منتديات جعلان > جعلان للتربية والتعليم والموسوعات > جعلان للتربية والتعليم | ||
أبحاث((( أدبية ))) |
الملاحظات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
ذاكرة الألم
د.طارق البكري عاد من رحلته يائساً بائساً.. تخطّ قدماه في الأرض السهلة، تفوح منه رائحة عطر أنثوي يثير الغرائز. ظنّ أنّه تحرر من قيود التاريخ وحواجز الزمن.. تناسى أنّه خليط من ماض وحاضر، نتاج هذا النسيج المركب، ابن هذا الزمان الذي يحاول الانفكاك منه ، وما استطاع إلى ذلك سبيلاً... أصرّ بينه وبين نفسه على أنّه مغامر ماهر... أثبت أخيراً رجولته المنسية المسكونة بغلالات رقيقة من الألم والجوع والفقر، والمكوث طويلاً على أعتاب أصحاب الشأن وفي طوابير العاطلين الباحثين عن عمل... نسيَ أنّ هنالك ملايين مثله... طموحه الذي تكسّر على صخرة الواقع لم يجبر... بحث لنفسه عن مغامرة حقيقية مهما كلفه ذلك من عرق جبين.. المهم أنّه أثبت للعالم ولنفسه أنّه رجل قادر على كسر القيود.. يستطيع التغلب على ما يفرضه الناس عليه من حجر لأنه عاطل.. لكنّه لم يقصر بحثاً عن عمل شريف.. عمل حتى في تمديد المجاري الصحية، مع أنّه يملك شهادة عالية.. صديقته التي أحبها في الجامعة تخلّت عنه أمام أوّل طارق باب يملك شقّة وسيّارة وحساباً في البنك.. ما زال يتحسر على نفسه.. لم تستطع كل كميات الخمور الرديئة التي شربها لأول مرة أن تمحي ذاكرة الألم.. ظلّ يمشي لا يدري إلى أين ؟ يريد أن يرغم نفسه على الإيمان أنَّ المغامرة الأخيرة أشعرته بالبطولة.. بل إنَّه اليوم هو البطل الحقيقي، يضاهي أبطال السينما العالمية، وجهه الشاحب الذي لوحته الشمس بنارها كان يلمح إلى عكس ما يريد .. "ما أحلاها من ليلة..". عاد يهذي.. الخمر خرَّبت رأسه لكنها لم تمح ذاكرة الألم.. أخيراً وصل.. فتح نافذته المطلة على الشارع المظلم.. الشارع أشدّ سواداً من غابة في.. غابة ليس فيها قمر.. النَّاس في حارته ينامون بعد صلاة العشاء مباشرة. عملهم يبدأ مع أذان الفجر.. يخرجون رجالاً نساءً وأطفالاً يبحثون عن أرزاقهم في كل مكان ولا يبقى في الحارة أحد.. قد يظنّها العابرون مليئةً بالأشباح ليلاً و نهاراً.. الحركة فيها تقتصر على وقتين لا ثالث لهما: بعد أذان الفجر وعند عودة الناس منهوكين متعبين حتى الثمالة قبيل مغرب الشمس... يتسللون إلى غرفهم الرطبة وفرشهم العفنة... يفعلون الشيء الوحيد الذي يحبونه.. يلقون على رؤوسهم بطانيات بالية... يغرقون في نوم عميق مثل آلات علاها الصدأ... هو وحده تمرّد... اكتشف نفسه في تلك الليلة.. مزّق شهادة الجامعة... شعر أنّ وجوده لا فائدة منه.. اكتشف فجأة أنه شيء ما لا يمت إلى ماضٍ أو حاضر.. تجسد الواقع الذي لا يجسّد واقعه... فكّر؛ ربما لأول مرّة في سنيّ عمره الذي تجاوز الأربعين... قرر التمرد مع سبق الإصرار والترصد.. مساكين أهل هذا الحي الفقير.. فقير؟؟؟ بل معدم، لا تغريهم الحياة.. لا يهمهم إلا الكدح. من الفجر حتى غروب الشمس، وبين المغرب والعشاء يمارسون الغريزة إذا استطاعوا.. لينسوا، للحظات قليلة فقط، تعب النهار وشقاوة الحياة.. وغالبا ما يعجزون.. وحده قرر اختراق حدود العقل وذاكرة الألم... رسم في رأسه أفكار الموت البطيء، الموت لا يمكن... إنَّها حياة حينما يعز الموت.. غسل يده بصابونة قديمة حركها بصعوبة تحت ماء بارد، مثل الثلج، يابسة، مثل الصخر، من ندرة الاستعمال.. "لا أقبل أن أكون ذلك الإنسان اللاشيء." اللاشيء حقيقة الفراغ.. يدمِّر التفاصيل الصغيرة حتى الإنسان نفسه. مغامرة حقيقية خاضها... لم يكن يملك إلا تلك الدراهم البسيطة.. أضاعها كلها على ليلة حمراء، كان يعلم أنّ تلك الغانية تضحك عليه، توهمه أنه بطل... أنه رجل، مع أنّه في الحقيقة لا يدرك معنى الرجولة.. لم يترك فرصة لنفسه. شرب حتى الثّمالة من أردأ أنواع الشراب, لم يستطع تغييب ذاكرة الألم.. استجمع كل قواه المتبقِّية.. غسل رأسه في طست نحاسي ورثه عن أجداده.. نقع رأسه في الطست، الماء بارد بارد.. أيقن أن لا فائدة من كل ذلك. النّور بدأ يتسلل برفق، ذاكرة الألم على حالها.. الحارة تغرق في ضوء جديد، وجه الغانية الساخر وهي تطرده بعد أن أخرج من جيبه آخر الدراهم لا يستطيع نسيانه.. "لا بأس... المهم أنني تأكدت من رجولتي، أو على الأقل هذا ما بدا لي". يتمتم أمام المرآة المتكسِّرة المجروحة من كل جانب... الموروثة هي أيضاً عن أجداده.. "لماذا تعلمت؟؟ ألم يكن الأجدر بي أن أكون فرَّانا أو بنَّاءً؟؟". عاد إلى صمته.. ارتدى ثوبه الوحيد مرةً ثانية... لم يغسل فمه... بقايا الخمر الرديء ما زالت تفوح من فمه. ذهب إلى محطة القطار القريبة، اندس داخل الدرجة الأخيرة .. تلك الدرجة التي يبقى فيها الناس وقوفاً فترةً طويلةً طويلةً.. ترك القطار يسير به حيثما شاء.. يتخفّى من قاطع التذاكر... يبحثُ عن تذكرة واقعة على أرض القطار... يبحث عن محطة جديدة تبعده عن حارته؛ عن ذاكرة الألم، عن تلك الغانية الحمقاء التي ضحكت عليه ونزعت جيوبه من قروشه البسيطة، ثم رمته كقشرة موز تدوسها الأقدام، لا قيمة لها.. ====>>
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
شجرة التفاح
د.طارق البكري في بيتنا القديم حديقة واسعة واسعة ، في وسطها شجرة كبيرة، عتيقة عتيقة، شاخت مع مضي السنين .. أحبـبتها منذ الصغر، كان لي معها قصص وحكايا على مدى الفصول ومراحل الطفولة والشباب .. كان أبي يقول إنّ أمّه ، رحمها الله ، غرستها شتلة صغيرة منذ زمن بـعيد، لا يدري متى بالتحديد فقد كان طفلاً، وهي تحمل في قلبه ذكريات غالية عزيزة . لذا ظلّ يرعاها ويهتم بها كأنّها فرد من أسرتنا ، يقوم بتنظيف الأرض من الأوراق الساقطة منها ، بالرغم من وجود جنايني مهمته رعاية زهور وأشجار الحديقة الكبيرة.. يعتبر أوراقها الساقطة شيئاً غالياً . في موسم التفاح كنا نفرح كثيراً عندما يقوم أبي بنفسه بقطف ثمارها ويقدّمها لنا ، باعتبارها أحلى وأغلى هديّة سنويّة مستمرّة من أمّه، يرحمها الله . كنّا نشعر وكأنّ هناك عيداً اسمه: "عيد التفاح" .. كنا نترقب الموعد يوماً بعد يوم لنرى تلك الفرحة الغامرة التي يعيشها أبي وهو يراقب الشجرة تزهر وتثمر .. وتخرج خيراتها ، "هدية الأم" ، جدتنا الغالية .. كان أبي يمنعنا من الاقتراب منها ، حتى بعد أن ينتهيَ الموسم ، ولم يكن يسمح لنا باللعب في ظل الشجرة كيلا نتسلقها ونكسر أغصانها .. لقد كان يحمل لها في قلبه حباً وفياً ، أصدق من روايات الوفاء والحب التي نسمع عنها الكثير الكثير .. من شدّة حرصه على الشجرة؛ بنى حولها سوراً خشبياً مرتفعاً فلا يمكن الوصول إليها إلا عبر بوابة صغيرة، ولها قفل ومفتاح واحد، مكانه الدائم في خزانة أبي ... مع الأيام كبرنا وكبر أبي وشاخت الشجرة.. أصبح منظرها لا يتوافق مع مشهد الحديقة العام... موقعها يتنافر مع موقع الأشجار الأخرى التي تحيط بالحديقة ، وتشكل سوراً طبيعيا.