وهم ابن حزم في طوافه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة
فصل
وقال ابن حزم : وطاف صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أيضاً سبعاً، راكباً على بعيره يخب ثلاثاً، ويمشي أربعاً ، وهذا من أوهامه وغلطه رحمه الله ، فإن أحداً لم يقل هذا قط غيره ، ولا رواه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة . وهذا إنما هو في الطواف بالبيت ، فغلط أبو محمد، ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة. وأعجب من ذلك ، استدلال عليه بما رواه من طريق البخاري ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف حين قدم مكة ، واستلم الركن أول شيء ، ثم خب ثلاثة أطواف ، ومشى أربعاً ، فركع حين قضى طوافه بالبيت ، وصلى عند المقام ركعتين ، ثم سلم فانصرف ، فأتى الصفا ، فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ... وذكر باقي الحديث . قال : ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصاً، ولكنه متفق عليه . هذا لفظه . قلت : المتفق عليه : السعي في بطن الوادي في الأشواط كلها . وأما الرمل في الثلاثة الأول خاصة، فلم يقله ، ولا نقله فيما نعلم غيرة. وسألت شيخنا عنه ، فقال : هذا من أغلاطه ، وهو لم يحج رحمه الله تعالى. ويشبه هذا الغلط ، غلظ من قال : إنه سعى أربع عشرة مرة، وكان يحتسب بذهابه ورجوعه مرة واحدة . وهذا غلط عليه صلى الله عليه وسلم ، لم ينقله عند أحد ، ولا قاله أحد من الأئمة الذين اشتهرت أقواتهم ، وإن ذهب إليه بعض التأخرين من المنتسبين إلى الأئمة. ومما يبين بطلان هذا القول ، أنه صلى الله عليه وسلم لا خلاف عنه ، أنه ختم سعيه بالمروة ، ولو كان الذهاب والرجوع مرة واحدة ، ولو كان الذهاب والرجوع مرة واحدة ، لكان ختمه إنما يقع على الصفا .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة ، رقي عليها ، واستقبل البيت ، وكبر الله ووحده ، وفعل كما فعل على الصفا ، فلما أكمل سعيه عند المروة ، أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتماً ولا بد ، قارناً كان أو مفرداً وأمرهم أن يحلوا الحل كله من وطء الناس ، والطيب ، ولبس المخيط ، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ، ولم يحل هو من أجل هديه . وهناك قال : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة ".
وقد روي أنه أحل هو أيضاً، وهو غلط قطعاً ، قد بيناه فيما تقدم .
وهناك دعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثاً ، وللمقصرين مرة . وهناك سأله سراقة بن مالك بن جعشم عقيب أمره لهم بالفسخ والإحلال : هل ذلك لعامهم أو خاصة، أم للأبد ؟ فقال : "بل للأبد" . ولم يحل أبو بكر ، ولا عمر ، ولا علي ولا طلحة ، ولا الزبير من أجل الهدي .
وأما نساؤه صلى الله عليه وسلم ، فأحللن ، وكن قارنات ، إلا عائشة فإنها لم تحل ، من أجل تعذر الحل عليها لحيضها ،
وفاطمة حلت، لأنها لم يكن معها هدي ، وعلي رضي الله عنه لم يحل من أجل من أجل هديه ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بإهلال كإهلاله أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي ، وأن يحل إن لم يكن معه هدي .
وكان يصلي مدة مقامه بمكة إلى يوم التروية بمنزلة الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يوم الخميس ضحى، توجه بمن معه من المسلمين إلى منى، فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم ، ولم يدخلوا إلى المسجد، فأحرموا منه ، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم ، فلما وصل إلى منى، نزل بها، وصلى بها الظهر والعصر، وبات بها، وكان ليلة الجمعة، فلما طلعت الشمس ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم ، وكان من أصحابه الملبى ، ومنهم المكبر ، وهو يسمع من ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء فوجد القبة قد ضربت له بنمرة بأمره ، وهي قرية شرقي عرفات ، وهي خراب اليوم ، فنزل بها ، حتى إذا زالت الشمس ، أمر بناقته القصواء فرحلت ، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنه ، فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة قرر فيها قواعد الإسلام ، وهدم فيها قواعد الشرك و الجاهلية ، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها ، وهي الدماء والأموال ، والأعراض ، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه ، ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله ، وأوصاهم بالنساء خيراً ، وذكر الحق الذي لهن والذي عليهن ، وأن الواجب لهن الرزق والكسوة بالمعروف ، ولم يقدر ذلك بتقدير ، وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكرهه أزواجهن ، وأوصى الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله ، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به ، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه ، واستنطقهم : بماذا يقولون ، وبماذا يشهدون ، فقالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فرفع أصبعه إلى السماء ، واستشهد الله عليهم ثلاث مرات ، وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم .
قال ابن حزم : وأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي أم عبد الله بن عباس ، بقدح لبن ، فشربه أمام الناس وهو على بعيره فلما أتم الخطبة ، أمر بلالاً فأقام الصلاة ، وهذا من وهمه رحمه الله ، فإن قصة شربه إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة، ووقف بها هكذا جاء في الصحيحين مصرحاً به عن ميمونة: أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ، فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف ، فشرب منه والناس ينظرون . وفي لفظ : وهو واقف بعرفة .
وموضع خطبته لم يكن من الموقف ، فإنه خطب بعرنة ، وليست من الموقف ، وهو صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة، وخطب بعرنة ، ووقف بعرفة ، وخطب خطبة واحدة، ولم تكن خطبتين ، جلس بينهما، فلما أتمها، أمر بلالاً فأذن ، ثم أقام الصلاة، فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة ، فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة ، وصلوا بصلاته قصراً وجمعاً بلا ريب ، ولم يأمرهم بالإتمام ، ولا بترك الجمع ، ومن قال : إنه قال لهم : "أتموا صلاتهم فإنا قوم سفر"، فقد غلط فيه غلطاً ووهم وهما قبيحاً . وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة ، حيث كانوا في ديارهم مقيمين . ولهذا كان أصح أقوال العلماء : إن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة ، ويجمعون بعرفة، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا أوضح دليل ، على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة البتة ، وإنما التأثير لما جعله الله سبباً وهو السفر، هذا مقتضى السنة ، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون .
فلما فرغ من صلاته ، ركب حتى أتى الموقف ، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات ، واستقبل القبلة، وجعل حبل المشاة بين يديه ، وكان على بعيره ، فأخذ في الدعاء والتضرع والإبتهال إلى غروب الشمس، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنة، وأخبر ان عرفة لا تختص بموقفه ذلك ، بل قال : "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف " .
وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم ، ويقفوا بها ، فإنها من إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناس من أهل نجد، فسألوه عن الحج ، "الحج عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع ،تم حجه ، أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين ، فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه ".
وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين ، وأخبرهم أن خيرالدعاء دعاء يوم عرفة .
وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف : "اللهم لك الحمد كالذي نقول ، وخيراً مما نقول ، اللهم لك صلاتي ونسكي ، ومحياي ، ومماتي ، وإليك مآبي ، ولك ربي تراثى ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح " . ذكره الترمذي .
ومما ذكر من دعائه هناك "اللهم تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي ، لا يخفى عليك شيء من أمرى ، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق ، المقر المعترف بذنوبي ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه ، وذل جسده ، ورغم أنفه لك ، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خيرالمعطين " .ذكره الطبراني .
وذكرالإمام أحمد : من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد ، بيده الخير وهوعلى كل شىء قدير".
وذكرالبيهقي من حديث علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أكثر دعائى ودعاء الأنبياء من قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ،اللهم اجعل فى قلبى نوراً ، وفى صدرى نوراً ،وفى سمعى نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم أشرح لي صدري، ويسرلي أمرى ، وأعوذ بك من وسواس الصدر، وشتات الأمر ، وفتنة القبر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار، وشرما تهب به الرياح ، وشر بوائق الدهر" .
وأسانيد هذه الأدعية فيها لين .
وهناك أنزلت عليه : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " [المائدة : 3] .
وهـناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات، فأمررسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفن في ثوبيه ، ولا بطيب ، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطى رأسه ، ولا وجهه ، وأخبر أن الله تعالى يبعثه يوم القيامة يلبي .
