ما يؤمــر به من أراد الحجّ
السفرَ إلى حجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ رحلةٌ روحيةٌ ، رحلةٌ لها أهدافُها الخاصّةُ والعامّةُ ، يتجشّمُ الحاجُّ فيها الصعابَ ، ويرتكبُ فيها الأخطارَ ، ويقطعُ الفيافيَ والقِفارَ ، وينفقُ فيها الأموالَ ، ويفارقُ الأهلَ والخلانَ ؛ لينالَ بذلك ثوابَ اللهِ ومغفرتَه ، ورضاه وجنّتَه ، لذلك كانَ الحاجُّ مأموراً بآدابٍ ينبغي له أن يُسارعَ إليها ، وأن يتحلّى بها لينالَ بذلك الأجرَ العظيمَ ، والثوابَ الجزيلَ الذي ترتّبَ على أداءِ هذا النسُكِ الشريفِ ، "من حجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجعَ من ذنوبِه كيومِ ولدته أمُّه" " العمرةُ إلى العمرةِ كفّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنّةَ" ، فممّا يُؤمرُ به مَن أرادَ الحجَّ أن يتوبَ إلى اللهِ سبحانه وتعالى من جميعِ المعاصي توبةً نصوحاً ؛ لأنَّ المعصيةَ تكونُ سبباً لعدمِ قَبولِ الأعمالِ ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ( المائدة/27) ، ومما يُؤمرُ به مَن أرادَ الحجَّ أن يتخلّصَ من جميعِ التبِعاتِ ، عليه أن يقضيَ ديونَه ، ويكفِّرَ أيمانَه ، ويوفيَ بنذرِه ، وأن يبرَّ مَن فرضَ اللهُ عليه برَّه ؛ بأن يُحسِنَ إلى والديه ، ويصِلَ أرحامَه ، ويؤديَ حقوقَ جيرانِه ، ويصِلَ الناسَ بالمعروفِ ، بل يؤمرُ بأن يصِلَ مَن قطعَه ، ويعطيَ مَن حرمَه ، ويعفوَ عمّن ظلمَه ، ويُحسِنَ إلى مَن أساءَ إليه ؛ تقرّباً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ، وتزوّداً للتقوى ( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( (البقرة/197) ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ( (الأعراف/199) ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( (فصلت/34ـ35) .
ومما يُؤمرُ به مَن أرادَ الحجَّ أن يوسّعَ من الزادِ ليتسعَ خلُقُه ، وتحسنَ معاملتُه ، فإنَّ ذلك مما يجعلُه يُحسِنُ إلى المستضعفين ، ويُواسي المحرومين ، وجديرٌ بمن قصدَ مرضاةَ اللهِ سبحانه وتعالى أن يُسارِعَ إلى ذلك ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ( آل عمران/92) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (
( البقرة/274) ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ( البقرة/245) (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ( ( الحديد/11) ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ( الحديد/18) ، " الصدقةُ تُطفئُ غضبَ الربِّ ، وتدفعُ ميتةَ السوءِ ، وتقي مصارعَ السوءِ " ، " مَن نفّسَ عن مؤمنٍ كربةً من كُرَبِ الدنيا نفّسَ اللهُ عنه كُرْبةً من كُرَبِ يومِ القيامة ، ومن يسّرَ على مُعْسِرٍ يسّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ ، ومن سترَ مسلماً سترَه اللهُ في الدنيا والآخرةِ ، واللهُ في عونِ العبدِ ما دامَ العبدُ في عونِ أخيه " .
ومما يؤمرُ به من أرادَ الحجَّ أن يتخيّرَ نفقتَه من كسبٍ حلالٍ ، ومن خيرِ مالِه وأطيبِه ، فاللهُ سبحانه وتعالى طيّبٌ لا يقبلُ إلا طيّباً ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ( المائدة/27) ، عن أبي هريرةَ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالَ : " إنَّ اللهَ تعالى طيّبٌ لا يقبلُ إلا طيّباً، وإنَّ اللهَ أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين ، فقالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا( (المؤمنون/51) ، وقالَ سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ( (البقرة/172) ، ثمّ ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يديه إلى السماءِ: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ ، ومشربُه حرامٌ ، وملبسُه حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنّى يُستجابُ لذلك؟!" وقد وردَ : " إذا خرجَ الرجلُ حاجّاً بنفقةٍ طيبةٍ ، ووضعَ رجلَه في الغرْزِ ، وقالَ : لبّيكَ ؛ ناداه منادٍ من السماءِ : لبّيكَ وسعديكَ ، زادُك حلالٌ ، وراحلتُك حلالٌ ، وحجُّك مبرورٌ غيرُ مأزورٍ ، وإذا خرجَ بالنفقةِ الخبيثةِ ، فوضعَ رجلَه في الغرْزِ ، فقالَ : لبّيكَ اللهمَّ لبّيكَ ؛ ناداه منادٍ من السماءِ : لا لبّيكَ ولا سعديكَ ، زادُك حرامٌ ، ونفقتُك حرامٌ ، وحجُّك مأزورٌ غيرُ مبرورٍ " ، ومما يؤمرُ به مَن أرادَ الحجَّ أن يختارَ الرفيقَ الصالحَ الذي يعينُه على التقوى ، ويبصِّرُه في دينِه ، ويعرِّفُه بما يأتيه وما يذرُه ، فالرفيقُ الصالحُ يعينُك على طاعةِ اللهِ ، يأمرُك بالخيرِ ، وينهاك عن الشرِّ ، ويسمِعُك العلمَ النافعَ والقولَ الصادقَ والحكمةَ البالغةَ ، يعرِّفُك بعيوبِ نفسِك ، ويشغِلُك عمّا لا يعنيك ، يُجهِدُ نفسَه في تعليمِك وتفهيمِك ، وإصلاحِك وتقويمِك ، إذا غفلتَ ذكَّرَك ، وإذا مللتَ أو أهملتَ بشَّرَك وأنذرَك ، يحمي عِرضَك في غيبتِك وفي حضرَتِك ، وفوائدُ الرفيقِ الصالحِ فوائدُ كثيرةٌ ، وحسبُ المرءِ أن يُعرَفَ بقرينِه ، وأن يكونَ على دينِ خليلِه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ( ( التوبة/119) " مثَلُ الجليسِ الصالحِ والجليسِ السوءِ كحاملِ المسكِ ونافخِ الكيرِ ، فحاملُ المسكِ إمّا أن يحذيَك ، وإمّا أن تبتاعَ منه ، وإمّا أن تجدَ منه ريحاً طيّبةً، ونافخُ الكيرِ إمّا أن يحرِقَ ثيابَك ، وإمّا أن تجدَ منه ريحاً منتنةً" " المرءُ على دينِ خليلِه، فلينظرْ أحدُكم مَن يخالِلُ" " الجارُ قبل الدارِ ، والرفيقُ قبل الطريقِ " .
