فصل ما عاب صلى الله عليه وسلم طعاماً قط
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أهله ربما يسألهم : هل عندكم طعام ؟ وما عاب طعاماً قط ، بل كان إذا اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه وسكت وربما قال : "أجدني أعافه أني لا أشتهيه " .
وكان يمدح الطعام أحياناً، كقوله لما سأل أهله الإدام ، فقالوا : ما عندنا إلا خل ، فدعا به فجعل يأكل منه ويقول : "نعم الأدم الخل " وليس في هذا تفضيل له على اللبن واللحم والعسل والمرق ، وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها، ولو حضر لحم أو لبن ، كان أولى بالمدح منه ، وقال هذا جبراً وتطييباً لقلب من قدمه ، لا تفضيلاً له على سائر أنواع الإدام .
وكان إذا قرب إليه طعام وهو صائم قال : "إني صائم "وأمر من قرب إليه الطعام وهو صائم أن يصلي ، أي يدعو لمن قدمه ، وإن كان مفطراً أن يأكل منه . وكان إذا دعي لطعام وتبعه أحد، أعلم به رب المنزل ، وقال : "إن هذا تبعنا، فإن شئت أن تأذن له ، وإن شئت رجع ".
وكاذ يتحدث على طعامه ، كما تقدم في حديث الخل ، وكما قال لربيبه عمر بن أبي سلمة وهو يؤاكله : "سم الله ، وكل مما يليك ".
وربما كان يكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مرارأ، كما يفعله أهل الكرم ، كما في حديث "أبي هريرة عند البخاري في قصة شرب اللبن وقوله له مراراً : اشرب ، فما زال يقول : اشرب حتى قال : والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً ".
وكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم ، فدعا في منزل عبد الله بن بسر ، فقال : "اللهم بارك لهم فيما رزقتهم ، واغفر لهم ، وارحمهم" ذكره مسلم .
ودعا في منزل سعد بن عبادة فقال : "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة".
وذكر أبو داود "عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دعاه أبو الهيثم بن التيهان هو وأصحابه فأكلوا ، فلما فرغوا قال : أثيبوا أخاكم قالوا : يا رسول الله وما إثابته ؟ قال: إن الرجل إذا دخل بيته ، فأكل طعامه ، وشرب شرابة ، فدعوا له ، فذلك إثابته ".
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل منزلة ليلة، فالتمس طعاماً فلم يجده ، فقال : "اللهم أطعم من أطعمني ، واسق من سقاني ".
وذكر عنه أن عمرو بن الحمق سقاه لبناً فقال : اللهم أمتعه بشبابه ، فمرت عليه ثمانون سنة لم يجد شعرة بيضاء.
وكان يدعو لمن يضيف المساكين ، ويثني عليهم ، فقال مرة: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله، وقال للأنصاري وامراته الذين آثرا بقوتهما وقوت صبيانهما ضيفهما : "لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة".
وكان لا يأنف من مؤاكلة أحد صغيراً كان أو كبيراً، حراً أو عبداً ، أعرابياً أو مهاجراً، حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة فقال : "كل بسم الله ثقة بالله، وتوكلاً عليه ".
وكان يأمر بالأكل باليمين ، وينهى عن الأكل بالشمال ، ويقول : "إن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله " ومقتضى هذا تحريم الأكل بها ، وهو الصحيح ، فإن الآكل بها، إما شيطان ، وإما مشبه به . وصح عنه أنه قال لرجل أكل عنده ، فأكل بشماله : "كل بيمينك "، فقال : لا استطيع ، فقال : "لا استطعت " فما رفع يده إلى فيه بعدها فلو كان ذلك جائزاً، لما دعا عليه بفعله ، وإن كان كبره حمله على ترك امتثال الأمر، فذلك أبلغ في العصيان واستحقاق الدعاء عليه وأمر من شكوا إليه أنهم لا يشبعون : أن يجتمعوا على طعامهم ولا يتفرقوا وأن يذكروا اسم الله عليه يبارك لهم فيه .
وصح عنه أنه قال : "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة يحمده عليها ، ويشرب الشربة يحمده عليها" .
وروي عنه أنه قال : "أذيبوا طعامكم بذكر الله عز وجل والصلاة ، ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم " وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحا والواقع في التجربة يشهد به .