و مر شاس بن قيس ـ و كان شيخاً قد عسا ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأوس والخزرج يتحدثون ، فغاظه ما رأى من إلفتهم و جماعتهم بعدما كان بينهم من العداوة ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا و الله مالنا معهم إذا اجتمعوا من قرار ، فأمر فتى شاباً من يهود كان معهم ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث ، و ما كان فيه ، و أنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار ، ففعل ، فتكلم القوم عند ذلك ، و تنازعوا حتى تواثب رجلان على الركب : أوس بن قيظي من الأوس ، و جبار بن صخر من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم رددتها الآن جذعة ، و غضب الفريقان جميعاً ، و قالوا : قد فعلنا ، موعدكم الظاهرة ـ و الظاهرة : الحرة ـ السلاح السلاح ، فخرجوا ، و بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه ، حتى جاءهم ، فقال : " يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية و أنا بين أظهركم ، بعد أن هداكم الله إلى الإسلام ، و أكرمكم به ، و قطع به عنكم أمر الجاهلية ، و استنقذكم من الكفر ، و ألف به بينكم " . فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان ، و كيد من عدوهم ، فبكوا ، و عانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله في شاس بن قيس : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " [ آل عمران : 99 ] الآية . و في أوس و جبار : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين " إلى قوله " وأولئك لهم عذاب عظيم " [ آل عمران : 100 ـ 105 ] .
و كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بينهم من الجوار ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " إلى " عليم بذات الصدور " [ آل عمران : 118 ـ 119 ] .
و دخل أبو بكر بيت المدراس ، فقال لفنحاص : اتق الله و أسلم ، و الله إنك لتعلم أن محمداً لرسول الله . فقال : و الله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، و إنه إلينا لفقير . فغضب أبو بكر و ضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً ، و قال : لولا العهد الذي بيننا و بينك لضربت عنقك . فشكاه فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فذكر له أبو بكر ما كان منه ، فأنكر قوله ذلك ، فأنزل الله تعالى : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " [ آل عمران : 181 ] الآية . و أنزل في أبي بكر رضي الله عنه " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " [ آل عمران : 186 ] الآية . و كان كردم بن قيس و أسامة بن حبيب في نفر من يهود يأتون رجالاً من الأنصار يتنصحون لهم ، فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ، فأنزل الله فيهم : " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " ـ أي التوراة التي فيها تصديق ما جاء به محمد ـ
" وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " [ النساء : 37 ] .
و كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود ، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم لوى لسائه ، و قال أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام و عابه ، فأنزل الله فيه : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل " إلى " ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " [ النساء : 46 ] .
و كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الأعور و كعب ابن أسد ، فقال لهم : " يا معشر يهود ! اتقوا الله و أسلموا ، فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق . قالوا ما نعرف ذلك ، فأنزل الله " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا " " [ النساء : 47 ] .
و قال سكين بن عدي بن زيد : يا محمد ! ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى ، فأنزل الله تعالى : " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " إلى قوله : " وكان الله عزيزا حكيما " [ النساء : 163 ـ 165 ] .
و دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم جماعة منهم ، فقال لهم : أما و الله إنكم لتعلمون أني رسول الله . قالوا : ما نعلمه و ما نشهد عليه ، فأنزل الله تعالى : " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " [ النساء : 166 ] .
و أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم نعمان بن أضا و بحري بن عمرو و شاس بن عدي ، فكلموه و كلمهم ، و دعاهم إلى الله و حذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ، نحن أبناء الله و أحباؤه ـ كقول النصارى ـ فأنزل الله فيهم : " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " [ المائدة : 18 ] الآية .
و دعاهم إلى الإسلام مرة و حذرهم عقوبة الله ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل و سعد بن عبادة و عقبة بن وهب : يا معشر يهود ! اتقوا الله فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله و لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، و تصفونه بصفته ، فقال رافع بن حريملة و وهب ابن يهوذا : ما قلنا لكم هذا ، و ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، و ما أرسل بشيراً و لا نذيراً بعده . فأنزل الله في ذلك من قولهما : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير " [ المائدة : 19 ] الآية .
