ذكر إسلام الجن
و في انصراف رسول الله صلى الله عليه و سلم من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف مر به النفر من الجن و هو بنخلة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . و هم فيما ذكر ابن إسحاق سبعة من جن نصيبين ، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قام من جوف الليل و هو يصلي . و الخبر بذلك ثابت "من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قرأت على أبي عبد الله بن أبي الفتح الصوري بمرج دمشق ، أخبركم أبو القاسم بن الحرستاني سماعاً عليه ؟ فأقر به . أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل ، أخبرنا أبو الحسين بن مكي ، أخبرنا القاضي أبو الحسن الحلبي ، قال : حدثني إسحاق بن محمد بن يزيد ، قال : حدثنا أبو داود ـ يعني سليمان بن سيف ـ حدثنا أيوب بن خالد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني إبراهيم ابن طريف ، حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري ، حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : حدثني عبد الله بن مسعود ، قال :
كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة صرف الله النفر من الجن . . . " الحديث .
و روينا من حديث أبي المعلى ، " عن عبد الله بن مسعود ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة فخط لي خطاً ، و قال : لا تحدثن شيئاً حتى آتيك .
ثم قال : لا يروعنك أو لا يهولنك شيء تراه . ثم جلس ، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط . قال : و كانوا كما قال الله : " كادوا يكونون عليه لبدا " [ الجن : 19 ] فأردت أن أقوم فأذب عنه ، بالغاً ما بلغت ، ثم ذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فمكثت ، ثم إنهم تفرقوا عنه ، فسمعتهم يقولون : يا رسول الله ، إن شقتنا بعيدة و نحن منطلقون ، فزودنا . . الحديث . و فيه : فلما و لوا قلت : من هؤلاء ؟ قال هؤلاء جن نصيبين " .
" و روينا من حديث أبي عبد الله ، و فيه قال : ثم شبك أصابعه في أصابعي و قال : إني و عدت أن تؤمن بي الجن و الإنس ، فأما الإنس فقد آمنت بي و أما الجن فقد رأيت " .
و روى أبو عمر " من طريق أبي داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : لما كانت ليلة الجن أتت النبي صلى الله عليه و سلم سمرة فآذنته بهم ، فخرج إليهم " .
قال أبو داود حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا سفيان عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، أن مسروقاً قال له : أبوك أخبرنا أن شجرة أنذرت النبي صلى الله عليه و سلم بالجن .
و روينا حديث أبي فزارة ، "عن أبي زيد عمرو بن مولى بن حريث ، حدثنا عبد الله بن مسعود ، قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : إني قد أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن ، فليقم معي رجل منكم ، و لا يقم رجل في قلبه مثقال حبة خردل من كبر ، فقمت معه ، و أخذت إداوة فيها نبيذ ، فانطلقت معه فلما برز خط لي خطاً و قال لي : لا تخرج منه فإنك إن خرجت لم ترني و لم أراك إلى يوم القيامة . قال : ثم انطلق فتوارى عني حتى لم أره ، فلما سطع الفجر أقبل ، فقال لي : أراك قائماً . فقلت ما قعدت . فقال : ما عليك لو فعلت . قلت : خشيت أن أخرج منه . فقال : أما إنك لو خرجت منه لم ترني و لم أراك إلى يوم القيامة . هل معك وضوء ؟ قلت : لا ، فقال : ما هذه الإداوة ؟ قلت : فيها نبيذ . قال : تمرة طيبة و ماء طهور . فتوضأ و أقام الصلاة ، فلما قضى الصلاة قام إليه رجلان من الجن فسألاه المتاع . فقال : ألم آمر لكما و لقومكما بما يصلحكما ؟ قالا : بلى ، و لكن أحببنا أن يشهد بعضنا معك الصلاة . فقال : ممن أنتما ؟ قالا : من أهل نصيبين . فقال : أفلح هذان و أفلح قومهما ، و أمر لهما بالروث و العظم طعاماً ولحماً ، و نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يستنجي بعظم أو روثة " .
رويناه من حديث قيس بن الربيع و هذا لفظه .
و من حديث الثوري و إسرائيل و شريك و الجراح بن مليح و أبي عميس كلهم عن أبي فزارة .
و غير طريق أبي فزارة عن أبي زيد لهذا الحديث أقوى منها ، للجهالة الواقعة في أبي زيد ، ولكن أصل الحديث مشهور عن ابن مسعود من طرق حسان متظافرة يشهد بعضها لبعض ويشد بعضها بعضاً ، و لم تتفرد طريق أبي زيد إلا بما فيها من التوضؤ بنبيذ التمر ، وليس ذلك مقصودنا الآن . و يكفي من أمر الجن مافي سورة الرحمن ، و سورة قل أوحي إلي ، و سورة الأحقاف " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " [ الأحقاف : 29 ] الآيات .
و ذكر ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يشعر بالجن و هم يستمعون له يقرأ حتى نزلت عليه " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " الآية .
و روينا عن ابن هشام قال : حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي ، و غيره من مشائخ بكر بن وائل من أهل العلم ، أن أعشى بني قيس بن ثعلبة ، خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد الإسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه و سلم :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمداو بت كما بات السليم مسهداً
ألا أيهذا السائلي أين يممت فإن لها في أهل يثرب موعدا
و آوليت لا آوي لها من كلالة و لا من حفا حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم تراحي و تلقي من فواضله ندى
نبياً يرى ما لا ترون و ذكرهأغار لعمري في البلاد و أنجدا
له صدقات ما تغب و نائل و ليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسمع وصاة محمدنبي الإله حين أوصى و أشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقىو لاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا
فلما كان بمكة أو قريباً منها اعترضه بعض المشركين من قريش ، فسأله عن أمره ، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ليسلم ، فقال له : يا أبا صبير ! فإنه يحرم الزنا .
فقال الأعشى : و الله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب . فقال : يا أبا بصير ، فإنه يحرم الخمر . قال الأعشى : أما هذه فو الله إن في النفس منها لعلالات ، و لكني منصرف أرتوي منها عامي هذا ، ثم آتيه فأسلم . فانصرف فمات في عامه ذلك ، و لم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قوله : [ لا آوي لها من كلالة ] أي لا أرق . و في هذه الأبيات عن غير ابن هشام بعد قوله أغار لعمري في البلاد و أنجدا :
به أنقذا الله الأنام من العمى و ما كان فيهم من يريع إلى هدى
و قوله : فلما كان بمكة و هم ظاهر ، لأن تحريم الخمر إنما كان بعد أحد ، و في الأبيات : [ فإن لها في أهل يثرب موعداً ] ، و هو أيضا مما يبين ذلك ، و الله أعلم .