3 - ثقة السلف بالله : أريد أن أروي في هذا الفصل قصة إحدى النساء الصالحات ألا وهي زوجة أبي الأنبياء ـ إبراهيم عليه السلام ـ السيدة هاجر ـ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [ أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ...]رواه البخاري وأحمد.
من هذا نرى مدى إيمان وثقة وتوكل هذه المرأة على الله، وأن الله لن يضيعها، فلم يضيعها الله كما وثقت، وكفى بهذه القصة دليلاً على هذه الثقة، يقول تعالى على لسان نبينا إبراهيم عليه السلام:}رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[37]{ “سورة إبراهيم” .
ثانيًا: الثقة بالرسول صلى الله عليه وسلم : على الداعية أن يثق برسوله الأمين .. موقنًا بأن دعوته هي دعوة الحق التي جاء بها إلى البشرية؛ ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الرحمن، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة .. على الداعية أن يثق بأسوته، ويجعله نبراسًا يهتدي به في دياجير الليالي، يقول فيه أحد المفكرين الإسلاميين المبرزين: [إذا كان هناك إنسان استوعب جوانب دعوته كل الاستيعاب ووثق بها وبمصيرها كل الثقة، وعرف مضمونها كل المعرفة، وعرف بداياتها ونهاياتها، وأولها وآخرها، ومقدمتها ونتائجها، ولم يتزحزح عن جزء منها، بل الخطوة الثانية تأتي مكملة للخطوة الأولى وممهدة للخطوة التالية، فذلك هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول عليه السلام كان واضحًا تمامًا لديه أن منطلق دعوته هو أن الحكم الحقيقي لا يجوز أن يكون لغير الله، وأن خضوع البشر لغير سلطان الله وحاكميته شرك، وأن التغيير السياسي الأساسي الذي ينبغي أن يتم في العالم هو نقل البشر من خضوع بعضهم لحاكمية بعض، إلى خضوع الكل لله الواحد القهار، وأن الأمة التي تحمل هذه القضية بكل متطلباتها، هي التي سيكون بيدها مفاتيح الحياة البشرية، ولها قياداتها، ومن هذه البداية وانسجامًا معها يقوم كل شيء في حياة البشرية ثانيًا، وحياة الأمة التي تحمله أولاً، ولننظر وضوح هذه الجوانب عنده صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر ونهايته]”الرسول ج1، سعيد حوى”.
مواقف الثقة بالرسول صلى الله عليه وسلم :
[.. وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ـ في غار حراء ـ تطمينًا لقلبه، فَقَالَ : [ مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا]رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد. مثل من أمثلة الصدق في الثقة بالله، والاطمئنان إلى نصره والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته بالنبوة، فهو في أشد المآزق حرجًا ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان؛ لأن الله بعثه هدى ورحمة للناس، ولن يتخلى عنه في تلك الساعات .. وذلك هو قمة الثقة التي كان يتمتع بها رسولنا الأسوة فهل ترى مثل هذا الاطمئنان والثقة بالله يصدر عن مدعي النبوة؟]”السيرة دروس وعبر، لمصطفى السباعي”
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: [مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ خَبَّابٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ فَقَالُوا:يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَفَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلاءِ؟ أَهَؤُلاءِ الَذِينَ مَنَّ الله عَلَيْهِمْ؟ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ فَلَعَلَكَ إِنْ طَرَدتَهُمْ اتَبَعْنَاكَ، قال: فَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ: } وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[51]وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ[52] {“سورة الأنعام”]رواه أحمد- مختصرا- والطبري، وأصله في مسلم.
في يوم العقبة حيث تم اللقاء بين الرسول صلى الله عليه وسلم والوفد الثاني للأنصار، كان من أمرهم كما قال العباس بن عبادة: [يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم! قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه؟ فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف].
وهذه مبايعة أخرى من صحابي امتلأ قلبه ثقة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ حيث قَالَ له: [نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ]رواه أحمد .
وهذه مبايعة أخرى:' فَقُلْنَا- أي الْأَنْصَار- يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعُكَ قَالَ: [ تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنَّةُ] فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنَّ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جَبِينَةً فَبَيِّنُوا ذَلِكَ فَهُوَ عُذْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَالُوا أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ فَوَاللَّهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا وَلَا نَسْلُبُهَا أَبَدًا قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ ] رواه أحمد، وقال الحافظ ابن حجر:بإسناد حسن.
[من هذه النصوص يشعر الإنسان بمقدار الثقة التي كانت تملأ قلوب هذا الرعيل الأول مع معرفتهم بما سيترتب على هذه البيعة من آثار مخيفة] “الرسول ج1، سعيد حوى”.
ثمار الثقة بالله:
يقول المولى القدير:} وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ...[6]{ “سورة العنكبوت”.إن ثمار الثقة بالله تعالى كثيرة لا تحصى لأن الله يجازي المحسن إحسانًا، ومن هذه الثمار:
الثمار الدنيوية :
الرضا بقضاء الله تعالى وقدره: كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ]رواه مسلم والدارمي وأحمد. فهو يعيش قرير العين، راضيًا بقضاء الله العادل؛ لأن الله يحفظه ويعينه.
اطمئنان النفس وسكينتها بتعرفها على خالقها وهدايته لها: فهو مطمئن النفس؛ لأنه يعرف كيف جاء، وإلى أين يصير؟ وما هو دوره في هذه الحياة: فهو يعيش لهدف:} وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56]{ “سورة الذاريات”. وهو يقوم بهذا الدور وهو سيعود إلى ربه، فيجازيه على ما قدم :} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [185]{ “سورة آل عمران” }ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[8]{ “سورة الجمعة”
عدم الندم على ما فات من الدنيا: فهو يعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وأنه مهما قدم من عمل صالح؛ فهو سيجده في ميزانه، ولا يظلم ربك أحدًا:} فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ[7]{ “سورة الزلزلة” وهناك ثمار أخرى كثيرة.
أما الثمار الأخروية : وهي الثمار الحقيقية، ألا وهي جنات النعيم، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. واسمع إلى قول الله تعالى يبين جزاء من وثق بوعده ونصره:} وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[170]{ “سورة آل عمران”.
الخاتمة:
أخي المسلم نذكرك في الختام أنه علينا أن نحسن الظن بالله تعالى، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : [ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ]رواه أحمد والدارمي.فهذه الثقة بالله تعالى تذهب اليأس والقنوط، وتثبت أقدامنا على الطريق الصحيح، وتدفعنا نحو الغاية .
تمت
من سلسلة رسائل فتيان الدعوة :'الثقة بالله تعالى وأثرها في العمل الإسلامي' بإشراف: الشيخ/ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين.. الشيخ/ أحمد بن عبد العزيز القطان
هذي مشاركتي في الموضوع و تشكري اختي بنوتة مسقط