وفي هذه القصة اثنا عشر حكماً.
الأول : وجوب غسل الميت ، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به .
الحكم الثاني : أنه لا ينجس بالموت ، لأنه لو نجس بالموت لم يزده غسله إلا نجاسة . لأن نجاسة الموت للحيوان عينية ، فإن ساعد المنجسون على أنه يطهر بالغسل ، بطل أن يكون نجساً بالموت ، وإن قالوا : لا يطهر، لم يزد الغسل أكفانه وثيابه وغاسله إلا نجاسة .
الحكم الثالث : أن المشروع في حق الميت ، أن يغسل بماء وسدر لا يقتصر به على الماء وحده ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسدر في ثلاثة مواضع ، هذا أحدها.
والثاني : في غسل ابنته بالماء والسدر . والثالث في غسل الحائض .
وفي وجوب السدر في حق الحائض قولان في مذهب أحمد .
الحكم الرابع : أن تغير الماء بالطاهرات ، لا يسلبه طهوريته ، كما هو مذهب الجمهور، وهو أنص الروايتين عن أحمد، وإن كان المتأخرون من أصحابه على خلافها. ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماء قراح ، بل أمر في غسل ابنته أن يجعلن في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، ولو سلبه الطهورية، لنهى عنه ، وليس القصد مجرد اكتساب الماء من رائحته حتى يكون تغير مجاورة، بل هو تطييب البدن وتصليبه وتقويته ، وهذا إنما يحصل بكافور مخالط لا مجاور. الحكم الخامس : إباحة الغسل للمحرم ، وقد تناظر في هذا عبد الله بن عباس ، والمسور بن مخرمة ، ففصل بينهما أبوأيوب الأنصاري ، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وهو محرم . واتفقوا على أنه يغتسل من الجنابة ، ولكن كره مالك رحمه الله أن يغيب رأسه في الماء، لأنه نوع ستر له ، والصحيح أنه لا بأس به ، فقد فعله عمربن الخطاب وابن عباس .
والحكم السادس : أن المحرم غير ممنوع من الماء والسدر. وقد اختلف فى ذلك ، فأباحه الشافعى ، وأحمد في أظهر الروايتين عنه ومنع منه مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد فى رواية ابنه صالح عنه .قال :فإن فعل أهدى ، وقال صاحبا أبى حنيفة :إن فعل ، فعليه صدقة .
وللمانعين ثلاث علل .
إحداها: أنه يقتل الهوام من رأسه ، وهو ممنوع من التفلى.
الثانية : أنه ترفه ، وإزالة شعث ينافى الإحرام .
الثالثة: أنه يستلذ رائحته، فأشبه الطيب ، ولا سيما الخطمى .والعلل الثلاث واهية جداً، والصواب جوازه للنص ، ولم يحرم الله ورسوله على المحرم إزالة الشعث بالاغتسال ، ولا قتل القمل ، وليس السدر من الطيب فى شىء .
الحكم السابع : أن الكفن مقدم على الميراث ، وعلى الدين ،لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكفن فى ثوبيه ، ولم يسأل عن وراثه ، ولا عن دين عليه . ولو اختلف الحال ، لسأل .
وكما أن كسوته فى الحياة مقدمة على قضاء دينه ، فكذلك بعد الممات ، هذا كلام الجمهور ،وفيه خلاف شاذ لايعول عليه . الحكم الثامن : جواز الاقتصار فى الكفن على ثوبين ، وهما إزار ورداء ، وهذا قول الجمهور . وقال القاضى أبو يعلى : لا يجوز أقل من ثلاثة أثواب عند القدرة ، لأنه لو جاز الاقتصار على ثوبين ، لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام ، والصحيح : خلاف قوله ، وما ذكره ينقض بالخشن مع الرفيع . الحكم التاسع : أن المحرم ممنوع من الطيب ، لأن النبى صلى الله عليه نهى أن يمس طيباً، مع شهادته له أنه يبعث ملبياً، وهذا هو الأصل في منع المحرم من الطيب .
وفي الصحيحين : من حديث ابن عمر "لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه ورس أوزعفران " .
==>>يتبع