فصل واختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين .
أحدهما : أنه عمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث .
وفي الصحيح عنها، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أراد منكم أن يهل بعمرة، فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة" . قالت : وكان من القوم من أهل بعمرة ، ومنهم من أهل بالحج ، قالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة ، وذكرت الحديث ....... وقوله في الحديث : " دعي العمرة وأهلي بالحج " قاله لها بسرف قريباً من مكة وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة .
القول الثاني : أنها أحرمت أولاً بالحج وكانت مفردة، قال ابن عبد البر : روى القاسم بن بن محمد، والأسود بن يزيد، وعمرة كلهم عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا بعمرة ، منها : حديث عمرة عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا نرى إلا أنه الحج ، وحديث الأسود بن يزيد مثله ، وحديث القاسم : لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . قال : وغلطوا عروة في قوله عنها :" كنت فيمن أهل بالعمرة " قال إسماعيل بن إسحاق : قد اجتمع هؤلاء ، يعني الأسود، والقاسم ، وعمرة ، على الروايات التي ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط ، قال : ويشبه أن يكون الغلط ، إنما وقع فيه أن يكون لم يمكنها الطواف بالبيت ، وأن تحل بعمرة كما فعل من لم يسق الهدي . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، فتوهموا بهذا المعنى أنها كانت معتمرة، وأنها تركت عمرتها ، وابتدأت بالحج . قال أبو عمر : وقد روى جابر بن عبد الله ، أنها كانت مهلة بعمرة، كما روى عنها عروة . قالوا : والغلط الذي دخل على عروة، إنما كان في قوله : "انقضي رأسك ، وامتشطي ، ودعي العمرة ، وأهلي بالحج " .
وروى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه : حدثني غير واحد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : "دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وافعلي ما يفعل الحاج " . فبين حماد، أن عروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة .
قلت : من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ، ولا مطعن فيها، ولا تحتمل تأويلاً ، البتة بلفظ مجمل ليس ظاهراً في أنها كانت مفردة، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة، قولها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنه الحج . فيا لله العجب أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج ، بل خرح للحج متمتعاً، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يقول : خرجت لغسل الجنابة؟ وصدقت أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة ، بأمره صلى الله عليه وسلم ، وكلامها يصدق بعضه بعضاً ، وأما قولها: لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالحج ، فقد قال جابر عنها في الصحيحين : إنها أهلت بعمرة، وكذلك قال طاووس عنها في صحيح مسلم وكذلك قال مجاهد عنها، فلو تعارضت الروايات عنها، فرواية الصحابة أولى أن يؤخذ بها من رواية التابعين ، كيف ولا تعارض في ذلك البتة ، فإن القائل : فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله ، وبفعل أصحاب .
ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، معناه : تمتع أصحابه ، فأضاف الفعل إليه لأمره به ، فهلا قلتم في قول عائشة: لبينا بالحج ، أن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج ، وقولها : فعلنا، كما قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسافرنا معه ونحوه . ويتعين قطعاً إن لم تكن هذه الرواية غلطاً أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة الصريحة ، أنها كانت أحرمت بعمرة وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط ، وهو أعلم الناس بحديثها وكان يسمع منها مشافة بلا واسطة .
وأما قوله في رواية حماد: حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : "دعي عمرتك " فهذا إنما يحتاج إلى تعليله ، ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدقها، وشهد لها أنها أحرمت بعمرة، فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأن الذي حدث به ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعتلة ، وهي قوله : فحدثني غير واحد ، وخالفه جماعة ، فرووه متصلاً عن عروة، عن عائشة . فلو قدر التعارض ، فالأكثرون أولى بالصواب ، فيا لله العجب ! كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها : "وكنت فيمن أهل بعمرة" سائغاً بلفظ مجمل محتمل ، ويقضى به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟ فهؤلاء ، أربعة رووا عنها ، أنها أهل بعمرة : جابر ، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد، فلو كانت رواية القاسم ، وعمرة ، والأسود ، معارضة لرواية هؤلاء ، لكانت روايتهم أولى بالتقديم لكثرتهم ، ولأن فيهم جابراً ، ولفضل عروة ، وعلمه بحديث خالته رضي الله عنها ، ومن العجب قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرها أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، توهموا لهذا أنها كانت معتمرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تدع العمرة وتنشىء إهلالاً بالحج ، فقال لها : "وأهلي بالحج " ولم يقل : "استمري عليه "، ولا امضي فيه ، وكيف يغلط راوي الأمر بالامتشاط بمجرد مخالفته لمذهب الراد؟ فأين في كتاب الله وسنة رسوله ، وإجماع الأمة ما يحرم على المحرم تسريح شعره ، ولا يسوغ تغليط الثقات لنصرة الآراء، والتقليد . والمحرم وإن أمن من تقطيع الشعر، لم يمنع من تسريح رأسه ، وإن لم يأمن من سقوط شيء من الشعر بالتسريح ، فهذا المنع منه محل نزاع واجتهاد ، والدليل يفصل بين المتنازعين فإن لم يدل كتاب ولا سنة ولا اجماع على منعه ، فهو جائز .