باب الحيض والنفاس
معنى الحيض وحكمته : الحيض لغة : سيلان الشيء وجريانه .
وفي الشرع : دم يحدث للأنتى بمقتضى الطبيعة بدون سبب في أوقات معلومة .
فهو طبيعي ليس له سبب من مرض أو جرح أو سقوط أو ولادة وبما أنه دم طبيعي فإنه يختلف بحسب حال الأنثى وبيئتها وجوها ، ولذلك يختلف فيه النساء اختلافا متباينا ظاهرا .
والحكمة فيه : أنه لما كان الجنين في بطن أمه لا يمكن أن يتغذى بما يتغذى به من كان خارج البطن ولا يمكن لأرحم الخلق به أن يوصل إليه شيئا من الغذاء حينئذ جعل الله تعالى في الأنتى إفرازات دموية يتغذى بها الجنين في بطن أمه بدون حاجة إلى أكل وهضم تنفذ إلى جسمه عن طريق السرة حيث يتحلل الدم عروقه فيتغذى به فتبارك الله أحسن الخالقين ، فهذه هي الحكمة في هذا الحيض ولذلك إذا حملت المرأة انقطع الحيض عنها فلا تحيض إلا نادرا وكذلك المراضع يقل من تحيض منهن ، لا سيما في أول زمن الإرضاع .
زمن الحيض ومدته
الكلام في هذا الفصل في مقامين :
المقام الأول – في السن الذي يأتي فيه الحيض .
المقام الثاني – في مدة الحيض .
المقام الأول – فالسن الذي يغلب فيه الحيض : هو ما بين أثنتي عشرة سنة إلى خمسين سنة ، وربما حاضت الأنثى قبل ذلك أو بعده بحسب حالها وبيئتها وجوها .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله : هل للسن الذي يأتي فيه الحيض حد معين بحيث لا تحيض الأنثى قبله ولا بعده ، وأن ما يأتيها قبله أو بعده فهو دم فساد لا حيض ؟ اختلف العلماء في ذلك .
قال الدارمي بعد أن ذكر الاختلافات : كل هذا عندي خطأ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود فأي قدر وجد في أي حال وسن وجب جعله حيضا – والله أعلم .
وهذا الذي قاله الدارمي هو الصواب ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فمتى رأت الأنثى فهي حائض ، وإن كانت دون تسع سنين أو فوق خمسين ، وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله ورسوله على وجود الذي ولم يحدد الله ورسوله لذلك سنا معينا ، فوجب الرجوع فيه على الوجود الذي علقت الأحكام عليه وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة ، ولا دليل في ذلك .
المقام الثاني : وهو مدة الحيض أي مقدار رمنه .
فقد اختلف فيه العلماء اختلافا كثيرا على نحو ستة أقوال أو سبعة . قال ابن المنذر : وقالت طائفة : ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام .
قلت : وهذا القول كقول الدارمي السابق ، وهو اختيار شيخ الإسلام أبن تيمية وهو الصواب لأنه يدل عليه الكتاب السنة والاعتبار .
فالدليل الأول – قوله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ) فجعل الله غاية المنع هي الطهر ، ولم يجعل الغاية مضى يوم وليلة ولا ثلاثة أيام ولا خمسة عشر يوما ، فدل هذا على أن علة الحكم هي الحيض وجودا وعدما فمتى وجد الحيض ثبت الحكم ومتى طهرت منه زالت أحكامه .
الدليل الثاني – ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعائشة وقد حاضت وهي محرمة بالعمرة : افعلي ما يفعل الحاج غيران لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) قالت : فلما كان يوم النحر طهرت .. الحديث . وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم ) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم غاية المنع الطهر ، ولم يجعل الغاية زمنا معينا فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجودا وعدما .
