا أن يسارع الى عمار معتذرا اليه، وطامعا في صفحه الجميل..!! وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها، ارتجز الامام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه، فيقولون: لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " ما لهم ولعمّار..؟ يدعوهم الى الجنة، ويدعونه الى النار.. ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"... واذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد، فلا بد أن يكون ايمانه، وبلاؤه، وولاؤه، وعظمة نفسه، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى، وانتهت الى ذروة الكمال الميسور..!! وكذلكم كان عمار.. لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى، وبلف في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي ايمانه، ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار".. ولقد وصفه الرواة فقالوا: " كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا، وأقلهم كلاما".. فكيف سارت حياة هذا العملاق، الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟! كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟؟ لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا، وأحدا، والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعل. ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه.. ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرّراة كان عمّار هناكفي الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا، لا تأخذه عن الله رغبة.. وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يخ\تار مصيره، كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر".. وهكذا سارع اليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال.. وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال: " اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا.. وانهما من النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر".. ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا.. لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا.. يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة: " رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها الى داره"..!! ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:" يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه: " خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!! أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة، وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. اذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب، ويهدي اليه المنايا والدمار.. واذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة. يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: " رايت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر، هلموا اليّ.. فنظرت اليه، فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشد القتال"..!!! ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق، والمعلم الكامل، فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومعلم عظيم؟؟ اذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!! واذا كانوا خلفاء وحكّاما، ذهب الخليفة يحلب شياه الأيامى، ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!! واذا كانوا ولاة حملوا طعامم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل، كما صنع سلمان..!! ألا فلنحن الجباه تحيّة واجلالا للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول، الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله.. وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!! ** كان الحذيفة بن اليمان، الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء الله، ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له" بمن تأمرنا، اذا اختلف الناس"..؟ فأجابهم حذيفة، وهو يلقي بآخر كلماته: " عليكم بابن سميّة.. فانه لن يفارق الحق حتى يمةت".. أجل ان عمارا ليدور مع الحق حيث يدور.. والآن نحن نقفو آثاره المباركة، ونتتبع معالم حياته العظيمة، تعلوْا نقترب من مشهد عظيم.. ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله، في صولته وكماله، في تفانيه واصراره، في تفوقه واقتداره، تعالْوا نبصر مشهد مشهدا يسبق هذا المشهد، ويتنبأ به، ويهيئ له... |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
كان ذلك اثر استقرار المسلمين في المدينة، وقد نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار، شعثا لربهم وغبرا، بنون بيته، ويقيمون مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة، وتألقت بشرا، وابتهلت حمدا لربها وشكرا..
الجميع يعملون في خبور وأمل.. يحملون الحجارة، أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء.. فوج هنا وفوج هناك.. والأفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل هكذا يغنون وينشدون.. ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى: اللهم ان العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة وتغريدة ثالثة: لا يستوب من يعمّر مسجدا يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى الغبار عنه حائدا انها خلايا لله تعمل.. انهم جنوده، يحملون لواءه، ويرفعون بناءه.. ورسوله الطيّب الأمين معهم، يحمل من الحجارة أعتاها، ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبتة.. والسماء من فوقهم تغبط الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!! وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها... ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول الله، فيأخذه اليه حنان عظيم، ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسى رأسه، ويتأمّل وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله، ثم يقول على ملأ من أصحابه جميعا: " ويح ابن سميّة..!! تقتله الفئة الباغية"... وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته، فيظن بعض اخوانه أنه قد مات، فيذهب ينعاه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفزّع الأصحاب من وقع النبأ.. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة: " ما مات عمّار تقتله الفئة الباغية".. فمن تكون هذه الفئة يا ترى..؟؟ ومتى..؟ وأي..؟ لقد أصغى عمّار للنبوءة اصغاء من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم.. ولكنه لم يروّع.. فهو منذ أسلم، وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار... ومضت الأيام.. والأعوام.. ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به الى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما الى رضوان الله عمر.. وولي الخلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. وكانت المؤمرات ضدّ الاسلام تعمل عملها االمستميت، وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في الحرب.. وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر الاسلام ملكها وعروشها.. وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها، فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الاسلام.. ولعل عثمان رضي الله عنه، لم يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر، فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله عنه، وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم الله وجهه حقه في الأمر، وفي الخلافة... وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم من نفض يديه من الخلاف وأوى الى بيتهخ، جاعلا شعاره كلمة ابن عمر: " من قال حيّ على الصلاة أجبته... ومن قال حيّ على الفلاح أجبته.. ومن قال حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلات: لا؟.. ومنهم من انحاز الى معاوية.. ومنهم من وقف الى جوار عليّ صاحب البيعة، وخليفة المسلمين.. ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟ أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " واهتدوا بهدي عمّار"..؟ أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عادى عمّارا عاداه الله"..؟ والذي كان اذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال: " مرحبا بالطيّب المقدام، ائذنوا له"..!! لقد وقف الى جوار عليّ ابن أبي طالب، لا متحيّزا ولا متعصبا، بل مذعنا للحق، وحافظا للعهد.. فعليّ خليفة المسلمين، وصاحب البيعة بالامامة.. ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير.. وعليّ قبل هذا وبعد هذا، صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى.. ان عمارا الذي يدور مع الحق حيث دار، ليهتدي بنور بصيرته واخلاصه الى صاحب الحق الأوحد في النزاع.. ولم يكن صاحب الحق يومئذ في يقينه سوى عليّ، فأخذ مكانه الى جواره.. وفرح علي رضي الله عنه بنصرته فرحا لعله لم يفرح يمئذ مثله وازداد ايمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل عليه وسار معه.. وجاء يوم صفين الرهيب. وخرج الامام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه. وخرج معه عمار.. كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلاثة وتسعين.. ثلاث وتسعون عاما ويخرج للقتال..؟ أجل ما دام يتعقد أن القتال مسؤليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين...!! كان الرجل الدائم الصمت، القليل الكلام، لا يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما الا بهذه الضراعة: " عائذ بالله من فتنة... عائذ بالله من فتنة..". وبعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم.. وكلما كانت الأيام تمر، كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه.. كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه.. وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة، كان ابن سميّة. يعرف مكانه فوقف يوم صفين حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته.. ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلا: " ايها الناس: سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان، ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره، ولكنهم ذاقوا الدنيا، واستمرءوها، وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم.. وما كان لهؤلاء سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم، ولا الولاية عليهم، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق... وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون الا أن يكونوا جبابرة وملوكا؟... ثم أخذ الراية بيده، ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة، وصاح في الناس قائلا: " والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهأنذا أقاتل بها اليوم.. والذي نفسي بيده. لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر، لعلمت أننا على الحق، وأنهم على الباطل".. ولقد تبع الناس عمارا، وآمنوا بصدق كلماته.. يقول أبو عبدالرحمن السلمي: " شهدنا مع عليّ رضي الله عنه صفين، فرأيت عمار ابن ياسر رضي اله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها، ولا واد من أوديتها، الا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"..!! كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول، يؤمن أنه واحد من شهدائها.. وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبرة: " تقتل عمّار الفئة الباغية".. من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة: "اليوم القى الأحبة محمدا وصحبه"..!! ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله الأمويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما: لقد ضربناكم على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام عن مقليه ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق الى سبيله وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين، وعمارا منهم قاتلوا الأمويين بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك، ويقود جيوش المشركين.. قاتلوهم بالأمس، وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون.. أما اليوم، وان يكونوا قد أسلموا، وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم، الا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحق، وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب الى ذويه، وحتى تنصفئ الى البد نار التمرّد والفتنة.. ويعني كذلك، أنهم بالأمس قاتلوا الأمويين لكفرهم بالدين والقرآن.. واليوم يقاتلون الأمويين لانحرافهم بالدين، وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره، ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!! كان ابن الثالثة والتسعين، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق، ويترك لها آخر مواقفه العظيمة، الشريفة المعلمة.. ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا، حتى لا تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية.. بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد، أفقدتهم صوابهم، فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لاصابته، حتى اذا تمكّنوا منه أصابوه... ** كان جيش معاويبة ينتظم من كثيرين من المسلمين الجدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الاسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها الاسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة، والامام، كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعالا.. وهذا الخلاف على خطورته، كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الاسلام، وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما.. شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعا ذات يوم بعيد، وهم يبنون المسجد بالمدينة.. " ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباعغية". وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. انها الفئة التي قتلت عمّارا.. وما قتله الا فئة معاوية.. وازداد أصحاب عليّ بهذا ايمانا.. أما فريق معاوية، فقد بدأ الشك يغز قلوبهم، وتهيأ بعضهم للتمرد، والانضمام الى عليّ.. ولم يكد معاوية يسمع بما حدث. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقا بأن عمّارا ستقتله الفئة الباغية.. ولكن من الذي قتل عمّارا...؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائلا: " انما قتله الذين خرجوا به من داره، وجاؤا به الى القتال".. وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك، واستأنفت المعركة سيرها الى ميقاتها المعلوم... ** أمّا عمّار، فقد حمله الامام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه.. أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل، وقدّيس عظيم من طراز عمّار... ووقف المسلمون على قبره يعجبون.. منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه، وهو يصيح: " اليوم ألقى الأحبة، محمدا وصحبة"..!! أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقات ينتظره...؟؟!! وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون... قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال: " اشتاقت الجنة لعمّار"..؟؟ قال له صاحبه نعم، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال.. اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار.. واذن، فقد طال شوقها اليه، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته، وينجز آخر واجباته.. ولقد أدّاها في ذمّة، وأنجزها في غبطة.. أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟ بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان الا الاحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى.. وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمّار...! |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
خباب بن الأرت - أستاذ فنّ الفداء
خرج نفر من القرشيين، يغدّون الخطى، ميممين شطر دار خبّاب ليتسلموا منه سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها.. وقد كان خباب سيّافا، يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة، ويرسل بها الى الأسواق.. وعلى غير عادة خبّاب الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله، لم يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه.. وبعد حين طويل جاء خباب على وجهه علامة استفهام مضيئة، وفي عينيه دموع مغتبطة.. وحيّا ضيوفه وجلس.. وسألوه عجلين: هل أتممت صنع السيوف يا خباب؟؟ وجفت دموع خباب، وحل مكانها في عينيه سرور متألق، وقال وكأنه يناجي نفسه: ان أمره لعجب.. وعاد القوم يسألونه: أي أمر يا رجل..؟؟ نسألك عن سيوفنا، هل أتممت صنعها..؟؟ ويستوعبهم خبّاب بنظراته الشاردة الحالمة ويقول: هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟ وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب.. ويعود أحدهم فيسأله في خبث: هل رأيته أنت يا خبّاب..؟؟ ويسخر خبّاب من مكر صاحبه، فيردّ عليه السؤال قائلا: من تعني..؟ ويجيب الرجل في غيظ: أعني الذي تعنيه..؟ ويجيب خبّاب بعد اذ أراهم أنه أبعد منالا من أن يستدرج، وأنه اعترف بايمانه الآن أمامهم، فليس لأنهم خدعوه عن نفسه، واستدرجوا لسانه، بل لأنه رأى الحق وعانقه، وقرر أن يصدع به ويجهر.. يجيبهم قائلا، وهو هائم في نشوته وغبطة روحه: أجل... رأيته، وسمعته.. رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه..!! وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون، فصاح به أحدهم: من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أمّ أنمار..؟؟ وأجاب خبّاب في هدء القديسين: ومن سواه، يا أخا العرب.. من سواه في قومك، من يتفجر من جوانبه الحق، ويخرج النور بين ثناياه..؟! وصاح آخر وهبّ مذعورا: أراك تعني محمدا.. وهز خبّاب رأسه المفعم بالغبطة، وقال: نعم انه هو رسول الله الينا، ليخرجنا من الظلمات الى االنور.. ولا يدري خبّاب ماذا قال بعد هذه الكلمات، ولا ماذا قيل له.. كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة ليرى زوّاره قد انفضوا.. وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما، ودمه النازف يضمّخ ثوبه وجسده..!! وحدّقت عيناه الواسعتان فيما حوله.. وكان المكان أضيق من أن يتسع لنظراتهما النافذة، فتحمّل على آلامه، ونهض شطر الفضاء وأمام باب داره وقف متوكئا على جدارها، وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة تحدّقان في الأفق، وتدوران ذات اليمين وذات الشمال..انهما لا تقفان عند الأبعاد المألوفة للناس.. انهما تبحثان عن البعد المفقود...أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته، وفي حياة الناس الذين معه في مكة، والناس في كل مكان وزمان.. ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم، هو النور الذي يهدي الى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة..؟؟ واستغرق خبّاب في تأمّلات سامية، وتفكير عميق.. ثم عاد الى داخل داره.. عاد يضمّد جراح جسده، ويهيءه لاستقبال تعذيب جديد، وآلام جديدة..!! ومن ذلك اليوم أخذ خبّاب مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين.. أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم، وضعفهم يواجهون كبرياء قريش وعنفها وجنونها.. أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية، والقيصرية.. مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين، الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل، وأذاقوهم الحرمان والعذاب.. وفي استبسال عظيم، حمل خبّاب تبعاته كرائد.. يقول الشعبي: " لقد صبر خبّاب، ولم تلن له أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه"..!! أجل كان حظ خبّاب من العذاب كبيرا، ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب.. لقد حوّل كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خبّاب والذي كان يصنع منه السيوف.. حولوه كله الى قيود وسلاسل، كان يحمى عليها في النار حتى تستعر وتتوهج، ثم يطوّق بها جسده ويداه وقدماه.. ولقد ذهب يوما مع بعض رفاقه المضطهدين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا جوعين من التضحية، بل راجين العافية، فقالوا:" يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا..؟؟" أي تسأل الله لنا النصر والعافية... ولندع خبّابا يروي لنا النبأ بكلماته: " شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا..؟؟ فجلس صلى الله عليه وسلم، وقد احمرّ وجهه وقال: قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار، فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه..!! وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الله الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون"..!! سمع خبّاب ورفاقه هذه الكلمات، فازداد ايمانهم واصرارهم وقرروا أن يري كل منهم ربّه ورسوله ما يحبّان من تصميم وصبر، وتضحية. وخاض خبّاب معركة الهول صابرا، صامدا، محتسبا.. واستنجد القرشيون أم أنمار سيدة خبّاب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه، فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه.. وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب، وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخبّاب يتلوى من الألم، لكنه يكظم أنفاسه، حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه..!! ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والحديد المحمّى فوق رأسه يلهبه ويشويه، فطار قلبه حنانا وأسى، ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخبّاب..؟؟ لا شيء الا أن يثبته ويدعو له.. هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء، وقال: " اللهم أنصر خبّابا".. ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل، كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين، ذلك أنها أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..!! وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار..!! وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمّى يصبّحه ويمسّيه..!! ** كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب.. وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية.. وكان خبّاب واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء.. ومضى خبّاب ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه.. ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة، بل استثمر قدرته على التعليم، فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون اسلامهم خوفا من بطش قريش، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه.. ولقد نبغ في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية.. وسورة، سورة حتى ان عبدالله بن مسعود، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أراد أن يقرأ القرآن غصّا كما أنزل، فليقراه بقراءة ابن أم عبد".. نقول: حتى عبد الله بن مسعود كان يعتبر خبّابا مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة.. وهو الذي كان يدرّس القرآن لـ فاكمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندام فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله، لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة التي كان يعلّم منها خبّاب، حتى صاح صيحته المباركة: " دلوني على محمد"...!! وسمع خبّاب كلمات عمر هذه، فخرج من مخبئه الذي كان قد توارى فيه وصاح: " يا عمر.. والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فاني سمعته بالأمس يقول: اللهم أعز الاسلام بأحبّ الرجلين اليك.. أبي الحكم بن هشام، وعمربن الخطاب".. وسأله عمر من فوره: وأين أجد الرسول الآن يا خبّاب: " عند الصفا، في دار الأرقم بن أبي الأرقم".. ومضى عمر الى حظوظه الوافية، ومصيره العظيم..!! ** شهد خبّاب بن الأرت جميع المشهد والغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش عمره كله حفيظا على ايمانه ويقينه.... وعندما فاض بيت مال لمسلمين بالمال أيام عمر وعثمان، رضي الله عنهما، كان خبّاب صاحب راتب كبير بوصفه من المهاجرين لسابقين الى الاسلام.. وقد أتاح هذا الدخل الوفير لخبّاب أن يبتني له دارا بالكوفة، وكان يضع أمواله في مكان ما من الدار يعرفه أصحابه وروّاده.. وكل من وقعت عليه حاجة، يذهب فيأخذ من المال حاجته.. ومع هذا فقد كان خبّاب لا يرقأ له جفن، ولا تجف له دمعة كلما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بذلوا حياهم للله، ثم ظفروا بلقائه قبل أن تفتح الدنيا على المسلمين، وتكثر في أيديهم الأموال. اسمعوه وهو يتحدث االى عوّاده الذين ذهبوا يعودونه وهو رضي الله عنه في مرض موته. قالوا له: أبشر يا أبا عبدالله، فانك ملاق اخواتك غدا.. فأجابهم وهو يبكي: " أما انه ليس بي جزع .. ولكنكم ذكّرتموني أقواما، واخوانا، مضوا بأجورهم كلها ام ينالوا من الدنيا شيئا.. وانّا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب".. وأشار الى داره المتواضعة التي بناها. ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال: " والله ما شددت عليها من خيط، ولا منعتها من سائل"..! ثم التفت الى كنفه الذي كان قد أعدّ له، وكان يراه ترفا واسرافا وقال ودموعه تسيل: " أنظروا هذا كفني.. لكنّ حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء.... اذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، واذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه"..!! ** ومات خبّاب في السنة السابعة والثلاثين للهجرة.. مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية.. وأستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..!! مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم، ويحييهم، عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، وللفراء من أمثال :خبّاب، وصهيب، وبلال يوما آخر. فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم، وتهل آياته قائلة للرسول الكريم: ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟! أليس الله بأعلم بالشاكرين واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة).. وهكذا، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه، ويربّت على أكتافهم، ويقول لهم: " أهلا بمن أوصاني بهم ربي".. أجل.. مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي، وجيل التضحية... ولعل خير ما نودّعه به، كلمات الامام علي كرّم الله وجهه حين كان عائدا من معركة صفين، فوقعت عيناه على قبر غضّ رطيب، فسأل: قبر من هذا..؟ فأجابوه: انه قبر خبّاب.. فتملاه خاشعا آسيا، وقال: رحم الله خبّابا.. لقد أسلم راغبا. وهاجر طاءعا.. وعاش مجاهدا.. |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة
من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه: " ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟ من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا اعمرو بن العاص، وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟ من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟ من هذا الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين..؟؟ أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه: " لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله، وأمين رسوله"..؟؟ انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح.. أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة. ** عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث، في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية.. ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله، وهو لا يرى في نفسه، وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة.. ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه،وأهداه اليه، فقال عليه الصلاة والسلام: " أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجرّاح". ** ان أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله.. فففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على احراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك ودون ذلك، على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول.. ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله.. وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في حرص وقلق.. وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!! وفي احدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صواب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول: " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم الى ربهم"..؟ ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية.. وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصدسق يصف لنا هذا المشهد بكلماته: " لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه.. ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!! وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته.. فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا، حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الامء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط.. لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!! ** لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا... ويوم جاء وفد نجلاان من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام، قال لهم رسول الله: " لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين.. حق أمين"..!! وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه.. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما أحببت الامارة قط، حبّي اياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت الى الظهر مهجّرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني.. فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!! ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره.. انما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم.. ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة، وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها.. وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا، عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا.. ولقد سار تحت راية الاسلام أنذى سارت، جنديّا، كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا، كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين.. وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد.. لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم.. وآنئذ، تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!! ويسأله خالد: " يرحمك الله يا أبا عبيدة.ز ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟ فيجيبه أمين الأمة: " اني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله اخوة".!!! ** ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا.. فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين.. وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا.. فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، وأ/انته.. " يا أيها الناس.. اني مسلم من قريش.. وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ حيّاك الله يا أبا عبيدة.. وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك.. مسلم من قريش، لا أقل ولا أكثر. الدين: الاسلام.. والقبيلة: قريش. هذه لا غير هويته.. أما هو كأمير الأمراء، وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا، وأشدّها بأسا، وأعظمها فوزا.. أما هو كحاكم لبلاد الشام،أمره مطاع ومشيئته نافذة.. كل ذلك ومثله معه، لا ينال من انتباهه لفتة، وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!! ** ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل مستقبليه: أين أخي..؟ فيقولون من..؟ فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح. ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه، وترسه ورحله.. ويسأله عمر وهو يبتسم: " ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟ فيجيبه أبو عبيدة: " يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل"..!! ** وذات يوم، وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع، جاءه الناعي، أن قد مات أبو عبيدة.. وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع.. وغاض الدمع، ففتح عينيه في استسلام.. ورحّم على صاحبه، واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر.. وأعاد مقالته عنه: " لو كنت متمنيّا، ما تمنيّت الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة".. ** ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان.. زهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل، كان مستقرا لروح خير، ونفس مطمئنة.. وسواء عليه، وعليك، أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف.. فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه.. ذلك أن عبير رفاته، سيدلك عليه..!! |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
عثمان بن مظعون - راهب صومعته الحياة
اذا أردت أن ترتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق سبقهم الزمني الى الاسلام فاعلم اذا بلغت الرقم الرابع عشر أن صاحبه هو عثمان بن مظعون.. واعلم كذلك أن ابن مظعون هذا، كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة.. كما كان أول المسلمين دفنا بالبقيع.. واعلم أخيرا أن هذا الصحابي الجليل الذي تطالع الآن سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع، بل من رهبان الحياة...!! أجل.. كانت الحياة بكل جيشانها، ومسؤولياتها، وفضائلها هي صومعته.. وكانت رهبانيته عملا دائبا في سبيل الحق، وتفانيا مثابرا في سبيل الخير والصلاح... عندما كان الاسلام يتسرّب ضوؤه الباكر االنديّ من قلب الرسول صلى الله عليه عليه وسلم.. ومن كلماته ، عليه الصلاة والسلان، التي يلقيها في بعض الأسماع سرا وخفية.. كان عثمان بن معظون هناك، وحدا من القلة التي سارعت الى الله والتفت حول رسوله.. ولقد نزل به من الأذى والضر، ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين.. وحين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القلة المؤمنة المضطهدة بالعافية. آمرا ايّاها بالهجرة الى الحبشة. مؤثرا أن يبقى في مواجهة الأذى وحده، كان عثمان بن مظعون أمير الفوج الأول من المهاجرين، مصطحبا معه ابنه السائب موليّا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل. وضراوة قريش، وهو عذابها.... ** وكشأن المهاجرين الى الحبشة في كلتا الهجرتين... الأولى والثانية، لم يزدد عثمان بن مظعون رضي الله عنه الا استمساكا بالاسلام. واعتصاما به.. والحق أن هجرتي الحبشة تمثلان ظاهرة فريدة، ومجيدة في قضية الاسلام.. فالذين آمنوا بالرسول صلى الله وصدّقوه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، كانوا قد سئموا الوثنية بكل ضلالاتها وجهالاتها، وكانوا يحملون فطرة سديدة لم تعد تسيغ عبادة أصنام منحوتة من حجارة أو معجونة من صلصال..!! وحين هاجروا الى الحبشة واجهوا فيها دينا سائدا، ومنظما.. له منائسه وأحباره ورهبانه.. وهو، مهما تكن نظرتهم اليه، بعيد عن الوثنية التي ألفوها في بلادهم، وعن عبادة الأصنام بشكلها المعروف وطقوسها التي خلفوها وراء ظهورهم.. ولا بدّ أن رجال الكنيسة في الحبشة قد بذلوا جهودا لاستمالة هؤلاء المهاجرين لدينهم، واقناعهم بالمسيحية دينا... ومع هذا كله نرى أولئك المهاجرين يبقون على ولائهم العميق للاسلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم.. مترقبين في شوق وقلق، ذلك أن اليوم القريب الذي يعودون فيه الى بلادهم الحبيبة، ليعبدوا الله وحده، وليأخذوا مكانهم خلف رسولهم العظيم.. في المسجد أيام السلام.. وفي ميدان القتال، اذا اضطرتهم قوى الشرك للقتال.. في الحبشة اذن عاش المهاجرون آمنين مطمئنين.. وعاش معهم عثمان بن مظعون الذي لم ينس في غربته مكايد ابن عمّه أمية بن خلف، وما ألحقه به وبغيره من أذى وضرّ، فراح يتسلى بهجائه ويتوعده: تريش نبالا لا يواتيك ريشها وتبري نبالا، ريشها لك أجمع وحاربت أقواما مراما أعزة وأهلكت أقواما بهم كنت تزغ ستعلم ان نابتك يوما ملمّة وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع ** وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله، ويتدارسون ما معهم من القرآن، ويحملون برغم الغربة توهج روح منقطع النظير.. اذ الأنباء تواتيهم أن قريش أسلمت، وسجدت عم الرسول لله الواحد القهار.. هنالك حمل النهاجرون أمتعتهم وطاروا الى مكة تسبقهم أشواقهم، ويحدوهم حنينهم.. بيد أنهم ما كادوا يقتربون من مشارفها حتى تبيّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن اسلام قريش.. وساعتئذ سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد عجلوا.. ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر..!! وقد سمع مشركو مكة بمقدم الصيد الذي طالما ردوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.. ثم ها هو ذا الآن، تحيّن فرصته، وتأتي به مقاديره..!! كان الجوّار يومئذ تقليدا من تقاليد العرب ذات القداسة والاجلال، فاذا دخل رجل مستضعف جوار سيّد قرشي، أصبح في حمى منيع لا يهدر له دم، ولا يضطرب منه مأمن... ولم يكن العائدون سواء في القدرة على الظفر بجوار.. من أجل ذلك ظفر بالجوار منهم قلة، كان من بين أفرادها عثمان بن مظعون الذي دخل في جوار الوليد بم المغيرة. وهكذا دخل مكة آمنا مطمئنا، ومضى يعبر درزبها، ويشهد ندواتها، لا يسام خسفا ولا ضيما. ** ولكن ابن مظعون.. الرجل الذي يصقله القرآن، ويربيه محمد صلى الله عليه وسلم، يتلفت حواليه، فيرى اخوانه المسلمين من الفقراء والمستضعفين، الين لم يجدوا لهم جوارا ولا مجيرا.. يراهم والأذى ينوشهم من كل جانب.. والبغي يطاردهم في كل سبيل.. بينما هو آمن في سربه، بعيد من أذى قومه، فيثور روحه الحر، ويجيش وجدانه النبيل، ويتفوق بنفسه على نفسه، ويخرج من داره مصمما على أن يخلع جوار الوليد، وأن ينصو عن كاهله تلك الحماية التي حرمته لذة تحمل الأذى في سبيل الله، وشرف الشبه باخوانه المسلمين، طلائع الدنيا المؤمنة، وبشائر العالم الذي ستتفجر جوانبه غدا ايمانا، وتوحيدا، ونورا.. ولندع شاهد عيان يصف لنا ما حدث: " لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم من البلاء. وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله ان غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، واصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لايصيبني، لنقص كبير في نفسي.. فمشى الى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك. وقد ردت اليك جوارك.. فقال له: لم يا ابن أخي.. لعله آذاك أحد من قومي..؟ قال.. لا. ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره... فانطلق الى المسجد فاردد عليّ جواري علانية .. فانطلقا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان.. قد جاء يردد عليّ جواري.. قال عثمان: صدق.. ولقد وجدته وفيّا كريما الجوار، ولكنني أحببت ألا أستجير بغير الله.. ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشهدم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال عثمان: صدقت.. قال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل قال عثمان: كذبت.. نعيم الجنة لا يزول.. فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم..؟ فقال رجل من القوم: ان هذا سفيه فارق ديننا.. فلا تجدنّ في نفسك من قوله.. فرد عليه عثمان بن مظعون حتى سري أمرهما. فقام اليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابا، والوليد بن المغيرة قريب، يرى ما يحدث لعثمان، فقال: أما والله يا بن أخي ان كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة، لقد كانت في ذمة منيعة.. فال عثمان: بل والله ان عيني الصحيحة لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس..!! فقا له الوليد: هلم يا بن أخي، ا ن شئت فعد الى جواري.. قال ابن مظعون: لا... وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم، ولكن روحه تتفجر عافية، وصلابة، وبشرا.. ولقد مضى في الطريق الى داره يتغنى بشعره هذا: فان تك عيني في رضا الله نالها يدا ملحدا في الدين ليس بمهتدي فقد عوّض الرحمن منها ثوابه ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد فاني وان قلتم غويّ مضلل لأحيا على دين الرسول محمد أريد بذاك الله، والحق ديننا على رغم من يبغي علينا ويعتدي ** هكذا ضرب عثمان بن مظعون مثلا، هو له أهل، وبه جدير.. وهكذا شهدت الحياة انسانا شامخا يعطّر الوجود بموقفه الفذ هذا.. وبكلماته الرائعة الخالدة: " والله ان عيني الصحيحة، لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر"..!! ولقد ذهب عثمان بن مظعون بعد ردّ جوار الوليد يتلقى من قريش أذاها، وكان بهذا سعيدا جدّ سعيد.. فقد كان ذلك الأذىبمثابة الانر التي تنضج الايمان وتصهره وتزكّيه.. وهكذا سار مع اخوانه المؤمنين، لا يروعهم زجر.. وبل يصدّهم اثخان..!! ** ويهاجر عثمان الى المدينة، حيث لا يؤرّقه أبو جهل هناك، ولا أبو لهب.... ولا أميّة.. ولا عتبة، ولا شيء من هذه الغيلان التي طالما أرّقت ليلهم، وأدمت نهارهم.. يذهب الى المدينة مع أولئك الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته، والذين لم يهاجروا الى المدينة ليستريحوا ويكسروا.. بل لينطلقوا من بابها الفسيح الرحب الى كل أقطار الأرض حاملين راية الله، مبشرين بكلماته وآياته وهداه.. وفي دار الهجرة المنوّرة، يتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة، فاذا هو العابد، الزاهد، المتبتل، الأوّاب... واذا هو الراهب الجليل، الذكي الذي لا يأوي الى صومعة يعتزل فيها الحياة.. بل يملأ الحياة بعمله، وبجهاده في سبيل الله.. أجل.. راهب الليل فارس النهار، بل راهب الليل والنهار، وفارسهما معا.. ولئن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيّما في تلك الفترة من حياتهم، كانوا جميعا