7 - اختراع الصور الفنية باستمرار حيث تقدم مدداً من المعاني المتتابعة( ).
ولم يقف عبد القاهر الجرجاني عند هذا الحد في التخييل، بل تحدث عن أنواع أخرى للتخييل مثل:
1- التخييل بتعليل حسن.
2- التخييل بغير تعليل.
ويعرف عبد القاهر التخييل المعلل بقوله: «وهو أن يكون للمعنى من المعاني والفعل من الأفعال علة مشهورة من طريق العادات والطباع ثم يجيء الشاعر فيمنع أن يكون لتلك المعروفة ويضع له علة أخرى. مثاله قول المتنبي:
يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب ما به قتل أعاديه ولكن
الذي يتعارفه الناس أن الرجل إذا قتل أعاديه فلإرادته هلاكهم وأن يدفع مضارهم عن نفسه، وليسلم ملكه ويصفو من منازعاتهم، وقد ادعى المتنبي كما نرى العلة في قتل هذا الممدوح لأعدائه غير ذلك»( ).
وأما التخييل بغير تعليل، يشير هنا إلى دور التشبيه والاستعارة والمجاز في هذا النوع الذي يعرفه بقوله: «وهذا نوع آخر من التخييل، وهو يرجع إلى ما مضى من تناسي التشبيه وصرف النفس عن توهمه إلا أن ما مضى معلل. بيان ذلك أنهم يستعيرون الصفة المحسوسة من صفات الأشخاص للأوصاف المعقولة، ثم تراهم كأنهم قد وجدوا تلك الصفة بعينها، وأدركوها بأعينهم على حقيقتها وكأن حديث الاستعارة والقياس لم يجر منهم على بال»( ).
ويوضح هذا النوع عندما يشرح أبيات ابن الرومي:
نفس أعز عليّ من نفسي قامت تظللني من الشمس
شمس تظللني من الشمس قامت تظللني ومن عجب
«فلو أنه أنسى نفسه أن ههنا استعارة ومجازاً من القول وعمل على دعوى شمس على الحقيقة لما كان لهذا التعجب معنى، فليس ببدع ولا منكر أن يُظِلَّ إنسان حسن الوجه إنساناً ويقيه وهجاً بشخصه( ).
ويمكننا أن نلخص رأي عبد القاهر ومفهومه في التخييل بقوله: «وجملة الحديث الذي أريده بالتخييل ههنا ما يثبت فيه الشاعر أمراً هو غير ثابت أصلاً، ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها، ويقول قولاً يخدع فيه نفسه ويريها ما لا ترى، أما الاستعارة فإن سبيلها الكلام المحذوف في أنك إذا رجعت إلى أصله وجدت قائله وهو يثبت أمراً عقلياً صحيحاً ويدعى دعوى لها شبح في العقل»( ).
فهنا يحكم على التخييل بالكذب المطلق ويعده من الخداع، ولا علاقة له بالاستعارة. ومن هنا يمكننا أن نفهم رأي د.سعد مصلوح المخالف لآراء غيره من الدارسين في عبد القاهر حيث ينفي د.سعد تأثر الجرجاني بابن سينا في التخييل ويبين بأن التخييل عند عبد القاهر إنما هو الإيهام والكذب أو القياس الشعري الخادع وأنه نوع من الكذب البارع، وأن عبد القاهر يدور في فلك هذا المعنى بعد مزجه بفكرة المنطقية عن المادة والصورة في الشعر( )، ومهما يكن فقد أدرك عبد القاهر أن الشعر بصورة عامة يحتوي على معان عقلية ومعان تخييلية؛ الأولى ليست من جوهر الشعر، والثانية من جوهره.
التخييل عند حازم القرطاجني
إن مفهوم التخييل الذي بدأه الفلاسفة، اتسع عند البلاغيين وصار له حظ أوفى من الدراسة عند عبد القاهر الجرجاني كما رأينا وإن اختلفت آراؤهم، ثم اتضحت أصوله وتبلورت معانيه عند حازم القرطاجني. ويمكن القول إنه بحازم أصبحت مفاهيم التخييل تشكل نظرية كاملة المعالم واضحة الأهداف في تقويم الشعر.
وما أن يصل الدارس إلى حازم حتى يتبين له التخييل بوضوح وعلى منهج ابن سينا، فحازم استجاب لكلام ابن سينا بل لعله أول من تمثل رأي ابن سينا (فيما ظهر لنا)، حيث يعد أبو الحسن حازم القرطاجني امتداداً لتأثر الدرس البلاغي بالفلسفة اليونانية كما في كتابه «منهاج البلغاء»، وقد ردد حازم في كثير من المواضع آراء ابن سينا، وإن كان قد أشار إلى غيره كالفارابي، إلا أن ابن سينا كان آثر الفلاسفة عند حازم، وأشد نفوذاً وتأثيراً.
سبق أن قلنا:
إن مفهوم التخييل عند حازم أصبح نظرية متكاملة، ولذلك ليس من السهل إيجاز نظريته، ولا بد لكل دارس من أن يقسم بحثه إذا أراد أن يتحدث عن التخييل لدى حازم، مِثْل: تأثره بابن سينا، وأثر التخييل عنده في الأغراض الشعرية، وكذا أثره في المعاني وتأثيره بالنفس. وعلاقة التخييل بالتحسين والتقبيح، والإقناع وقضية الصدق والكذب وغير ذلك( ).
يتبين من عرض حازم للتخيل متابعته من سبقوه في فهم الشعر على غرار القياس والتقسيم الصوري، والمماثلة بين الشعر وبين القضية في أشكالها المختلفة، واعتبار الأقاويل الشعرية قسماً من المقولات، قد تصدق فيها المقدمات أو تكذب، إذْ لا عبرة هنا بالصدق أو الكذب لأن مدار الشعر على الكلام من حيث هو مخيل. وهذا يدخلنا إلى قضيتي الصدق والكذب، والفرق بن الشعر والخطابة وعلاقتهما بالإقناع والتصديق.
فقد ربط حازم بين الصياغة الشعرية وتقسيم المناطقة للمقولات إلى برهاني وجدلي وخطابي.
فيقول: "إن ما قام من الأقاويل القياسية على التخييل والمحاكاة هو قول شعري سواء كانت مقدماته برهانية أو جدلية أو خطابية، يقينية أو مشتهرة أو مظنونة، وإن ما بني على الإقناع خاصة أصيل في الخطابة دخيل في الشعر، وما بني على غير الإقناع لا يرد في شعر ولا خطابة"( ).
ويفهم من هذا أن وقوع الأقاويل الصادقة في الشعر صحيح، ولكن الشعر يختص باستعمال المقدمات الكاذبة، أو بمعنى أدق الموهمة الكذب، لأنه لا ينافي الكذب كما لا ينافي الصدق. لذلك يقتصر على النسبة إليه كل كلام مخيل مقدماته كاذبة. ولكن الشعر في هذه الحال يكون شعراً باعتبار "ما فيه من المحاكاة والتخييل لا من جهة ما هو كاذب كما لم يكن شعراً من جهة ما هو صادق بل بما فيه أيضاً من التخييل"( ).
وهكذا نجد أن حازماً تابع المناطقة في بيان الأقاويل الشعرية المخيلة وجعلها على قاعدة الصدق والكذب، وتأثر بالفلاسفة وبخاصة ابن سينا، وبسط الفكرة على طريقة المناطقة في التفريع والاستقصاء وردّ الخبري للقاعدة إلى خمسة أشكال فقال: "فقد تبين... أن الشعر له مواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الصادقة، ومواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الكاذبة، ومواطن يصلح فيها استعمال الصادقة والكاذبة واستعمال الصادقة أكثر وأحسن، ومواطن يحسن فيها استعمال الصادقة والكاذبة أكثر وأحسن، ومواطن يحسن فيها استعمال الصادقة والكاذبة أكثر وأحسن، ومواطن تستعمل فيه كلتاهما من غير ترجح( ).
ومن يتابع كلام حازم يجده يحذو حذو ابن سينا عندما يتحدث عن التخييل والتصديق، بل ينقل حازم كلام ابن سينا في هذا: "والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط الأمور أو تنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسياً غير فكري سواء كان المقول مصدقاً به أو غير مصدق به، فإن كونه مصدقاً به غير كونه مخيلاً أو غير مخيل، فإنه قد يصدق بقول من الأقوال ولا
===>>