ً كنت أعرف أنّ إعدام الشجرة كان مستحيلاً؛ اخترت أهون الحلول، عرضت على أبي أن ننقلها بعناية إلى مكان مناسب في أحد الأركان، وبذلك تبقى في الحديقة، ولا تسبب تشويهاً للمنظر .. احمرّ وجه أبي غيظاً ... انتفض في مجلسه غاضباً .. قال كلمة الفصل : " لن تنتقل الشجرة من مكانها ما دمت حياً " . احترمنا إرادة أبي ... لم يجرؤ أحد من إخوتي على اجتثاثها رغم ما تسببه لنا من إزعاج . عند وفاة أبي لم يوص أحداً بالشجرة التي أحب وأخلص لها طوال عمره، لقد كان بإمكانه أن يوصيَ بها لكنّه عرف مقدار المعاناة التي تحمّلها من أجلها ، لتبقى ذكرى جميلة من أمّه ... فإن كانت ملزمة في حق نفسه ؛ فإنها ليست بالضرورة ملزمة في حق أولاده .. أغلق عينيه بصمت ... لم يطلب من أحد منا المحافظة على الشجرة في مكانها.. والآن ، وبعد سنوات طويلة ، لا تزال الشجرة في مكانها، جفّت عروقها وأغصانها... لا تثمر .. لا ورق فيها إلا ما ندر .. لولا اخضرار بسيط فيها لأعلنّا موتها منذ زمن بعيد ... وفي يوم ، اجتمعت زوجتي وأولادي ... ثم خرجوا ليعلنوا قراراً بالإجماع: "لا للشجرة لا نريدها لقد أصبح شكلها مخيفاً ومزعجاً " . صاحوا جميعاً : "إنّها عجوز لا فائدة منها " . لم أغضب .. لم أرفع صوتي .. بل تمتمت بهدوء، مكرراً ما قاله أبي قبل سنين طويلة : " لن تنزع هذه الشجرة من مكانها ما دمت حياً " . اللهم ارحم أبي وجدتي. ===>>
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
صديقي
د.طارق البكري كنت أبلع ريقي حال مخاطبتي إياه، متلمساً أطراف أناملي، مراقباً كلماته المرسلة بتأدب شديد واختيار حريص، خلاف غيره من الأصدقاء، وأظل مبتسماً مهما تداعت الخطوب، خشية استفزازه وانتشاله من لحظات الهدوء النادرة التي كنت أعشقها وأعرفها كخبير محنّك يميّز بين الماس الحقيقي والمزيف... عرفته منذ زمن بعيد.. لا أدري متى تحديداً.. ربما من ثلاثين سنة، ربما أكثر، حتى إنّي نسيت كيف التقينا وفي أي مناسبة، ولماذا أغرقت في ودّ هذا المصقول بالتّجارب الزاخر بالخفايا؟... كان صديقي القريب وكنت صديقه الوحيد... بقيت صامداً رغم انفضاض الكلّ عنّه وتأرجحه في دوامه من الحدّة تفشّت في نفسه، بوضوح، طبع أصيل لا ينفك عنه في أفضل الظروف والمواقع... عصبيته الزائدة فتّاكة نسفت كل الأشياء الجميلة التي يخفيها تحت كومة من الأشواك المسنّنة الحادة... عاش حياته متناقضاً، لا يمكن أن تفهم ما يريد... ساعةً تراه محباً طيباً ليناً، مستعداً للتنازل عن كل ما يملك لقاء ابتسامة يتلقاها رضيّة من محتاج... فجأة، دون إنذار أو سبب مفهوم، ينقلب قاطعاً خيوط التّماس، وغالباً ما قذف بعضاً ممن يكون حولـه بكأس ماء أو ملعقة أو بجهاز هاتفه النقال، لسبب أو لغير سبب.... ورغم هذا أحببته بصدق... ربما أكثر من زوجته وأولاده الذين فروا يائسين خائفين، عيل صبرهم فتركوه يمارس هواية القسوة، وكأنّه يتلذّذ عندما يمعن حتى الإضرار.. نعم أحببته... لامني الناس على محبتي؛ حتى زوجتي.. فالأمر لم يكن بيدي، كنت أتنازل عن رأيي الذي أعتبره صائباً وأتخلّى عن كبريائي واعتزازي بنفسي أمامه، لأني أحببته بصدق وآمنت بطيب معدنه، ولو بدا للناس غير ذلك.... في البداية حاولت جاهداً ثنيه عن عصبيته الفريدة من نوعها، ثم تراجعت.. مرّة قلت له مستغلاً لحظة صفائه عارض: "الغضب مطية الضعفاء"... انقض عليّ.. كاد يهشم رأسي لولا فراري من أمامه فرار "الشجعان".... وما زلت أذكر ذلك النادل المسكين الذي كسر عظم يده لأنه أوقع على ثوبه الجديد القليل من الحساء الساخن، فقعد في جبيرته لأيّام، فيما حلّ صديقي ضيفاً على السجن، إلى أن رفق به النادل وتنازل عن حقّه بعد إلحاح ورجاء وتعويض مجزّ منيّ... كان سراً. لا لشيء إلا مخافة أن يصيبني ما أصاب النادل المسكين.. لم أفهمه يوماً، ربما لقصور في نفسي! وربما لعجز! لكن هل كل الذين كانوا يحيطون به عاجزون مثلي؟ لست أدري! كان يفعل المستحيل من أجل إنفاذ حاجة لإنسان وإن كان لا يعرفه، فقد كان خدوماً إلى أبعد الحدود، كنت معجباً كثيراً بإصراره الفريد على فعل المستحيل.... لا يتردد في الدخول إلى مكتب مسؤول كبير وحتى وزير من أجل حل مشكلة إنسان تعرف إليه قبل لحظات.. وربما على باب المسؤول نفسه.. نعم أحببته، رغم كل عصبيته، لأنّه كان صادقاً في كل شيء؛ حتى في غضبه وعنفوانه وثورته.. اليوم صباحاً ودعته للمرة الأخيرة، غادرني رغم أني كنت لصيقاً به على عكس إرادته... ودّعته من نافذة ترابية أغلقت عليه بهدوء دون أن يعترض كعادته.. رافقته وحدي وبعض البسطاء الذين لا يعرفونه.. حتى أقاربه لم يأت منهم أحد.. تركته هناك تحت الرمال الرطبة... فوقه شاهد صغير، أكدت له أنني سأزوره من وقت لآخر، متفقّداً ومستذكراً أيّامه التي لا تنسى.. موصياً بمكان يكون لي قريباً منه.. واليوم.. ورثت عنه العصبيّة... أصبحت وحيداً رغم كثرة الذين هم حولي... والآن فقط، بعدما لملم أوراقه وتركني في وحدتي فهمته.... نعم.... فهمته، ربما أبلغ مما أفهم نفسي.... من سجن الحياة إلى سجن النساء د.طارق البكري "سيدي القاضي …أنا امرأة مسكينة، ما عرفت يوماً معنى الحرام، ولا اقترفت يداي جرماًً استحق معه كل هذا العذاب.. كلُّ الأدلّة التي جاءوا بها كذب وافتراء، ليست حقيقية، لا شك أنّهم يتحدثون عن امرأة أخرى، لست أنا هي بالتأكيد... لا أعرف الأحداث التي يذكرونها، أنا لا أطلب منكم الرحمة، ولا استجدي منكم العطف والرأفة... فأنا بريئة رغم كل ما قيل عني... لا أريد الرحمة.. لا أريد البراءة، أريد حقي في الحرية... ابحثوا عن المرأة التي يتحدثون عنها فأنا لست هي بالتأكيد، كفى كفى".. كانت تتحدث بقوة.. لم تثنِ كل الأحداث المرعبة من عزيمتها، بل زادتها قوة وعنفواناً وتصميماً. القاضي رفع الجلسة للمداولة... "محكمة". "حكمت المحكمة حضوريّاً على المتهمة حوريّة صبري بالسجن عشر سنوات.. رفعت الجلسة". لم تسقط من عينيها دمعة واحدة... قويّة صلبة.. نكبات الدهر علمتها الصبر. الحضور كان سعيداً بقرار المحكمة.. كلماتها.. نظراتها.. ثقتها الزائدة بنفسها... رفضها استدرار عطف الحاضرين... لم يترك كل ذلك مجالاً لشعور حتى بالشفقة نحوها... حياتها الطويلة وهي تبدأ أولى خطواتها داخل السجن عادت إليها بكل ذكرياتها الحلوة والمرة: " خمسون سنة كاملة مضت.. خمسون سنة في سجن الحياة الواسع فما هي السنون العشر داخل القضبان؟؟". لم تكن مبالية لم تطلب استئناف الحكم... السجن بالنسبة لها محطة استراحة ؛ بعد رحلة طويلة من العذاب.. ليس الآن فقط بل منذ الولادة. أمها المسكينة حملتها بعد وفاة زوجها رضيعاً، وانتقلت بها إلى المدينة.. لم يقبل أحد أن تعمل عنده برفقة طفلتها.. ظنوا أنّها هاربة.. أنّها حملت سفاحاً... عرض عليها رجال كثيرون "شهامتهم" التي كانت تخفي طمعاً بلحم هذه المرأة الضعيفة.. لم تجد مكاناً تأوي إليه... دافعت عن شرفها بشدّة، الوحوش لم ترحم توسلاتها، لم ترحم بكاء طفلتها الرضيع، لم تستطع احتمال كل القهر الذي أصابها لم تقوَ على اغتصاب كرامتها... في اليوم الثاني اكتشف المارة طفلةً ملفوفةً بعباءة الأم السوداء، وعلى العباءة آثار دماء، والطفلة تكاد تتجمد من البرد، أمّا الأم فوجدوها بعد أيّام طافيةً قرب شاطئ النهر الذي يخترق المدينة.. نشأت الطّفلة في يتم... لا أب ولا أم. كانت تراقب الأطفال الذين يسيرون في الشوارع، يمسكون أيدي أمهاتهم وآبائهم.. كبرت، وكبرت معها آلامها.. تكررت مأساة الأم : " شهامة الرجال" تزداد عند امرأة وحيدة.. الكلّ يقدّم خدماته، الكلّ يريد قيمة واحدة للخدمة... ورثت عن أمها شيئاً خاصاً.. لم تستسلم لكل المغريات جابهت حتى الموت.. تعلمت.. كانت تريد إكمال دراستها لكن.. من يعلّمها ؟ وقفت عند المرحلة المتوسطة، بدأت تعمل شغّالة في البيوت.. الميتم لا يتّسع إلا لعدد محدود من الأيتام.. عندما يكبر الصغار قليلاً يبحثون لهم عن عمل ومكان يقيمون فيه... زوج السيّدة التي تعمل عندها لم يرحم طفولتها... مسنّ كريه، رائحة العفن تفوح من فكيه... اغتصب براءتها.. لم تستوعب ما يحدث لكنها رفضت... غريزتها أبت ذلك.. أغراها بالمال.. بالعطف.. أظهر لها ابتسامة تخفي مكراً عظيماّ، لكنها لم تستسلم.. عضته في يده... كادت تنهش لحمه، ذاقت طعم الدم لأول مرة، لم تسمح له أن يسقط نقطة دم من شرفها... هامت في الشوارع بائسة... خرجت في ثياب بسيطة، لا مال لا طعام لا مأوى.. ادعى أنها كانت تسرق... حاول القبض عليها، لكنّه كبير بالسن، كانت أقوى منه، سرقت ماله وهربت... أخفى الحقيقة... ماذا يمكن أن يقول لزوجته لأبنائه... صدقته الشرطة... صدقه القاضي... صدقته زوجته رغم أنّها لم تصدقه.. رجل محترم من أسرة محترمة، موظف كبير، لماذا يكذب؟ هي متشردة لا أب ولا أم. هي السّارقة ولا فائدة من الكلام الذي تقوله.. مكثت في سجن الأحداث سنوات.. تعرفت على كل صنوف الانحراف.. صمدت.. لم تتأثر. ورثت عن أمّها نزعة الخير، حاولت الفتيات هناك أن يفسدنها.. كان يسيء أكثرهن هذه المسكينة وإصرارها على التمسك بالشرف... هن يميزن أكثر من الشرطة ومن القاضي؛ يعرفن من منهن الشّريفة العفيفة ومن هي المنحرفة. صمدت... لم تتأثر. خرجت ناضجة: جسمها استدار، أنوثتها اكتملت، نقمتها على الناس والمجتمع ازدادت.. لكن من يوظّف عنده مثل هذه الفتاة.. من يفكّر بالزواج من فتاة مثلها؟ فكّرت بالعودة إلى قريتها البعيدة التي لا تعرف غير اسمها: " دير الشمس". لكن من يستقبلها هناك؟! لا عم ولا خال ولا أقارب... حتى لو وجدت أقارب لها؛ هل سيصدقها أحد ؟ لقد صدقتها بنات السجن لخبرتهن.. و لم يصدقها المحقّق... القاضي حكم بشهادة الرجل المعتدي.. كانت تفكر: كيف استراح ضمير ذلك الرجل؟ كيف قام بذلك دون أن يرحم طفولتها وحياتها وحكم عليها بالموت؟ ومع ذلك لم تستسلم... في كل مكان بحثت فيه عن عمل كانت تُسأل عن ماضيها وهي تقول الحقيقة... لا تحاول إخفاءها.. العروض انهالت عليها من أصحاب العمل و الموظفين الكبار.. لكن: "خارج إطار العمل". ما يعجبهم فيها ؟ "هيكل عظمي وبقايا امرأة". لكن يبدو أنّ شهوة الرّجال لا تميّز إلا بعد انقضائها.. العروض كانت واضحة جداً، تصريحاً وتلميحاً: " لنقض وقتا ممتعاً في مكان جميل.. سوف تنالين ما يرضيك". الجواب الذي كانت تملكه واحد لا يتغير: " تفووووووووووووووه ". طلقة رصاص محددة الهدف... تبصق حتى يتطاير البصاق، أصبحت ماهرة في ذلك، بل كانت تحضّر البصقة مسبقاً لمعرفتها و ثقتها بما يحدث.. أما النّساء فلم تكن واحدة منهنّ تقبل تشغيلها... سجلها السّابق يقول إنّها سارقة... أنوثتها الحاليّة.. شبابها.. محلّ اتهام دائم... من تخاطر بواحدة مثلها في منزلها ؟؟ من المؤكد أنّها قد تفتن زوجها وأولادها.. هي أيضا لم تكن راغبة في الأصل أن تعمل شغالة في المنازل.. تجربتها الأولى رمتها في السجن سنوات طويلة مع أنها بريئة... والسجن "ليس إلا للمجرمين"!!! عاشت تتمنى الموت... قبضت عليها دورية شرطة وهي نائمة تحت جسر... اتهمتها الشرطة بالتشرّد.. ضابط الشرطة همس لها: "تخرجين الآن بشرط". "تفووووووووووووووووووه".. بصقت في وجهه... ليخفي جريمته سجل لها: إهانة شرطي يزاول عمله... قضت في السجن بضعة شهور لأنّ القاضي لم يصدقها... صمدت لم تتنازل.. صارت نزيلة دائمة في السجون.. كلما حدثت سرقة أو جريمة استدعتها الشرطة للتحقيق.. ويبدأ التهديد والوعيد وأخيراً الضرب... باعت على الطرقات كل شيء إلا لحمها.. التقت بشاب متشرّد مثلها.. حتّى هو لم يرحم عذاباتها، ضربته بيدها بكل قوة، وقع على الأرض ثم فرّ هارباً... ظنّته سيقدّر مصائبها.. لكنّه لم يكترث.. كان مثل غيره من الرّجال.. حاويات الطّرقات تعرفها... تبحث في القمامة عن طعام مرمي.. قطع خبز يابس.. علب فارغة.. ملابس قديمة.. أي شيء يمكن تنظيفه وإعادة بيعه بثمن بخس.. مضت أيام وأيام.. شاخت قبل أوانها، لكنها لم تسقط، كانت تذوق الدم ولا تسمح لأحد أن يسرق عفّتها.. صمدت رغم كل شيء.. ابيضّ نصف شعرها، تقلّبت في آلام الحياة ولم تستسلم.. حتى جاء يوم ووقعت مجدداً في قبضة الشرطة.. قيل إنها تلك المرأة التي يبحثون عنها.. أنكرت لكن "حضرة القاضي" لم يصدقها.. ظلّ الماضي يلاحقها... الاعترافات تقول إنّها هي.. وشهد البعض إنّها هي بالفعل.. ضحكات ساخرة كانت تسمع من داخل القاعة؛ ضحكة نسائية ساخرة... أكثر من شخص ادّعى أنّها تلك التي يبحثون عنها.. كل القرائن كانت ضدها.. لم يكفل لها ماضيها شيئاً من الرحمة.. بعد صدور الحكم؛ رأت المرأة، ذات الضحكة الساخرة، تلوّح لها من بعيد وعلى ثغرها ابتسامة ماكرة.. غادرت المرأة مكانها، اتجهت نحو مخرج القاعة مطمئنة سعيدة بالحكم. ====>>
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
الوصيَّة الأخيرة
بقلم: د. طارق البكري docbakri@yahoo.com ليس الهروبُ متاحاً بعد الآن.. فراغ الإطار من الصورة لا يعني سوى "النّهاية".. الأشياء الفارغة لا قيمة لها.. التماثيل الجوفاء تزول مع الزمن، وتبقى حكاياتها.. انهيار كلّ أحلامي ما كان متوقعاً عندي.. نقيض توقُّع الآخرين.. لتذهبْ كلُّ الأشياء الثمينة والرخيصة.. الرفيعة والوضيعة.. ما بديل هذا غير الهروب إلى سراب.. إلى وادٍ سحيق.. حيث المجهول يختلط بحَبِ التراب الأسود.. كالقطران.. اختزالاً لمصائب السنين.. أينَ أصبحتُ أنا اليوم؟! أينَ كلُّ المدَّاحين والمطبّلين.. والملمِّعين.. وأنا لا آمن الآن على نفسي من نفسي.. فقدت الهواء الرطب المعطَّر الذي كنتُ أتنشّقه... فقدت كل حاجاتي الصغيرة قبل الكبيرة.. مضيت سالكاً طريق وحدتي، كمن أصابه وباء لا براء منه. لما سقطتُّ.. سقطتُّ وحيداً.. ومع سقوطي سقطتْ كلُّ الأقنعة المزيفة.. كنتُ أُدرك ما تُخفيه.. وأخفي.. رنينُ الذهب اللمَّاع ساحرٌ أخَّاذ.. به تطوى الحقيقة.. عشرون عاماً وحَوْلي الطبول تدقُّ.. والمزامير تعزف.. والهاماتُ تنحني.. لا يدخل "بلاطي" إلا من يغسل قدميه بماء الذل والطاعة والهوان.. عشتُ هكذا؛ أتلذَّذ بماء الوجوه يلسع الوجنات، ينهمر تحت أحذيتي التي لا أكاد أعرض واحداً منها.. حتى يذوب من بعدُ في ظلام طويل، ربما لا يخرج منه مرّةً ثانيةً.. هذا التلذّذ كان رفيق روحي.. أعشقه كما يعشق الفراش النورَ، أو كما يعشق النّسرُ الفضاء.. أوكما يهيم القطا بعشه.. تكشَّفتْ أماميَ الحقائقُ متأخرةً.. ذلك "المجدُ" الذي بنيته من عذابات النَّاس ما أفادني بشيء.. نعم.. بنيت مجدي على جماجم الآخرين.. صنعتُ أبراجاً من الوهم، صِغْتُ من الظلم أساور وتيجاناً، أُزيِّن بها "جَمَالي".. ولم أعِ الحقيقة إلا بعد مضي الزمن.. ذات مساء.. جاءت إليَّ أمِّي زاجرة: "ألم أعهد إليك يا بنيّ ألاّ تمثّل الشيطان في الأرض.. ألم أحملك