البر والطاعة.. تبادل الأخذ والعطاء
المشكلة
اسمحوا لي أن أتكلم بصفة عامة قبل سرد مشكلتي الخاصة فالشباب اليوم في أمس الحاجة إلى التوجيه القويم في ظل الظروف التي تتجدد بسرعة وبصورة تعجز العقول، هناك شباب من الذين ذاقوا حلاوة القرب من الله فأخذوا يصلحون أنفسهم ويتعلمون من دينهم.
وفي هذا الوقت المبكر يصطدمون بواقع صعب يحاربهم في مجتمعهم، عملهم وحتى في أسرهم بدعوى أن واقع اليوم مختلف تماما عن عصر ولادة الإسلام وأنه يفرض بمعطياته الجديدة التأقلم معه ومسايرته، وكمثال أصبحت بعض الربا حلالا وبعضه حراما، وبعض التعامل بالرشوة يمكن أن يأخذ شكل هدية وبعض يعزى إلى ضعف الراتب.
فشباب تشبث بطريق الله يسأله الإعانة وشباب استسلم لهذا المنطق وتعامل وسط هذا الخلط الكبير بما يراه مناسبا له.
أما مشكلتي فأنا موظف بسيط أبلغ من العمر 29 سنة، بيني وبين عائلتي الطيبة اختلافات من النوع الذي ذكرت سابقا، ومن أهمها في الثلاث سنوات الأخيرة كان علي إلحاح بشراء شقة عن طريق أخذ القرض من البنك دام أكثر من سنة، فأبيت إلى أن جعل الله لي مخرجا فتيسر لي شراؤها دون الاحتياج إلى البنك.
وهناك مشكلة أخرى تتعلق بمسألة الزواج فمنذ أكثر من سنتين فسخت أربع خطوبات رغم أنها لم تكن رسمية وأعني بذلك أنه كان لقاء بين العائلتين على أساس أن تكون خطوبة بعد وقت وجيز من التعارف، والسبب في فسخ هذه الخطوبات أن أولويات والداي في اختيار الزوجة الجمال والوظيفة وأولوياتي زوج أرضى جمالها، طيبة، متدينة تحب الله ورسوله وتأخذ بيدي إلى طريقيهما.
وآخر خطوبة فسخت بدعوى عيب في فم الفتاة لا يكاد يظهر، ثم زادوا أنها غير موظفة. وقد كنت أعرف هذه العائلة؛ لأن صديقا حميما لي متزوج من هذه العائلة، وكنت مرتاحا نفسيا لهذا الزواج، وأصررت عليه كثيرا وحاولت إقناع والداي واستعنت بأفراد من العائلة غير أني استسلمت بعد مرض والدتي حيث حملني والدي مسئولية هذا الحدث.
المشكلة مستمرة رغم أني شرحت لوالداي موقفي، وأني لا أعترض على ما يريدان على أن يأخذا بعين الاعتبار ما أريده، لكن عبثا أفعل، فقد اقترحا علي موظفة جميلة فحين رأيتها ووجدتها تستعمل ملون الشفاه، مغيرة لون عينيها وذات أظافر طويلة عليها لون أحمر قلت لهما ما هذا قالا إنها صغيرة (23 سنة)، وستتغير بعد الزواج الحمد لله وأنا أحاول معهما، رن الهاتف فإذا الفتاة ترفض الزواج.
أخبركم أن لي علاقة طيبة وحميمة مع عائلتي ولست منغلقا على نفسي ولكنهما متعصبان لرأيهما. أرجو النصح فإني أخاف في لحظة ضعف أن أسيء الاختيار.
الحل
ما هي حدود البر؟!
وهل التدخل في حياة الابن الراشد الذي بلغ من العمر تسعة وعشرين عاما وعدم إعطائه الفرصة لاختيار شريكة حياته.. هل يدخل في حدود البر أم أنه تدخل غير مقبول في حياة شخص له استقلاليته وإن كان للوالدين دور فهو النصيحة والإرشاد وليس الفرض والمنع؟!
