تآمر المشركين للفتك به وإيذان الله له بالهجرة
فصل
فلما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا ، وخرجوا ، وحملوا ، وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج ، وعرفوا أن الدار دار منعة ، وأن القوم أهل حلقة وشوكة وبأس ، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم ، فيشتد عليهم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ، ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره ، وحضرهم وليهم وشيخهم إبليس في صورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصماء في كسائه ، فتذاكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار كل أحد منهم برأي ، والشيخ يرده ولا يرضاه ، إلى أن قال أبو جهل : قد فرق لي فيه رأي ما أراكم قد وقعتم عليه ، قالوا : ما هو ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاماً نهداً جلداً ، ثم نعطيه سيفاً صارماً ، فيضربونه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنع ، ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ، ونسوق إليهم ديته ، فقال الشيخ : لله در الفتى ، هذا والله الرأي ، قال : فتفرقوا على ذلك ، واجتمعوا عليه ، فجاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى ، فأخبره بذلك ، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة .
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها متقنعاً ، فقال له : "أخرج من عندك " فقال : إنما هم أهلك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر : الصحابة يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " فقال أبو بكر : فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتى هاتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بالثمن " .
وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة ، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ، ويريدون بياته، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأخذ حفنة من البطحاء ، فجعل يذره على رؤوسهم ، وهم لا يرونه ، وهو يتلو : " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ( يس: 9 ) ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبى بكر ، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً ، وجاء رجل ، ورأى القوم ببابه فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمداً ، قال : خبتم وخسرتم قد والله مر بكم وذر على رؤوسكم التراب ، قالوا : والله ما أبصرناه ، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، وهم : أبو جهل ، والحكم بن العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وأبو لهب ، وأبي بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، فلما أصبحوا ، قام علي عن الفراش ، فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا علم لي به .
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور ، فدخلاه ، وضرب العنكبوت على بابه .
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي ، وكان هادياً ماهراً بالطريق ، وكان على دين قومه من قريش ، وأمناه على ذلك ، وسلما إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ، وجدت قريش في طلبهما ، وأخذوا معهم القافة ، حتى انتهوا إلى باب الغار ، فوقفوا عليه .
ففي الصحيحين أن أبا بكر قال : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا فقال : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن فإن الله معنا " وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعان كلامهم فوق رؤوسهما ، ولكن الله سبحانه عمى عليهم أمرهما ، وكان عامر بن فهيرة يرعى عليهما غنماً لأبي بكر ، ويتسمع ما يقال بمكة ، ثم يأتيهما بالخبر ، فإذا كان السحر سرح مع الناس .
قالت عائشة : وجهزناهما أحث الجهاز ، ووضعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ، فأوكت به الجراب ، وقطعت الأخرى فصيرتها عصاماً لفم القربة ، فلذلك لقبت ، ذات النطاقين .
وذكر الحاكم في مستدركه عن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ، ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله ، فقال له : يا رسول الله أذكر الطلب ، فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد ، فأمشي بين يديك فقال : " يا أبا بكر لو كان شئ أحببت أن يكون بك دوني ؟ " قال : نعم والذي بعثك بالحق ، فلما انتهى إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار ، فدخل ، فاستبرأه ، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة ، فقال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة ثم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل فمكثا في الغار ثلاث ليال حتى خمدت عنهما نار الطلب ، فجاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين ، فارتحلا ، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة ، وسار الدليل أمامهما ، وعين الله تكلؤهما ، وتأييده يصحبهما ، وإسعاده يرحلهما وينزلهما .
ولما يئس المشركون من الظفر بهما ، جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما ، فجد الناس في الطلب ، والله غالب على أمره ، فلما مروا بحي بني مدلج مصعدين من قديد ، بصر بهم رجل من الحي ، فوقف على الحي فقال : لقد رأيت آنفاً بالساحل أسودة ما أراها إلا محمداً وأصحابه ، ففطن بالأمر سراقة بن مالك ، فأراد أن يكون الظفر له خاصة ، وقد سبق له من الظفر ما لم يكن في حسابه ، فقال : بل هم فلان وفلان ، خرجا في طلب حاجة لهما ، ثم مكث قليلاً ، ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه : اخرج بالفرس من وراء الخباء ، وموعدك وراء الأكمة ، ثم أخذ رمحه ، وخفض عاليه يخط به الأرض حتى ركب فرسه ، فلما قرب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر يكثر الالتفات ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض ، فقال : قد علمت أن الذي أصابني بدعائكما ، فادعوا الله لي ، ولكما علي أن أرد الناس عنكما ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأطلق ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً ، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة ، فجاءه بالكتاب فوفاه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يوم وفاء وبر ، وعرض عليهما الزاد والحملان ، فقالا : لا حاجة لنا به ، ولكن عم عنا الطلب ، فقال : قد كفيتم ، ورجع فوجد الناس فى الطلب ، فجعل يقول : قد استبرأت لكم الخبر ، وقد كفيتم ما ها هنا ، وكان أول النهار جاهداً عليهما ، وآخره حارساً لهما .