وليداً.. وأربّك صغيراً.. فلمَ كل هذا الظلم يا ولدي؟!!".. فما زادني ذلك إلا نفوراً.. أمرتُ أتباعي بإخراجها من "بلاطي".. أبعدتها عني.. بنيت لها مكاناً فاخراً يليق بأمّ من هم "مثلي".. رفضت المكوث في هذا المكان.. وأتباعي كانوا يمنعونها من الخروج دون إذني.. سمعتُها مراتٍ تدعو لي.. "الله يهديك يا بنيّ..".. كنت أسخر من دعواتها.. حتى زوجتي المسكينة عاشت رعباً متواصلاً.. لم تكن جريئةمثل أمي، تعلم أننَّي مع كلِّ ما أنا فيه لا يمكن أن أؤذي أمي.. أما هي فشيء آخر.. لذا كانت تلوذ بالصّمت بينما أطعنها في قلبها.. في كرامتها.. آتي إليها والخمرة تفوح مني.. وعطر الغواني تخبر عني.. تبكي في سرّها.. حتى البكاء كان ممنوعاً في "حضوري".. لم أشعر بكل الخطايا التي تموج في داخلي موج البحار.. هل كنت مسحوراً.. أم عميت بصيرتي؟!.. ولدي الصغير "شجاع".. حاول مرة أنْ يقول لي بلطف ما لا يجرؤ أحدٌ على قوله.. نفيتُهُ.. حرمته من كلِّ شيء.. كنتُ أريد أنْ أفعل ما هو أعظم من ذلك، لكن بقايا مشاعر الإنسان في داخلي.. منعتني، وكدت ألا أستجيب لها لولا نصح بعض المقرَّبين مني.. فوجدتْ النصيحة في نفسي هوى لها.. ما حسبتُ أنني سأصل يوماً إلى هنا.. أعمتني أشياء كثيرة عن الرؤية، عن التمييز والتفكير والتقرير.. كنتُ محور نفسي.. ولا دليل لي.. البعض من حولي يرددون كلماتي أكثر مما يرددون كلام ربهم.. وفي السرّ.. ربما، كانوا يلعنونني.. دعوت الأدباء والشُّعراء والفنانين.. أمرتهم.. نعم أمرتهم.. عظّموا شأني كما لم يعظَّمْ أحد قبلي.. لاحظتُ في أعين البعض منهم سخريةً.. فظلّوا ضيوفاً عندي ولم يعودوا إلى ديارهم.. لم يجرؤ أحد عن مجرد السؤال عنهم.. حتى أمهاتهم.. تفننت في السقوط.. أبدعت بشيِّ من يجرؤ على معارضتي.. كان لحم الشِّواء يمتعني.. "فما نفع الإنسان بناظريه.. إذا استوت عنده الأنوار والظلم؟".. فتحتُ على الحياة نافذةً من صنعي أنا لوحدي.. من أراد الوصول إلى ما يريد عليه أن ينظر إلى الحياة من خلال هذه النافذة ولا شيء سواها.. لم تكن التفاصيل تثير اهتمامي.. العناوين العامة تسكنُ تفاصيلي "أنا".. لا تفاصيل سواي.. وليذهب الآخرون إلى الجحيم.. كل المرايا لا تعكس غيرَ صورتي.. غنَّى المطربون "لي".. أنشد الشعراء أجمل قصائدهم كرمى لعيوني.. لا لعيون ليلى ولا سلمى.. كتب الطلاب عني أبحاثهم.. اشتغلت المطابع والمسارح والمعاهد.. لا شيء قبلي.. ولا شيء بعدي.. اعتاد الناس عليَّ كما "أنا".. مثلي.. فقد اعتدت عليهم كما "هم".. سعادتي في تعاستهم.. البعض من حولي ظلّوا يصفقون.. هذه حاجة لا تنقصني. أغدقت أموالي على هؤلاء "البعض"، والويل.. الويل لمن شذّ، فعاقبته "ناري". عشتُ سنوات طويلة أسير ظلمي.. أسير هواي.. فقدت "رموش" عينيَّ وما تخليّت عن "كبريائي". قادني ظلمي إلى كهوفٍ ومزالق.. انكب الناس عليّ من كل جانب.. أيقنت نهايتي.. أيقنت آخر فصولي.. لكنّي لا أنحني.. كيف أتركُ كلَّ هذا المجد الذي صنعته، وأدعه لـ "يتلذذ" به الآخرون؟! هواجسي كانت تفتك بسنوات ظلمي، لن أرحل قبل أن أقضي على كل شيء.. لن أترك مكاني بسهولة.. فيا جبال اهتزي.. ويا سماء ارعدي.. ويا أرض اخسفي.. ويا بحار تفجّري.. ويا غمام اهطلي.. ويا صواعق اقصفي.. جننتُ.. نعم.. جننتُ.. ومازلت أسمع التصفيق حادّاً.. لكنَّ المصفقين قلّوا.. وبدأوا يتباعدون ويتشتتون كما تتباعد السحب وتتشتت في يوم ربيعي صافٍ.. بقيتُ وحدي.. تذكرتُ أمِّي في "سجنها".. تذكرتُ ولدي في "منفاه".. تذكرتُ.. وتذكرتُ.. وتذكرتُ.. وأي "شيء" أتذكر؟؟؟ فما فائدة التذكّر.. وكلّ مَنْ معي ذهبوا.. وبقيت وحدي أجرُّ خذلاني ووحدتي.. ويأسي.. وعاري.. وانكساري؟؟؟.. بعض المرتعدين مثلي ارتبطوا بمصيري.. أمسكوا بي.. كادوا يقتلونني.. وعدتهم بأموالٍ وبنين.. ومجدٍ لا يلين.. ما صدقوا، لكنهم تبعوني.. وفي الطريق كلٌّ هرب من جانب.. لم يمنحوني فرصة جديدة.. أرادوا الفرار بأرواحهم.. فلا أملك لهم ولا لنفسي ضراً ولا نفعاً.. فإلى أين المصير؟! الشرُّ من أمامي.. والخوف من ورائي.. وما زرعتُ ينبتُ من تحت قدميَّ الحافيتين. صرتُ أركض كالمجنون هارباً من كل شيء.. هربت حتى من ظلِّي.. لا أريدك أيها الظل "العفن"... لا أريدك.. أنت تعرف كلَّ خفايايَ وأسراري.. انطلقْ.. ابتعد عني.. لا تلبسني.. ارتد هذا النهر أو ذاك الوادي.. وأنتِ أيتها الشمس.. أطفئي نورك.. اخلعي نارك.. اسكني خوفي وجرمي.. صرتُ أتقلب بين الجبال.. أمتطي جواد الفزع والجوع والتشرد.. من كهف إلى آخر.. أصادف "الوحوش".. وحوش البراري.. تشفق عليّ فتتركني.. أكلت أوراق الشجر، حشائشَ الأرض.. حضنتُ برودة البادية.. شربت الماء الموحل.. ارتديت خشونة التراب.. توسدت صلابة الصخر.. وفجأة.. وجدتُ نفسي في قبضة رعاة الأرض.. وحيداً بلا تصفيق ولا تطبيل... حملوني.. أطعموني.. أسقوني حليب نياقهم.. ألبسوني جلد نعاجهم.. شعرتُ بالدفء.. وبعض الأمل والأمان.. بعضهم عرفني.. لم يفشوا سري.. كانوا ينظرون إلى بعضهم، يعرفون أنّهم يعرفون.. لكنّهم لا يتكلمون.. ربما كانت قلوبهم أرقّ من نسائم الربيع.. أومن أوراق الزهور.. عرفت متأخراً.. لكن ماذا استفدت؟! سمحوا لي أن أكتب على جلد نعجة وصيّتي.. آخر كلماتي.. كانت جراحي متعفِّنة.. أطرافي متيبِّسة.. الدود يعشعش في كهوف مفاصلي.. يطل برأسه ثم يختفي.. لم يتكلموا.. أحضروا لي جلد نعجة.. وعوداً مقلماً.. غرست رأس العود في جروحي.. ما شعرت.. بللتُ طرفَ العود بدمي.. لأكتب وصيتي.. لأكتب "اعترافي..". ترفقوا بي.. مع أنّي قد أكونُ سببَ وجودهم في الجبال والوديان.. حنّت عليَّ قلوبهم.. وما "حنيّت". مسحوا جراحي الكثيرة.. وما "شفيتُ".. حاولوا تبريد عروقي المحترقة.. وتحريك جوارحي المتبلدة.. وما أفلحوا.. كانوا أكثر مني قوّة.. وكنت أكثر منهم ضعفاً.. كتبت آخر كلماتي.. لكن لمن أكتبها؟؟؟.. لا أحد يريدها.. لا أحد يريد أن يسمع عني شيئاً.. حتى أمِّي.. ربما.. وبمَ أوصي.. لا شيءَ عندي لأوصي به.. حتى الكفن لا أملكه.. لا أقدر على مواصلة الكتابة.. أشعر بثقل العود بين أصابعي.. هذه الأصابع التي فعلت.. وفعلت.. الآن لا تقوى على طرد ذبابة.. آااه.. آاااه.. في الصباح.. اجتمع الرعاة قرب صخور بيضاء.. دعوا الله بسكون، تأمّلوا هذا القبر النائي.. الذي يحتضن صاحب "الجراح" الكثيرة بعدما لفُّوهُ بجلدِ نعجةٍ.. عليها وصيّته.. دفنوها معه.. دون أن يقرأوها.. لم يحتفظوا بها كي لا يقرأها أحد.. نظروا إلى بعضهم.. قرروا إخفاء هذه الذكرى.. أرادوا طمس معالم القبر.. اتفقوا ألا يتكلموا.. ربما "خوفاً" من "بطش" صاحب القبر.. مع أنّه ميت، أو احتراماً للموت نفسه، ساروا بصمت نحو أنعامهم.. ساروا معاً.. يعرفون الطريق الذي يتوجهون إليه، الهدف الذي يسعون إليه، منذ سنوات طويلة.. عادوا إلى بيوتهم التي هجروها.. إلى زوجاتهم.. إلى أهلهم.. إلى أولادهم.. وأخفوا ذكرى ذلك القبر حتى لا يتحدث عنه أحد.. ذهبَ كلٌّ منهم بأنعامه ترعى من جديد بالقرب من بيوتهم، تحفّهم الذكرى.. ويغشاهم الأمل.. أمَّا ذلك القبر.. فقد سحقته صخور الجبال، وهبت عليه أعاصير البادية، وغطّته الرمال.. وأبادته الأحلام.. ولم يعد شاهده يدل عليه.. أمَّا تلك الوصية.. أو "الاعتراف".. فلم تعد تنفع الآن، وجدت الديدان فيها وجبة لذيذة.. فنخرتها حتى طُمست.. ولم يبق من حروفها حرف.. ومرَّت فوق القبر نعاج.. ومرَّت فوق القبر خراف.. ومرّت فوق القبر جمال.. ما عاد لظلمه مكان.. ولا لظلامه مصفّقون ولا مطبّلون.. ولا من "يحزنون".. الكويت : 16/9/2003
