رجوعه الى منى وخطبته فيها
فصل
ثم رجع إلى منى، فخطب الناس خطبة بليغة أعلمتهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه ، وفضله عند الله ، وحرمة مكة على جميع البلاد ، وأمرهم بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله ، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه ، وقال : "لعلي لا أحج بعد عامي هذا".
وعلمهم مناسكهم ، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم ، وأمر الناس أن لا يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض ، وأمر بالتبليغ عنه . وأخبر أنه رب مبلغ أوعى من سامع .
وقال في خطبته : " لا يجني جان إلا على نفسه " .
وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة ، والأنصار عن يسارها ، والناس حولهم وفتح الله له أسماع الناس حتى سمعها أهل منى في منازلهم. وقال في خطبته تلك : "اعبدوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم " . وودع حيئذ الناس ، فقالوا : حجة الوداع . وهناك سئل عمن حلق قبل أن يرمي ، وعمن ذبح قبل أن يرمي ، فقال : " لاحرج " قال عبد الله بن عمرو: ما رأيته صلى الله عليه وسلم سئل يومئذ عن شيء إلا قال :" افعلوا ولا حرج ".
قال ابن عباس : "إنه قيل له صلى الله عليه وسلم في الذبح ، والحلق ، والرمي ، والتقديم ، والتأخير ، فقال : لا حرج " .
وقال أسامة بن شريك : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجاً ، وكان الناس يأتونه فمن قائل : يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف ، أو قدمت شيئاً أو أخرت شيئاً فكان يقول : "لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم ، فذلك الذي حرج وهلك ".
وقوله : سعيت قبل أن أطوف ، في هذا الحديث ليس بمحفوظ . والمحفوظ : تقديم الرمي ، والنحر، والحلق بعضها على بعض .
ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده ، وكان ينحرها قائمة، معقولة يدها اليسرى. وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره ، ثم أمسك وأمر علياً أن ينحر ما غبر من المائة، ثم أمر علياً رضي الله عنه ، أن يتصدق بجلالها ولحومها وجلودها في المساكين ، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئاً منها، وقال : نحن نعطيه من عندنا، وقال : "من شاء اقتطع " .
فإن قيل : فكيف تصنعون بالحديث الذي في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه ، قال : "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، فبات بها، فلما أصبح ، ركب راحلته ، فجعل يهلل ويسبح فلما علا على البيداء، لبى بهما جميعاً ، فلما دخل مكة، أمرهم أن يحلوا، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن قياماً ، وضحى بالمدينة كبشين أملحين " . فالجواب : أنه لا تعارض بين الحديثين .
قال أبو محمد ابن حزم : مخرج حديث أنس ، على أحد وجوه ثلاثة .
أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم لم ينحر بيد، أكثر من سبع بدن ، كما قال أنس ، وأنه أمر من ينحر ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين ، ثم زال عن ذلك المكان ، وأمر علياً رضي الله عنه ، فنحر ما بقي .
الثاني : أن يكون أنس لم يشاهد إلا نحره صلى الله عليه وسلم سبعاً فقط بيده ، وشاهد جابر تمام نحره صلى الله عليه وسلم للباقي ، فأخبر كل منهما بما رأى وشاهد .
الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده منفرداً سبع بدن كما قال أنس ، ثم أخذ هو وعلي الحربة معاً ، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين ، كما قال غرفة بن الحارث الكندي أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ قد أخذ بأعلى الحربة ، وأمر علياً فأخذ بأسفلها ، ونحرا بها البدن ثم انفرد علي بنحر الباقي من المائة، كما قال جابر. والله أعلم . فإن قيل : فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن علي قال : لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة ، فنحر ثلاثين بيده ، وأمرني فنحرت سائرها .
قلنا : هذا غلط انقلب على الراوي ، فإن الذي نحر ثلاثين : هو علي ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر سبعاً بيده لم يشاهده علي ، ولا جابر، ثم نحر ثلاثاً وستين أخرى ، فبقي من المائة ثلاثون ، فنحرها علي ، فانقلب على الراوي عدد ما نحره علي بما نحره النبي صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : فما تصنعون بحديث عبد الله بن قرط ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر" . وهو اليوم الثاني . قال : وقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ ؟ فلما وجبت جنوبها قال : فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها، فقلت : ما قال ؟ قال : " من شاء اقتطع ".
