فتنة في الأرض
المشكله
أنا فتاة في الخامسة والعشرين من عمري، تقدم لي رجل في السادسة والثلاثين لم أكن أعرفه من قبل، ولكن كانت تبدو عليه علامات التدين والتقوى، وكان من يعرفه يمدح فيه. ولم يمض وقت طويل حتى عقدنا القران، وبعد العقد اتضح لي أنه كثير القلق والتوتر، سيء الظن، يعمل من كل شيء بسيط مشكلة كبرى، وكنت أتحمله لعل الله يجعل فيه الخير، ولكنه أراد الانفصال بعد مضي شهر واحد من العقد.
أنا وعائلتي نحاول الصلح؛ لما في ذلك من ضرر أن أصبح مطلقة بعد شهر واحد، ولكن دون جدوى، وإذ بصديق عمره الذي زكاه لنا قبل العقد يقول لنا: إنه يعاني من اللبس، وأن "قرينته" تعكر عليه حياته إذا فكر في الارتباط، وهي من تسببت في فسخ خطوبتين له من قبل، وأنه ظن أنها سوف تتركه في حالة عقد القران، ولكن اشتدت عليه، ولذلك هو يريد الطلاق.
وبغض النظر عما قاله صديقه فقد وافقنا على طلبه، وظللنا شهرا آخر في خلافات حول حقوقي المادية التي يساومني عليها؛ إما التنازل وإما عدم التطليق، حتى تركت له كل شيء وطلقني بعد مضي شهرين فقط من العقد، وبعدها تحدث إلينا شخص آخر، وأكد أنه فعلا ملبوس ومصاب بالصرع أيضا.
فهل هذا يمكن فعلا أن يحدث أم أنهم يكذبون علينا، وإن كان هذا حقا فلِمَ لم يصارحني في بداية الأمر، أليس هذا غشا منه ومن صديقه الذي يعرف حقيقته وأخفى علينا عندما سألناه عنه قبل العقد؟.
الآن أنا في حالة نفسية سيئة؛ حيث إنه كان يبدو عليه التدين ولكن ما يفعله ينافي هذا، ومن عجائب الزمن أن صديقه الذي ضللنا يخطب الجمعة في المساجد، فإذا كانت هذه الفئة من أهل الدين الذي تخدع وتغش، فكيف بالأشخاص العاديين!!. أنا لا أصدق ما يحدث، فمثل هؤلاء فتنة في الأرض.. أرجو النصح في مشكلتي.
الحل
ليس في الأمر لبس ولكنْ متاجرة ونصب باسم الدين أو ما أسميه بظاهرة "الدين العشوائي" الذي يهتم أصحابه بالمظاهر والأشكال ثم تأتي التعاملات لتفضحهم، وهم إلى جانب المظاهر يدخلون في الدين أعاجيب وغرائب مثل قضية اللبس؛ هروبا من مواجهة أنفسهم بعجزهم على أن يواجهوا الحياة بالتزام وأخلاق حقيقية.
وكما أقول لعملائي الذين يأتون وهم يعلقون أزماتهم ومشكلاتهم النفسية على الجن والمس واللبس: إن مِنَ الجن مِنْ كثرة الافتراء عليه من قبل الإنس، ومن كثرة ما حمله الإنسان من خطاياه رحل عن أرضنا هاربا مما يُفعل به.
إن هذا الرجل الذي يماطلك في حقوقك حتى يضطرك إلى إبرائه من حقوقك ويطلقك بعد شهرين هو رجل ظالم ولا علاقة للجني بظلمه. إن الجني لم يطلب منه أن يماطلك في حقوقك، فلو كان صحيحا أنه ملبوس كما يدعي صديقه لأحس بالذنب؛ لأنه يطلقك رغما عنه حسب ادعائه، ولأعطاك حقوقك كاملة، وربما أيضا تعويضا عما اقترفه في حقك، ولكن الحقيقة هو أنه عاجز عن التكيف مع الزواج؛ لأنه مريض بسوء الظن والشك كما تصفينه في رسالتك.
ولكننا بدلا من أن نقول: هذا مريض بالشك، نقول: هذا ملبوس. والشك المرضي يؤدي بصاحبه إلى عدم القدرة على الثقة بأحد، وهو عندما يطلقك فليس لأن قرينته تمنعه من الزواج، ولكن لأن مرضه يمنعه من ذلك، وبدلا من طلب العلاج نهرب إلى عالم عشوائي من الجن الذي يتحكم في تصرفاتنا ويمنع عنا حياتنا الطبيعية، وهذا أمر لا يقبله عقل ولا شرع، ولكنه الخلط والتهريج في التعامل مع المشكلات.
لا تحزني أيتها الابنة العزيزة، فلقد تخلصت من مريض كان سيحول حياتك إلى جحيم بشكه المرضي؛ وخاصة أنه لا ولن يعترف بمرضه، والذين من حوله يزيدون من غيه ورفضه للعلاج بوصفه بالملبوس، وما فعله صاحبه يدخل فعلا في باب الغش والخداع، ولن يغني عنه أنه خطيب للجمعة، ولكن لا تقعي في التعميم باعتبار كل المتدينين غشاشين؛ فالمتدين الحقيقي لا يغش ولا يخدع، وعليك أن تكوني حذرة في المرة القادمة، واتخذي الأسباب الصحيحة في السؤال عن شخص من يتقدم إليك مهما بدا مِنْ مظهر مَنْ يزكيه لك؛ لأن كثيرا من الناس لا يدركون أن أمر تزكيتهم لشخص للزواج يدخل في باب الشهادة، وأن من يكذب في هذا الأمر أو يكتم أمرا يعلمه إنما يدخل في إطار الشهادة الزور؛ فالشهادة الزور ليست أمام المحكمة فقط ولكن في كل ما يطلب من الإنسان أن يبدي رأيه فيه، ويكون لديه ما يقوله بصدق وشفافية فلا يقوله أو ينقصه أو يدلس فيه .
وأيضا مع شهادة من يزكيه يجب أن تسألي أنت بمعرفتك كل معارفه في عمله وفي مكان سكنه وزملاء دراسته، والسؤال يكون أيضا عن أهله، ولا تخدعك المظاهر. واسألي عن المعاملات، فكما قال عمر بن الخطاب: هل سافرت معه؟ هل تعاملت معه بالدرهم والدينار؟ لعلك رأيته في المسجد يصلي ويهز رأسه هكذا؟ وهو يسأل الرجل عن معرفته برجل، فلما كانت إجاباته أنه لم يتعامل معه قال له: اذهب فإنك لم تعرفه. السؤال يكون لمن سافر معه، وتعامل معه، ورآه في أحواله المختلفة.
إن جمع المعلومات الصحيحة هو الطريق السليم إلى قرار صحيح، وإن الأخذ بالمظاهر والأشكال لا يغني عن الجوهر والمضمون شيئا. إنك ظُلمت في هذا الموقف، وسيعوضك الله خيرا، ولا تتصوري أن هذا الشخص الذي خدعك سيظل في خداع الناس كثيرا، فسيكشفه الله مهما أظهر غير ما يبطن. لا تفقدي ثقتك في أصحاب الفهم الصحيح للدين وأنه المعاملة؛ فهم ما زالوا موجودين؛ فالخير في أمة الإسلام إلى يوم القيامة.
ولا تحزنك كثرة العشوائيين من أصحاب تدين المظاهر والعبادات من غير معاملة حقيقية؛ فهم إلى زوال {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.