الدليل الثالث – أن هذه التقديرات والتفصيلات التي ذكرها من الفقهاء في هذه المسالة ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الحاجة بل الضرورة داعية إلى بيانها ، فلو كانت مما يجب على العباد فهمه والتعبد لله به لبينها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بيانا ظاهرا لكل أحد لأهمية الأحكام المترتبة على ذلك من الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والإرث وغيرها من الأحكام .. كما بين الله ورسوله عدد الصلوات وأوقاتها وركوعها وسجودها ، والزكاة : أموالها وأنصباءها ومقدارها ومصرفها ، والصيام : مدته وزمنه والحج وما دون ذلك .. حتى آداب الأكل والشراب والنوم والجماع والجلوس ودخول البيت والخروج منه وآداب قضاء الحاجة حتى عدد مسحات الاستجمار إلى غير ذلك من دقيق الأمور وجليلها مما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين كما قال تعالى ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) وقال تعالى ( ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يدية وتفصيل كل شيء )
فلما لم توجد هذه التقديرات والتفصيلات في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن لا تعويل عليها ، وإنما التعويل على مسمى الحيض الذي علقت عليه الأحكام الشرعية وجودا وعدما ، وهذا الدليل – أعني أن عدم ذكر الحكم في الكتاب والسنة – دليل على عدم اعتباره ينفعك في هذه المسالة وغيرها من مسائل العلم ، فإن الأحكام الشرعية لا تثيب إلا بدليل من الشرع كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع معلوم أو قياس صحيح .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة له : ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاما متعددة في الكتاب والسنة ولم يقدر لا اقله ولا أكثره ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إلية واللغة لا تفرق بين قدر وقدر فمن قدر في ذلك حدا فقد خالف الكتاب والسنة ) انتهى كلامه .
الدليل الرابع – الاعتبار : أي القياس الصحيح المطرد وذلك أن الله تعالى علل الحيض بكونه أذى فمتى وجد الحيض فالأذى موجود لا فرق بين اليوم الثاني واليوم الأول ، ولا بين الرابع والثالث ، ولا فرق بين اليوم السادس عشر والخامس عشر ، ولا بين الثامن عشر والسابع عشر ، فالحيض هو الحيض والأذى هو الأذى .
فالعلة موجودة في اليومين على حد سواء فكيف يصح التفريق في الحكم بين اليومين مع تساويهما في العلة ؟ أليس هذا خلاف القياس الصحيح ؟ وليس القياس الصحيح تساوي اليومين في الحكم تساويهما في العلة ؟
الدليل الخامس – اختلاف أقوال المحددين واضطرابها ، فإن ذلك يدل على أن ليس في المسألة دليل يجب المصير إلية ، وإنما هي أحكام اجتهادية معرضة للخطأ والصواب .. ليس أحدها أولى بالإتباع من الآخر ، والمرجع عند النزاع إلى الكتاب والسنة .
فإذا تبين قوة القول إنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره وإنه القول الراجح ، فاعلم أن كل ما رأيه المرأة من دم طبيعي ليس له سبب من جرح ونحوه فهو دم الحيض من غير تقدير بزمن أو سن إلا أن يكون مستمرا على المرأة لا ينقطع أبدا أو ينقطع من غير تقدير بزمن او سن غلا أن يكون مستمرا على المرأة لا ينقطع أبدا أو ينقطع مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر ، فيكون استحاضة وسيأتي – إن شاء الله تعالى – بيان الا ستحاضة وأحكامها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والأصل في كل ما يخرج من الرحم انه حيض حتى يقوم دليل على انه استحاضة ) وقال أيضا : فما وقع من دم فهو حيض إذا لم يعلم أنه دم عرق أو جرح .
وهذا القول كما أنه هو الراجح من حيث الدليل فهو أيضا اقرب فهما وإدراكا وأيسر عملا وتطبيقا مما ذكره المحددون وما كان كذلك فهو أولى بالقبول لموافقته لروح الدين الإسلامي وقاعدته وهي اليسر والسهولة قال الله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وقال صلى الله عليه وسلم : إن الدين يسر ولن يشاد الدين احد إلا غليه فسددوا وقاربوا وأبشروا ) رواه البخاري وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم انه ما خير بين أمرين إلا اختيار أيسرهما ما لم يكن إثما .