فصل في فقه الأسماء والكنى
فصل
في فقه هذا الباب
لما كانت الأسماء قوالب للمعاني ، ودالة عليها ، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك ، والواقع يشهد بخلافه ، بل للأسماء تأثير في المسميات ، وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح ، والخفة والثقل ، واللطافة والكثافة ، كما قيل :
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
وكان صلى الله عليه وسلم يستحب الاسم الحسن ، وأمر إذا أبردوا إليه بريداً أن يكون حسن الإسم حسن الوجه . وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، كما رأى أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع ، فأتو برطب من رطب ابن طاب ، فأوله بأن لهم الرفعة في الدنيا ، والعاقبة في الآخرة، وإن الدين الذي قد اختاره الله لهم قد أرطب وطاب ، وتأول سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجىء سهيل بن عمرو إليه .
وندب جماعة إلى حلب شاة، "فقام رجل يحلبها، فقال : ما اسمك ؟ قال : مرة، فقال : اجلس ، فقام آخر فقال : ما اسمك ؟ قال : أظنه حرب ، فقال : اجلس، فقام آخر فقال : ما اسمك ؟ فقال : يعيش ، فقال : احلبها ". وكان يكره الأمكنة المنكرة الأسماء ويكره العبور فيها ، كما مر في بعض غزواته بين جبلين ، فسأل عن اسميهما فقالوا : فاضح ومخز، فعدل عنهما ، ولم يجز بينهما. ولما كان بين الأسماء والمسميات من الارتباط والتناسب والقرابة ، ما بين قوالب الأشياء وحقائقها، وما بين الأروح والأجسام ، عبر العقل من كل منهما إلى الآخر ، كما كان إياس بن معاوية وغيره يرى الشخص ، فيقول: ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت ، فلا يكاد يخطىء ، وضد هذا العبور من الإسم إلى مسماه ، كما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً عن اسمه ، فقال : جمرة ، فقال : واسم أبيك ؟ قال : شهاب ، قال ممن ؟ قال : من الحرقة، قال: فمنزلك ؟ قال : بحرة النار، قال : فأين مسكنك؟ قال : بذات لظى : قال : اذهب فقد احترق مسكنك ، فذهب فوجد الأمر كذلك فعبر عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها ، كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم من اسم سهيل إلى سهوله أمرهم يوم الحديبة ، فكان الأمر كذلك ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحسين أسمائهم ، وأخبر أنهم يدعون يوم القيامة ، بها ، وفي هذا - والله أعلم - تنبيه على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء ، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسن ، والوصف الناسب له . وتأمل كيف اشتق للنبي صلى الله عليه وسلم من وصفه اسمان متطابقان لمعناه ، وهما أحمد ومحمد ، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمد ، ولشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الإسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد ، وكذلك تكنيته صلى الله عليه وسلم لأبي الحكم بن هشام بأبي جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه ، وهو أحق الخلق بهذه الكنية ، وكذلك تكنية الله عز وجل لعبد العزى بأبي لهب ، لما كان مصيره إلى نار ذات لهب ، كانت هذه الكنية أليق به وأوفق ، وهو بها أحق وأخلق . ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، واسمها يثرب لا تعرف بغير هذا الإسم ، غيره بطيبة لما زال عنها ما في لفظ يثرب من التثريب بما في معنى طيبة من الطيب ، استحقت هذا الإسم ، وزادت به طيباً آخر ، فأثر طيبها في استحقاق الاسم ، وزادها طيباً إلى طيبها . ولما كان الاسم الحسن يقتضي مسماه ، ويستدعيه من قرب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده :" يا بني عبد الله ، إن الله قد حسن اسمكم واسم أبيكم " فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بحسن اسم أبيهم ، وبما فيه من المعنى المقتضي للدعوة، وتأمل أسماء الستة المتبارزين يوم بدر كيف اقتض القدر مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفار : شيبة ، وعتبة ، والوليد، ثلاثة أسماء من الضعف ، فالوليد له بداية الضعف ، وشيبة له نهاية الضعف ، كما قال تعالى: " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة " [الروم : 54] وعتبة من العتب ، فدلت أسماؤهم على عتب يحل بهم ، وضعف ينالهم ، وكان أقرانهم من المسلمين : علي ، وعبيدة، والحارث ، رضي الله عنهم ، ثلاثة أسماء تناسب أوصافهم ، وهي العلو، والعبودية ، والسعي الذي هو الحرث فعلوا عليهم بعبوديتهم وسعيهم في حرث الآخرة . ولما كان الاسم مقتضياً لمسماه ، ومؤثراً فيه ، كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه ، كعبد الله ، وعبدالرحمن ، وكان إضافة العبودية إلى اسم الله ، واسم الرحمن ، أحب إليه من إضافتها إلى غيرها كالقاهر، والقادر، فعبد الرحمن أحب إليه من عبد القادر، وعبد الله أحب إليه من عبد ربه ، وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة والتعلق الذي بين الله وبين العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده وكمال وجوده ، والغاية التي أوجده لأجلها أن يتأله له وحده محبة وخوفاً، ورجاء وإجلالاً وتعظيماً ، فيكون عبداً لله وقد عبده لما في اسم الله من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره ، ولما غلبت رحمته غضبه وكانت الرحمة أحب إليه من الغضب ، كان عبد الرحمن أحب إليه من عبد القاهر .