و اجتمع أحبارهم في بيت المدراس ، فأتوا برجل و امرأة زنيا بعد إحصانهما ، فقالوا : حكموا فيهما محمداً ، فإن حكم فيهما بحكمكم من التجبية ـ و هو الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ، ثم تسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل أدبار الحمارين ـ فإنما هو ملك ، و إن حكم فيهما بالرجم فهو نبي ، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه . ففعلوا ، فمشى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتت بيت المدراس ، فقال لهم : " أخرجوا إلي علماءكم " . فأخرجوا له عبد الله بن صوريا ـ فخلا به يناشده : " هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟ " قال : اللهم نعم ، أما و الله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ، و لكنهم يحسدونك . قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ، ثم جحد ابن صوريا بعد ذلك نبوة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " [ المائدة : 41 ] الآية . و في بعض طرق هذا الحديث أن حبراً منهم جلس يتلو التوراة بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فوضع يده على آية الرجم ، فضرب عبد الله بن سلام يده ، و قال : هذه آية الرجم أبى أن يتلوها عليك . . . الحديث .
و قال كعب بن أسد و ابن صلوبا و ابن صوريا و شاس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فإنما هو بشر ، فأتوه فقالوا : قد عرفت أنا أحبار يهود و أشرافهم ، و أنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ، و لم يخالفونا ، و إن بيننا و بين بعض قومنا خصومة فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، و نؤمن بك و نصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " إلى قوله " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " [ المائدة : 49 ـ 50 ] .
و أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم جماعة منهم ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ، فقال : " آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " [ البقرة : 136 ] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، و قالوا : لا نؤمن بعيسى و لا نؤمن بمن آمن به ، فأنزل الله : " قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون " [ المائدة : 59 ] .
و أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم رافع بن حارثة ، و سلام بن مشكم ، و مالك بن الصيف ، و رافع ابن حريملة ، فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم و دينه ، و تؤمن بما عندنا من التوراة ، و تشهد أنها من الله حق ؟ قال : بلى ، و لكنكم أحدثتم و جحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق ، و كتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه الناس ، فبرئت من إحداثكم . قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى و الحق ، و لا نؤمن بك و لا نتبعك ، فأنزل الله تعالى : " قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " [ المائدة : 68 ] الآية .
و كان رفاعة بن زيد بن التابوت ، و سويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام و نافقا ، فكان رجال من المسلمين يوادونهما ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " إلى قوله " والله أعلم بما كانوا يكتمون " [ المائدة : 57 ـ 61 ] . و قال جبل بن أبي قشير ، و شمويل ابن زيد : يا محمد متى الساعة إن كنت نبياً ؟ فأنزل الله " يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي " [ الأعراف : 187 ] الآية .
و أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم سلام بن مشكم ، و نعمان بن أوفى ، و محمود بن دحية ، في نفر منهم ، فقالوا له : كيف نتبعك و قد تركت قبلتنا ، و أنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله ؟ فأنزل الله : " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم " [ التوبة : 30 ] الآية .
و أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم محمود بن سيحان و عزير بن أبي عزير في جماعة منهم ، فقالوا : إنا لا نرى ما جئت به متسقاً كما تتسق التوراة ، أما يعلمك هذا أنس و لا جن ؟ فقال لهم : " أما و الله إنكم لتعلمون أنه من عند الله ، و أني رسول الله تجدون ذلك مكتوباً عندكم في التوراة " . قالوا : فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء ، فأنزل علينا كتاباً من السماء نقرؤه و نعرفه ، و إلا جئناك بمثل ما تأتي به ، فأنزل الله تعالى : " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " [ الإسراء : 88 ] .
و قال قوم منهم لعبد الله بن سلام حين أسلم : ما تكون النبوة في العرب ، و لكن صاحبك ملك متقول ، ثم جاءوا فسألوه عن ذي القرنين ، فقص عليهم ما جاءه من الله فيه مما كان قص على قريش ، و هم كانوا ممن أمر قريشاً أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه حين بعثوا إليهم النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط ، و أتى رهط منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا محمد ! هذا الله خلق الخلق فمن خلقه ؟ فغضب حتى انتفع لونه ، ثم ساورهم غضباً لربه ، فجاءه جبريل فسكنه ، و أنزل عليه : " قل هو الله أحد " السورة ، فلما تلاها عليهم ، قالوا : فصف لنا كيف خلقه ؟ و كيف ذراعه ؟ و كيف عضده ؟ فغضب أشد من غضبه الأول
، فأتاه جبريل من الله تعالى بقوله تعالى : " ما قدروا الله حق قدره " [ الحج : 74 ] الآية .
و كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش و غطفان و بني قريظة : حيي بن أخطب ، و سلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، و الربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، و أبو عمار ، و وحوح ابن عامر و هوذة بن قيس ، فأما وحوح و أبو عمار و هوذة فمن بني واثلة ، و سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش ، قالوا : هؤلاء أحبار يهود و أهل العلم بالكتاب الأول ، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه و أنتم أهدى منه و ممن اتبعه ، فأنزل الله فيهم : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " إلى قوله : " ملكا عظيما " [ النساء : 51 ـ 54 ] .