9. رأينا في دراستنا أن كل كائن حي تحكم وجوده وعمله مجموعتان من العوامل إحداهما موائمة مشجعة، والأخرى مثبطة. استمرارية هذا الكائن وفعاليته تستلزمان توازنا بين مجموعتي العوامل لأن زيادة واحدة منها تعني طغيانه وإسرافه في التكاثر، وزيادة الأخرى تعني فناءه. هذا التوازن بين العوامل، المتضادة في تكاثرها هو أحد مفهومات الحق الذي به تبقى الكائنات. 
تكاثر كائن ما تكاثر مسرفاً لا يمر بغير نتائج مادامت الكائنات تتفاعل مع بعضها تعاوناً أو تحبيطاً، بأن إسراف نوع ما في التكاثر قاتل له قتلاً ذاتياً. 
تصور أن القطط تكاثرت بحيث قضت على فئران الأرض كلها ثم قضت على كل ما يمكنها أن تأكله، ألا يعني ذلك أنها تقضي على نفسها بالموت جوعاً إن لم يقتل بعضها بعضاً؟ 
إن التوازن بين أعداد الكائنات أمر هام، وهو يستلزم توازناً بين أدوات العدوان وأدوات الوقاية، وبغير هذا التوازن ما بقيت الكائنات. هذا التوازن ـ أيضاً ـ هو أحد مفاهيم الحق الذي به تبقى الكائنات، والذي يمكن أن نفهم منه الإسراف والظلم والعدوان يحتم الهلاك والفناء، وأن ظن بعض الناس أنه سبيل بقائهم وسعادتهم. 
ما رأينا من بقاء الحياة على الأرض، ونشوء أنواعها، وترقي صورها احتاج إذن إلى الحق والتوازن. 
ولما كانت الأرض غير منفصلة ـ بما عليها من حياة وطاقة، وبما فيها من حركات ودوران ـ عن الشمس وطاقتها ومجموعتها، بل عن الكون ككل، وجب أن يكون المدبر للأرض وما عليها مدبراً أيضاً لكون كله، وأن تكون رقابته عليها أو عمله فيها شاملاً ودائماً. وهذا هو معنى وحدانية الخالق وربوبيته: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين )(هود/6). 
(أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض، أإله مع الله !! قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين* قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله * وما يشعرون أيان يبعثون )(النمل/64ـ65). (أنظر أيضاً العنكبوت : 19ـ20، والروم: 11). (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها * وما ربك بغافل عما تعلمون)(النمل/93).
ما أجدر الإنسان ـ بالتواضع، وبأن يعرف للخالق أفضاله وقدرته . 
إذا كان ثمة ما يزهو به الإنسان من جمال أو قوة أو علم أو قدرة، فإنها مؤقتة، كما إنها فضل من الله .. وإن في مقابلها لابد من شكر ومسئولية .
(من صلصال من حمأ مسنون): 
في يوم لا أذكره بالضبط، من سنة 1982م، نشرت جريدة الأهرام (القاهرية) لأحد قرائها كلمة يعترض فيها على إمكانية خلق الإنسان من طين . 
قال القارئ : إنه يحمل شهادة عالية، وبدا من كلامه أنه على شيء من العلم بالكيمياء، إذ قال إن الطين هو سليكات الألمونيوم، وهو مادة لا تذوب في الماء، ومن ثم لا يمكن أن تدخل في تركيب جسم الإنسان. لمثل هذا القارئ الذي ركز على التركيب الكيميائي لحبيبات الطين ونسي أن لهذه الحبيبات سطوحاً تحمل كاتيونات، وأن بينها مسافات تحتوي هواء وتمسك بماء تذوب فيه مواد، أقدّم كلامي هذا. 
خلق الإنسان من طين لا يستلزم خلقه من كل الطين، وإنما يكفي أنه يخلق من أحد محتويات الطين أو من أحد مكوناته. يشبه ذلك قول أحدنا أنه يسكن في القاهرة أو أنه من القاهرة، بمعنى أنه يسكن في حي منها، بل في شارع، بل في منزل واحد. 
آيات القرآن يفسر بعضها بعضاً، ويفصل بضعها ما أجمله البعض الآخر. 
لهذا قالت الآية 12 من سورة المؤمنون: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)،أي من مواد تتسلل من الطين فهي محتواة فيه. التسلل هو الحركة الخفيفة، واللص المتسلل هو الذي يتحرك فلا يراه أحد. صيغة " فعالة " تدل على الشيء يفعل فيه فعل ما، فالسلالة ما يسل ويخرج في خفاء، والسلالة ما يسلت من شيء آخر ويفصل عنه (القاموس المحيط للفيروزابادي)،والخلاصة هي ما يستخلصه وينقي مما يختلط به الطين الذي تتكون حبيباته من سيلكات الألومونيوم فيه مسافات تكون 50% من حجمه، وتحتوي ما يمكن أن يحرك ويستخلص، وهو " السلالة " التي عرفنا بالوسائل العلمية أنها ماء ذابت فيه غازات وأيونات وجزيئات صغيرة من أصل عضوي وبعض الأملاح.
