بحث في إحرام عائشة ورفضها العمرة وذكر اختلاف الروايات فيه
فصل
"فلما مر بوادي عسفان ، قال : يا أبا بكر أي واد هذا ؟ قال : وادي عسفان . قال : لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطمهما الليف وأزرهم العباء ، وأرديتهم النمار ، يلبون يحجون البيت العتيق "ذكره الإمام أحمد في المسند .
فلما كان بسرف ، حاضت عائشة رضي الله عنها، وقد كانت أهلت بعمرة ، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، قال: "ما يبكيك لعلك نفست ؟ قالت : نعم قال : هذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم ، افعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت ".
وقد تنازع العلماء في قصة عائشة : هل كانت متمتعة أو مفردة ؟ فإذا كانت متمتعة، فهل رفضت عمرتها، أو انتقلت إلى الإفراد ، وأدخلت عليها الحج ، وصارت قارنة، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبة، فهل هي مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضاً في موضع حيضها ، وموضع طهرها ، ونحن نذكر البيان الشافي في ذلك بحول الله وتوفيقه ، واختلف العلماء في مسألة مبنية على قصة عائشة، وهي أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة، فحاضت ، ولم يمكنها الطواف قبل التعريف ، فهل ترفض الإحرام بالعمرة، وتهل بالحج مفرداً ، أوتدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ؟ فقال بالقول الأول : فقهاء الكوفة، منهم أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثاني : فقهاء الحجاز. منهم : الشافعي ومالك ، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه .
قال الكوفيون : ثبت في الصحيحين ، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت : "أهللت بعمرة، فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : انقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ، ودعي العمرة. قالت : ففعلت فلما قضيت الحج ، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت منه ، فقال : هذه مكان عمرتك ". قالوا : فهذا يدل على أنها كانت متمتعة ، وعلى أنها رفضت عمرتها وأحرمت بالحج ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، "دعي عمرتك " ولقوله : "انقضي رأسك وامتشطي ". ولو كانت باقية على إحرامها، لما جاز لها أن تمتشط ، ولأنه قال للعمرة التي أتت بها من التنعيم : "هذه مكان عمرتك " . ولو كانت عمرتها الأولى باقية، لم تكن هذه مكانها ، بل كانت عمرة مستقلة . قال الجمهور: لو تأملت قصة عائشة حق التأمل ، وجمعتم بين طرقها وأطرافها، لتبين لكم أنها قرنت ، ولم ترفض العمرة، ففي صحيح مسلم : "عن جابر رضي الله عنه ، قال : أهلت عائشة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف ، عركت ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فوجدها تبكي ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني أني قد حضت وقد أحل الناس ، ولم أحل ، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن ، قال : إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج ففعلت ، ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت ، طافت بالكعبة وبالصفا والمروة . ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك قالت : يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال : فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ".
وفي صحيح مسلم : من حديث طاووس عنها : أهللت بعمرة، وقدمت ولم أطف حتى حضت ، فنسكت المناسك كلها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " .
فهذه نصوص صريحة، أنها كانت في حج وعمرة، لا في حج مفرد ، وصريحة في أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه . وفي بعض ألفاظ الحديث : "كوني في عمرتك ، فعسى أن الله يرزقكيها". ولا يناقض هذا "دعي عمرتك " . فلو كان المراد به رفضها وتركها، لما قال لها : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " ، فعلم أن المراد : دعي أعمالها ليس المراد به رفض إحرامها وأما قوله : "انقضي رأسك وامتشطي " ، فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيه أربعة مسالك .
أحدها : أنه دليل ، على رفض العمرة، كما قالت الحنفية .
المسلك الثاني . إنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ، ولا تحريمه وهذا قول ابن حزم وغيره.
المسلك الثالث : تعليل هذه اللفظة ، وردها بأن عروة انفرد بها ، وخالف بها سائر الرواة ، وقد روى حديثها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد رزق حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، عن عائشة ، حديث حيضها في الحج فقال فيه : حدثني غير واحد، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي " وذكر تمام الحديث........ قالوا : فهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة .
المسلك الرابع : أن قوله : "دعي العمرة" ، أي دعيها، بحالها لا تخرجي ، وليس المراد تركها ، قالوا : ويدل عليه وجهان .
أحدهما قوله : "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " .
الثاني : قوله: "كوني في عمرتك ". قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قوله : "هذه مكان عمرتك فعائشة أحبت أن تأتي بعمرة مفردة ، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها ، وأن عمرتها قد دخلت في حجها، فصارت قارنة، فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولاً، فلما حصل لها ذلك ، قال : هذه مكان عمرتك " .
وفي سنن الأثرم ، عن الأسود، قال : قلت لعائشة : اعتمرت بعد الحج ؟ قالت : والله ما كانت عمرة ، ما كانت إلا زيارة زرت البيت .
قال الإمام أحمد: إنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه ، فقالت : يرجع الناس بنسكين ، وأرجع بنسك ؟ فقال : "يا عبد الرحمن ، أعمرها" فنظر إلى أدنى الحل ، فأعمرها منه.