الرد على من قال : أخر النبي طواف الزيارة إلى الليل
فصل
والطائفة الثانية : الذين قالوا : أخر طواف الزيارة إلى الليل ، وهم طاووس ومجاهد ، وعروة ، ففي سنن أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي الزبير المكي ، عن عائشة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أخر طوافه يوم النحر إلى الليل . وفي لفظ : طواف الزيارة ، قال الترمذي : حديث حسن .
وهذا الحديث غلط بين خلاف المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك فيه أهل العلم بحجته صلى الله عليه وسلم ،
فنحن نذكر كلام الناس فيه ، قال الترمذي في كتاب العلل له : سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث ، وقلت له : أسمع أبو الزبير من عائشة وابن عباس ؟ قال : أما من ابن عباس ، فنعم ، وفي سماعه من عائشة نظر. وقال أبو الحسن القطان : عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح ، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهاراً ، وإنما اختلفوا : هل صلى الظهر بمكة أو رجع إلى منى، فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه ؟ فابن عمر يقول : إنه رجع إلى منى ، فصلى الظهر بها، وجابر يقول : إنه صلى الظهر بمكة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخر الطواف إلى الليل ، وهذا شيء لم يرو إلا من هذا الطريق ، وأبو الزبير مدلس لم يذكر ها هنا سماعاً من عائشة ، وقد عهد أنه يروي عنها بواسطة، ولا عن ابن عباس أيضاً، فقد عهد كذلك أنه يروي عنها واسطة ، وإن كان قد سمع منه ، فيجب التوقف فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يذكر فيه سماعه منهما، لما عرف به من التدليس ، لو عرف سماعه منها لغير هذا، فأما ولم يصح لنا أنه سمع من عائشة، فالأمر بين في وجوب التوقف فيه ، وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلس إذا كان عمن قد علم لقاؤه له وسماعه منه ها هنا. يقول قوم : يقبل ، ويقول آخرون : يرد ما يعنعنه عنهم حتى يتبين الاتصال في حديث حديث ، وأما ما يعنعنه المدلس ، عمن قد علم لقاؤه له ولا سماعه منه ، فلا أعلم الخلاف فيه بأنه لا يقبل . ولو كنا نقول بقول مسلم : بأن معنعن المتعاصرين محمول على الاتصال ولو لم يعلم التقائهما، فإنما ذلك في غير المدلسين . وأيضاً فلما قدمناه من صحة طواف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهاراً . والخلاف في رد حديث المدلسين حتى يعلم اتصاله ، أو قبوله ، حتى يعلم انقطاعه ، إنما هو إذا لم يعارضه ما لا شك في صحته ، وهذا قد عارضه مما لا شك في صحته . انتهى كلامه .
ويدل على غلط أبي الزبير على عائشة ، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن روى عن عائشة ، أنها قالت : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفضنا يوم النحر. وروى محمد بن اسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة ، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نساءه ليلاً ، وهذا غلط أيضاً .
قال البيهقي : وأصح هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر ، وحديث جابر، وحديث أبي سلمة عن عائشة ، يعني : أنه طاف نهاراً . قلت : إنما نشأ الغلط من تسمية الطواف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الوداع إلى الليل ، كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة . قالت : "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ...... فذكرت الحديث ، إلى أن قالت : فنزلنا المحصب ، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال : اخرج بأختك من الحرم ، ثم أفرغا من طوافكما ، ثم ائتياني ها هنا بالمحصب . قالت : فقضى الله العمرة، وفرغنا من طوافنا في جوف الليل ، فأتيأه بالمحصب ، فقال : فرغتما؟ قلنا : نعم . فأذن في الناس بالرحيل ، فمر بالبيت ، فطاف به ، ثم ارتحل متوجهاً إلى المدينة" .
فهذا هو الطواف الذي أخره إلى الليل بلا ريب ، فغلط فيه أبو الزبير ، أو من حدثه به ، وقال : طواف الزيارة ، والله الموفق .
ولم يرمل صلى الله عليه وسلم في هذا الطواف ، ولا في طواف الوداع ، وإنما رمل في طواف القدوم .