فصل في غض الصوت في العطاس
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في العطاس ما ذكره أبو داود والترمذي ، عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس ، وضع يده أو ثوبه على فيه ، وخفض ، أو غض به صوته قال الترمذي : حديث صحيح. ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم: إن التثاوب الشديد ، والعطسة الشديدة من الشيطان . ويذكر عنه : "إن الله يكره رفع الصوت بالتثاؤب والعطاس ".
وصح عنه : إنه عطس عنده رجل ، فقال له : "يرحمك الله " . ثم عطس أخرى، فقال : الرجل مزكوم . هذا لفظ مسلم أنه قال في المرة الثانية وأما الترمذي : فقال فيه "عن سلمة بن الأكوع : عطس رجل عند رسول صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد، فقال رسول الله : يرحمك الله ، ثم عطس الثانية والثالثة، فقال رسول الله : هذا رجل مزكوم ". قال الترمذي : هذا حديث صحيح . وقد روى أبو داود عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة موقوفاً "شمت أخاك ثلاثاً ، فما زاد ، فهو زكام ". وفي رواية عن سعيد، قال : لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه . قال أبو داود: رواه أبو نعيم ، عن موسى بن قيس ، عن محمد عجلان ، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. وموسى بن قيس هذا الذي رفعه هو الحضرمي الكوفي يعرف بعصفور الجنة. قال يحيى بن معين : ثقة . وقال أبو حاتم الرازي : لا بأس به . وذكر أبو داود، عن عبيد بن رفاعة الزرقي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : تشمت العاطس ثلاثاً، فإن شئت ، فشمته ، وإن شئت فكف ، ولكن له علتان ، إحداهما: إرساله ، فإن عبيداً هذا ليست له صحبة، والثانية : أن أبا فيه خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالاني ، وقد تكلم فيه .
وفي الباب حديث آخر، عن أبي هريرة يرفعه : "إذا عطس أحدكم ، فليشمته جليسه ، فإن زاد على الثلاثة ، فهو مزكوم ، ولا تشمته بعد الثلاث " وهذا الحديث هو حديث أبي داود الذي قال فيه : رواه أبو نعيم ، عن موسى بن قيس ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد، عن أبي هريرة ، وهو حديث حسن . فإن قيل : إذا كان به زكام ، فهو أولى أن يدعى له ممن لا علة به ؟ قيل : يدعى له كما يدعى للمريض ، ومن به داء ووجع . وأما سنة العطاس الذي يحبه الله ، وهو نعمة، ويدل على خفة البدن ، وخروج الأبخرة المحتقنة، فإنما يكون إلى تمام الثلاث ، وما زاد عليها يدعى لصاحبه بالعافية . وقوله في هذا الحديث : الرجل مزكوم تنبيه على الدعاء له بالعافية، لأن الزكمة علة، وفيه اعتذار من ترك تشميته بعد الثلاث ، وفيه تنبيه له على هذه العلة ليتداركها ولا يهملها، فيصعب أمرها، فكلامه صلى الله عليه وسلم كله حكمة ورحمة ، وعلم وهدى .
وقد اختلف الناس في مسألتين : إحداهما: أن العاطس إذا حمد الله ، فسمعه بعض الحاضرين دون بعض ، هل يسن لمن لم يسمعه تشميته ؟ فيه قولان ، والأظهر: أنه يشمته إذا تحقق أنه حمد الله ، وليس المقصود سماع المشمت للحمد، وإنما المقصود نفس، حمده ، فمتى تحقق ترتب عليه التشميت ، كما لو كان المشمت أخرس ، ورأى حركة شفتيه بالحمد . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : فإن حمد الله ، فشمتوه هذا هو الصواب . الثانية : إذا ترك الحمد، فهل يستحب لمن حضره أن يذكره الحمد؟ قال ابن العربي : لا يذكره ، قال : وهذا جهل من فاعله . وقال النووي : أخطأ من زعم ذلك ، بل يذكره ، وهو مروي عن إبراهيم النخعي . قال : وهو من باب النصيحة ، والأمر بالمعروف ، والتعاون على البر والتقوى، وظاهر السنة يقوي قول ابن العربي لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشمت الذي عطس ، ولم يحمد الله ، ولم يذكره ، وهذا تعزير له ، وحرمان لبركة الدعاء لما حرم نفسه بركة الحمد، فنسي الله ، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له ، ولو كان تذكيره سنة، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمها ، والإعانة عليها .