قيل : نقبله ونصدقه ، فإن المائة لم تقرب إليه جملة، وإنما كانت تقرب إليه أرسالاً ، فقرب منهن إليه خمس بدنات رسلاً ، وكان ذلك الرسل يبادرون ويتقربن إليه ليبدأ بكل واحدة منهن . فإن قيل : فما تصنعون بالحديث الذي في الصحيحين ، من حديث أبي بكرة في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمنى، وقال في آخره : ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما، وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا، لفظه لمسلم . ففي هذا ، أن ذبح الكبشين كان بمكة ، وفي حديث أنس ، أنه كان بالمدينة: في هذا طريقتان للناس . إحداهما: أن القول : قول أنس ، وأنه ضحى بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين ، وأنه صلى العيد ، ثم انكفأ إلى كبشين ، ففصل أنس ، وميز بين نحره للبدن ، وبين نحره بالمدينة للكبشين ، وبين أنهما قصتان ، ويدل على هذا أن جميع من ذكر نحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، إنما ذكروا أنه نحر الإبل ، وهو الهدي الذي ساقه ، وهو أفضل من نحر الغنم هناك بلا سوق ، وجابر قد قال في صفة حجة الوداع : إنه رجع من الرمي ، فنحر البدن ، وإنما أشتبه على بعض الرواة ، أن قصة الكبشين كانت يوم عيد، فظن أنه كان بمنى فوهم . الطريقة الثانية : طريقة ابن حزم ، ومن سلك مسلكه ، أنهما عملان متغايران ، وحديثان صحيحان ، فذكر أبو بكرة تضحيته بمكة، وأنس تضحيته بالمدينة . قال : وذبح يوم النحر الغنم ، ونحر البقر والإبل ، كما قالت عائشة : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن أزواجه بالبقر ، وهو في الصحيحين . وفي صحيح مسلم : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر.
وفي السنن : أنه نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة .
ومذهبه : أن الحاج شرع له التضحية مع الهدي ، والصحيح إن شاء الله : الطريقة الأولى، وهدي الحاج له بمنزلة الأضحية للمقيم ، ولم يقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه ، جمعوا بين الهدي والأضحية، بل كان هديهم هو أضاحيهم ، فهو هدي بمنى ، وأضحية بغيرها .
وأما قول عائشة: ضحى عن نسائه بالبقر، فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية، وأنهن كن متمتعات ، وعليهن الهدي ، فالبقر الذي نحره عنهن هو الهدي الذي يلزمهن . ولكن في قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع : إشكال ، وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة . وأجاب أبو محمد ابن حزم عنه ، بجواب على أصله ، وهو أن عائشة لم تكن معهن في ذلك ، فإنها كانت قارنة وهن متمتعات ، وعنده لا هدي على القارن ، وأيد قوله بالحديث الذي رواه مسلم من حديث هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة، فكنت فيمن أهل بعمرة ، فخرجنا حتى قدمنا مكة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي ، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "دعي عمرتك وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ". قالت : ففعلت : فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا ، أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفني ، وخرج إلى التنعيم ، فأهللت بعمرة، فقضى الله حجنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي صدقة ولا صوم .
وهذا مسلك فاسد تفرد به ابن حزم عن الناس . والذي عليه الصحابة، والتابعون ، ومن بعدهم أن القارن يلزمه الهدي ، كما يلزم المتمتع ، بل هو متمتع حقيقة في لسان الصحابة كما تقدم ، وأما هذا الحديث ، فالصحيح : إن هذا الكلام الأخير من قول هشام بن عروة، جاء ذلك في صحيح مسلم مصرحاً به ، فقال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها . . . فذكرت الحديث . وفي آخره : قال عروة في ذلك : إنه قضى الله حجها وعمرتها. قال هشام : ولم يكن في ذلك هدي ، ولا صيام ، ولا صدقة .
