فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار السفر وآدابه
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علآم الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ، وعاجل أمري وآجله ، فاقدرة لي ، ويسره لي ، وبارك لي فيه ، وإن كنت تعلمه شراً لي في ديني ومعاشي ، وعاجل أمرى وآجله ، فاصرفة عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به " قال : ويسمي حاجته ، قال : رواه البخاري .
فعوض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء، عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين ، يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب ، ولهذا سمى ذلك استقساماً، وهو استفعال من القسم ، والسين فيه للطلب ، وعوضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار، وعبودية وتوكل ، وسؤال لمن بيده الخير كله ، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه ، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم ، واختيار الطالع ونحوه . فهذا الدعاء ، هو الطالع الميمون السعيد ، طالع أهل السعادة والتوفيق ، الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء ، زالخذلان ، الذين يجعلون مع الله إلها آخر ، فسوف يعلمون .
فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه ، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة ، والإقرار بربوبيته ، وتفويض الأمر إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، والخروج من عهدة نفسه ، والتبري من الحول والقوة إلا به ، واعترافت العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله ، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله ، وسخطه بما قضى الله ".
فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفاً بأمرين : التوكل الذي هو مضمون الاستخارة قبله ، والرضى بما يقضي الله له بعده ، وهما عنوانا السعادة . وعنوان الشقاء أن يكتنفه ترك التوكل والاستخارة قبله ، والسخط بعده ، والتوكل قبل القضاء. فإذا أبرم القضاء وتم ، انتقلت العبودية إلى الرضى بعده ، كما في المسند، وزاد النسائي في الدعاء المشهور : "واسألك الرضى بعد القضاء". وهذا أبلغ من الرضى بالقضاء، فإنه قد يكون عزماً فإذا وقع القضاء، تنحل العزيمة ، فإذا حصل الرضى بعد القضاء ، كان حالاً أو مقاماً . والمقصود أن الاستخارة توكل ، على الله وتفويض إليه ، واستقسام بقدرته وعلمه ، وحسن اختياره لعبده ، وهي من لوازم الرضى به ربا ، الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك ، وإن رضي بالمقدور بعدها ، فذلك علامة سعادته . وذكر البيهقي وغيره ، عن أنس رضي الله عنه قال : لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا قال حين ينهض من جلوسه : "اللهم بك انتشرث ، وإليك توجهت ، وبك اعتصمت ، وعليك توكلت ، اللهم أنت ثقتي ، وأنت رجائي ، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم به، وما أنت أعلم به مني ، عز جارك ، وجل ثناؤك ، ولا إله غيرك ، اللهم زودني التقوى ، واغفر لي ذنبي ، ووجهني للخير أينما توجهت"، ثم يخرح .