يحملون روح الزهد والتبتل، فان ابن مظعون كان له في هذا المجال طابعه الخاص.. اذ أمعن في زهده وتفانيه امعانا رائعا، أحال حياته كلها في ليله ونهاره الى صلاة دائمة مضيئة، وتسبيحة طويلة عذبة..!! وما ان ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة.. فمضى لا يلبس الا الملبس الخشن، ولا يأكل الا الطعام الجشب.. دخل يوما المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلوس، وكان يرتدي لباسا تمزق، فرقّعه بقطعة من فروة.. فرق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيون أصحابه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى.. وتوضع في قصعة. وترفع أخرى.. وسترتم بيوتكم كما تستر الكعب..؟!".. قال الأصحاب: " وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله، فنصيب الرخاء والعيش".. فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: " ان ذلك لكائن.. وأنتم اليوم خير منكم يومئذ".. وكان بديهيا، وابن مظعون يسمع هذا، أن يزداد اقبالا على الشظف وهربا من النعيم..!! بل حتى الرفث الى زوجته نأى عنه وانتهى، لولا أن علم أن رسول الله عليه السلام علم عن ذلك فناداه وقال له: " ان لأهلك عليك حقا".. ** وأحبّه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حبّا عظيما.. وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ليكون صاحبها أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأولهم ارتياد لطريق الجنة، كان الرسول عليه الصلاة والسلام، هناك الى جواره.. ولقد أكبّ على جبينه يقبله، ويعطّره بدموعه التي هطلت من عينيه الودودتين فضمّخت وجه عثمان الذي بدا ساعة الموت في أبهى لحظات اشراقه وجلاله.. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يودّع صاحبه الحبيب: " رحمك الله يا أبا السائب.. خرجت من الجنيا وما أصبت منها، ولا أصابت منك".. ** ولم ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته، بل كان دائم الذكر له، والثناء عليه.. حتى لقد كانت كلمات وداعه عليه السلام لابنته رقيّة، حين فاضت روحها: " الحقي بسلفنا الخيّر، عثمان بن مظعون"..!!! |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
زيد بن حارثة - لم يحبّ حبّه أحد
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الاسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة، قائلا: " عليكم زيد بن حارئة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طاب.. فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة". فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟ من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحبّ.. حبّ رسول الله..؟ أما مظهره وشكله، فكان كما وصفه المؤرخون والرواة: " قصير، آدم، أي أسمر، شديد الأدمة، في أنفه فطس".. أمّا نبؤه، فعظيم جدّ عظيم..!! ** أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن. وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة، وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله، ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده.. لكنّ الشقّة بعدت، والقافلة أغذّت سيرها، وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه، ويعود.. وكذا ودّعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره، وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!! ** ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث.. وذات يوم فوجئ الحيّ، حي بني معن، باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه، وتنزل الهزيمة ببني معن، ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليفع، زيد بن حارثة.. وعادت الأم الى زوجها وحيدة. ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا، وحمل عصاه على كاهله، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد، مسايّا نفسه، وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه: بكيت على زيد ولم ادر ما فعل أحيّ فثرجى؟ أم أتى دونه الأجل فوالله ما أدري، واني لسائل أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل تذكرينه الشمس عنج طلوعها وتعرض ذكراه اذا غربع\ها أفل وان هبّت الأرواح هيّجن ذكره فيا طول حزني عليه، ويا وجل ** كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة.. كان ذلك في أثينا، حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها.. وكذلك كان في روما.. وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا.. وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها، وعادت حاملة أسراها، ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ، وباعوا الأسرى.. ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة. وكانت خديجة رضي الله عنها، قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله، الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين.. ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره،وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية.. وفي أحد مواسم الحج. التقى تفر من حيّ حارثة بزيد في مكة، ونقلوا اليه لوعة والديه، وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه، وقال للحجّاج من قومه" " أخبوا أبي أني هنا مع أكرم والد".. ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير اليه، ومعه أخوه.. وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له: "يا بن عبدالمطلب.. يا لن سيّد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه".. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به، وكان في نفس الوقت يقدّر حق ابيه فيه.. هنالك قال حارثة: "ادعوا زيدا، وخيّروه، فان اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!! وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال: " لقد أنصفتنا، وزدتنا عن النصف".. ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم الى زيد، ولما جاء سأله: " هل تعرف هؤلاء"..؟ قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي. وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد: " ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت الأب والعم"..!! ونديت عينا رسول الله بدموعشاكرة وحانية، ثم أمسك بيد زيد، وخرج به الى فناء الكعبة، حيث قريش مجتمعة هناك، ونادى الرسول: " اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه"..!! وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حرّا فحسب، بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها.. وعاد الأب والعم الى قومهما، مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّدا في مكة، آمنا معافى، بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل، أم غاله الجبل..!! ** تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها الا باسمه هذا زيد بن محمد.. وفي يوم باهر الشروق، نادى الوحي محمدا: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علّم الانسان ما لك يعلم)... ثم تتابعت نجاءاته وكلماته: ( يا أيها الكدثر، قم فأنذر، وربّك فكبّر)... (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك، وان لم تفعل فما بلّغت رسالته، والله يعصمك من الناس، ان الله لايهدي القوم الكافرين)... وما ان حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول المسلمين...!! ** أحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما، وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاؤه الذي لا نظير له، وعظمة روحه، وعفّة ضميره ولسانه ويده... كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.. تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها: " ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط الا أمّره عليهم، ولو بقي حيّا بعد رسول اللهلاستخلفه... الى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فمن كان زيد هذا..؟؟ انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي، ثم بيع، ثم حرره الرسول وأعتقه.. وانه ذلك الرجال القصير، الأسمر، الأفطس الأنف، بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي" قلبه جميع وروحه حر".. ومن ثم وجد له في الاسلام، وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان، فلا الاسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب، ولا بوجاهة المظهر. ففي رحاب هذا الدين العظيم، يتألق بلال، ويتألق صهيب، ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد... يتألقون جميعا كأبرا، وقادة.. لقد صحح الاسلام قيم الاسلام، قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم: ( انّ أكرمكم عند الله أتقاكم)... وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيّرة، وللكفايات النظيفة، الأمينة، المعطية.. وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب، ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترغب بنفسها عن نفسه.. ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر، وتستنفد عوامل بقائها، فانفصل زيد عن زينب. وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن امضائه، والذي انتهى بالانفصال، فضمّ ابنة عمته اليه واختارها زوجة له، ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة.. وذهب الشنئون يرجفون المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟ فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنّوة، ومقررا الغاء عادة التبني، ومعلنا: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله، وخاتم النبين). وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة". ** والآن.. هل ترون هذه اقوات المسلمة الخارجة الى معارك، الطرف، أو العيص، وحسمي، وغيرها.. ان أميرها جميعا، هو زيد بن حارثة.. فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط، الا جعله أميرا هلى هذا الجيش".. حتى جاءت غزوة مؤتة.. كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة، قد بدأوا يوجسون من الاسلام خيفة..بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم، ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها، والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد، المنطلق في عنفوان واكتساح.. وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية، وبلاد الاسلام... ** وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الاسلام، فقرر أن يبادرهم، ويقنعهم بتصميم الاسلام الى أرض البلقاء بالشام، حتى اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود.. ونزل جيش الروم في مكان يسمّى مشارف.. في حين نزل جيش الاسلام يجوار بلدة تسمّى مؤتة، حيث سمّيت الغزوة باسمها... ** كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل، والفرسان في النهار.. ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون اثره رضوان الله تعالى، ويطالعون وجهه الكريم.. وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في امارة الجيش هم: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب، عبدالله بن رواحة. رضي الله عنهم وأرضاهم، ورضي الله عن الصحابوة أجمعين... وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودّع الجيش يلقي أمره السالف: " عليكم زيد بن حارثة.. فان أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب،... فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة"... وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وعلى الرغم من شجاعته، وجسارته، وحسبه ونسبه، فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد، وجعل زيدا الأمير الأول للجيش... وبمثل هذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الاسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الانسانية الفاسدة، والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل، لينشئ مكانها علاقات جديدة، رشيدة، قوامها انسانية الانسان...!! ** ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع امراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر، فابن رواحة.. فقد لقوا ربّهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا..!! ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب.. ولكن متى كانت معارك الايمان معارك كثرة..؟؟ هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتحما رماح العدو زنباله وسيوفه، لا يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء، ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة، ورفرفها الأخضر، تخفق أمام عينيه كالأعلام، تنبئه أن اليوم يوم زفافه.. وكان هو يضرب، ويقاتل، لا يطوّح رؤوس مقاتليه، انما يفتح الأبواب، ويفضّ الأغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع، الي سيدلف منه الى دار السلام، وجنات الخلد، وجوار الله.. وعانق زيد مصيره... وكانت روحه وهي في طريقها الى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها، لا يلفه الحرير الناعم، بل يضخّمه دم طهور سال في سبيل الله.. ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة، وهي تبصر ثاني الأمراء جعفرا يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها، وليحملها قبل أن تغيب في التراب.... |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
جعفر بن أبي طالب - أشبهت خلقي، وخلقي
انظروا جلال شبابه.. انظروا نضارة اهابه.. انظروا أناته وحلمه، حدبه، وبرّه، تواضعه وتقاه.. انظروا شجاعته التي لا تعرف الخوف.. وجوده الذي لايخاف الفقر.. انظروا طهره وعفته.. انظروا صدقه وأمانته... انظروا فيه كل رائعة من روائع الحسن، والفضيلة، والعظمة، ثم لا تعجبوا، فأنتم أمام أشبه الناس بالرسول خلقا، وخلقا.. أنتم أمام من كنّاه الرسول بـ أبي المساكين.. أنت تجاه من لقبه الرسول بـ ذي الجناحين.. أنتم تلقاء طائر الجنة الغريد، جعفر بن أبي طالب..!! عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين أسهموا أعظم اسهام في صوغ ضمير الحياة..!! ** أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما، آخذا مكانه العالي بين المؤمنين المبكرين.. وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميس.. وحملا نصيبهما من الأذى ومن الاضطهاد في شجاعة وغبطة.. فلما اختار الرسول لأصحابه الهجرة الى الحبشة، خرج جعفر وزوجه حيث لبيا بها سنين عددا، رزقا خلالها بأولادهما الثلاثة محمد، وعبد الله، وعوف... ** وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب المتحدث اللبق، الموفق باسم الاسلام ورسوله.. ذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم، بذكاء القلب، واشراق العقل، وفطنة النفس، وفصاحة اللسان.. ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى يستشهد.. أروع أيامه وأمجاده وأخلدها.. فان يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي بالحيشة، لن يقلّ روعة ولا بهاء، ولا مجدا.. لقد كان يوما فذّا، ومشهدا عجبا... ** وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها، ولم يذهب من غيظها، ولم يطامن كم أحقادها، هجرة المسلمين الى الحبشة، بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم، ويتكاثر طمعهم.. وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر والقوّة، فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها، ويفلتوا من قبضتها.. يظلوا هناك في مهاجرهم أملا رحبا تهتز له نفس الرسول، وينشرح له صدر الاسلام.. هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة، ويحملان رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا اليها لائذين ومستجيرين... وكان هذان المبعوثان: عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وكانا لم يسلما بعد... ** كان النجاشي الذي كان يجلس أيامئذ على عرش الحبشة، رجلا يحمل ايمانا مستنيرا.. وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية، بعيدة عن الانحراف، نائية عن التعصب والانغلاق... وكان ذكره يسبقه.. وسيرته العادلة، تنشر غبيرها في كل مكان تبلغه.. من أجل هذا، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه.. ومن أجل هذا، خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحمّلت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة، وكبار رجال الكنيسة هناك، وأوصى زعماء قريش مبعوثيهاألا يقابلا النجاشي حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أولا، وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما، ليكونوا لهم عونا عند النجاشي. وحطّ الرسولان رحالهما بالحبشة، وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة، ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها اليهم.. ثم أرسلا للنجاشي هداياه.. ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين، ويستنجدان بهم لحمل النجاشي، ويواجهان بين يديه خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها. ** وفي وقار مهيب، وتواضع جليل، جلس النجاشي على كرسيه العالي، تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية، وجلس أمامه في البهو الفسيح، المسلمون المهاجرون، تغشاهم سكينة الله، وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير: " أيها الملك.. انه قد ضوى لك الى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، بل جاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، أعمامهم، وعشائرهم، لتردّهم اليهم"... وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين، ملقيا عليهم سؤاله: " ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟ ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها ابّان تشاورهم، وقبل مجيئهم الى هذا الاجتماع.. نهض جعفر في تؤدة وجلال، وألقى نظرات محبّة على الملك الذي أحسن جوارهم وقال: " يا أيها الملك.. كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله الينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان.. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء.. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فغدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا الى عبادة الأوثان، والى ما كنّا عليه من الخبائث.. فلما قهرونا، وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلادك ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك"... ** ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر، فملأت نفس النجاشي احساسا وروعة، والتفت الى جعفر وساله: " هل معك مما أنزل على رسولكم شيء"..؟ قال جعفر: نعم.. قال النجاشي: فاقرأه علي.. ومضى حعفر يتلو لآيات من سورة مريم، في أداء عذب، وخشوع فبكى النجاشي، وبكى معه أساقفته جميعا.. ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة، التفت الى مبعوثي قريش، وقال: " ان هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.. انطلقا فلا والله، لا أسلمهم اليكما"..!! ** انفضّ الجميع، وقد نصر الله عباده وآرهم، في حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة.. لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة، لا يتجرّع الهزيمة، ولا يذعن لليأس.. وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه الى نزلهما، حتى ذهب يفكّر ويدبّر، وقال لزميله: " والله لأرجعنّ للنجاشي غدا، ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم".. وأجابه صاحبه: " لا تفعل، فان لهم أرحاما، وان كانوا قد خالفونا".. قال عمرو: " والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، كبقية العباد".. هذه اذن هي المكيدة الجديدة الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم الى الزاوية الحادة، ويضعهم بين شقّي الرحى، فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله، حرّكوا ضدهم أضان الملك والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!! ** وفي الغداة أغذا السير الى مقابلة الملك، وقال له عمرو: " أيها الملك: انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما". واضطرب الأساقفة.. واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة.. ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم عن موقف دينهم من المسيح.. وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة، فجلسوا يتشاورون.. ثم تفقوا على أن يقولوا الحق الذي سمعون من نبيهم عليه الصلاة والسلام، لايحيدون عنه قيد شعرة، وليكن ما يكن..!! وانعقد الاجتماع من جديد، وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر: "ماذا تقولون في عيسى"..؟؟ ونهض جعفر مرة أخرى كالمنار المضيء وقال: " نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه".. فهتف النجاشي نصدّقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه.. لكنّ صفوف الأساقفة ضجّت بما يسبه النكير.. ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين: " اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبّكم أو آذاكم، فعليه غرم ما يفعل".. ثم التفت صوب حاشيته، وقال وسبّابته تشير الى مبعوثي قريش: " ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها... فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه"...!! وخرج مبعوثا قريش مخذولين، حيث وليّا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائين اليها... وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة، لابثين فيها كما قالوا:" بخير دار.. مع خير جار.." حتى يأذن الله لهم بالعودة الى رسولهم واخوانهم وديارهم... ** كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين.. وأفعم قلب الرسول عليه الصلاة والسلام بمقدمة غبطة، وسعادة وبشرا.. وعانقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " لا أدري بأيهما أنا أسرّ بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر..". وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى مكة، حيث اعتمروا عمرة القضاء، وعادوا الى المدينة، وقد اكتلأت نفس جعفر روعة بما سمع من انباء اخوانه المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وأحد.. وغيرهما من المشاهد والمغازي.. وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقضوا نحبهم شهداء أبرار.. وطار فؤداه شوقا الى الجنة، وأخذ يتحيّن فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..!! ** وكانت غزوة مؤتة التي أسلفنا الحديث عنها، تتحرّك راياتها في الأفق متأهبة للزحف، وللمسير.. ورأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر، فامّا أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله، واما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله.. وتقدّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا.. كان جعفر يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة.. بل ولا حربا صغيرة، انما هي حرب لم يخض الاسلام منها من قبل.. حرب مع جيوش امبراطورية عريضة باذخة، تملك من العتاد والأعداد، والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به، ومع هذا طار شوقا اليها، وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه.. وخرج الجيش وخرج جعفر معه.. والتقى الجمعان في يوم رهيب.. وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف مقاتل، فانه على العكس، أخذته نشوة عارمة اذا احسّ في أنفه المؤمن العزيز، واعتداد البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..!! وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة، حتى تلقاها جعفر باليمين ومضى يقاتل بها في اقدام خارق.. اقدام رجل لا يبحث عن النصر، بل عن الشهادة... وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم، و{اى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل.. وراح يصوب سيفه ويسدده الى نحور أعدائه كنقمة القدر.. ولمح واحدا من األأعداء يقترب من فرسه ليعلو ظهرها، فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس، فبسط نحوها سيفه، وعقرها..!! وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالاعثار، وصوته يتعالى بهذا الزجر المتوهج: يا حبّذا الجنة واقترابها طيّبة، وبارد شرابها والروم روم، قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها عليّ اذا لاقيتها ضرابها وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل، وكانه جيش لجب.. وأحاطوا به في اصرار مجنون على قتله.. وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة.. وضربوا بالسيوف يمينه، وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله.. وضربوها هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه.. في هذه اللحظة تركّزت كل مسؤوليته في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حيّ.. وحين تكّومت جثته الطاهرة، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، ونادت خفقاتها عبدالله بن رواحة فشق الصفوف كالسهم نحوها، واخذها في قوة، ومضى بها الى مصير عظيم..!! ** وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات البشر..!! وهكذا لقي الكبير المتعال، مضمّخا بفدائيته، مدثرا ببطولاته.. وأنبأ العليم الخبير رسوله بمصير المعركة، وبمصير جعفر، فاستودعه الله، وبكى.. وقام الى بيت ابن عمّه، ودعا بأطفاله وبنيه، فشمّمهم، وقبّلهم، وذرفت عيناه.. ثم عاد الى مجلسه، وأصحابه حافون به. ووقف شاعرالاسلام حسّان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه: غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم الى الموت ميمون النقيبة أزهر أغرّ كضوء البدر من آل هاشم أبيّ اذا سيم الظلامة مجسر فطاعن حتى مال غير موسد لمعترك فيه القنا يتكسّر فصار مع المستشهدين ثوابه جنان، ومتلف الحدائق أخضر وكنّا نرى في جعفر من محمد وفاء وأمرا حازما حين يأمر فما زال في الاسلام من آل هاشم دعائم عز لا يزلن ومفخر وينهض بعد حسّان، كعب بن مالك، فيرسل شعره الجزل : وجدا على النفر الذين تتابعوا يوما بمؤتة، أسندوا لم ينقلوا صلى الاله عليهم من فتية وسقى عظامهم الغمام المسبل صبروا بمؤتة للاله نفوسهم حذر الردى، ومخافة أن ينكلوا اذ يهتدون بجعفر ولواؤه قدّام أولهم، فنعم الأول حتى تفرّجت الصفوف وجعفر حيث التقى وعث الصفوف مجدّل فتغير القمر المنير لفقده والشمس قد كسفت، وكادت تأفل وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم، فقد كان جعفر رضي الله عنه أبا المساكين.. يقول أبو هريرة: " كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"... أجل كان أجود الناس بماله وهو حيّ.. فلما جاء أجله أبى الا أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم بذلا لروحه وحيته.. يقول عبدالله بن عمر: " كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة"..!! بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..؟؟!! ومع هذا، فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟ أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد الى جوار الله الأعلى الرحيم، حيث نزل في رحابه مكانا عليّا.. انه هنالك في جنان الخلد، يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح.. وان شئتم، فاسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رأيته في الجنّة.. له جناحان مضرّجان بالدماء.. مصبوغ القوادم"...!!! |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
عبدالله بن رواحة - يا نفس، الا تقتلي تموتي
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشترف مكة، يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى، كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء، حملة الاسلام الى المدينة، والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله، والاسلام.. وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية، كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين... وبعد هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة واستقرارهم بها، كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه، وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الاسلام اليها، والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة، فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للاسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرةمنيرة، أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته، وشلّت حركة دهائه..!! وكان ابن رواحة رضي الله عنه، كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة الا يسيرا.. وكان شاعرا، ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا.. ومنذ أسلم، وضع مقدرته الشعرية في خدمة الاسلام.. وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه.. جلس عليه السلام يوما مع أصحابه، وأقبل عبدالله بن رواحة، فسأله النبي: " كيف تقول الشعر اذا أردت أن نقول"..؟؟ فأجاب عبدالله:" أنظر في ذاك ثم أقول".. ومضى على البديهة ينشد: يا هاشم الخير ان الله فضّلكم على البريّة فضلا ما له غير اني تفرّست فيك الخير أعرفه فراسة خالفتهم في الذي نظروا ولو سألت أو استنصرت بعضهمو في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصروا فثّبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا فسرّ الرسول ورضي وقال له: " واياك، فثّبت الله".. وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه: يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام ان لاقينا ان الذين قد بغوا علينا اذا أرادوا فتنة ألبنا وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة.. وحزن الشار المكثر، حين تنزل الآية الكريمة: ( والشعراء يتبعهم الغاوون).. ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى: ( الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا..) ** وحين يضطر الاسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه، يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده: " يا نفس الا تقتلي تموتي".. وصائحا في المشركين في كل معركة وغزاة: خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا، فكل الخير في رسوله ** وجاءت غزوة مؤتة.. وكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء، كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر.. ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة.. وقف ينشد ويقول: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا أو طعنة بيدي حرّان مجهرة بحربة تنفد الأحشاء والكبدا حتى يقال اذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها.. ضربة سيف أ، طعنة رمح، تنقله الى عالم الشهداء والظافرين..!! ** وتحرّك الجيش الى مؤتة، وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل، اذ رأوا صفوفا لا آخر لها، وأعداد نفوق الحصر والحساب..!! ونظر المسلمون الى عددهم القليل، فوجموا.. وقال بعضهم: " فلنبعث الى رسول الله، نخبره بعدد عدوّنا، فامّا أن يمدّنا بالرجال، وأمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع".. بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار، وقال لهم: " يا قوم.. انّا والله، ما نقاتل الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.. فانطلقوا.. فانما هي احدى الحسنيين، النصر أو الشهادة"... وهتف المسلمون الأقلون عددا، الأكثرون ايمانا،.. هتفوا قائلين: "قد والله صدق ابن رواحة".. ومضى الجيش الى غايته، يلاقي بعدده القليل مائتي ألف، حشدهم الروم للقال الضاري الرهيب... ** والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل.. وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا.. وتلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة.. وتلاه ثالث الأمراء عبداله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته، وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب، الذي حشده هرقل.. وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي، كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة.. أما الآن، وقد صار أميرا للجيش ومسؤولا عن حياته، فقد بدا أمام ضراوة الروم، وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب، لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح.. أقسمت يا نفس لتنزلنّه مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟ يا نفس الا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت وما تمنّت فقد أعطيت ان تفعلي فعلهما هديت يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه الى الشهادة: زيدا وجعفر.. "ان تفعلي فعلهما هديت. انطلق يعصف بالروم عصفا.. ولا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة، لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة الى الله، فصعد شهيدا.. هوى جسده، فصعدت الى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة.. وتحققت أغلى أمانيه: حتى يقال اذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غار، وقد رشدا نعم يا ابن رواحة.. يا أرشد الله من غاز وقد رشدا..!! ** وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة، يحادثهم ويحادثونه.. وفجأة والحديث ماض في تهلل وطمأنينة، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!! وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال: "أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا. ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا".. وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا: " ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها، حتى قتل شهيدا".. ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل، مطمئن، مشتاق. ثم قال: " لقد رفعوا الى الجنة"..!! أيّة رحلة مجيدة كانت.. وأي اتفاق سعيد كان.. لقد خرجوا الى الغزو معا.. وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رفعوا الى الجنة"..!! |
جعلاني فعال
![]() غير متواجد
|
![]()
قيس بن سعد بن عبادة - أدهى العرب، لولا الاسلام
كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم.. وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا".. ذلك أنه كان أجرد، ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها وجوههم. فمن هذا الفتى الذي ودّ قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه، وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية، وزعامته المتفوقة..؟؟ انه قيس بن سعد بن عبادة. من أجود بيوت لعرب وأعرقها.. البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: " ان الجود شيمة أهل هذا البيت".. وانه الداهية الذي يتفجر حيلة، ومهارة، وذكاء، والذي قال عن نفسه وهو صادق: " لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!! ذلك أنه حادّ الذكاء، واسع الحيلة، متوقّد الذهن. ولقد كان مكانه يوم صفين مع علي ضدّ معاوية.. وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض يوم، بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السيء الخطر، ثم يذكر قول الله سبحانه: ( ولا يحيق المكر السوء الا بأهله).. فيهبّ من فوره مستنكرا، ومستغفرا، ولسان حاله يقول: " والله لئن قدّر لمعاوية أن يغلبنا، فلن يغلبنا بذكائه، بل بورعنا وتقوانا"..!! ان هذا الأنصاري الخزرجي من بيت زعامة عظيم، ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة، زعيم الخزرج الذي سيكون لنا معه فيما بعد لقاء.. وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وقدّمه الى الرسول قائلا: " هذا خادمك يا رسول الله".. ورأى لرسول في قيس كل سمات التفوّق وأمائر الصلاح.. فأدناه منه وقرّبه اليه وظل قيس صاحب هذه المكانة دائما.. يقول أنس صاحب رسول الله: " كان قيس بن سعد من النبي، بمكان صاحب الشرطة من الأمير".. وحين كان قيس، قبل الاسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن، ولم يكن في المدينة وما حولها الا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم، علّمه الاسلام أن يعامل الناس باخلاصه، لا بدهائه، ولقد كان ابنا بارّا للاسلام، ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبا، ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا، يأخذه الحنين الى دهائه المقيد، فيقول عبارته المأثورة: " لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"...!! ** ولم يكن بين خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده.. ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس، فهو من بيت عريق في الجود والسخاء، كان لأسرة قيس، على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ، مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان الى طعامهم نهارا... أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحبّ الشحم، واللحم، فليأت أطم دليم بن حارثة"... ودليم بن حارثة، هو الجد الثاني لقيس.. ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح.. تحّث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس وسخائه وقالا: " لو تركنا هذا الفتى لسخائه، لأهلك مال أبيه".. وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن ابنه قيس، فصاح قائلا: " من يعذرني من أبي قحافة، وابن الخطّاب.. يبخلان عليّ ابني"..!! وأقرض أحد اخوانه المعسرين يوما قرضا كبيرا.. وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب الرجل يردّ الى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال: " انا لا نعود في شيء أعطيناه"..!! ** وللفطرة الانسانية نهج لا يتخلف، وسنّة لا تتبدّل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة.. أجل ان الجود الحقيقي والشجاعة الحقيقية توأمان، لا يتخلف أحدهما عن الاخر أبدا.. واذا وجدت جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا.. وانما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الأدّعاء... واذا وجدت شجاعة لا يصاحبها جود، فاعلم أنها ليست شجاعة، انما هي نزوة من نزوات التهوّر والطيش... ولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه فقد كان يمسك بذات اليمين أعنّة الشجاعة والاقدام.. لكأنه المعنيّ بقول الشاعر: اذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين تألقت شجاعته في جميع المشاهد التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حيّ.. وواصلت تألقها، في المشاهد التي خاضها بعد أن ذهب الرسول الى الرفيق الأعلى.. والشجاعة التي تعتمد على الصدق بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والماوجهة، لا بالمناورة والمراوغة، تحمّل صاحبها من المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه.. ومنذ ألقى قيس وراء ظهره، قدرته الخارقة على الدهاء والمناورة، وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة، وهو قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات... ان الشجاعة الحقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده.. هذا الاقتناع الذي لا تكوّنه شهوة أو نزوة، انما يكوّنه الصدق مع النفس، والاخلاص للحق... وهكذا حين نشب الخلاف بين عليّ ومعاوية، نرى قيسا يخلوبنفسه، ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه، حتى اذا ما رآه مع عليّ ينهض الى جواره شامخا، قويا مستبسلا.. وفي معارك صفّين، والجمل، ونهروان، كان قيس أحد أبطالها المستبسلين.. كان يحمل لواء الأنصار وهو يصيح: هذا اللواء الذي كنا نخفّ به مع النبي وجبريل لنا مدد ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته ألا يكون له من غيرهم أحد ولقد ولاه الامام عليّ حكم مصر.. وكانت عين معاوية على مصر دائما... كان ينظر اليها كأثمن درّة في تاجه المنتظر... من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى امارتها حتى جنّ جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر الى الأبد، حتى لو انتصر هو على الامام عليّ انتصارا حاسما.. وهكذا راح بكل وسائله الماكرة، وحيله التي لا تحجم عن أمر، يدسّ عند علي ضدّ قيس، حتى استدعاه الامام منمصر.. وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستكمل ذكاءه استعمالا مشروعا، فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضدّه هذه اللعبة بعد أن فشل في استمالته الى جانبه، لكي يوغر صدره ضدّ الامام علي، ولكي يضائل من ولائه له.. واذن فخير رد على دهاء معاوية هو المزيد من الولاء لعليّ وللحق الذي يمثله عليّ، والذي هو في نفس الوقت مناط الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة.. وهكذا لم يحس لحظة أن عليّا عزله عن مصر.. فما الولاية، وما الامارة، وما المناصب كلها عند قيس الا أدوات يخدم بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت امارته على مصر وسيلة لخدمة الحق، فان موقفه بجوار عليّ فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهميّة ولا روعة.. ** وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها ونهاها، بعد استشهاد عليّ وبيعة الحسن.. لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي الله عنه، هو الوارث الشرعي للامامة فبايعه ووقف الى جانبه غير ملق الى الأخطار وبالا.. وحين يضطرّهم معاوية لامشاق السيوف، ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الامام علي.. ويؤثر الحسن أن يضمّد جراح المسلمين التي طال شحوبها، ويضع حدّا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم يبايعه.. هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد، فيرى أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب، فان لجنود قيس في ذمّته حق الشورى في اختيار المصير، وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا: " ان شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا، وان شئتم أخذت لكم أمانا:.. واختار جنوده الأمر الثاني، فأخذ لهم الامام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة... وفي المدينة المنوّرة، عام تسع وخمسين، مات الداهية الذي روّض الاسلام دهاءه.. مات الرجل الذي كان يقول: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب\يقول: " المكر والخديعة في النار، لكنت من أمكر هذه الأمة".. أجل.. ومات تاركا وراءه عبير رجل أمين على كل ما للاسلام عنده من ذمّة، وعهد وميثاق... |
انواع عرض الموضوع |
![]() |
![]() |
![]() |
|
|