إن مما يؤمرُ به من أرادَ حجَّ بيتِ اللهِ الحرامِ : أن يتعلّمَ مناسكَ الحجِّ وحدودَه ، وواجباتِه ومسنوناتِه ، ومحظوراتِه ومكروهاتِه ، حتى يكونَ على بيّنةٍ من أمرِه ، وعلى بصيرةٍ في كلِّ ما يأتيه وما يذرُه ، "طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ" ، " عملٌ قليلٌ في علمٍ خيرٌ من عملٍ كثيرٍ في جهلٍ " ، و " مَن أرادَ اللهُ به خيراً فقّهَه في الدِّينِ ، وألهمَه رُشدَه " ، "مَن سلكَ طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهّلَ اللهُ له طريقاً إلى الجنّةِ" ، وقد أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى بإتمامِ الحجِّ والعمرةِ في قولِه عزَّ من قائلٍ: ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ( (البقرة/196)، والمرادُ بإتمامِهما: إكمالُ مناسكِهما وحدودِهما، وفرائضِهما وسننِهما، ومن أينَ يمكنُ للإنسانِ إكمالُ هذه الأشياءِ إلا بعد معرفتِها وإتقانِها ؟! وقد حكى اللهُ سبحانه وتعالى دعـاءَ إبراهيـمَ وإسماعيلَ ـ عليهما السلامُ ـ الذي سألا اللهَ فيه أن يريَهما مناسكَهما في قولِه عزَّ من قائلٍ : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( (البقرة/127ـ128) ، وعندما حجَّ الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجّةَ الوداعِ كان يعلِّمُ أصحابَه مناسكَ الحجِّ بالقولِ والفعلِ ، ويقولُ : " خذوا عنّي مناسكَكم " ، وقد جاءَ عنه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ : " العمرةُ إلى العمرةِ كفّارةٌ لما بينهما ، والحجُّ المبرورُ ليسَ له جزاءٌ إلا الجنّةَ " ، والمرادُ بالحجِّ المبرورِ : هو الذي لم يُقارِفِ الحاجُّ فيه إثماً ، ولم يرتكبْ فيه معصيةً ، وأن يتخيّرَ نفقتَه من كسبٍ حلالٍ ، ومن خيرِ مالِه وأطيبِه ، وأن يقصدَ بذلك وجهَ اللهِ عزَّ وجلَّ ، لا يريدُ رياءً ولا سمعةً ، وأن يأتيَ بالأعمالِ التي بيّنَها رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن أين يمكنُ للإنسانِ مراعاةَ هذه الأشياءِ ؟! إلا إذا كانَ موصولاً بنورِ اللهِ ، متفقِّهاً في دينِه حتى يعرفَ أين يضعُ قدمَه ، وكيفَ يصرِّفُ نفسَه ويسيّرُ أمرَه ، ومن المؤسفِ والمحزنِ أنَّ كثيراً من الناسِ يذهبون لأداءِ حجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ ، وهم يجهلون مناسكَ الحجِّ ، لا يعرفون متى تُؤدَّى هذه الفريضةُ ، ولا يعرفون المناسكَ التي يؤدّونها ، ولا يفرِّقون بين النافعِ والضارِّ ، ولا يميِّزون بين الحقِّ والباطلِ ، وفي هذا من الخطورةِ ما لا يخفى ، فقد يتعرّضُ أحدُهم لما يُوجِبُ عليه الهديَ ، وقد يتعرَّضُ أحدُهم لفسادِ حجِّه من حيثُ لا يشعرُ ، فعلى المسلمِ أن يتفقّهَ في دينِه حتى يعبدَ اللهَ على بصيرةٍ ، ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( ( النحل/43) ، " هلّا سألوا إذا لم يعلموا ؛ فإنَّ شفاءَ العيِّ السؤالُ " ، " تعلّموا العلمَ ؛ فإنَّ تعلّمَه قُرْبةٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ، وتعليمَه لمن لا يعلمُه صدقةٌ ، وإنَّ العلمَ لينزِلُ بصاحبِه في موضعِ الشرفِ والرِّفعةِ ، والعلمُ زينٌ لأهلِه في الدنيا والآخرةِ " ، "مَن تعلّمَ العلمَ للهِ عزَّ وجلَّ ، وعملَ به ؛ حشرَه اللهُ يومَ القيامةِ آمناً ، ويُرزَقُ الورودَ على الحوضِ" .
|