الفصل الرابع
شبهات وردود
تكثر الشبه حول الإسلام من أعدائه ، ومن الجهلة من أبنائه ، ومن باب الذود عنه وبيان بطلان الشبه رأيت إيراد هذا المبحث ، عسى أن يسكت عدوا ، أو يقنع مسلما جاهلا . ومن أهم الشبه المتعلقة بالموضوع – بحسب نظري – شبهتان :
1- كثيرا ما نسمع عبارة " الأجر على قدر المشقة " فإذا كانت المشقة مقصودة ، فإن هذا يعارض يسر الإسلام .
الجواب :
إن المشقة الواقعة في التكاليف الشرعية تتمثل في نوعين * :
النوع الأول : المشقة الملازمة للتكاليف الشرعية ، وذلك أن التكاليف الشرعية لا تخلو من مشقة ، وهذه المشقة تتفاوت حسب أنواع المطلوبات الشرعية من صلاة وصيام وحج وجهاد وغير ذلك . ومن الواضح أنها لم توصف بالتكاليف إلا لما فيها من الكلفة، ولو لم يكن فيها من المشقة إلا مخالفة هوى النفس لكان ذلك كافيا. فهذه المشقة ليس مقصودة في التكليف ؛ لأنها نابعة من طبيعة الشيء المكلف به شرعا ، ملازمة له ، ولا تنفك عنه ، وإنما المقصود الإتيان بالمطلوب الشرعي المشتمل على تلك المشقة لما يترتب عليه من الامتثال ، وتحقيق المصلحة أو درء المفسدة .
النوع الثاني : المشقة الواقعة في طريق أداء التكاليف الشرعية لتغير الظروف .
إذ أنه قد يطرأ على المطلوب الشرعي ظروف زمانية أو مكانية ، وقد يتغير من رخاء إلى شدة ، ومن أمن إلى خوف ، ومن اعتدال إلى برد أو حر ، لكنها لا تتجاوز حدود المعتاد . فهذه المشقة تكون واقعة في طريق العبادة ، وذلك كالمشقة الحاصلة بالوضوء في وقت الشتاء ، مما يختلف عن الوضوء في وقت الصيف والوقت المعتدل .. . فهذه المشاق الحاصلة بسبب تغير الظروف لاشك أنـه مثاب
* رفع الحرج لصالح بن حميد : (ص/416-417) بتصرف .
عليها ، وهي لا تعدو أن تكون معتادة وواقعة في طريق العبادة لا أنها مقصودة لذاتها . أما لو حصل للمكلف مشقة زائدة غير معتادة لا يتحملها إلا بحرج شديد فهو غير مكلف بالإقدام على ذلك ؛ لأنه منوط بالاستطاعة . وله أن يعدل عنها إلى الرخص .
فالمشقة النابعة من الشيء المكلف به ، أو الواقعة في طريق أداء المطلوب الشرعي وتنفيذ أوامر الله : مثاب عليها ، ومعدودة من عمل الخير الداخل في عموم قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خير يره (1) .
وبناء على ما سبق يتضح أن المشقة ليست مقصودة في الشرع ، وفي هذا يقول الشاطبي : " أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف ، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل ، لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر . وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به ، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب ... ثم قال : فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع ، من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل . فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه .. فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض " (2) .
فيتضح أن المشقة ليس مناطا للأجر ، والثواب على المشقة يأتي من كونها ملازمة للتكليف أو واقعة في طريقه لا أنها مقصودة بذاتها ، ويدل عليه (3) :
1- ما ذكرناه وقررناه في بداية البحث من أن الدين يسر وقائم على التخفيف ورفع الحرج .
2- ما جاء من نصوص تفيد النهي عن التكلف والتشدد في الدين . ومن ذلك قصة الرهط الثلاثة : فعن أنس بن مالك قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ، يسألون عن عبادة النبي ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه
(1) سورة الزلزلة : 7 .
(2) الموافقات للشاطبي : (2/128-129) بتصرف يسير .
(3) انظر : رفع الحرج لصالح بن حميد : (ص/419-422) . بتصرف .
- وما تأخر . قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا . وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) (1) .
3- لو كان الأجر على قدر المشقة بإطلاق لكان الإكثار من النوافل أفضل من الفرائض وأعظم أجرا ، والفرائض محدودة وميسرة. وقد جاء في الحديث القدسي : ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ) (2).
4- أن الواقع في الشريعة حصول التفاوت في الأجر في المتساويات ، بل ترتب الأجر العظيم على العمل القليل ، ولو كانت المشقة مناط الأجر لكان العمل كلما عظمت مشقته كلما ازداد أجره ، ولكن هذا غير واقع . يقول عليه الصلاة والسلام : (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ) (3) . فالأعمال والطاعات تتفاضل عند الله حسب شرفها وفضلها في الثمرة لا في المشقة والجهد ، وإلا لكانت إماطة الأذى عن الطريق أجزل ثوابا من قول لا إله إلا الله ؛ لأنها أشق .
5- ما ذكرناه من أسباب التخفيف ، يفيد أن المشقة مدفوعة في الشريعة وليست مقصودة ، بدليل وجود الرخص والتخفيفات . فالمطلوب من المكلف تحقيق طلب الشارع مادام أنه في حالة معتدلة ، فإذا حصل له ظرف طارئ من مرض أو سفر فإنه يعدل إلى الأحكام المخففة ، ولا يكلف نفسه معاناة الطلب الأول من غير أن ينقص من أجره شيء . وهو يؤكد أن المشقة ليست مناط الأجر وليست مقصودة لذاتها .
(1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب الترغيب في النكاح – (ص/968) – حديث رقم (5063) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الرقاق - باب التواضع – (ص/1207) – حديث رقم (6502) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان – (ص/48) – حديث رقم (35) .