الفصل الثاني
مجال التيسير العلمي في الشريعة الإسلامية
مجالات التيسير وأبواب السماحة في الإسلام كثيرة ، وضروبها عديدة ، وطرائقها شتى ، يصعب استقصاؤها * في هذا البحث المتواضع ، لذا سأقسمها إلى نوعين قد تشمل أغلب الجوانب .
يسر الشريعة على نوعين :
1- تيسير معرفة الشريعة والعلم بها وسهولة إدراك أحكامها ومراميها .
2- تيسير التكاليف الشرعية من حيث سهولة تنفيذها والعمل بها .
المبحث الأول : تيسير العلم بالشريعة :
اقتضت حكمة الله تعالى أن حمل هذه الشريعة الإسلامية - أول ما حملها - قوم أميون ، لم يكن لهم معرفة بكتب الأقدمين ولا بعلومهم ، من العلوم الكونية ، والمنطق ، والرياضيات ، وغيرها ، ولا من العلوم الدينية ، بل كانوا باقين قريبا من الفطرة . وأرسل الله إليهم رسولا أميا لم يكتب كتابا ، ولم يخطه بيمينه ، ولا عرف أن يقرأ شيئا مما كتبه الكاتبون . قال الله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (1) ، وقال : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (2) ثم إن الله عز وجل أراد أن تكون هذه الشريعة المباركة خاتمة الشرائع ، فهي لمن عاصر النبي ولمن بعده إلى يوم القيامة ، وهي عامة للبشر جميعا ، ليست للعرب وحدهم ، بل لهم ولمن عداهم من الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، وفيهم القوي والضعيف ، والعالم والجاهل ، والقارئ والأمي ، والذكي والبليد . فاقتضت حكمته تعالى أن تكون تلك الشريعة العامة الخاتمة ميسورا فهمها وتعقلها والعلم بها لتسع الجميع ؛ إذ لو كان العلم بها
* سماحة الإسلام : لسليم الهلالي : (ص/18) .
(1) سورة الجمعة : 2 .
(2) سورة العنكبوت : 48 .
عسيرا ، أو متوقفا على وسائل علمية تدق على الأفهام لكان من العسير على جمهور المكلفين بها أخذها ومعرفتها أولا ، والامتثال لأوامرها ونواهيها ثانيا (1) .
المبحث الثاني : تيسر القرآن الكريم * :
جعل الله عز وجل القرآن ميسر التلاوة والفهم على الجمهور ، قال الله تعالـى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين (2) وقال : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (3) . ومن تيسيره أن الله تعالى أنزله على سبعة أحرف مراعاة لحال الناس من حيث القدرة على النطق . ويدل على ذلك حديث ابن عباس عن النبي أنه قال : ( أقرأني جبريل القرآن على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده ، فيزيدني ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف ) (4) .
ويرجع تيسير القرآن إلى أربعة أوجه :
الأول : أنه ميسر للتلاوة لسلاسته وخلوه من التعقيد اللفظي .
الثاني : أنه ميسر للحفظ ، فيمكن حفظه ويسهل . قال الرازي : ولم يكن شيء من كتب الله تعالى يحفظ عن ظهر قلب غير القرآن .
الثالث : سهولة الاتعاظ به لشدة تأثيره في القلوب ؛ ولاشتماله على القصص والحكم والأمثال ، وتصريف آياته على أوجه مختلفة ، كما قال الله تعالى :
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا (5) .
(1) الموسوعة الفقهية : (14/214-215) .
* انظر الموسوعة الفقهية : (14/215) بتصرف .
(2) سورة مريم : 97 .
(3) سورة القمر : 17 .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب بدء الخلق – باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم – (ص/582) –حديث رقم (3219).
وفي كتاب فضائل القرآن – باب أنزل القرآن على سبعة أحرف – (ص/956) – حديث رقم (4991) .
وأخرجه مسلم في صحيحه – كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب بيلن أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه – (ص/318) – حديث رقم (819) .
(5) سورة طه : 113 .
الرابع : أنه جعله بحيث يعلق بالقلوب ، ويستلذ سماعه ، ولا يسأم من سماعه وفهمه ، ولا يقول سامعه : قد علمت وفهمت فلا أسمعه ، بل كل ساعة يجد منه لذة وعلما .
وهذا التيسير في اللفظ والمعنى إنما هو في الغالب، وبالنسبة إلى جمهور الناس (1). وفي القرآن من الأسرار ، والمواعظ ، والعبر ، ما يدق عن فهم الجمهور ، ويتناول بعض الخواص منه شيئا فشيئا بحسب ما ييسره الله لهم ويلهمهم إياه ، يفتح على هذا بشيء لم يفتح به على الآخر ، وإذا عرض على الآخر أقره (2) .
المبحث الثالث : التيسير في علم الأحكام الاعتقادية :
التكاليف الاعتقادية في الإسلام ميسر تعقلها وفهمها،يشترك في فهمها الجمهور (3)، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا ، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لما كانت الشريعة عامة؛ ولذلك كانت المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ. فعرفت الشريعة الأمور الإلهية بما يسع الجمهور فهمه ، وحضت على النظر في المخلوقات ، والسير في الأرض ، والاعتبار بآثار الأمم السالفة ، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه من الأمور الإلهية إلى قاعدة عامة : ليس كمثله شيء (4) ، وسكتت عن أشياء لا تهتدي العقول إليها . ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين ، والمتكلفين ، كما لم يأت ذلك عن النبي وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة . وثبت النهي عن كثرة السؤال ، وعن تكلف ما لا يعني ، عاما في الاعتقاديات والعمليات (5) .
(1) الموافقات للشاطبي مع تعليق الشيخ عبد الله دراز : (2/69) .
(2) المصدر السابق : (2/86) .
(3) الموسوعة الفقهية : (14/216) .
(4) سورة الشورى : 11 .
(5) الموافقات للشاطبي : (2/88-89) .
المبحث الرابع : التيسير في علم الأحكام العملية :
راعى الشارع الحكيم أمية المدعوين وتنوع أحوالهم في الفهم ، فجعل الأحكام العملية مما يسهل تعقلها وتعلمها وفهمها ، فمن ذلك أنه كلفهم بجلائل الأعمال العبادية ، وقرب المناط فيها بحيث يدركها الجمهور ، وجعله ظاهرا منضبطا (1) ، كتعريف أوقات الصلاة بالأمور المشاهدة لهم ، كتعريفها بالظلال وطلوع الفجر والشمس ، وغروبها وغروب الشفق ، وكذلك في الصيام في قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) . وقال النبي : ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا ) (3) وقال : ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ) (4) ولم يطالبنا بجعل ذلك مرتبطا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل ؛ لما في ذلك من الدقة والخفاء (5) .
ولا يعني ذلك خلو الشريعة مما يستقل الخاصة بإدراكه ، وهي الأمور الاجتهادية، التي تخفى على الجمهور ، غير أن عامة الأحكام التي يحتاجها المكلف ، وتقوم مقام الأسس من الدين ، ظاهرة لا تخفى على الجمهور ، وما سوى ذلك يحتاج في