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
الأسلوبية عند ميشال ريفاتير
الأسلوبية عند ميشال ريفاتير الدكتور طارق البكري تمهيد: الأسلوب في اللغة والأصطلاح : يقول ابن منظور في اللسان: ( يقال للسطر من النخيل وكل طريق ممتد فهو أسلوب، فالأسلوب هو الطريق والوجه والمذهب، ويقال أنتم في أسلوب سوء... ويقال أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه). ويعرف ابن خلدون الأسلوب في المقدمة فيقول: ( إنه عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار فادته كمال المعنى من خواص التركيب الذى هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار افادته كمال المعنى من خواص التركيب الذي وظيفته البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب) ويخلص للقول إن الأسلوب هو(الصورة التي ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب الصحيحة باعتبارالإعراب والبيان فيرصها فيه رصاً). وفي اللاتينية كلمة(stilus) تعني ريشة ثم تطورت لتصل إلى الأعمال الأدبية . وأشهر تعريف للمصطلح الحديث المعاصر نجده عند الكونت بوفون بقوله: ( الأسلوب هو الإنسان نفسه ولا يمكن أن يزول ولا ينتقل ولا يتغير) . مقدمة : يعتبر ميشال ريفاتير من أبرز الباحثين في الدراسات الأسلوبية الحديثة، فقد قدم العديد من الأفكار والمبادئ التي تفاعلت بمجملها مع أفكار غيره المصنفين في دائرة الأسلوبية البنيوية وسواهم من الضالعين في سبر أغوار الأسلوبية وسبك بنائها المتماسك من نواحيه. وبالفعل، فقد وضع ريفاتير مجموعة قيمة من الأسس استطاعت أن تشقً طريقها وتثبت ذاتها، وتقدم للباحثين أضواء ساطعة كاشفة . ركز ريفاتير على جملة من القضايا الهامة، وتكلم على عدد من الظواهر الأسلوبية البارزة في النص، ولفت إلى الجمل التي تستوقفنا كقراء وتلفت انتباهنا، معتبراً أن الأسلوب يعد إبداعا من المنشيء وإرجاعا من المتلقي ، فالمبدع يسعى للفت انتباه المخاطب والوسيلة هي شيفرات تستوجب كشفاً من القارىء. ويعتبر ريفاتير من أبرز الأسلوبيين، وقد عمل في جامعة كولومبيا منذ مطلع العقد الخامس من القرن الماضي وله دراسات عديدة منها "إنتاج النص" و " دراسات في ريفاتير والأسلوب: يصنف ريفاتير مع الأسلوبية البنيوية ومن الذين يقولون بأن الأدب شكل راق من أشكال الإيصال وأن النص الابداعي ما أن يتم خلقا ويكتمل نصا حتى ينقطع عن مرسله لتبقى العلاقة بين الرسالة والمستقبل زمنا لا يتنتهي دوامه. وهو بذلك خالف ياكبسون الذي يهتم بالمرسل والمرسل إليه وينصب اهتمامه بالدرجة الأولى على القارئ دون أن ننسى الوظيفة الشعرية. ويعتبر ريفاتير من المجددين في التنظير الأسلوبي بمقالاته التي نشرها في بداية الستينات ثم جمعت واستكملت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي في كتابه مقالات في الأسلوبية البنيوية (Essais de stylistique structurale). ويعرف ريفاتير الأسلوب بأنه: ( إظهار عناصر المتوالية الكلامية على اهتمام القارئ ) وتظهر من كتابات ريفاتير أن الأسلوبية ما هي( سوى هذا التأثير المفاجئ الذي يحدثه اللامتوقع في عنصر من السلسلة الكلامية بالنسبة إلى عنصر سابق).ويستشهد ريفاتير ببيت شعر لكوريني: (هذه عتمة مضيئة تسقط نجوما) ويقول : هذه مفارقة غير متوقعة. ولا شك أن ريفاتير أحسن كثيرا بالاستشهاد بهذا النص الفريد، فمن حيث التباين الظاهر يقع القارئ في حيرة بين الضوء والعتمة والاستعارة غير المتوافرة في تكتيك شعري فريد ينقل المتلقي من حيثيات الكلمات المعتادة إلى أفق جديد غير متوقع ، وهذه الصدمة المفاجئة التي تحدث لدى المتلقي هي المقصودة من فعل التغيير المنطقي للكلمات المتتالية في السياق، ويرى البعض أن هذه الطريقة هي بنية ثنائية متباينة منتظمة في زمن التكون التتابعي للنص . ويقدم ريفاتير في كتابه أسلوبية البنيوية تعريفاً محدداً للأسلوب يتولى بعد ذلك شرحه والتعليق عليه، فيقول : يفهم من الأسلوب الأدبي كل شكل مكتوب فردي ذي قصد أدبي أي أسلوب مؤلف ما أو بالأحرى أسلوب عمل أدبي محدد يمكن أن نطلق عليه الشعر أو النص وحتى أسلوب مشهد واحد.. ويعلق المؤلف نفسه على تعريفه هذا بقوله: إن هذا التعريف محدود للغاية وكان من الأفضل أن نقول بدلا من (شكل مكتوب) كل شكل دائم ، حتى يشمل الآداب الشفاهية التى لا تستمر نتيجة للحفاظ المادي عليها كشكل نصي متكامل فحسب، بل بوجود خواص شكلية فيها تجعل من الميسور فك شفراتها، مثل : الافتتاحية الموسيقية بطريقة منظمة ومستمرة ، وقابلة لأن نتعرف عليها بالرغم من أي تنويعات أو أخطار في طريقة عزفها أو تفسيرها من مختلف القراء. أما قوله ذو قصد أدبي) فلا يشير في هذه الحالة إلى ما أراد المؤلف أن يقوله ولا يهدف إلى التمييز بين الأدب الجيد والردئ ولكنه يعني أن خواص النص المحدد تدل على أنه ينبغي اعتباره عملاً فنياً وليس مجرد تعاقب كلمات. من هذه الخواص شكل الطباعة وشكل الوزن وعلامات الأجناس الأدبية والعناوين الفرعية مثل رواية أو قصة أو حتى ظهوره في الوقت الحاضر في مجموعات معينة قصصية أو مسرحية أو شعرية . ويبدو أنه من الأسهل لنا في ريفاتير أن نطلق كلمة الأدب على كل كتاب ذات طابع أثري أي كل كتابة تجذب انتباهنا بصياغتها وشكلها. ثم يعود إلى تعريفه للأسلوب قائلا : وهنا نفهم من الأسلوب كل إبراز وتأكيد سواء أكان تعبيريا أو عاطفيا أو جماليا يضاف إلى المعلومات التي تنقلها البنية اللغوية دون التأثير على معناها. ويشرح كلماته فيما بعد مشيرا على أن هذا التعريف لا يتميز بالمهارة اللازمة لأنه يبدو كما لو كان يفترض معنى أساسياً لوناً من ألوان درجة الصفر- على حد تعبير بارت- تقاس عليه عملية التكثيف التي نسعى لتقييمها ولا يمكن أن نصل إلى هذا المعنى الأساسي إلا عن طريق نوع من الترجمة أي عن طريق تحطيم النص كشيء أو نقص القصد منه أي استبعاد النص المكتوب وإحلال فرض يدور حول المؤلف حوله. ثم يضيف: ( لكنني كنت أفكر في نوع من الكثافة التي يمكن أن تقاس عند كل نقطة من القول في المحور التركيبي طبقا للمحور الاستبدالي حيث تعد الكلمة ==>>
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
الماثلة في النص (أقوى) بشكل أو بآخر من نظيراتها أو مترادفاتها الممكنة دون أن يؤدي هذا إلى خلل في المعنى، لكن هذا المعنى - مهما كان المستوى اللغوي الذي ننظر إليه من خلاله- لا بد أن يختلف بما يسبقه وما يلحقه). ويردف قائلا: (وربما كان من الأوضح والأدق أن نقول أن الأسلوب هو البروز الذي تفرضه بعض لحظات تعاقب الكلمات في الجمل على انتباه القارئ بشكل لا يمكن حذفه دون تشويه النص ولا يمكن فك شفرته دون أن يتضح أنه دال ومميز مما يجعلنا نفسر ذلك بالتعرف فيه على شكل أدبي أو شخصية المؤلف أو ما عدا ذلك. وباخصار فإن اللغة تعبر والأسلوب يبرز).
