غضب عاقل، وبرنامج مختلف
المشكلة
أبعث إليكم الآن بحالة الحيرة الشديدة التي تنتابني جراء ردود أفعال المسلمين حيال "الإساءات" التي تعرضت للرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم؛ فقد تباينت ردود الفعل ما بين العنف والتأسي البالغ، وهو السمة الغالبة على معظم الشعوب الإسلامية، وما بين اعتبار البعض الآخر -وهم قلة- للأمر بأنه أمر عادي في أوربا التي حاربت سلطان الدين والكنيسة حتى انتهت إلى الشكل العلماني الذي يقلل من أهمية الدين في حياة البشر، ومن ثم كان يتعين على الشعوب العربية والإسلامية ألا تلتفت لهذه الصور المنشورة في الدانمارك، لا سيما أن الهبة الشعبية ضدها تمت بعد عملية النشر بقرابة 4 أشهر حيث كان النشر في سبتمبر.
ولا تستغرب يا سيدي عندما أقول لك: إن الرسومات الكاريكاتيرية الاثني عشر نشرت في صحيفة الفجر المصرية بالنص ولم يلتفت إليها أحد، وهذا ما يسبب لي الحيرة. ولم أعد أعرف هل يصح الغضب على نشر هذه الرسومات أم أن الأمر أخذ أكبر من حجمه لأن الرسول الكريم أكبر من أن ينال منه النكرات في اليمين المتطرف الغربي؟.
وأسألكم في النهاية لو أن الرسول الكريم موجود بيننا الآن هل تعتقدون أن أحوالنا كانت سترضيه؟.
ومن هنا أقول لكم إننا أسأنا للنبي صلى الله عليه وسلم بتخاذلنا قبل الدانماركيين، والثورة والغضبة كان مفترضا أن تكون على الذات وليس الآخر الذي لو رآنا أقوياء لما تجرأ على إهانة نبينا الكريم.
أرجو تعليقكم والإجابة على تساؤلاتي كما عودتمونا دائما. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحل
الأخ الكريم،
وصلتني رسالتك في قمة الأسى، وحصارالأحزان!!
فمن ناحية تؤلمني مهزلة غرق أكثر من ألف مصري تحالفت عليهم أسباب الفساد والإهمال، وغياب الضمير والمحاسبة، فكانوا وليمة لأسماك القرش، وصعدت أرواحهم إلى جبار السموات والأرض، فاللهم اجعل دماءهم لعنة على قاتليهم، إنك تمهل ولا تهمل.
واليوم ذكرى عاشوراء وفيها قتل "الحسين" بوحشية في أتون فتنة عمياء كسب فيها صوت الغضب والطغيان في سياق من غوغائية مبكرة في تاريخ الإسلام، فهل من مدكر؟!.
ومن ناحية أخرى رأيت ما يجري في مسألة الرسوم الكاريكاتيرية، وكنت أحضر مؤتمرا في عاصمة الدانمرك عقب نشرها، وتابعت المسألة بقدر ما اتسع الوقت، وتوافرت المعلومات، ثم انفجرت ردود الأفعال بعد الحدث بشهور!!.
ثم إنني أتابع مثلك ما يجرى حاليا فما يزيدني إلا غضبا، أستجيب لنصح شيخنا يوسف القرضاوي، فأحاوله غضبا عاقلا، وأستجيب لرسالتك بمقترحات وملاحظات لعلها تكون نواة لبرنامج عمل مختلف.
ولو أنك تتابع صفحتنا هذه منذ بدايتها فقد تعرضنا مرارا لحوار الأديان والثقافات وللعلاقة بين المسلمين والغرب ثقافة وحضارة ومجتمعات، وطرحنا أفكارا ولاحظنا أمورا في حينها، ولكن يبدو أن كلامنا ذهب أدراج الرياح فلم يلفت نظر أحد، وأنا هنا أكرر وأزيد، لعل وعسى!! تعالمعي نحاول الفهم والتدبر بهدوء وتعمق نحتاجهما الآن ودائما:
1- نظرة واقعية لأوضاع الجاليات الإسلامية في الغرب ستكشف لأي فاحص منصف أنها كتل منعزلة كسولة وقليلة الفاعلية غالبا في تمثيل دين الإسلام، أو الدعاية الإيجابية له، ذلك أن الظروف الاجتماعية والتعليمية والعقلية التي جاءوا منها لم تساهم في تكوينهم على نحو ينفعهم أو ينفع بهم، وقد رأيت بنفسي، وما زلت أرى تخبطا وقلة وعي بالدنيا والدين تزيدها ضغوط الغربة، وبعض موجات التعصب والكراهية ضد الإسلام في أوربا والغرب عموما، وأوضاع المهاجرين من بلدان العرب والمسلمين سيئة في قطاع كبير منها، وما حدث من اضطرابات في شوارع فرنسا دليل قريب على ما أتحدث عنه، وجهود تحسين أوضاع الأقليات الإسلامية ما زالت دون المستوى، وكذلك جهود مواجهة المظالم والتمييز الذي يتعرض له بعضهم بسبب لونه أو دينه أو ملابسه أو سحنته أو حجاب امرأة... إلخ.
