فصل الرد على من زعم أنه حج قارناً طاف له طوافين وسعى له سعيين
فصل
وأما من قال : إنه حج قارناً قراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد ، عن ابن عمر، أنه جمع بين حج وعمرة معاً ، وقال : سبيلهما واحد، قال : وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين . وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت .
وعن علي بن أبي طالب ، أنه جمع بينهما، وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت .
وعن علي رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، فطاف وسعى سعيين .
وعن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وعن عمران بن حصين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين ، وسعى سعيين .
وما أحسن هذا العذر، لو كانت هذه الأحاديث صحيحة ، بل لا يصح منها حرف واحد .
أما حديث ابن عمر، ففيه الحسن بن عمارة، وقال الدارقطني : لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث .
وأما حديث علي رضي الله عنه الأول ، فيرويه حفص بن أبي داود . وقال أحمد ومسلم : حفص متروك الحديث ، وقال ابن خراش : هو كذاب يضع الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ضعيف .
وأما حديثه الثاني : فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي . حدثني أبي عن أبيه عن جده قال الدارقطني : عيسى بن عبد الله يقال له : مبارك ، وهو متروك الحديث .
وأما حديث علقمة عن عبد الله ، فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد، عن حماد عن إبراهيم ، عن علقمة. قال الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان ، قال يحيى : هو كذاب خبيث . وقال الرازي والنسائي : متروك الحديث .
وأما حديث عمران بن حصين ، فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي ، وحدث به من حفظه ، فوهم فيه ، وقد حدث به على الصواب مراراً ، ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي .
وقد روى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن حبان في صحيحه من حديث الدرارودي ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرن بين حجته وعمرته ، أجزأه لهما طواف واحد" . ولفظ الترمذي : "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف وسعي واحد عنهما ، حتى يحل منهما جميعاً" .
وفي الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال : "من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً ، فطاف الذين أهلوا بالعمرة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافاً واحداً ".
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : "إن طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك " .
وروى عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طاف طوافاً واحداً لحجه وعمرته . وعبد الملك : أحد الثقات المشهورين ، احتج به مسلم ، وأصحاب السنن . وكان يقال له : الميزان ، ولم يتكلم فيه بضعف ولا جرح ، وإنما أنكر عليه حديث الشفعة .
وتلك شكاة ظاهر عنه عارها .
وقد روى الترمذي عن جابر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة ، وطاف لهما طوافاً واحداً وهذا ، وإن كان فيه الحجاج بن أرطأة، فقد روى عنه سفيان ، وشعبة ، وابن نمير ، وعبد الرزاق ، والخلق عنه . قال الثوري: وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه ، وعيب عليه التدليس ، وقل من سلم منه . وقال أحمد : كان من الحفاظ ، وقال ابن معين : ليس بالقوي ، وهو صدوق يدلس . وقال أبو حاتم : إذا قال : حدثنا، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه. وقد روى الدارقطني ، من حديث ليث بن أبي سليم قال : حدثني عطاء، وطاووس ، ومجاهد ، عن جابر ، وعن ابن عمر ، وعن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً لعمرتهم وحجهم .
وليث بن أبي سليم ، احتج به أهل السنن الأربعة، واستشهد به مسلم ، وقال ابن معين : لا بأس به ، وقال الدارقطني : كان صاحب سنة، وانما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد حسب وقال عبد الوارث : كان من أوعية العلم ، وقال أحمد: مضطرب الحديث ، ولكن حدث عنه الناس ، وضعفه النسائي ، ويحيى في رواية عنه ، ومثل هذا حديثه حسن . وإن لم يبلغ رتبة الصحة .
وفي الصحيحين عن جابر قال : "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، ثم وجدها تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : قد حضت وقد حل الناس ، ولم أحل ولم أطف بالبيت ، فقال : اغتسلي ثم أهلي ففعلت ، ثم وقفت المواقف حتى إذا طهرت ، طافت بالكعبة وبالصفا والمروة، ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً " .
وهذا يدل على ثلاثة أمور ، أحدها : أنها كانت قارنة ، والثاني : أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد. والثالث : أنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة التي حاضت فيها، ثم أدخلت عليها الحج ، وأنها لم ترفض إحرام العمرة بحيضها ، وإنما رفضت أعمالها والاقتصار عليها ، وعائشة لم تطف أولاً طواف القدوم ، بل لم تطف إلا بعد التعريف ، وسعت مع ذلك ، فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعد يكفي القارن ، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة ، والسعي بعد يكفي القارن ، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة ، وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولى، لكن عائشة تعذر عليها الطواف الأول ، فصارت قصتها حجة ، فإن المرأة التي يتعذر عليها الطواف الأول ، تفعل كما فعلت عائشة ، تدخل الحج على العمرة ، وتصير قارنة ، ويكفيها لهما طواف الإفاضة والسعي عقيبه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومما يبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطف طوافين ، ولا سعى سعيين قول عائشة رضي الله عنها . وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً . متفق عليه . وقول جابر: "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً " طوافه الأول . رواه مسلم . وقوله لعائشة : "يجزىء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " . رواه مسلم . وقوله لها في رواية أبي داود : "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك جميعاً ". وقوله لها في الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين والمروة : "قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً" قال : والصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلهم نقلوا أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمرهم بالتحيل إلا من ساق الهدي ، فإنه لا يحل إلا يوم النحر، ولم ينقل أحد منهم أن أحداً منهم طاف وسعى، ثم طاف وسعى . ومن المعلوم ، أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله . فلما لم ينقله أحد من الصحابة، علم أنه لم يكن .
وعمدة من قال بالطوافين والسعيين ، أثر يرويه الكوفيون ، عن علي رضي الله عنه ، وآخر عن ابن مسعود رضي الله عنهما.
وقد روى جعفر بن محمد، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، أن القارن يكفيه طوافاً واحد ، وسعي واحد ، خلاف ما روى أهل الكوفة ، وما رواه العراقيون ، منه ما هو منقطع ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون ، ولهذا طعن علماء النقل في ذلك حتى قال ابن حزم : كل ما روي في ذلك عن الصحابة، لا يصح منه ولا كلمة واحدة . وقد نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو موضوع بلا ريب . وقد حلف طاووس : ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته إلا طوافاً واحداً ، وقد ثبت مثل ذلك عن ابن عمر، وابن عباس ، وجابر ، وغيرهم رضي الله عنهم ، وهم أعلم الناس بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يخالفوها، بل هذه الآثار صريحة في أنهم لم يطوفوا بالصفا والمروة إلا مرة واحدة .
وقد تنازع الناس في القارن والمتمتع ، هل عليهما سعيان أو سعي واحد ؟ على ثلاثة أقوال : في مذهب أحمد وغيره .
أحدها : ليس على واحد منهما إلا سعي واحد، كما نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله . قال عبد الله : قلت لأبي : المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال : إن طاف طوافين ، فهو أجود . وإن طاف طوافاً واحداً، فلا بأس . قال شيخنا : وهذا منقول عن غير واحد من السلف.
الثاني : المتمتع عليه سعيان ، والقارن عليه سعي واحد، وهذا القول هو القول الثاني في مذهبه ، وقول من يقوله من أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله .
والثالث : إن على كل واحد منهما سعيين ، كمذهب أبي حنيفة رحمه الله ، ويذكر قولاً في مذهب أحمد رحمه الله ، والله أعلم . والذي تقدم ، هو بسط قول شيخنا ، وشرحه والله أعلم .