عذر من ادعى معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها
فصل
وأما العذر الثالث : وهو معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها ، فذكروا منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث الزهري ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج ، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحرم بعمرة ولم يهد ، فليحلل ، ومن أحرم بعمرة وأهدى، فلا يحل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحج ، فليتم حجه ، وذكر باقي الحديث .
ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه أيضاً من حديث مالك ، عن أبي الأسود، عن عروة عنها : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج ، فأما من أهل بعمرة فحل ، وأما فمن أهل بحج ، أو جمع الحج والعمرة ، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر".
ومنها : ما رواه ابن أبي شيبة: "حدثنا محمد بن بشر العبدي ، عن محمد بن عمرو بن علقمة، حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عائشة، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم للحج على ثلاثة أنواع : فمنا من أهل بعمرة وحجة، ومنا من أهل بحج مفرد، ومنا من أهل بعمرة مفردة، فمن كان أهل بحج وعمرة معاً ، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ، ومن أهل بحج مفرد، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ، ومن أهل بعمرة مفردة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، حل مما حرم منه حتى استقبل حجا" . ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه "من حديث ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن محمد بن نوفل ، أن رجلاً من أهل العراق ، قال له : سل لي عروة بن الزبير، عن رجل أهل بالحج ، فإذا طاف بالبيت ، أيحل أم لا ؟" فذكر الحديث ، وفيه : "قد حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فأخبرتني عائشة ، أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة، أنه توضأ، ثم طاف بالبيت ، ثم حج أبو بكر ثم كان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة، ثم عمر مثل ذلك ، ثم حج عثمان ، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة . ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام ، فكان أول شيء الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة . ثم رأيت المهاجرين والأنصار، يفعلون ذلك ، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها بعمرة ، فهذا ابن عمر عندهم ، أفلا يسألونه ؟ ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشي حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ، ثم لا يحلون ، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدآن بشيء أول من الطواف بالبيت ، تطوفان به ثم لا تحلان" .
فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديث الفسخ ، ولا معارضة فيها بحمد الله ومنه .
أما الحديث الأول وهو حديث الزهري ، عن عروة، عن عائشة فغلط فيه عبد الملك بن شعيب ، أو أبوه شعيب ، أو جده الليث ، أو شيخه عقيل ، فإن الحديث رواه مالك ومعمر ، والناس ، عن الزهري ، عن عروة ، عنها ، وبينوا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى، أن يحل . فقال مالك : عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عنها، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين لذي القعدة، ولا نرى إلا الحج ، فلما دنونا من مكة ، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن معه هدي ، إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، أن يحل وذكر الحديث . قال يحيى : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد، فقال : أتتك والله بالحديث على وجهه .
وقال منصور: عن إبراهيم ، عن الأسود، عنها، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نرى إلا الحج ، فلما قدمنا، تطوفنا بالبيت ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن ساق الهدي ، أن يحل ، فحل من لم يكن ساق الهدي ، ونساؤه لم يسقن فأحللن .
وقال مالك ومعمر كلاهما عن ابن شهاب ، عن عروة، عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من كان معه هدي ، فليهل بالحج مع العمرة، ولا يحل حتى يحل منهما جميعاً" .
وقال ابن شهاب : عن عروة عنها، بمثل الذي أخبر به سالم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولفظه :" تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، فأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ، فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى، فساق معه الهدي ، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة، قال للناس : من كان منكم أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وليقصر وليحل ، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدياً ، فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله " ، وذكر باقي الحديث .
وقال عبد العزيز الماجشون : "عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا نذكر إلا الحج .... "فذكر الحديث . وفيه ، قالت : "فلما قدمت مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اجعلوها عمرة، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي ".
وقال الأعمش : "عن إبراهيم ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وآله وسلم لا نذكر إلا الحج ، فلما قدمنا ، أمرنا أن نحل وذكر الحديث ، وقال عبد الرحمن بن القاسم : عن أبيه ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف ، طمثت . قالت : فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي . فقال : ما يبكيك ؟ قالت : فقلت : والله لوددت أني لا أحج العام ...... "فذكر الحديث . وفيه : "فلما قدمت مكة ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اجعلوها عمرة ، قالت : فحل الناس إلا من كان معه الهدي" .
وكل هذه الألفاظ في الصحيح ، وهذا موافق لما رواه جابر ، وابن عمر ، وأنس ، وأبو موسى ، وابن عباس ، وأبو سعيد ، وأسماء ، والبراء ، وحفصة ، وغيرهم ، من أمره صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه كلهم بالإحلال ، إلا من ساق الهدي ، وأن يجعلوا حجهم عمرة . وفي اتفاق هؤلاء كلهم ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر أصحابه كلهم أن يحلوا، وأن يجعلوا الذي قدموا به متعة، إلا من ساق الهدي ، دليل على غلط هذه الرواية، ووهم وقع فيها، يبين ذلك أنها من رواية الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة، والليث بعينه هو الذي روى عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة، عنها مثل ما رواه ، عن الزهري عن سالم ، عن أبيه ، في تمتع النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وأمره لمن لم يكن أهدى أن يحل .
ثم تأملنا، فإذا أحاديث عائشة يصدق بعضها بعضاً ، وإنما بعض الرواة زاد على بعض ، وبعضهم اختصر الحديث ، وبعضهم اقتصر على بعضه ، وبعضهم رواه بالمعنى. والحديث المذكور ليس فيه منع من أهل بالحج من الإحلال ، وإنما فيه أمره أن يتم الحج ، فإن كان هذا محفوظاً ، فالمراد به بقاؤه على إحرامه ، فيتعين أن يكون لهذا قبل الأمر بالإحلال ، وجعله عمرة ، ويكون هذا أمرا زائداً قد طرأ على الأمر بالإتمام ، كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقران ، ويتعين هذا ولا بد، وإلا كان هذا ناسخاً للأمر بالفسخ ، والأمر بالفسخ ناسخاً للإذن بالإفراد، وهذا محال قطعاً، فإنه بعد أن أمرهم بالحل لم يأمرهم بنقضه ، والبقاء على الإحرام الأول ، هذا باطل قطعاً ، فيتعين إن كان محفوظاً أن يكون قبل الأمر لهم بالنسخ ، ولا يجوز غير هذا البتة، والله أعلم .