أسئلة هامة إجابتها تحوي الحل لمشكلتك... وهي تحوي أيضا الفهم الصحيح لطبيعة بر الوالدين وأنه علاقة مشتركة متبادلة بين طرفين..
ولذا قال الرسول الكريم: "أعينوا أولادكم على بركم"، وقال أيضا: "بروا آباءكم يبركم أبناءكم"، فالقضية أخذ وعطاء وليس أخذا فقط أو عطاء فقط.
ولذا فإن المشكلة تكمن في عدم فهم كثير من الآباء والأمهات لطبيعة دورهم مع أبنائهم متصورين أن لهم الحق في التدخل في حياة أبنائهم حتى لو بلغوا سن الرشد وأصبحوا مستقلين في حياتهم فإنهم يرونهم أطفالا صغارا لا بد من التدخل في حياتهم وهو أمر أصبح حتى الأطفال الصغار يرفضونه إذا كان ما يبديه به الآباء ليس مقنعا لهم... وتكتمل حلقات المشكلة إذا تصور الابن أن البر معناه الطاعة المطلقة العمياء حتى لو أفسدت حياته وعطلته عن اتخاذ قراراته الهامة في حياته...
إنها ليست دعوة للتمرد على الآباء والأمهات بل دعوة للتفاهم والحوار والسماع منهم، ولكن على اعتبار أنهم مستشارون مخلصون يضيف إليك خبرتهم وتطمئن إلى إخلاص مقاصدهم ولكنك في النهاية تضع حساباتك التي تختار بها لحياتك وهي دعوة للآباء لإدراك أن دورهم هو إبداء النصيحة وليس فرضها أو إعلان الحرب على الأبناء.
فإنهم لم يلتزموا رأينا فقد أصبحت لهم حياتهم المستقلة، وهذه سنة الحياة التي لا بد أن تجري.. ليس من البر في شيء أن ترفض الإنسانة التي رأيت أنها تناسبك، وأن تقبل إنسانة لا ترى مواصفاتها مناسبة لك.. لأنها حياتك ولأنك من سوف تعيش مع هذه الزوجة فليرى الآباء والأمهات ما يرون من شروط خاصة إذا كانت شروطك أو أسباب رفضهم لا تدخل في إطار الأساسيات الغير مختلف عليها.. فكونهم يرون زوجتك لابد أن تكون موظفة أو لهم مقاييس خاصة للجمال غير مقاييسك فهذا أمر لا يلزمك؛ لأن شروطك ليس بها شروط غير منطقية أو شرعية فهي وجهات نظر في الإطار المباح عقليا وشرعيا؛ لذا فإن من حق صاحب الاختيار فقط أن يحدد شروطه وليس من حق أحد أن يتدخل في هذا الاختيار كائنا من كان...
إن الله عز وجل لم يجبر عبدًا على عبادته بل قال: {لا إكراه في الدين...} وبالتالي فليس من حق أحد أن يجبر أحدًا على اختيار لا يريده، سواء كان هذا الإجبار معنويا أو ماديا.. خاصة أن الإجبار المعنوي بطريقة مرض الأم واتهام الأب لك بأنك سبب مرضها يكون أقوى في الضغط من أي نقاش حاد أو غيره...
واعلم أنه لا أحد يتسبب في المرض لأحد... ولا أحد يمرض من أجل أحد... فلتضع شروطك فيمن ترضاها شريكة لحياتك، ولتخبر أهلك بها في منتهى الهدوء، ولتوضح لهم فهمك لحدود البر ولحدود تدخلهم في حياتك أيضا بمنتهى الأدب، وأعلمهم أن مسألة اختيارك لشريكة حياتك أنت مستعد لسماع نصيحتهم في حدد ما وصفته لك من شروط وليس في حدود شروط أخرى يفرضونها؛ لأن هذا هو المنطقي والطبيعي.