صلاته في المزدلفة ووقوفه بالمشعر الحرام
فصل
فلما طلع الشجر، صلاها في أول الوقت لا قبله قطعاً بأذان وإقامة يوم النحر ، وهو يوم العيد ، وهو يوم الحج الأكبر، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك .
ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرع ، والتكبير ، والتهليل ، والذكر ، حتى أسفر جداً ، وذلك قبل طلوع الفجر .
وهناك سأله عروة بن مضرس الطائي ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني جئت من جبلي طيء ، أكللت راحتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من شهد صلاتنا هذه ووقفت معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ، فقد أتم حجته ، وقضى تفثه ". قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وبهذا احتج من ذهب إلى أن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها، ركن كعرفة ، وهو مذهب اثنين من الصحابة، ابن عباس ، وابن الزبير رضي الله عنهما ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وهو مذهب الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود الظاهري ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، واختاره المحمدان : ابن جرير ، وابن خزيمة ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، ولهم ثلاث حجج . هذه إحداها، والثانية : قوله تعالى : " فاذكروا الله عند المشعر الحرام " [البقرة : 198] والثالثة : فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرح مخرح البيان لهذا الذكر المأمور به. واحتج من لم يره ركناً بأمرين ، أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم مد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر، وهذا يقتضي أن من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر زمان ، صح حجه ، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنا لم يصح حجه .
الثاني : أنه لو كان ركناً ، لاشترك فيه الرجال والنساء ، فلما قدم رسول صلى الله عليه وسلم النساء بالليل ، علم أنه ليس بركن ، وفي الدليلين نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قدمهن بعد المبيت بمزدلفة، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة . والواجب هو ذلك . وأما توقيت الوقوف بعرفة إلى الفجر، فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة ركناً ، وتكون تلك الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلوات ، وتضييق الوقت لأحدهما لا يخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة .