ومن دلالات التخييل عند ابن سينا:
1- أن التخييل أمر خارج عن التصديق، فالتصديق راجع إلى مطابقة الكلام للواقع، أما التخييل فراجع إلى ما للكلام نفسه من هيئة تحدث الانفعال، ومن هنا جاز أن تكون مواد التخيلات صادقة أو كاذبة إذا أحدثت في النفس الانفعال المقصود بالشعر.
2- أن التصديقات والتخييلات بمنزلة المادة والصورة، مما يترتب عليه أن حقيقة الشعر الذاتية ليست في مادة المعاني بل في صورتها.
ومن ملاحظاته أن التخييلات الشعرية قد توجه نحو «الأغراض المدنية» من سياسة وغيرها( ).
ويمكننا أن نختم بالقول إن التخييل إبداع وابتكار عربي إسلامي من ابن سينا أفاده من مبحث أرسطو في النفس، ومن اجتهاده الشخصي في هذا المجال، وإن مفهوم التخييل عند ابن سينا مفهوم جيد لطبيعة الصناعة الشعرية ووسائلها التعبيرية.
التخييل عند عبد القاهر الجرجاني:
لم يكن الدرس البلاغي والنقدي بمعزل عن منهج الفلاسفة وقد تشبث نفر من المشتغلين بالبلاغة والنقد بما انتهى إليه الفلاسفة من نتائج، وأثاروا قضايا هي من ثمرات هذا التأثر من مثل: قضايا اللفظ والمعنى، والصدق والكذب والخبر والإشارة، وأدخلوا التخييل في قوالب المنطق. ويجد الدارس هذا التأثير أوضح ما يكون عند عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة، وحازم في منهاج البلغاء.
(مع أن للدكتور سعد رأي مختلف في عبد القاهر سنورد جزءاً منه في هذا المبحث( ).
ولم يكن عبد القاهر بِدْعاً بين المشتغلين بالبلاغة فيمن سبقوه، ذلك أنه ربط مبحث التخييل بالأخذ والسرق وما فيهما من التقليل، وقد بث فكرة التخييل في "أسرار البلاغة" ومن هذا حديثه عن الفرق بين العقلي والتخييلي، وقياسه ما نعته بالمعاني العقلية في الشعر في الاستنباط المنطقي للأدلة البينة، وإلحاقه قسماً من التخييلات بالاحتجاج والقياس بضرب من التلطف والمرانة والحذف والصنعة التي يحتال بها الشعراء، وخلاصة القول في مذهبه إنه قصد بالتخييل ما قصده المتأخرون بالإيهام وحسن التعليل، وراغ إلى ما راغ إليه الأوائل من مشكلات الصدق والكذب، مصطنعاً الموازين المنطقية التي اصطنعوها للتمييز بين معان عقلية هي نسب للتصديق يحكم بإثباتها أو نفيها، وأُخَر تخيلية لا شأن لها إلا بصورة الصيغة الشعرية، فلا يقال فيها إن الشاعر بسبيل الصدق أو الكذب، ومن هذه المعاني التخيلية طائفة مصنوعة سبيلها البرهان والقياس( ).
ولكن التخييل عند عبد القاهر فيه اختلاف عن التخييل عند فلاسفة المسلمين، فإن الفلاسفة درسوا التخييل من خلال الأثر الذي يتركه الكلام المخيِّل في نفوس السامعين، أو بتعبير آخر يركزون على سيكولوجية المتلقي، ولم يهتموا بطبيعة العمل الفني، أي بطبيعة هذا الكلم المخيّل.
أما عبد القاهر فقد حلل التخييل على أنه جزء لا يتجزأ من العمل الفني، وتحدث عن تكوّنه وإنشائه ووجوده، وبهذا يكون: الشعر كلام مخيِّل ومخيَّل عنده( ).
ومما يدل على هذا أقوال عبد القاهر وهو يتحدث عن التخييل الشعري «أعلم أن الحكم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسرق، واقتدى بمن تقدم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحاً أو في صيغة تتعلق بالعبارة. ويجب أن نتكلم أولاً على المعاني وهي تنقسم قسمين: عقلي وتخييلي، وكل واحد منهما يتنوع، فالذي هو العقلي على أنواع، أولها عقلي صحيح، مجراه في الشعر والكتابة والبيان والخطابة مجرى الأدلة التي تستنبطها العقلاء، والفوائد التي تثيرها الحكماء، ولذلك نجد الأكثر من هذا الجنس منتزعاً من أحاديث النبي e وكلام الصحابة، ونقولاً من آثار السلف الذين شأنهم الصدق وقصدهم الحق، أو ترى له أصلاً في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عن القدماء»( ).
ويضرب أمثلة على هذا النوع من المعنى العقلي( )، ويكمل قوله «وهذا من باب من المعاني التي تجمع النظائر... ومكانه من العقل ما ظهر لك واستبان ووضح واستنار، ومنه قول المتنبي:
وكل مكان ينبت العز طيب وكل امرئ يولي الجميل محبب
وهو صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يلبسه من اللفظ ويكسوه من العبارة، وكيفية التأدية من الاختصار وخلافه».
وهذا يبين لنا أن عبد القاهر يعتبر المعاني العقلية ليست من جوهر الشعر وإن لبست رداءه، مع أنه لا يقلل من أهميتها ومن دورها في النواحي العقلية والاجتماعية والدينية بقوله بعد الاستشهاد بـ:
حتى يراق على جوانبه الدم لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
«معنى معقول، لم يزل العقلاء يقضون بصحته ويرى العارفون بالسياسة الأخذ بسنته، وبه جاءت أوامر الله سبحانه وتعالى...»( ).
وبهذا تمثل المعاني العقلية عند عبد القاهر الحقائق الصادقة التي يقبلها العقل والمنطق، والتي تعتمد الأساليب المباشرة التي تصور الأمور تصويراً واضحاً.
ثم يمضي عبد القاهر بعد هذا القسم في بيان القسم التخييلي للمعاني فيقول:
«وأما القسم التخييلي للمعاني فهو الذي لا يمكن أن يقال فيه إنه صدق وإن ما أثبته ثابت وما نفاه منفي، وهو مفتن المذاهب كثير المسالك... ثم إنه يجيء طبقات، ويأتي على درجات، فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تلطف فيه واستعين عليه بالرفق والحذق، حتى أعطي شبهاً من الحق... باحتجاج يخيّل، وقياس يصنع فيه ويعمل»( ).
وقبل أن نكمل قولـه وتمثيله لما ذكر، نرى بأن ما يفهم من كلامه أن المعاني التخييلية ليست صادقة كالمعاني العقلية، لأنها أعم وأشمل فلا تنحصر ولا تخضع لمقاييس حادة كالمعاني العقلية، وتتسم بطبقات من المعاني ودرجات مختلفة حتى تعطي شبهاً من الحق بقياس يصنع فيه، ونجد أن عبد القاهر تأثر بالمنطق الأرسطي، فموضوع الصدق والكذب والقياس والسبب والعلة من ضمن تحليلاته.
ونعود لنراه يستشهد على كلامه بقول أبي تمّام:
فالسيل حرب للمكان العالي لا تنكري عطل الكريم من الغنى
وهذا البيت يجري عنده على القياس التخييلي لا العقلي فيقول:
«فهذا قد خيل إلى السامع، أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلو والرفعة في قدره، وكان الغني كالغيث في حاجة الخلق إليه وعظم نفعه، وجب بالقياس أن ينزل عن الكريم نزول ذلك السيل عن الطود العظيم، ومعلوم أنه قياس تخييل وإيهام، لا تحصيل ولا إحكام، فالعلة أن السيل لا يستقر على الأمكنة العالية أن الماء سيّال لا يثبت إلا إذا حصل على موضع له جوانب تدفعه عن الانصباب، وتمنعه من الانسياب، وليس في الكريم والماء شيء من هذه الخلال( ).
يتبين من كلامه هنا بعض المنهج الأرسطي حيث استخدم "وجب القياس" وحلل البيت بوساطة القياس العقلي بقوله: «فالعلة أن السيل......».
فقد احتج عبد القاهر لفقر الكريم وعطله من المال والغنى بقياس فحيل، أو بتعبير آخر: تخيل معنى بوساطة معنى آخر عن طريق القياس التخييلي.
===>>