الأشكال الفردية: الأشكال الفردية عند ريفاتير بالنسبة للأسلوب كالكلام بالنسبة للغة، فدراستها تسمح بالحصول على البيانات اللازمة لإقامة النظام وعندما يستخدم المؤلف عناصر اللغة الأدبية لإحداث تأثير خاص تتحول إلى عناصر أسلوبية وميزتها تكمن في هذا التنفيذ الخاص لقيمتها لا في قيمتها المحتملة في نظام موحد. ولولم تستخدم لإحداث تأثير محدد فإن أقصى ما يقال حينئذ إنها تمثل خلفية سياقية متخصصة بالنسبة للأسلوب الفردي أكثر من القول العادي.على أن الأساليب الفردية في الكلام يصعب في أحسن الحالات وصفها ويسهل وضعها في أنماط عامة، مما يجعلها أقل تخالفاً فيما بينها وأقرب إلى اللغة العامة من الأساليب الكتابية، أما الأساليب الأدبية فهي معقدة متشابكة، ولهذا فهي ذات ملامح يمكن تمييزها بوضوح . وعي المؤلف: ويرى ريفاتير أنه إذا كانت مهمة عالم اللغة تنحصر في الإمساك بجميع ملامح القول دون استثناء فإن دارس الأسلوب ينبغي له أن يعتد فحسب بتلك الملامح التي تنقل المقاصد الواعية للمؤلف، مما لا يعني أن وعي المؤلف يشمل كل ملامح القول. وغالبا ما يستحيل التعرف على هذه المقاصد دون تحليل الرسالة مما يمكن أن يؤدي إلى حلقة مفرغة لولا أن هذه المقاصد ربما تتضح بإجراءات أخرى، مثل التحليل الفيلولوجي أو تصريح المؤلف بها وغير ذلك من الإشارات. كما يرى أن هذا التمييز بين الاختيارات الواعية واللا شعورية لا يفيد إلا في حالة دراسة كيفية توليد الأسلوب، إما في دراسة ظاهرة الأسلوب نفسها وتأثيرا على توجه إليه، فإن جدواه ضئيلة للغاية، إذ لا يمكن الوصول فيه حينئذ إلى نتائج حاسمة . الفرادة في العمل الأدبي : يذهب ريفاتير في كتابه ( إنتاج النص) باحثا عن سمة الفرادة في العمل الأدبي ومن أجل الوقوف على هذه السمة يقترح مقاربة شكلية ويذكر أن التحليل الذي يعتزم إجراءه لا علاقة له بالأسلوبية المعيارية القديمة أو البلاغة، وإذا كان ريفاتير للبلاغة مفارقا فإنه أيضا من النقد الأدبي نفور. وليس ذلك منه إلا لأنه لا يريد أن يجعل من التحليل مطية تعلوها أحكام القيمة، وما هذا الموقف بدعا، فمنهجه في التحليل يقف عند الظاهرة ويتحقق من وجودها، وأما النقد فيأتي بعد ذلك أي بعد هذه الخطوة فيتبنى الظاهرة التى وقف عليها وتحقق من وجودها.ولكن ريفاتير عندما عمد إلى دراسة سلوك الكلمة في العمل الأدبي، لاحظ أن سمة قرابة تجمع بين دراسته التحليلية والدرس اللساني، غير أنه أكد أم السمات الخاصة بالعمل الأدبي تتطلب أن يبقى التحليل النصي واللسانيات مختلفين ضمن هذا التقارب نفسه . ولتعليل هذا الأمر يرى أنه لا يكفي أن نلجأ إلى اللسانيات فقط لدراسة الأدب، ذلك لأن العمل الفني يطرح على اللسانيات قضية غير لسانية، ألا وهي الأدبية. ويلاحظ ريفاتير أن ثمة محاولة قامت لحل هذه القضية وذلك بتعميم الوقائع التي تم الكشف عنها في النصوص من جهة وباستخلاص القواعد الخاصة باللغة الشعرية من جهة أخرى . وقد كانت غاية هذه المحاولة - كما يرى ريفاتير- تكمن في وضع التعبير الأدبي في إطار نظرية عامة للإشارات، غير أنه لم يلبث أن وجد في هذه المحاولة مطعنا جعله يعرض عنها، ويمكن أن نستدل على هذا الأمر بقوله: ( إن هذا البحث الذي هو ميدان الشعرية، لا يستطيع أن يكشف عن السمة الخاصة بالرسالة الأدبية)، وهويرى( أن الشعرية تعمم هي الأخرى على حين أن طبيعة الرسالة هي النص). ويؤكد ريفاتير أننا لا نستطيع أن نعرف حقاً هذا النوع من الرسائل إلا بالنصوص، خاتماً نقده لهذه المحاولة بقوله: ( إن القواعد المستخلصة من النص حتى ولو كانت لا تنتج إلا جملا منحرفة وموازية لجمل النص فإنها لا تنتج مع ذلك نصا أدبيا جديداً). ثم يتدرج ريفاتير منهجا وطريقة في بحثه إلى أن ينتهي إلى تقرير أمور ثلاثة: 1- الأدبية وفرادة النص . 2- الفرادة هي الأسلوب. 3- النص والأسلوب . وسنحاول فيما يلي تقديم تعريف مختصر لكل من هذه الأمور الثلاثة : أولاً: الأدبية وفرادة النص : يقول ريفاتير: ( النص فريد دائما في جنسه، وهذه الفرادة هي التعريف الأكثر بساطة، وهو الذى يمكن أن نعطيه عن الأدبية، ويمكننا أن نمتحن هذا التعريف فورا إذا فكرنا أن الخصوصية في التجربة الأدبية تكمن في كونها تغريبا وتمرينا استلابياً وقلبا لأفكارنا ولمدركاتنا ولتعبيراتنا المعتادة) . ثانياً: الفرادة هي الأسلوب: يقول ريفاتير إن النص يعمل كما يعمل برنامج الحاسوب، وذلك لكي يجعلنا نقوم بتنفيذ تجربة الفرادة .. الفرادة التي نعطيها اسم الأسلوب، والتي تم خلطها ردحا طويلاً مع الفرد المفترض المسمى الكاتب). ==>>
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
ثالثا: النص والأسلوب :
في نهاية المطاف يعلن ريفاتير مقرراً الأسلوب في الواقع هو النص). وأشار هنا بعض الباحثين إلى ملاحظتين: الأولى : أن الأسلوب يخرج من كونه بصمة من بصمات الشخص ليصبح شيئا من أشياء النص، او بمعنى أدق ليصبح هو النص نفسه وليس الشخص أو الرجل كما ذهب بيفون إلى ذلك. الثانية : أن هذا الأمر عند ريفاتير بمنزلة الشيء الذي يدور على نفسه، إذ إن مفهوم النص عنده يرتبط بأدبيته والأدبية ترتبط بالفرادة والفرادة أسلوب والأسلوب هو النص، وبما أن الأدبية لا تقوم إلا ضمن هذا الأخير فإن خلو أي نص من الأدبية يرفع عن صفته كنص. ويستنتج الباحثون من هاتين النقطتين السابقتين ما يلي : إن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على أن حاجة النص الأدبي إلى أسلوبه حاجة واكدة، بها يصير إلى وجوده، وهذا يعني أنه لا وجود لنص إلا في أسلوبه ولا وجود لأسلوب إلا في فرادته. وهكذا ترتبط الفرادة والأدبية بالنص كما يرتبط النص بالأسلوب، ويدور الأمر على نفسه حتى لا إنفكاك. ريفاتير وموقفه من القاريء: يرى ريفاتير في كتابه دراسات في الأسلوبية البنيوية (أن القاريء يجلي الأسلوب بفعل الأثر الذي يتركه، فالأسلوب يستأثر بانتباه القاريء واهتمامه عبر ما يفضيه في سلسلة الكلام ، والقارئ يستجيب بدوره للأسلوب فيضيف إليه من نفسه عن طريق رد الفعل الذي الذي يحدثه فيه)، وهذا يشير إلى خلاصة مفادها أننا نقول ما نقول، أي نعبر في استعمالنا للكلام،ولكن الأسلوب هو يجعل لما نقول ميزة ويعطيه فرادته ، وريفاتير يقول: ( إن االلغة تعبر والأسلوب يجعل لهذا التعبير قيمة). ويرى ريفاتير ( أن إطالة الأثر الأسلوبي زمنا والإحساس بالشعر في أي لحظة من اللحظات إنما هو أمر يتعلق كلية بالقارئ. ثم يخلص للقول: ( إن هذا التداخل بين الطريقة الأسلوبية والإحساس بها، إنما هو من صلب القضية) ولذا يقترح أن نتبنى هذا الإحساس ( لتعيين الوقائع الأسلوبية في الخطاب الأدبي). ويعلق عبد السلام المسدي عل موقف ريفاتير هذا فيقول: ( ويفضي هذا التقدير بريفاتير إلى اعتبار أنً البحث الموضوعي يقتضي ألا ينطلق المحلل من النص مباشرة، وإنما ينطلق من الأحكام التي يبديها القارئ حوله . وفي كتابه إنتاج النص يتضح منظوره بشكل أكبر فيما يخص القارئ حيث يرى أن ( الظاهرة الأدبية ليست هي النص فقط ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله إزاء النص) . من هنا نستطيع أن نستنتج أن ريفاتير يولي الأهمية الكبرى لأمر خارج حدود النص نفسه، فهو لا ينسب الفضل للمؤلف ولا للسياق الأسلوبي أو التعبير النسقي في الكلام ولكنه يميل صراحة إلى الاعتراف بدور القارئ باعتباره المنتج الأول للنص حيث تتحدد قيمة النص عبره وحده. وهذا الاعتبار الذي يقودنا إليه ريفاتير يقدم للقارئ فضاءات واسعة ويجعلة حاكماً وحكماً ومنفذاً للحكم، وبذلك يكون القارئ هو صاحب السلطة والسلطان والقدرة على التحكم بالنص برفعه أو بخفضه. وهو يقول بشكل أو بآخر ( إن النص في وجوده مدين لمباشرة القارئ له، أو بكلمة أخرى وجود غير محقق لا يتم ظهوره وتنفيذه إلا بقراءة القارئ له ). وبهذا نستطيع أن نفهم معنى قوله ( إن الظاهرة الأدبية ليست هي النص فقط ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله إزاء النص) . ويطلق ريفاتير اسم (القارئ النموذج) ويدفع الباحث عن نفسه تهمة إحلال القارئ ورد فعله محل المؤلف ونفسيته، ملاحظا أن المؤلف لا يبقى منه سوى النص، أما القارئ فالبرغم من أن عملية تلقيه إنما هي نفسية، إلا أنه وباستخدام القارئ النموذجي فإننا نصفي العناصر الشخصية من المتلقي بحيث لا يبقى منها سوى ما يتصل بالمثيرات الموضوعية، وإقامة التفسير بعد ذلك على أساس الوقائع نفسها لا على أساس النص الذي استصفته شخصية القارئ أو حصرته فيما يذكره به بما يتوافق مع ذوقه أو فلسفته أو ما يظن أنه ذوق وفلسفة المؤلف المدروس. ويؤكد ريفاتير أهمية الزمن كعامل مغير في الدلالة الأسلوبية، فاستجابة القارئ النموذجي لا تصلح إلا بالنسبة لحالة اللغة التي يفهمها، إذ إن وعيه اللغوي الذي يتحكم في ردود فعله يتصل فحسب بفترة زمنية وجيزة في تطور اللغة. النص والمستقبل : وهنا يعالج ريفاتير القضية بما لها من صلة من نظرية الإيصال، بحيث يصل إلى نتيجة يفترق فيها الإيصال الأدبي عن العادي فالإيصال الأدبي لا يحتوي إلا عنصرين لهما تمثيل مادي فيه وهما: النص والقارئ، أما العناصر الأخرى التى يقوم عليها الإيصال العادي فأشياء بديلة عن النص. ويعلق على الشرح الذي يستهدف القارئ بقوله: ( إن الشرح يقتضي إظهار الأثر الأدبي الذي تحمله العبارة في مظانها فهي توجه القارئ نحو بعض التأويلات وتزوده بشفرات لفك شيفرات النص). وهنا يؤكد مجددا على دور القارئ وعلى مكانته الأولى بالنص مهما كان هذا النص باعتبار أنه رسالة موجهة إليه ولولاه لما كان هنالك رسالة والرسالة نفسها لا تنفتح على مغاليقها إلا من خلال قارئ يفك رموزها. ===>>
