ذكر سفره عليه الصلاة و السلام إلى الشام مرة ثانية و تزويجه خديجة بعد ذلك
قال ابن إسحاق : و لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خمساً و عشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد فيما ذكره غير واحد من أهل العلم .
و قال ابن عبد البر : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الشام في تجارة لخديجة سنة خمس و عشرين ، و تزوج خديجة بعد ذلك بشهرين و خمسة و عشرين يوماً في عقب صفر سنة ست و عشرين ، و ذلك بعد خمس و عشرين سنة و شهرين و عشرة أيام من يوم الفيل .
و قال الزهري : كانت سن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم تزوج خديجة إحدى و عشرين سنة .
قال أبو عمر : و قال أبو بكر بن عثمان و غيره ، كان يومئذ ابن ثلاثين سنة . قالوا : و خديجة يومئذ بنت أربعين سنة .
و روينا عن أبي بشر الدولابي ، قال : و حدثني ابن البرقي أبو بكر ، عن ابن هشام ، عن غير واحد ، عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم خديجة و هو ابن خمس و عشرين سنة .
و روينا عن أبي الربيع بن سالم ، قال : و ذكر الواقدي بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بنت منية ، قال و قد رويناه أيضاً من طريق أبي علي بن السكن ، و حديث أحدهما داخل في حديث الآخر مع تقارب اللفظ ، و ربما زاد أحدهما الشيء اليسير على الآخر ، و كلاهما ينمي إلى نفيسة قالت : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خمساً و عشرين سنة و ليس له بمكة اسم إلا الأمين ، لما تكامل فيه من خصال الخير ، قال أبو طالب : يا ابن أخي ! أنا رجل لا مال لي و قد اشتد الزمان علينا و ألحت علينا سنون منكرة ، و ليس لنا مادة و لا تجارة ، و هذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، و خديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرانها فيتجرون لها و يصيبون منافع ، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك و فضلتك على غيرك ، لما يبلغها عنك من طهارتك ، و إن كنت لأكره أن تأتي الشام و أخاف عليك من يهود ، و لكن لا نجد من ذلك بداً ، و كانت خديجة بني خويلد امرأة تاجرة ذات شرف و مال كثير و تجارة ، و تبعث بها إلى الشام ، فتكون عيرها كعامة عير قريش ، و كانت تستأجر الرجال و تدفع إليهم المال مضاربة ، و كانت قريش قوماً تجاراً ، و من لم يكن تاجراً من قريش فليس عندهم بشيء . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " فلعلها ترسل إلي في ذلك " . فقال أبو طالب : إني أخاف أن تولي غيرك ، فتطلب أمراً مدبراً ، فافترقا .
و بلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له ، و قبل ذلك ما بلغها من صدق حديثه و عظم أمانته و كرم أخلاقه ، فقالت : ما علمت أنه يريد هذا ، ثم أرسلت له فقالت : إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك و عظم أمانتك و كرم أخلاقك ، و أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك . ففعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لقي أبا طالب فذكر له ذلك ، فقال : إن هذا لرزق ساقه الله إليك . فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام ، و جعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم الشام ، فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب يقال له نسطورا ، فاطلع الراهب إلى ميسرة و كان يعرفه ، فقال : يا ميسرة ! من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ فقال ميسرة : رجل من قريش من أهل الحرم . فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي . ثم قال له : في عينيه حمرة ؟ فقال ميسرة : نعم لا تفارقه . قال الراهب : هو هو ، و هو آخر الأنبياء ، و يا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج . فوعى ذلك ميسرة .
ثم حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها ، و اشترى فكان بينه و بين رجل اختلاف في سلعة ، فقال الرجل : احلف باللات والعزى . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما حلفت بهما قط " . فقال الرجل : القول قولك . ثم قال لميسرة ـ و خلا به ـ يا ميسرة ! هذا نبي ، و الذي نفسي بيده ، إنه لهو تجده أحبارنا منعوتاً في كتبهم .
فوعى ذلك ميسرة . ثم انصرف أهل العير جميعاً ، و كان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كانت الهاجرة و اشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس و هو على بعيره ، قال : و كان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه و سلم المحبة من ميسرة ، فكان كأنه عبد لرسول الله صلى الله عليه و سلم . فلما رجعوا و كانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة ، و خديجة في علية لها ، معها نساء فيهن نفسية بنت منية ، فرأت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل و هو راكب على بعيره و ملكان يظلان عليه ، فأرته نساءها فعجبن لذلك ، و دخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فخبرها بما ربحوا ، فسرت بذلك ، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت ، فقال لها ميسرة : قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام ، و أخبرها بقول الراهب نسطور ، و قول الآخر الذي خالفه في البيع .