ولأهمية المسافات البينية والمسام الموجودة في الطين وصف القرآن هذا الطين(صلصال كالفخار)،وذلك في الآية 14 من سورة الرحمن. 
من ذا الذي لا يعرف أن الإناء الفخاري يتسلل الماء من داخله إلى خارجه فيبخر ليبرد الإناء وما فيه؟!!! 
وإذا كان الماء محتوياً على ملح أو سكر مذاب ترسبت بعض بلوراته على السطح الخارجي بعد تسللها من داخله، وقيل حينئذ إن الإناء نضح بما فيه، وفي الأمثال " كل إناء بما فيه ينضح " . الصلصلة هي الرنينن وهي ترجيع الشيء للصوت إذا نقرت عليه أو قرعته كصلصلة الجرس. الفخار الجاف يصلصل لوجود الهواء في مسافاته البينيه، بينما لا تسمع صلصلة إذا نقرت على قطعة من الجرانيت الذي تكون سليكات الألمونيوم 60% منه، وذلك لتراكم حبيباته والتصاقلها بغير مسافات بينيه. كذلك لا تصلصل قطعة من حجر الإردواز، وهو صخر متحول من سليكات الألومنيوم الخالصة فقد مسافاته البينيه بالحرارة والضغط.
ولكيلا يحدث لبس، مثل الذي حدث لقارئ جريدة الأهرام، قال الله تعالى (في الآية 26 من سورة الحجر):( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)، أي من حمأ مسنون من الصلصال. وبمقارنة هذه الآية بآية 12 من سورة المؤمنون ندرك أن (الحمأ المسنون) مرادف أو بديل (السلالة من الطين). وأسلوب التعبير (.. من .. من ....)أسلوب شائع في اللغة العربية، ويقصد به التفسير والتفصيل، فيذكر المتكلم الشيء مجملاً أو كلياً ثم يتبعه التخصيص أو الجزئي، تقول مثلاً: أنا آت من القاهرة، من الروضة أي : من حي الروضة الذي هو جزء من القاهرة. هذا الأسلوب شائع وكثير الاستعمال في القرآن، من أمثلته ما يأتي :
في الآية (172) من سورة الأعراف: (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم من ذريتهم.. )أي أخذ من بني آدم ذريتهم ـ أخذا من مكان خاص في ظهورهم[1]. وفي سورة الزخرف آية 33(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة)، أي لجعلنا لمن يكفر بالرحمن سقفاً من فضة هي لهم إجمالاً ولبيتهم تفصيلاً وتخصيصاً. (الحمأ) سائل يتحرك بين حبيبات التربة الصلصالية، ومنه يتسلل الماء وبعض وبعض ما ذاب فيه إلى جذور النباتات أولاً حيث يتكون منه غذاء وحب وفواكه وثمار يأخذها الإنسان لبناء جسمه ولتعطيه الطاقة.أو يأخذها الحيوان أولاً ليكون منها اللبن والعسل وما أحله الله من مأكل وشراب للإنسان الذي تصنع به مادة جسمه وتطلق منه طاقة وحرارة. 
من الواضح أن ذلك الأسلوب القرآني في التعليم والتعريف يضطر قارئ القرآن أن يتدبر المعاني ويعمل فكره ويتنقل بعقله في مخلوقات الله وكونه ليصل بنفسه إلى ما يهديه إلى الحق ـ لهذا تتساءل آية قرآنية : (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )(سورة محمد/24). 
طرائف لغوية:
من الطرائف العجيبة أن أتعشم أن تحظى باهتمام وعناية بعض اللغويين ما لاحظته في دراستي هذه من تشابه واضح بين بعض الألفاظ العربية وبعض الألفاظ الأجنبية في المبنى والمعنى. 
أولاً: كلمة (السلالة)هي ما يتحرك في الخفاء والإذابة في الماء من أهم طرق الإخفاء. الإذابة في عدد من اللغات الأوربية يعبر عنها بكلمة " Solute" والشبه بين هذه الكلمة وكلمة (السلالة)واضح. 
ثانياً: (السلالة)هي ما يسلت كما يدل على نضج الملح والسكر على سطح الإناء الفخاري. الاسم الإنجليزي للمادة المذابة القابلة للنضج هو لفظ " Solute" والتشابه في النطق بين سلاته وسوليوت تشابه لافت للنظر. 