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
طاعة واعية للنص:
لكنه من جانب آخر يؤكد أن الوحدات الأسلوبية تفرض نفسها على القارئ وهو يرى وجود شرطين للتحقق من وجودها: أولا : يجب أن يقوم التحليل على طاعة مطلقة للنص. ثانيا: أن تكون الطاعة القاعدة الأصولية للشرح. لكن تجدر ملاحظة قضية هامة وهي أن الطاعة للنص عند ريفاتير ليست مطلقة، ولا تعني مجرد أن يبتعد القارئ تماما عن التدخل في النص لتصحيحه أو لاستكماله، ولكنها تعني أيضا أن يكون الشرح قائما على عناصر ذات قابلية إدراكية إجبارية، وهو يؤكد ( أن الشرح يختلف بهذا التحديد عن التأويل البنيوي العادي الذي يبحث أن يضم كل شيء إلى نظامه ولكنه لا ينجح إلا في ضم النص باعتباره مادة لسانية وليس باعتبار النص نصا ً). الوحدة الأسلوبية : ويقدم ريفاتير تعريفا قيما للوحدة الأسلوبية بأنها: ( ثنائية لقطبين لا يفترقان، الأول منهما يبدع الاحتمال والثاني يلغيه) ويعتبر أن الأثر الأسلوبي ينتج عن التضاد الحاصل بينهما).ولا يمكن لهذه الوحدة الأسلوبية برأيه أن تختلط مع التقطيع الطبيعي، أي مع الكلمة والجملة ذلك لأنها ( لا تستطيع أن تكون سوى مجموعة من الكلمات أو الجمل المرتبطة بطريقة أخرى غير المقطعية ). وقد دفع هذا الموقف بريفاتير إلى الإعراض عن شرح الكلمة معزولة لأن ذلك يؤدي إلى إنكار الحدث الأسلوبي ( ومن أراد الشرح عليه أن يذهب إلى ما وراء الكلمة ). ويقترب ريفاتير هنا تماما مع رأي عبد القاهر الجرجاني بأن الكلمة المفردة وحدها ليست هي الأسلوب بل طريقة نظم الكلم . السياق الأصغر والسياق الأكبر: الطريقة الأسلوبية ليست عند ريفاتير هي الأسلوب، فما هي سوى مظهره المنتظم، إن أسلوب نص أو عمل أو كاتب ليس مجموع طرائقه الأسلوبية،بل هو علاقاتها التركيببية المحتملة. وأول خطوة على طريق توسيع المنظورات يميز ريفاتير إلى جانب السياق الذي يسميه بالسياق الأصغر (Microcon****e) الذي يسهم في إنتاج الأسلوبية، ويميز ما يطلق عليه السياق الأوسع (Macrocaon****e)، وهو بالتحليل الأولي خارجي ومتقدم على هذه الطريقة الأسلوبية ولكنه ذات مدى متبدل سواء في البداية أو النهاية وقابل للائتلاف مع سابقه، أو لإعادة التشكيل في نهايته، والتحديد من خلال اللامتوقع في العناصر التي تكونه. الانحراف والسياق: الانحراف عند ريفاتير حيلة مقصودة لجذب انتباه القارئ، وكان الاعتقاد السائد أن النمط العادي يحدده الاستعمال، غير أن مفهوم الاستعمال نسبي، ولا يمكن الدارس من مقياس موضوعي صحيح، فيقترح ريفاتير تقويض مفهوم لاستعمال بماهو يسميه ( السياق لأسلوبي ). ومفهوم الانزياح والانحراف عند ريفاتير ( انزياح عن النمط التعبيري المتواضع عليه، وهو خرق للقواعد حينا ولجوء إلى ما ندر من الصيغ حينا آخر). وقد استقر ريفاتير عند فكرة الانحراف الداخلي بعد أن تبين له أن طريقة القارئ العمدة -الذي سنتعرض له لاحقاً- تكفي لاكتشاف الانحراف، ويحدد ريفاتير معيار الانحراف بالسياق الخارجي ويسمي وحدته الأساسية السياق الأصغر فهما مع الانحراف أو المخالفة يكونان معا ما يسميه مسلكا أسلوبيا نحو وصف الشيء بما لا يعد من صفاته، كأن يقال: شمس سوداء أو ضوء خجول، فالاسم الأول من العبارتين سياق أصغر والوصف مخالفة أو انحراف، ويضع ريفاتير المعادلة التالية: سياق أصغر + مخالفة = مسلك أسلوبي لكن لا بد ملاحظة أن السياق الأصغر لا يقتصر على هذا النوع فقط . وعموماً يمكن للسياق الأصغر أن يدخل في سياق أكبر، ليشكل سلسلة لغوية ممتدة يكون السياق جزئا منها، ولا تنحصر داخل حدود الجملة النحوية أو عدد معين من الجمل، وإنما تتحدد نهايتها بشعور القارئ كما تتحدد بدايتها بقدرته على التذكر.ويعين ريفاتير شكلين أساسيين للسياق الأكبر: سياق + مسلك أسلوبي + سياق سياق + مسلك أسلوبي يبتدئ سياقاً أسلوبياً جديدا + مسلك أسلوبي فكأن السياق الأكبر في كلتا الحالتين يتحدد بالعبارات التي تحيط بالسياق الأصغر، وإن كان من الجائز أن تمتد المخالفة حتى تصبح هي نفسها سياقاً. ولتوضيح ما يقصده، نورد هذا المثال الذي قدمه للنوع الأول وهو قول لبرنارد شو: إنهم يصورون المسكين على أنه مجرم، مع أنه لم يكن إلا رجلاً إنكليزياً صميماً ذا عيال. فالعبارة الأخيرة تكون مع العبارة التي تسبقها مباشرة مسلكاً أسلوبياً، وهي في هذه الحالة تعد سياقاً أصغر، والعبارة ليست في النهاية إلا جزءا من السياق الأكبر الذي يبدأ مع بداية الجملة حتى نهايتها. ==>>
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
التشبع عند ريفاتير:
التشبع مصطلح يستخدم بالكيمياء عادة، ويعني أن المادة المنحلة في السائل - كالسكر في الماء - قد بلغت كميتها حداً لم يعد لكمية السائل معه القدرة عل الامتصاص. أما ريفاتير فقد استعمل هذا المصطلح مجازا للدلالة على أن الخاصية الأسلوبية هي بمثابة المادة المنحلة، والنص بمثابة السائل، فإذا تكررت السمة الأسلوبية باطراد تشبع النص فلم يعد يطيق إبرزها كعلامة مميزة. ومثال ذلك أن ينبني نص على ظاهرة السجع فإذا تراوحت مواطنها ظلت محتفظة بطاقتها التأثيرية، وإن اطردت اختفي تأثيرها بل لعل عدول صاحب النص عن ظاهرة السجع يصبح هو نفسه خاصية أسلوبية. ويمكن تلخيص هذه الفكرة بأن الاستخدام المتكرر لظاهرة أسلوبية معينة لدى كاتب ما أو عدة كتاب يجعل الظاهرة أمراً عادياً ولا يعود لها أي مزية أسلوبية، وهذا الأمر يستدعي من الكاتب أن يبتكر دائماً ولا يعتز بظاهرة معينة ويواظب على استخدامها، فمع استخدامها المتكرر تفقد بريقها ولا تعود لها قيمة لدى القارئ . القارئ العمدة (architecteur): لكن من هو القارئ الذي لديه القدرة على تمييز النص واكتناهه وسبر محتواه؟ الأثر الأسلوبي كما ذكرنا سابقاً يتعلق بالقارئ، لذا فإن النص نفسه سيتعدد دائما بتعدد القراء له ، لذلك أراد ريفاتير أن يحل العقدة فرأى تعيين الانحراف بمعونة عدد من القراء، وبمجموع القراءات يصل إلى ما يسميه بالقارئ العمدة. فريفاتير يعين مواضع الانحراف بمعونة عدد من القراء المدربين على هذا النوع من القراءة، كما يفعل علماء اللغة في الفروع الأخرى لهذا العلم، فيعتمدون على أخبار الرواة من أهل اللغة عن كيفية النطق ومعاني الكلمات...، ويسمى مجموع هذه الأخبار على سبيل التجريد " القارئ العمدة". وعيب على هذا الاقتراح الأخير أنه يجرد العملية التذوقية من محتواها الشخصي باسم الموضوعية. والقارئ العمدة بتعبيره هو محصلة ردود أفعال عدد من الخبراء اللغويين تجاه النص بضمنهم نقاد ومترجمون وعلماء وشعراء وغيرهم، فالقارئ العمدة ليس قارئا بعينه إنما هو مجموعة الاستجابات للنص التي يحصل عليها المحلل من عدد من القراء الخبراء. ويحدد ريفاتير القارئ العمدة بقوله: ( هو مجموع الرواة الذين يستخدمون لكل مثير أو متواليه أسلوبية كاملة... إنه وسيلة لاستخراج مثيرات النص لا أكثر ولا أقل) لكنه يستدرك قائلا من الضروري أن نستبعد تصنيفات القراء حتى لا نتورط في تصنيفات جاهزة). وهنا لا بد من الاشارة إلى أن قضي القارئ العمدة تحتاج إلى دراسة قائمة مستقلة تتناول هذا الجانب بالبحث والتحليل نظرا لأن ريفاتير أولى هذه المسألة جانبا مهما من أبحاثه وهي تحتاج إلى تعمق أكبر ومجال أوسع للبحث . الأسلوبية البنيوية: مع ميشال ريفاتير بدأت الأسلوبية البنيوية مساراً مهماً في تناول الأسلوب في النص الأدبي، وقد افرد كتابا خاصاً لهذا الغرض وسماه (محاولات في الأسلوبية البنيوية) صدر عام 1976. وتمثلت غاية الكاتب في أن الأسلوبية البنيوية تقوم على تحليل الخطاب الأدبي لأن الأسلوب يكمن في اللغة وووظائفها ولذلك ليس ثمة اسلوب أدبي إلا في النص.