وقوفه في المزدلفة
فصل
وقف صلى الله عليه وسلم في موقفه ، وأعلم الناس أن مزدلفة كلها موقف ، ثم سار من مزدلفة مردفاً للفضل بن عباس وهو يلبي في مسيره ، وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش .
وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلقط له حصى الجمار، سبع حصيات ، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده ، ولا التقطها بالليل ، فالتقط له سبع حصيات من حصى الحذف ، فجعل ينفضهن في كفه ويقول : "بأمثال هؤلاء فارموا ، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ".
وفي طريقه تلك ، عرضت له امرأة من خثعم جميلة، فسألته عن الحج عن أبيها وكان شيخاً كبيراً لا يستمسك على الرحلة، فأمرها أن تحج عنه، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فوضع يده على وجهه ، وصرفه إلى الشق الآخر، وكان الفضل وسيماً ، فقيل : صرف وجهه عن نظرها إليه . وقيل : صرفه عن نظر إليها، والصواب : إنه فعله للأمرين ، فإنه في القصة جعل ينظر إليها وتنظر إليه .
وسأله آخر هنالك عن أمه ، فقال : إنها عجوز كبيرة، فإن حملتها لم تستمسك ، وإن ربطتها خشيت أن أقتلها، فقال : "أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : فحج عن أمك ".
فلما أتى بطن محسر، حرك ناقته وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه ، فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا، ولذلك سمى ذلك الوادي وادي محسر ، لأن الفيل حسر فيه ، أي: أعيي، وانقطع عن الذهاب إلى مكة ، وكذلك فعل في سلوكه الحجر ديار ثمود فإنه تقنع بثوبه ، وأسرع السير.
ومحسر: برزخ بين منى وبين مزدلفة، لا من هذه ، ولا من هذه ، وبرزخ بين عرفة والمشعر الحرام ، فبين كل مشعرين برزخ ليس منهما، فمنى : من الحرم ، وهي مشعر، ومحسر: من الحرم ، وليس بمشعر ، ومزدلفة : حرم ومشعر، وعرنة ليست مشعراً ، وهي من الحل . وعرفة : حل ومشعر .
وسلك صلى الله عليه وسلم ، الطريق الوسطى بين الطريقين ، وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفل الوادي ، وجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، واستقبل الجمرة وهو على راحلته ، فرماها راكباً بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يكبر مع كل حصاة . وحينئذ قطع التلبية .
وكان في مسيره ذلك يلبي حتى شرع في الرمي ، ورمى بلال وأسامة معه ، أحدهما آخذ بخطام ناقته ، والآخر يظلله بثوب من الحر . وفي هذا : دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه إن كانت قصة هذا الإظلال يوم النحر ثابتة ، وإن كانت بعده في أيام منى، فلا حجة فيها ، وليس في الحديث بيان في أي زمن كانت . والله أعلم .