القسم الأول من غزوة بدر الكبرى ـ و كانت يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة ، فيها أموال لقريش و تجارة من تجارتهم ، و فيها ثلاثون رجلاً من قريش ، أو أربعون ، منهم : مخرمة بن نوفل ، و عمرو بن العاص . و قال ابن عقبة و ابن عائذ في أصحاب أبي سفيان : هم سبعون رجلاً ، و كانت عيرهم ألف بعير ، و لم يكن لحويطب بن عبد العزى فيها شيء فلذلك لم يخرج معهم .
و قال ابن سعد : هي العير التي خرج لها حتى بلغ ذا العشيرة ، تحين قفولها من الشام ، فبعث طلحة بن عبيد الله التيمي و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يتجسسان خبر العير . قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، و عاصم بن عمر بن قتادة و عبد الله بن أبي بكر ، و يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، و غيرهم من علمائنا عن ابن عباس ، كل قد حدثني بعض الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بابي سفيان مقبلاً من الشام ، ندب المسلمين إليهم و قال : هذه عير قريش ، فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها ، لعل الله ينفلكموها ، فانتدب الناس ، فخف بعضهم ، و ثقل بعضهم ، و ذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يلقى حرباً . و كان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار و يسأل من لقي من الركبان ، تخوفاً من أمر الناس ، حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك و لعيرك ، فحذر عند ذلك ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، و أمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ، و يخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة .
قال ابن سعد : فخرج المشركون من أهل مكة سراعاً ، و معهم القيان و الدفوف ، و أقبل أبو سفيان بن حرب بالعير ، و قد خافوا خوفاً شديداً حين دنوا من المدينة ، و استبطؤوا ضمضماً و النفير ، حتى وردوا بدراً ، و هو خائف ، فقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست أحداً من عيون محمد .
قال ابن إسحاق : فأخبرني من لا أتهم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس و يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، قالا : و قد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب ، فقالت له : يا أخي ، و الله لقد رأيت الليلة رؤيا ، لقد أفظعتني ، و تخوفت أن يدخل على قومك منها شر و مصيبة ، فاكتم عني ما أحدثك . فقال لها : و ما رأيت ؟ قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى و قف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد و الناس يتبعونه ، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ، ارفضت ، فما بقي بيت من بيوت مكة و لا دار إلا دخلتها منه فلقة . قال العباس : و الله إن هذا لرؤيا ، و أنت فاكتميها و لا تذكريها . ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة ، و كان صديقاً له ، فذكرها له ، و استكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش ، قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، و أبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآني أبو جهل ، قال : يا أبا الفضل : إذا فرغت من طوافك فاقبل إلينا ، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب ! متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قال : قلت : و ماذاك ؟ قال : ذاك الرؤيا التي رأت عاتكة . قال فقلت : و ما رأت ؟ قال : يا بني عبد المطلب ! أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ ! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقاً فسيكون ، و إن تمض الثلاث و لم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب ، قال العباس : فو الله ما كان مني إليه كبير ، إلا أني جحدت ذلك ، و أنكرت أن تكون رأت شيئاً .
و عند ابن عقبة في هذا الخبر ، أن العباس قال لأبي جهل : هل أنت منته ؟ فإن الكذب فيك و في أهل بيتك . فقال من حضرهما أبو بكر ما كنت يا أبا الفضل جهولاً و لا خرقاً . و كذلك قال ابن عائذ ، و زاد فقال له العباس : مهلاً يا مصفر أسته ، و لقي العباس من عاتكة أذى شديداً حين أفشى من حديثها .
رجع إلى خبر ابن إسحاق : قال : ثم تفرقنا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني ، فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ؟ ثم قد تناول النساء و أنت تسمع ؟ ثم لم تكن عندك غير لشيء مما سمعت ؟ قال : فقلت قد و الله فعلت ، ما كان مني إليه من كبير ، و ايم الله لأتعرضن له ، فإن عاد لأ كفينكنه قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة و أنا حديد مغضب ، أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه قال : فدخلت المسجد فرأيته ، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال ، فأوقع به ، وكان رجلاً خفيفاً ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر . قال : إذ خرج نحو باب المسجد يشتد . قال : قلت في نفسي : ماله لعنه الله ، أكل هذا فرق مني أن أشاتمه ؟ قال : فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري و هو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره ، قد جدع بعيره ، و حول رحله ، و شق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث . قال : فشغلني عنه و شغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعاً ، و قالوا : أيظن محمد و أصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ، كلا و الله ليعلمن غير ذلك ، فكانوا بين رجلين ، إما خارج و إما باعث مكانه رجلاً و أوعبت قريش ، فلم يتخلف من أشرافها أحد ، إلا أن أبا لهب ابن عبد المطلب قد تخلف و بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة ، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها فاستأجره بها على أن يجزي عنه بعثه ، فخرج عنه و تخلف أبو لهب .