وبين المسلمين في الغرب وأن يصبحوا مواطنين حقا مسار طويل يحتاج إلى جهد وجهاد لم يبدأه بعد إلا أقلية واعية أدعو الله أن يبارك جهودها، ولكنني ألفت النظر أيضا إلى أهمية دعم هذه الجهود غير التقليدية، بمعنى أن أغلبية الأموال التي تذهب للمسلمين في الغرب تنفق في شراء مقابر، وبناء مساجد، واستئجار مذابح، وأنشطة أخرى تتوجه لخدمات الحياة اليومية بأكثر مما تتوجه إلى تنوير المسلمين بالأوضاع الثقافية والاجتماعية والقانونية للبلدان التي يعيشون فيها، وبالتالي كيف يمكن أن يتفاعلوا بشكل أفضل فهما وعملا، وكلامي هذا وأكثر يعرفه كل من يعيش في الغرب، وصار الأمر يحتاج إلى وقفة مصارحة وبحث عن طرق أخرى للتفعيل والإصلاح والتطوير، فهل هناك أمل في هذا؟!.
2- خريطة وأهداف هجرة العرب والمسلمين أصلا تحتاج إلى مراجعة كما وكيفا، فما زال الإصرار والاندفاع تجاه الغرب الأوربي والأمريكي هو سيد الموقف رغم وجود مناطق أخرى من العالم هي أكثر ترحيبا وأقل عنصرية وقد رأيت بنفسي في مثال البرازيل، وفي آسيا، وأعتقد أن إفريقيا السوداء مثل ذلك من حيث تقبل المزاج الشرقي لكننا ما زلنا نصر على الهجرة إلى حيث الرفاهية الأوربية دون أن نفهم عيوب واختلافات هذه المجتمعات، فنبدو ساذجين ومضحكين حين نطالب بحقوق أقلية لا يعرف الكثيرون هناك عن ثقافتها ولا قيمها ولا مزاجها شيئا!!.
ويجول بخاطري بعض ما درسته من محتوى مواد تتعلق بعلم نفس الهجرة والمهاجرين والمشكلات التي يواجهونها وحدهم في وجود تقصير رهيب في التبادل بينهم وبين بلدان مهجرهم للتعارف والمعلومات حول العادات والتقاليد والقوانين والأعراف فتصبح مسألة الإقامة، والمساواة في المواطنة، والتفاعل الثقافي والاجتماعي والإنساني نتائج وثمرات لجهود وعمليات وعمل مؤسسات تعليم وتثقيف وتدريب، وتلك أمور غائبة حالية لا تنهض بها بلدان المهجر غالبا، ولا بلدان المنشأ، ولا أغلب جهود الجاليات الإسلامية!!.
ولقد رأيت الأموال الشحيحة التي تذهب كمساعدات للعمل والدعوة الإسلامية في البرازيل مثلا مقابل أضعاف أضعاف ذلك في بلدان الصقيع فماذا تسمي ذلك الخلل والتخبط!! خريطة الهجرة، وخدمات ما بعد الهجرة إذن –كما وكيفا- تحتاج إلى تقييم ونقد وإعادة نظر ومراجعة ثم تطوير جذري.
3- فضلا عن جهود قليلة تبدو واعدة فإن محاولات فهم عميق للثقافة والحياة الغربية المعاصرة من منظور إسلامي نقدي حديث هي شحيحة بل تكاد تكون منعدمة، رغم أهمية وخطورة غياب هذه المحاولات؛ إذ كيف يمكننا التعامل مع بشر دون أن نعرف نموذج إدراكهم لنا، وللعالم المعاصر: مشكلاته وإمكاناته؟!.