وقد عرف ريفاتير الأسلوب الأدبي بأنه كل شيء مكتوب وفردي قصد به أن يكون أدباً. ويرى ريفاتير في مقال له ( لا يمكن فهم الوقائع إلا في اللغة، لأن اللغة هي أداتها، ومن ناحية أخرى يجب أن تكون للوقائع الأسلوبية خاصة مميزة، وإلا لم نستطع أن نميزها عن الوقائع اللغوية). التواصل : يركز ريفاتير على فكرة التواصل التى تحمل طابع شخصية المتكلم في سعيه إلى لفت نظر المخاطب، ولهذا اعتنى عناية كبيرة بالمنشيء الذي هو يشفر (Encode) تجربته الذاتية، وبالمخاطب الذي يفك شيفرة (decode) . هذا التعبير، وهو بذلك يؤكد تجاوز ما جاء به جاكبسون الذي كانت نظريته لا تنظر إلى الرسالة الشعرية بوصفها تكيفاً لمتطلبات التواصل، وبدلا من ذلك ينظر إلى إسقاط مبدأ التماثل على الرسالة بكيفية ما، بوصفه يحررها من المقام الأول ويجعلها غامضة وغير تداولية، وبذلك يتجاوز ما يطرحه جاكبسون في أن الرسالة قائمة بذاتها، ولا يظهر من ذلك أن هذه الرسالة تحقق تواصلا مع المخاطب، أما ريفاتير فإنه يرى أن الرسالة لا يمكن أن توجد بذاتها، وإنما هناك علاقة يجب أن تنشأ بين الرسالة والمخاطب، فالعلاقة التي تقوم بينهما عنصر مهم من عناصر الأسس التي أقام عليها ريفاتير أسلوبه ، وهي رؤية تتجاوز كون الأسلوبية تحليلا ألسنيا يميز عناصر الأسلوبية في رسالة ما، وإنما يكون للقارئ دور في تمييز هذه العناصر، ولذلك يقوم القارئ في أسلوبية ريفاتير بدور مهم جدا(كما أشرنا سابقاً) وهو دور يقوم على الوعي والإدراك لما تمثله العناصر الأسلوبية من وظائف داخل النص الأدبي. ويصبح طرفا الإخبار عند ريفاتير المرسل والمتلقي، ويتضح ذلك من القول: ( فإذا كانت عملية الباث في عملية الإبلاغ العادي أن يصل بالمتقبل إلى مجرد تفكيك الرسالة اللغوية لإدراكها، فإن الغاية من الباث في عملية الإبلاغ الأدبي تتمثل في توجيه المتقبل توجها يقوده إلى تفكيك الرسالة اللغوية على وجه معين مخصوص، فيعمد الباث عندئذ إلى شحن تعبيره بخصائص أسلوبية تضمن له هذا الضرب من الرقابة المستمرة على المتقبل في تفكيكه للمضمون اللغوي). وهذه الأفكار الخطيرة التي يطرحها ريفاتير بجرأة تفصل ما بين نوعين من التواصل البشري، الأول التواصل العادي المجرد من الأسلوب الأدبي البليغ، والتواصل القائم على الحاجات والتبادل والخدمات، أما الجانب الأدبي وهو الجانب المتمثل بالشعور فغير ذلك تماماً، فالنص الذي يشحنه الشاعر أو الأديب بنصه يحتاج برأي ريفاتير إلى رقابة مستمرة ليس على نفسه فقط بل وأيضا على المستقبل في عملية التمحيص والتفكيك وإعادة التشكيل، ولكن من حيث الاجمال فإن ذلك يبدو مستحيلا من الناحية العملية، وربما يكون القصد ==>>
|
جعلاني ذهبي
غير متواجد
|
غير ذلك حيث على الباث أن يكون مهيئاً ليستوعب قدرة المتقبل على تفكيك النص واستشعاره، وهو أقرب إلى الظن لأن الباث بطبيعة الحال يستحيل له مراقبة كل المستقبلين وخصوصاً مع مرور الزمن واستمرارية النص بعد سنين من زوال صاحبه .
عنصر المفاجأة: وهنك عنصر مهم جدا أشار إليه ريفاتير أهميته ليست دون أهمية ما سبق، وهو عنصر المفاجأة من خلال المثير والمنبه الأسلوبي، حتى إنه رد الميزة بالنص إلى هذا العنصر، فقال: ( تنتج القوة الأسلوبية من إدخال عنصر غير متوقع إلى نموذج، فالسياق الأسلوبي يتكون من نموذج لغوي يكسره بغتة عنصر لا يتنبأ به). ويرتبط مفهوم الأسلوب عنده بعنصر المفاجأة التي تصدم المستقبل وتحدث صدمة في نفسه، فكلما كانت السمة الأسلوبية متضمنة للمفاجأة فإنها تحدث خلخلة وهزة في إدراك القارئ ووعيه. وقد ساق ريفاتير مثلا هو قول كورني ( عتمة مضيئة تسقط نجوما) فجمع العتمة مع الضوء، وبهذا أحدثت المقابلة منبها أسلوبيا لا بد له أن يحدث استجابة ما لدى المستقبل، فكل واقعة أسلوبية تنشأ من سياق ومن تعارض ولذلك على الدارس الأسلوبي أن يمنح التعارض عنايته، لأنه يشكل الأجراء الأسلوبي في النص المدروس. ومما لا شك فيه أن عنصر المفاجأة عند ريفاتير هو بنفسه تجسيد للانحراف( الذي تحدثنا عنه سابقا)، فقد عرف الأسلوب على أنه انحراف عن المعيار، كما وصف الانحراف بالانزياح، والمقصود انزياح أو انحراف الأسلوب عن الاستخدام العادي للغة، مما يجعل اللغة تستخدم استخداما غير مألوف. وقد لقي مفهوم الانحراف عند ريفاتير تطورا جذريا استخلص منه مقولة ( التضاد البنيوي ) وحدد ما يترتب عليها من إجراءات أسلوبية أي من عمليات التكوين الأسلوبي حسب مصطلحه، وهي إجراءات تعتمد على القارئ أساسا لأنه هدف الكاتب الموجه إليه الرسالة. ولا شك أن الكتابة الفنية تتطلب من الكاتب أن يفاجئ قارئه من حين لآخر بعبارة تثير انتباهه حتى لا تفتر حماسته بمتابعة القراءة أو يفوته معنى يحرص الكاتب على إبلاغه إياه. وفي هذا تختلف الكتابة الفنية عن الاستعمال العادي للغة فالإنسان في حديثه العادي يستطيع أن يلجأ إلى وسائل كثيرة مصاحبة للكلام كي ينبه سامعه إلى فحوى الرسالة: من استخدام النبر والتعبير بحركات الوجه أو الإشارة باليدين إلى هز ذراع السامع إذا كان المتكلم في حالة انفعالية تدفعه إلى ذلك، وأما إذا تأملنا الكتابة الفنية وجدنا في تعابير اللغة أحيانا ما يشبه هز الذراع وربما الإمساك بالتلابيب، وإذا كانت هذه الحركات والنبرات في لغة الحديث لا تفعل فعلها إلا لكونها خارجة عن المألوف، فكذلك وسائل اللغة التي يراد بها جذب الانتباه إنما تحدث ذلك بفضل ما فيها من المفاجأة أو الخروج على سياق الكلام العادي ، أي بفضل ما فيها من الانحراف. السياق الأسلوبي : بما أن التقوية الأسلوبية تنتج من إدخال عنصر غير متوقع في نسق، فهي تفترض إشعارا بالانقطاع الذي يغير السياق، وهنا فرق جوهري - كما يقول ريفاتير- بين المفهوم الشائع لكلمة السياق وبين السياق الأسلوبي. فليس السياق الأسلوبي ترابطيا، بمعنى أنه ليس السياق اللفظي الذي يقلل تأثير لمشترك اللفظي أو يضيف إيحاءات إلى لفظة ما، فالسياق الأسلوبي كما يقول ريفاتير: ( نسق لغوي يقطعه عنصر غير متوقع- مفاجئ كما أشرنا في الفقرة السابقة- والتقابل الذي ينشأ عن هذا الاقتحام هو المثير الأسلوبي) ويوضح ريفاتير أنه يجب أن يفهم أن هذا الانقطاع ليس من باب الفصل، فقيمة المقابلة الأسلوبية ترجع إلى نظام العلاقات الذي تقيمه بين العنصرين المتصادمين، وما كانت لتحدث أي تأثير بدون وصلهما في متتابعة. إن صنع النسق الذي تتوقف عليه "المفاجأة" يرجعه ريفاتير بالضرورة إلى سير المتواليات، والسياق يبتع القارئ مارا بكل متواليات الحدث. ويرى ريفاتير أن السياق لا ينفصل عن الإجراء الأسلوبي ويتمايز بالخواص التالية : 1- التلاؤم اللازم مما لا يحدث بالنسبة للقاعدة. 2- قابليته الفورية للتحديد وإمكانية الإمساك به على التو فليس غامضا ولا مبهما ولا ذاتيا. 3- التنوع، إذ إنه يشكل مجموعة من مظاهر التضاد مع الإجراءات الأسلوبية المتوالية، وهذا التنوع هو الذي يوضح لنا السبب في أن وحدة لغوية ما تكتسب تأثيرها الأسلوبي أو تعدله أو تفقده نظرا لوضعها، كما أنه هو الذي يوضح السبب في عدم اعتبار اطراد القاعدة واقعة أسلوبية بالضرورة بمثل ما أن التأثير الأسلوبي لا يتوقف دائما على الشذوذ عن القاعدة. الانصباب: وهناك ظاهرة تتصل بالسياق الأسلوبي يطلق عليها ريفاتير اسم الانصباب، فقد تتجمع العناصر الناجمة عن الإجراءات الأسلوبية مما يجعل تأثيرها يعتمد على التوافق بين الجوانب الدلالية والصوتية وتتراكم حتى تصل إلى نقطة محددة، بحيث يكون كل إجراء أسلوبي منها- على استقلاله في ظاهر الأمر- جزءا من بنية أكبر تمثل القوة التعبيرية التي تصب فيها جميع الإجراءات المستخدمة. وهذا الانصباب ذو طبيعة تراكمية ويمثل السياق الدلالي الذي يحد من تعدد معاني النص ويوضح مقاصد المؤلف، كما أن هذا الانصباب هو الإحراء الوحيد الذي يمكن أن يوصف بأنه يتم بطريقة واعية إذ إنه حتى لو كان قد نبت في النص بشكل لا شعوري من المؤلف فإنه لا يلبث أن يدركه على التو عند قراءة ما كتب ولو اقتصر على الاحتفاظ به أو اجتهد في تكوينه، فإنه يصبح مثلا للوعي الواضح في استخدام اللغة. ==>>
|
انواع عرض الموضوع |
العرض العادي |
الانتقال إلى العرض المتطور |
الانتقال إلى العرض الشجري |
|
|