ذكر الخبر عن مهلك أبي لهب
قال ابن إسحاق : و حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، قال : قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم : كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب و كان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العباس ، و أسلمت أم الفضل ، و أسلمت أنا ، و كان العباس يهاب قومه و يكره خلافهم ، فكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال ، فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر ، و كنت رجلاً ضعيفاً أعمل الأقداح ، أنحتها في حجرة زمزم ، فو الله إني لجالس فيها أنحت أقداحي ، و عندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، إذأقبل أبو لهب يجر رجليه بشر ، حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري ، فبينما هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحارث ، فقال أبو لهب : هلم إلي فعندك الخبر . فقال : و الله ما هو إلا ان لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا ، يقتلونا كيف شاؤوا ، و يأسروننا كيف شاؤوا ، و ايم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض ، و الله ما تليق شيئاً و لا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدي ، ثم قلت : تلك و الله الملائكة . قال فرفع أبو لهب يده فضرب و جهي ضربة شديدة . قال : و ثاورته ، فاحتملني فضرب بي الأرض ، ثم برك علي يضربني ، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته به ضربة فلغت في رأسه شجة منكرة ، و قالت : استضعفته أن غاب عنه سيده . فقام مولياً ذليلاً ، فو الله ما عاش إلا سبع ليال ، حتى رماه الله بالعدسة فقتلته .
قال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عنه : أنهم لم يحفروا له ، و لكن أسندوه إلى حائط ، و قذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط ، حتى واروه .
و ذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه : أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها ، و يرون أنها تعدي أشد العدوى ، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه ، و بقي بعد موته ثلاثاً لا تقرب جنازته ، و لا يحاول دفنه ، فلما خافوا السبة في تركه ، حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته ، و قذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه . و يروى أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها .
قال ابن إسحاق : و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، و قال : ناحت قريش على قتلاهم ، ثم قالوا : لا تفعلوا فيبلغ محمداً و أصحابه فيشمتوا بكم ، و لا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد و أصحابه في الفداء .
قال ابن عقبة : أقام النوح شهراً .
قال ابن إسحاق : و كان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده : زمعة بن الأسود ، و عقيل بن الأسود ، و الحارث بن زمعة ، و كان يحب أن يبكي على بنيه ، قال : فبينما هو كذلك ، إذا سمع صوت نائحة من الليل ، فقال لغلام له و قد ذهب بصره : انظر هل أحل النحت ؟ هل بكت قريش على قتلاها ؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة ـ يعني زمعة ـ فإن جوفي قد احترق . قال : فلما رجع إليه الغلام ، قال : إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته ، قال : فذلك حين يقول الأسود :
أتبكي أن يضل لها بعير و يمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر و لكن على بدر تقاصرت الجدود
و كان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن له بمكة ابنا كيساً تاجراً ذا مال ـ يعني المطلب ـ و كأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه ". فلما قالت قريش : لا تعجلوا بفداء أسراكم ، لا يأرب عليكم محمد وأصحابه . قال المطلب : صدقتم لا تعجلوا ، و انسل من الليل ، فقدم المدينة ، فاخذ أباه بأربعة آلاف درهم و انطلق ، فبعثت في فداء الأسارى ، فقدم مكرز بن حفص بن الأحنف في فداء سهيل بن عمرو ، و كان الذي أسره مالك بن الدخشم ، و كان سهيل أعلم من شفته السفلى .
قال ابن إسحاق : " و حدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بني عامر بن لؤي ، أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : يا رسول الله ! دعني أنزع ثنيتي سهيل ابن عمرو يدلع لسانه ، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا أمثل به فيمثل الله بي و إن كنت نبياً ".
قال ابن إسحاق : " و قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر في هذا الحديث : عسى أن يقوم مقاما لا تذمه " .
فلما قاولهم مكرز و انتهى إلى رضاهم ، قالوا : هات الذي لنا . قال : اجعلوا رجلي مكان و خلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه ، ففعلوا . و كان عمرو بن أبي سفيلن أسيراً في يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقيل لأبي سفيان : افد عمراً ابنك . فقال : أيجمع علي دمي و مالي ، قتلوا حنظلة و أفدي عمراً ، دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم . قال : فبينا هو كذلك إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف معتمراً ، فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو ، ثم قال أبو سفيان :
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو بن عوف أذلة لئن يفكوا عن أسيرهم الكبلا
و في رواية : بني عمرو لئام أذلة . ففدي به .