قال أبو محمد: إن كان وكيع جعل هذا الكلام لهشام ، فابن نمير، وعبدة أدخلاه في كلام عائشة، وكل منهما ثقة، فوكيع نسبه إلى هشام ، لأنه سمع هشاماً يقوله ، وليس قول هشام إياه بدافع أن تكون عائشة قالته ، فقد يروي المرء حديثاً يسنده ، ثم يفتي به دون أن يسنده ، فليس شيء من هذا بمتدافع ، وإنما يتعلل بمثل هذا من لا ينصف ، ومن اتبع هواه ، والصحيح من ذلك : أن كل ثقة فمصدق فيما نقل . فإذا أضاف عبدة وابن نمير القول إلى عائشة، صدقا لعدالتهما . وإذا أضافه وكيع إلى هشام ، صدق أيضاً لعدالته ، وكل صحيح ، وتكون عائشة قالته ، وهشام قاله . قلت : هذه الطريقة هي اللائقة بظاهريته ، وظاهرية أمثاله ممن لا فقه له في علل الأحاديث ، كفقه الأئمة النقاد أطباء علله ، وأهل العناية بها، وهؤلاء لا يلتفتون إلى قول من خالفهم ممن ليس له ذوقهم ومعرفتهم ، بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصيارف النقاد ، الذين يميزون بين الجيد والرديء ، ولا يلتفتون إلى خطأ من لم يعرف ذلك . ومن المعلوم ، أن عبدة وابن نمير لم يقولا في هذا الكلام : قالت عائشة ، وإنما أدرجاه في الحديث إدراجاً ، يحتمل أن يكون من كلامهما، أو من كلام عروة، أو من هشام ، فجاء وكيع ، ففصل وميز، ومن فصل وميز، فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره ، نعم لو قال ابن نمير وعبدة : قالت عائشة ، وقال وكيع : قال هشام ، لساغ ما قال أبو محمد ، وكان موضع نظر وترجيح. وأما كونهن تسعاً وهي بقرة واحدة، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ ، أحدها أنها بقرة واحدة بينهن ، والثاني : أنه ضحى عنهن يومئذ بالبقرة ، والثالث : دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت : ما هذا؟ فقيل : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه . وقد اختلف الناس في عدد من تجزىء عنهم البدنة والبقرة، فقيل : سبعة وهو قول الشافعي ، وأحمد في المشهور عنه ، وقيل : عشرة ، وهو قول إسحاق . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قسم بينهم المغانم ، فعدل الجزور بعشر شياه .
وثبت هذا الحديث ، أنه صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه وهن تسع ببقرة . وقد روى سفيان ، عن ابي الزبير، عن جابر، أنهم نحروا البدنة في حجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرة وهو على شرط مسلم ولم يخرجه ، وإنما أخرج قوله : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدن .
وفي المسند : من حديث ابن عباس : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى ، فاشتركنا في البقرة سبعة ، وفي الجزور عشرة . ورواه النسائي والترمذي ، وقال : حسن غريب . وفي الصحيحين عنه : نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، البدنة سبعة ، والبقرة عن سبعة .
وقال حذيفة : شرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته بين المسلمين ، في البقرة عن سبعة . ذكره الإمام أحمد رحمه الله . وهذه الأحاديث ، تخرج على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يقال : السبعة أكثر وأصح ، وإما أن يقال : عدل البعير بعشرة من الغنم ، تقويم في الغنائم لأجل تعديل القسمة، وأما كونه عن سبعة في الهدايا ، فهو تقدير شرعي ، وإما أن يقال : إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة ، والأمكنة، والإبل ، ففي بعضها كان البعير يعدل عشر شياه ، فجعله عن عشرة، وفي بعضها يعدل سبعة، فجعله عن سبعة ، والله أعلم . وقد قال أبو محمد: إنه ذبح عن نسائه بقرة للهدي ، وضحى عنهن ببقرة ، وضحى عن نفسه بكبشين ، ونحر عن نفسه ثلاثاً وستين هدياً ، وقد عرفت ما في ذلك من الوهم ، ولم تكن بقرة الضحية غير بقرة الهدي ، بل هي هي ، وهدي الحاج بمنزلة ضحية الآفاقي .