ثالثاً: المادة العضوية المتحللة التي تختلط بالتربة في كثير من اللغات الأوربية " Humus" ، والمتكلمون بهذه اللغات ينطقون (الحاء)العربية (هاء) تكتب وتنطق إذن : " همأ " أي " Humu" وإضافة حرف (S) في اللغة اللاتينية إلى آخر الكلمات تكاد تكون شيئاً ثابتاً، فنيكولا تكتب وتنطق (نيكولاس)، ويوليو تكتب وتنطق (يوليوس) . تفاعل اللغتين اللاتينية والعربية في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا في عصر النهضة (أو الإستنارة) أمر لا يمكن تجاهله، وهو العصر الذي بدأ الأوربيون فيه ينقلون علومهم عن العربية .
التسلسل والسلالة : 
(التسلسل) هو التحرك في خفاء، والسلالة هي ما يحرك في الخفاء. والخفاء قد يتعلق بالشيء ذاته وقد يتعلق بالحركة، وقد يكون كلاهما خفياً. 
والشيء يكون خفياً حين يكون مفرط في الصغر أو مفرط في الشفافية أو في العتامة، أو مفرط في البعد، أو حين يتخفى وراء غيره أو في ثناياه. 
والحركة تكون خفية حينما تكون مفرطة في السرعة، أو مفرطة في البطء، أو حين تحدث وراء ستار، أو في الظلام ولا تكون مصحوبة بما ينم عنها كالجلبة وشدة التأثير. 
وحين يكون التخفي بسبب بطء الحركة وانخفاض الصوت والتأثر، فإنه يسمى " تلطفاً " والشيء يكون لطيفاً حين يكون خفياً لخفته أو لشفافيته أو حين يتلطف في حركته وتأثيره . وفي القرآن يقول أهل الكهف ناصحين رسولهم إلى المدينة .. " وليتلطف ولا يشعرن بكم أحد " فالرسل في عالم السياسة والتجارة أدنى إلى النجاح حين يتلطفون. 
إذا كان التلطف والتسلل فن يطلب إتقانه في عوالم السياسة والتجارة والعسكرية واللصوصية وفي مجتمعات المدينة، فإن عالم الطبيعة والفيزياء والكيمياء والأحياء مليء بالخفاء: خفاء الحركة وخفاء الأشياء، ولكل منها أصوله وقوانينه التي تحكمه، وعلى العالم أن يدرس ويبحث ليكشف أسرار الكون وخفاياه، ومن هنا كان العلم قوة جبارة في نفعها وضرها. فإذا كان صاحب العلم ممن أوتوا العلم والإيمان معا تيسر له أن يضفي على كل ما حوله خيراً وصلاحاً وسلاماً، أما إذا كان من الظالمين المشركين طغى وأوقد للحرب ناراً، وعاث في الأرض فساداً ودماراً.. ولكن أمره لن يخفى على من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو اللطيف الخبير. 
مداخل السلالة ومصائرها :
جزء من السلالة التي في الطين ينتهي به الأمر لتصنع من لبنات يبنى منها جسم الإنسان وتمده كذلك بكثير من الطاقة والقوى . ولكن الأجزاء الأخرى تفيد الإنسان في أغراض أخرى إذ تمنحه المتعة والمنعة وتصلح بيئته والوسط الذي يعيش فيه. ولسنا نبالغ حين نقول إن المصير النهائي للسلالة هو الرجوع إلى مصادرها الطبيعة التي منها تكونت، أو الرجوع لتكوين سلالة طينية جديدة في مستقبل الزمان. 
هذا الذي يحدث للسلالة ومكوناتها من دوران يعني أن المصير والمبدأ دائماً واحد، وكأنها تعبر عما يعبر عنه كل شيء آخر في الكون يدور من شهادة بصدق القول الكريم: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)(طه/55). 
أو كأنها تشهد بأنه حق قول الله : (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون)(الروم/11).وأن الله (هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم)(الحديد/3).ولكن رحلة السلالة من الطين إلى حيث تكون جسم الإنسان، أو لتخدم أغراضه الأخرى وبيئته. أو لترجع إلى مصادرها الأصلية ولتكوين سلالة من جديد، ورحلة طويلة .. دعنا نسير معها خطوة خطوة. 
أهم مداخل السلالة جذور النباتات: 
لكل نبات تعود الناس أن يعتمدوا عليه لإطعام أنفسهم، وإطعام أنعامهم ودواجنهم ودوابهم جزءان رئيسيان هما : (أ) ـ جزء يمتد في الهواء فوق سطح التربة ونسميه (الجزع) أو الساق Stem، وهو يعطي فروعاً وأوراق وزهوراً وثمار. (ب) جزء يختبئ في باطن التربة، نسميه (الجذر Root) وهو يتفرع ممتداً إلى أبعاد شاسعة في جميع الاتجاهات داخل الأرض، ولهذا نسميه أحياناً(المجموع الجذري) أو الشبكة الجذرية.