كيف سنتفق أو نختلف معهم حول قيمة أو معيار أو حكم أو موقف إذا لم نتفق وهم معنا وقتا كافيا في التعرف على الخريطة الإدراكية والعملية الكامنة وراء السلوك والمشاعر والأفكار عندنا وفي الغرب؟! فما هي العلمانية الغربية: تجربتها التاريخية، وتجلياتها الواقعية؟! وما هي التحيزات تجاه الأديان؟! وما هي الأسس لبناء ذهنية ومشاعر الغربيين تجاه مسألة الدين إجمالا، وتجاه الإسلام تحديدا؟ وما هي أنظمة الفهم والسلوك ومصادر تشكيله؟.
هذه الأسئلة مطروحة طبعا، ولكن في دوائر ضيقة جدا محدودة ومعزولة، وعموم المسلمين هنا وهناك قد يتفقون أو يصرخون أو يختلفون مع نتائج هذه الرؤى والمفاهيم والقيم والتطورات أو غيرها دون أي إلمام معقول بتفاصيل ما وراءها، والغربيون -في عمومهم- يفعلون نفس الشيء بجهل فاضح وفادح عن تاريخ الإسلام وحضارته، وواقع المسلمين بتركيبه وتعقيداته، وبدلا من التفكر والسير في الأرض لنتعلم ونتواصل مع خلق الله كما أراد فإننا غالبا غرقى في التسطح والتبسيط، والمواقف والمفاهيم البدائية الساذجة أحيانا، والمدمرة أحيانا أخرى، ولم يعد هذا يصلح للاستمرار!!.
4- ينقلني هذا تلقائيا إلى تساؤلات مزعجة، ولكن لا بد منها، وقد أمرنا أن نقول الحق ولو كان مرا: أين هي نتائج جهود المؤسسات التي تقول إن نشاطها يركز على الحوار بين الأديان والثقافات؟!.
وأين هي نتائج عمل المؤسسات التي تجمع أموال المسلمين لتنفقها على ما تقول إنه نشاط للدعوة إلى الإسلام خارج أرضه؟! أين استخدامنا للسياحة وللإنترنت في التواصل بين البشر والتعارف الذي أمرنا الله سبحانه به؟!.
وأين هي جهود الجامعات والمراكز البحثية والأكاديمية المختصة في العلاقات بيننا وبين الغرب؟!.
أنا أقول لك:
هذه وتلك الدوائر هي نخبوية معزولة عن التيار العام هنا وهناك، وذلك في أحسن الأحوال، بينما بعضها شكلي أو مجرد صور ولافتات وأموال تنتقل من بنك إلى بنك دون حصاد يذكر، فهل يحاسب هؤلاء وأولئك أحد؟!.
وهل يجرؤ أحد على النظر في المرآة، وتوجيه اللوم إلى نفسه، وتلافي جوانب تقصيره؟!.
هل يمكن أن نحاسب أنفسنا بصدق -ولو لمرة واحدة- وهل يمكن أن نحاسب المؤسسات المناظرة في الغرب لنقول لهم أين أنتم؟ وأين جهودكم؟ وهل يمكن أن نقول لأهلنا من المسلمين في الغرب: أفيقوا واخرجوا من عزلتكم، وكفوا عن لعب دور المضطهد، واحتراف صورة الضحية، ودافعوا عن حقوقكم كمواطنين بكل الطرق القانونية والسياسية والمدنية؟!.
أخي الكريم،
كم صرخت على سطور هذه الصفحة، وكتبت أكثر من مرة عن أساليب ووسائل، وخطط وبرامج، وملاحظات وتصويبات، ولكن قومي لا يسمعون أو بعضهم يسمع ولا يتحرك أو تضيع الأفكار والممارسات النافعة وسط فيض العشوائية والتقصير والكسل والزهد في تحقيق مواقع متقدمة للإسلام في عالم اليوم، رغم أنه أكثر الأديان انتشارا بفضل الله، وليس بجهود المسلمين!!.
5- أطلت عليك، ولكنني أرى ما حدث مجرد فرع بسيط لأشجار لها جذور وسيقان وأوراق كثيرة لا يتكلم عنها أحد إلا قليلا، وليس من منهجي أن أكتب عن النتائج دون ربطها بسياقها وأسبابها والنظم التي أفرزتها.
تلك كانت بعض الخلفيات وراء الأحداث الجارية التي هي تفاعلات يتداخل فيها بيزنس كراهية الإسلام وجهود عداوته والعنصرية ضده مع الجهل المتبادل بين المسلمين والعوالم التي يعيشون فيها مع مزايدة الأنظمة الحاكمة عندنا لتحقيق دعاية سياسية لنفسها، مع بحث أغلبنا عن تسجيل بطولات سهلة أو زائفة في معارك آمنة، مع مشاعر بعضها صادق تجاه أفضل الخلق أجمعين، وبعضها ضل طريقه حين صادرته كلاب الحراسة على الأقوال والأفعال أن ينطلق معبرا عن أحوالنا المتردية على أغلب أرض الإسلام!! خليط من إخفاقات وأحاسيس بالرعب خوفا من الإسلام، أو خوفا عليه، والقليل من "العقل" الغائب لدينا يا فضيلة الشيخ فلا تعليم يربينا على التفكير، ولا إعلام يخاطبه، ولا تربية في بيوتنا، ولا حرية في أقطارنا، ولا رشد على منابرنا أو في مجالسنا إلا ما رحم الله، فمن أين سيأتي العقل؟! يهبط من السماء أم يخرج من الماء؟! وعلى عكس ذلك فإن لدى الغربيين، ولدينا ألف سبب وسبب للغضب والمسافهة والتهيج ولهما عشرات الأبواق هنا وهناك، وللغباء وللكيد حصونه ورجاله وأمواله، وليس للعقل سوى خالقه يدعوه: يا رب إني مغلوب فانتصر!!.
جميل أن يبادر البعض للتعريف بالحبيب المصطفى وسيرته وفضله بأبي هو وأمي، وأرجو أن يتضمن هذا الجهد تعريفا للمسلمين برسول الإسلام لأن أغلبهم لا يعرف عن حقيقة شخصيته ورسالته سوى قشور!! وجميلأن نغضب ونعلن استعدادنا لبذل الروح في سبيل ما نعتقد أنه حق وعظمة وجلال حضرة مولانا الرسول الكريم، في عالم يبدو بلا روح ولا مقدسات!!! لكن هذه جهود تندرج تحت باب إبراء الذمة، وأصارحك أنني منشغل بأشياء أخرى لعلها تندرج بما يمكن أن يكون شهادة على العالمين، وإضافة إلى ما سلف أحدد هنا نقاطا للمراجعة العاجلة، والتحرك الدائم:
أ- فكرة المقاطعة وجهودها ستظل شكلا طارئا، وموضة تنتشر ثم تنحسر ما لم تتحول إلى إستراتيجية بناء تنمية إسلامية تخوض غمار معركة الإنتاج بدلا من ترف الاستهلاك الذي نغرق فيها فقراء وأغنياء!!.
ب- تعميم النظرة والموقف تجاه ما نسميه "الغرب" أو "الآخر" هو تشويه فادح وظلم بشع نمارسه كما يمارس علينا خلطا بين الإسلام والإرهاب... إلخ، فكيف نفهم الوضع بأكمله؟ وكيف نتعامل معه؟ عيب وجهالة واندفاع أحمق أن يخطئ جاهل أو كاره سفيه؛ فنحرق نحن بدورنا سفارات بلاده، وأعلامها، ونتناقل رسائل إلكترونية تقول: قرر الشعب الدانمركي الاجتماع لحرق المصحف!! ما هذاالخبل؟! أي شعب؟! وكيف قرر؟ وما هذه الروح الغوغائية؟ ونحن أرباب دين يحاسب ربه الناس على الكلمة، ومثاقيل الذر؟!.
جـ- أغلب سفاراتنا بالخارج هي كارثة أخرى في غياب دورها وانعدام فاعليتها، ولا أعرف من يحاسب من؟! ووجودنا في الخارج كبير عددا، ولكنه مبعثر وحصيلته تقترب من الصفر قيمة وتأثيرا، وأقول هذا لمن يقارنون بين الجاليات الإسلامية، والأقليات اليهودية، وتلك قصة أخرى.
هذه يا أخي أجندة مراجعة كاملة أضعها تحت بصر وتصرف من يريد أن يتجاوز اللحظة إلى واقع ستتكرر فيه هذه الحوادث وسنخسر فيه أكثر ولم ننتبه ونصحح، فهل نفعل؟! والحوار متصل.