قال ابن عقبة و ابن عائذ : خرجوا في خمسين و تسعمائة مقاتل ، و ساقوا مائة فرس .
و روينا عن ابن سعد : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن ابن إسحاق ، عن أبي عبيدة بن عبد الله ، عبد أبيه ، قال : لما أسرنا القوم في بدر ، قلنا : كم كنتم ؟ قالوا : كنا ألفاً .
قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، أن أمية بن خلف كان أجمع القعود ، و كان شيخاً جليلاً جسيماً ثقيلاً ، فأتاه عقبة بن أبي معيط و هو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها ، فيها نار و مجمر ، حتى وضعها بين يديه ، ثم قال يا أبا علي ! استجمر ، فإنما أنت من النساء . قال : قبحك الله و قبح ما جئت به . قال : ثم تجهز فخرج مع الناس .
قيل : و كان سبب تثبطه ، ما ذكره البخاري في الصحيح ، من حديثه مع سعد بن معاذ و أبي جهل بمكة ، و قول سعد له : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " إنه قاتلك " .
قلت : المشهور عند أرباب السير أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما قال ذلك لأخيه أبي بن خلف بمكة قبل الهجرة ، و هو الذي قتله النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك يوم أحد بحربته ، و هذا أيضاً لا ينافي خبر سعد ، و الله أعلم .
قال ابن إسحاق : و لما فرغوا من جهازهم و أجمعوا السير ، ذكروا ما بينهم و بين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب ، فقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن مالك بن حعشم الكناني المدلجي ، و كان من أشراف بني كنانة ، فقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعاً .
و ذكر ابن عقبة و ابن عائذ في هذا الخبر : و أقبل المشركون و معهم إبليس ـ لعنه الله ـ في صورة سراقة يحدثهم أن بني كنانة وراءه ، قد أقبلوا لنصرهم ، و أنه لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم .
قال ابن إسحاق : و عمير بن وهب أو الحارث بن هشام كان الذي رآه حين نكص على عقبيه عند نزول الملائكة ، و قال إني أرى ما لا ترون ، فلم يزل حتى أوردهم ثم أسلمهم ، ففي ذلك يقول حسان :
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلالهم بغرور ثم أسلمهم إن الخبيث لمن والاه غرار
في أبيات ذكرها .
قال ابن إسحاق : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه ، قال ابن هشام : لثمان ليال خلون منه .
و قال ابن سعد : يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت منه ، بعد ما وجه طلحة بن عبيد الله و سعيد بن زيد بعشر ليال ، و ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم عسكره ببئر أبي عنبة ، و هي على ميل من المدينة ، فعرض أصحابه ، و رد من استصغر ، و خرج في ثلاثمائة رجل و خمسة نفر ، كان المهاجرون منهم أربعة و سبعين رجلاً ، و سائرهم من الأنصار ، و ثمانية تخلفوا لعذر ، ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهامهم و أجورهم : ثلاثة من المهاجرين ، عثمان بن عفان ، خلفه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ابنته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و كانت مريضة ، فأقام عليها حتى ماتت . و طلحة ، و سعيد بن زيد ، بعثهما يتجسسان خبر العير . و خمسة من الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر ، خلفه على المدينة ، وعاصم بن عدي العجلاني ، خلفه على أهل العالية ، و الحارث بن حاطب العمري رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم ، و الحارث بن الصمة كسر من الروحاء ، و خوات بن جبير كسر أيضاً .
قال ابن إسحاق : و دفع اللواء إلى مصعب بن عمير ـ و كان أبيض ـ و كان أمام رسول الله صلى الله عليه و سلم رايتان سوداوان ، إحداهما مع علي بن أبي طالب و الأخرى مع بعض الأنصار .
و قال ابن سعد : كان لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير ، و لواء الخزرج مع الحباب بن منذر ، و لواء الأوس مع سعد بن معاذ .
كذا قال ، و المعروف أن سعد بن معاذ كان يومئذ على حرس رسول الله صلى الله عليه و سلم في العريش ، و أن لواء المهاجرين كان بيد علي . " قرىء على أبي حفص عمر بن عبد المنعم ابن عمر بن عبد الله بن غدير بعربيل ـ قرية بغوطة دمشق ـ و أنا أسمع ، أخبركم أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن الحرستاني قراءة عليه و أنت حاضر في الرابعة ؟ فأقر به ، أخبرنا أبو الحسن علي بن المسلم بن محمد السلمي سماعاً ، أخبرنا أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن أبي الحديد ، أخبرنا أبو الحسن علي بن موسى بن الحسين السمسار ، أخبرنا أبو القاسم المظفر بن حاجب بن مالك بن أركين الفرغاني ، أخبرنا أبو الحسن محمد ابن يزيد بن عبد الصمد الدمشقي ، حدثنا أحمد ـ يعني ابن أبي أحمد ـ الجرجاني ، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري ، حدثنا قيس بن ربيع ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى علياً الراية يوم بدر ، و هو ابن عشرين سنة " .