و كان فيهم أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه و سلم على ابنته زينب ، بعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها عليه حين بنى عليها . قال : " فلما رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم رق لها رقة شديدة ، و قال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردوت عليها قلادتها فافعلوا . قالوا : نعم يا رسول الله ! فأطلقوه و ردوا عليها الذي لها " .
و روينا عن طريق أبي داود : " حدثنا عبد الله بن محمد النفلي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد ، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها بنحوه ، و في آخره : فكان النبي صلى الله عليه و سلم أخذ عليه ، أو وعده ، أن يخلي سبيل زينب إليه ، و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة و رجلاً من الأنصار ، فقال : كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب ، فتصحباها حتى تأتيا بها . و ممن من عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بغير فداء أيضاً : المطلب بن حنطب ، و صيفي بن أبي رفاعة ، و أبو عزة الجمحي و أخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحداً " .
قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، قال : جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحجر ، و كان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش ، و كان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و يلقون منه عناء و هو بمكة ، و كان ابنه و هب بن عمير في أسارى بدر ، فذكر أصحاب القليب و مصابهم ، فقال صفوان : إن في العيش و الله خير بعدهم . قال له عمير : صدقت أما و الله لولا دين علي ليس له عندي قضاء ، و عيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لي فيهم علة ، ابني أسير أيديهم . قال : فاغتنمها صفوان ، فقال : علي دينك أنا أقضيه عنك ، و عيالك مع عيالي أوا سيهم ما بقوا ، لا يسعني شيء و يعجز عنهم . قال عمير : فاكتم عني شأني و شأنك . قال : أفعل . قال : ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له و سم . ثم انطلق حتى قدم المدينة ، فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ، و يذكرون ما أكرمهم الله به ، و ما أراهم من عدو هم ، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحاً السيف .
فقال : هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر ، و هذا الذي حرش بيننا و حزرنا للقوم يوم بدر ، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : يا نبي الله ! هذا عدوا الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه . قال : فأدخله علي . قال : فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه ، فلبيه بها ، و قال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار : ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاجلسوا عنده و احذروا عليه هذا الخبيث فإنه مأمون . ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم و عمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه . قال : أرسله يا عمر . ادن يا عمير ، فدنا ، ثم قال : أنعموا صباحاً ـ و كانت تحية أهل الجاهلية بينهم ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام تحية أهل الجنة . قال : أما و الله إن كنت بها يا محمد لحديث عهد . قال : فما جاء بك ياعمير ؟
قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم ، فأحسنوا فيه . قال : فما بال السيف في عنقك ؟
قال : قبحها الله من سيوف ، و هل أغنت عنا شيئاً ! قال : اصدقني ما الذي جئت له ؟ قال : ما جئت إلا لذلك . قال . بلى ، قعدت أنت و صفوان بن أمية في الحجر ، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت : لولا دين علي و عيال لي لخرجت حتى أقتل محمداً ، فتحمل لك صفوان بدينك و عيالك عاى أن تقتلي له ، و الله حائل بينك و بين ذلك . قال عمير : أشهد أنك رسول الله ، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء و ما ينزل عليك من الوحي ، و هذا أمر لم يحضره إلا أنا و صفوان ، فو الله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام و ساقني هذا المساق . ثم تشهد شهادة الحق . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقهوا أخاكم في دينه ، و أقرئوه القرآن ، و أطلقوا له أسيره ، ففعلوا ذلك . ثم قال : يا رسول الله ! إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله ، شديد الأذى لمن كلن دين الله ، فأنا أحب أن تأذن لي ، فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله و إلى الإسلام ، لعل الله يهديهم و إلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم . قال : فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلحق بمكة ، قال : و كان صفوان حين خرج عمير يقول : أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم و قعة بدر . و كان صفوان يسأل عنه الركبان ، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه ، فحلف أن لا يكلمه أبداً و أن لا ينفعه بنفع أبداً .