قالوا : و قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم بتجارتها ، فربحت ضعف ما كانت تربح ، و أضعفت له ما سمت له ، فلما استقر عندها هذا ، و كانت امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من الكرامة و الخير ، و هي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً و أعظمهن شرفاً ، و أكثرهن مالاً و كل قومها كان حريصاً على نكاحها لو يقدر عليه ، فعرضت عليه نفسها ، فقالت له فيما يزعمون : يا ابن عم ! إني قد رغبت فيك لقرابتك و سطتك في قومك و أمانتك و حسن خلقك و صدق حديثك ، فلما قالت ذلك له ، ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، حتى دخل على خويلد ابن أسد فخطبها إليه ، فتزوجها .
قال أبو الربيع : هكذا ذكر ابن إسحاق . و ذكر الواقدي و غيره من حديث نفيسة ، أن خديجة أرسلتها إليه دسيساً فدعته إلى تزويجها .
قلت : و قد روينا ذلك عن ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي ، حدثنا موسى بن شيبة ، عن عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع ، عن نفيسة بنت منية ، قالت : كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة جلدة شريفة ، مع ماأراد الله بها من الكرامة و الخير ، و هي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً ، و أعظمهم شرفاً ، و أكثرهم مالاً ، و كل قومها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك ، قد طلبوها و بذلوا لها الأموال ، فأرسلتني دسيساً إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام ، فقلت : يا محمد ! ما يمنعك أن تزوج ؟ قال : ما بيدي ما أتزوج به . قلت : فإن كفيت ذلك ، و دعيت إلى المال و الجمال و الشرف و الكفاءة ، ألا تجيب ؟ قال : فمن هي ؟ قلت : خديجة . قالت : فكيف لي بذلك ؟ قالت : قلت علي . قال : فأنا أفعل . فذهبت فأخبرتها ، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا و كذا ، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها ، فحضر و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم في عمومته ، فزوجه أحدهم ، فقال عمرو بن أسد : هذا الفحل لا يقدع أنفه . و تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ابن خمس و عشرين سنة ، و هي يومئذ بنت أربعين سنة ، ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة .
و ذكر ابن إسحاق أن أباها خويلد بن أسد هو الذي أنكحها من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كذلك و جدته عن الزهري و فيه : و كان خويلد أبوها سكران من الخمر ، فلما كلم في ذلك أنكحها ، فألقت عليه خديجة حلة و ضمخته بخلوق ، فلما صحا من سكره قال : ما هذه الحلة و الطيب ؟ فقيل له : أنكحت محمداً خديجة ، و قد ابتنى بها . فأنكر ذلك ثم رضيه و أمضاه .
و قال محمد بن عمر : الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار و أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم . و رأيت ذلك عن غير الواقدي . و قد قيل إن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي أنكحها منه . و الله أعلم .
و روينا عن بشر الدولابي ، قال : " حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب الزهري ، قال : فلما استوى رسول الله صلى الله عليه و سلم و بلغ أشده ، و ليس له كبير مال ، استأجرته خديجة بنت خويلد إلى سوق حباشة ، و هو سوق بتهامة ، و استأجرت معه رجلاً آخر من قريش . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يحدث عنها : ما رأيت من صاحبة لأجير خيراً من خديجة ، ما كنا نرجع أنا و صاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبؤه لنا " .
و روينا عن أبي بشر محمد بن أحمد بن حماد ، قال : و حدثني أبو أسامة الحلبي ، حدثنا حجاج بن أبي منيع ، حدثنا جدي ، عن الزهري قال : تزوجت خديجة بنت خويلد بن أسد قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلين : الأول منهما عتيق بن عايذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فولدت له جارية ، و هي أم محمد بن صيفي المخزومي ، ثم خلف على خديجة بعد عتيق بن عايذ أبو هالة التميمي ، و هو من بني أسد بن عمرو ، فولدت له هند بن هند .
كذا وقع في هذه الرواية : عتيق بن عايذ . و الصواب عابد ، قاله الزبير . و سمى الزبير الجارية التي ولدتها منه : هنداً .
و اسم أبي هالة : هند بن زرارة بن النباش بن غذي بن خبيب بن صرد بن سلامة ابن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم ، فيما رويناه عن الدولابي : حدثنا أبو الأشعث أحمد ابن المقدام العجلي ، حدثنا زهير بن العلاء ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة بن دعامة ، فذكره .
قال ابن إسحاق : و كانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، و كان ابن عمها ، و كان نصرانياً قد تتبع الكتب ، و علم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب ، و ما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه . فقال ورقة : لئن كان هذا حقاً يا خديجة إن محمداً لنبي هذه الأمة ، قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر ، هذا زمانه . أو كما قال .
قال : فجعل ورقة يستبطئ الأمر ، و له في ذلك أشعار ، منها ما رواه يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق :
أتبكر أم أنت العشية رائح و في الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم كأنك عنهم بعد يومين نازح
و أخبار صدق خبرت عن محمد يخبرها عنه إذا غاب ناصح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل إلى كل من ضمت عليه الأباطح
و ظني به أن سوف يبعث صادقا كما أرسل العبدان هود و صالح
في أبيات ذكرها .