فصل ولم يحفظ عنه أنه اعتمر في السنة إلا مرة واحدة
فصل
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه اعتمر في السنة إلا مرة واحدة، ولم يعتمر في سنة مرتين ، وقد ظن بعض الناس أنه اعتمر في سنة مرتين ، واحتج بما رواه أبو داود في سننه عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين ، عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال . قالوا : وليس المراد بها ذكر مجموع ما اعتمر، فإن أنساً ، وعائشة ، وابن عباس ، وغيرهم قد قالوا : إنه اعتمر أربع عمر ، فعلم أن مرادها بأنه اعتمر في سنة مرتين ، مرة في ذي القعدة ، ومرة في شوال ، وهذا الحديث وهم ، وإن كان محفوظاً عنها، فإن هذا لم يقع قط ، فإنه اعتمر أربع عمر بلا ريب : العمرة الأولى كانت في ذي القعدة عمرة الحديبية ، ثم لم يعتمر إلى العام القابل ، فاعتمر عمرة القضية في ذي القعدة ، ثم رجع إلى المدينة ولم يخرج إلى مكة حتى فتحها سنة ثمان في رمضان ، ولم يعتمر ذلك العام ، ثم خرج إلى حنين في ست من شوال وهزم الله أعداءه ، فرجع إلى مكة، وأحرم بعمرة، وكان ذلك في ذي القعدة كما قال أنس ، وابن عباس : فمتى اعتمر في شوال ؟ ولكن لقي العدو في شوال ، وخرج فيه من مكة، وقضى عمرته لما فرغ من أمر العدو في ذي القعدة ليلاً، ولم يجمع ذلك العام بين عمرتين ، ولا قبله ولا بعده ، ومن له عناية بأيامه مجين وسيرته وأحواله ، لا يشك ولا يرتاب في ذلك .
فإن قيل : فبأي شيء يستحبون العمرة في السنة مراراً إذا لم يثبتوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قيل : قد اختلف في هذه المسألة، فقال مالك : أكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة واحدة ، وخالفه مطرف من أصحابه وابن المواز، قال مطرف : لا بأس بالعمرة في السنة مراراً، وقال ابن المواز : أرجو أن لا يكون به بأس ، وقد اعتمرت عائشة مرتين في شهر، ولا أرى أن يمنع أحد من التقرب إلى الله بشيء من الطاعات ، ولا من الازدياد من الخير في موضع ، ولم يأت بالمنع منه نص، وهذا قول الجمهور، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى، استثنى خمسة أيام لا يعتمر فيها : يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق . واسشثنى أبو يوسف رحمه الله تعالى : يوم النحر ، وأيام التشريق خاصة ، واستثنت الشافعية : البائت بمنى لرمي أيام التشريق . واعتمرت عائشة في سنة مرتين . فقيل للقاسم : لم ينكر عليها أحد؟ فقال : أعلى أم المؤمنين ؟! وكان أنس إذا حمم رأسه ، خرج فاعتمر .
ويذكر عن علي رضي الله عنه ، أنه كات يعتمر في السنة مراراً وقد قال صلى الله عليه وسلم : "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". ويكفي في هذا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم سوى عمرتها التي كانت أهلت بها، وذلك في عام واحد ، ولا يقال : عائشة كانت قد رفضت العمرة، فهذه التي أهلت بها من التنعيم عنها، لأن العمرة لا يصح رفضها. وقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "يسعك لحجك وعمرتك" وفي لفظ "حللت منهما جميعا" فإن قيل : قد ثبت في صحيح البخاري : أنه صلى الله عليه وسلم قال لها :" ارفضي عمرتك ، وانقضي رأسك وامتشطي " ، وفي لفظ آخر : " انقضي ، وامتشطي" ، وفي لفظ : "أهلي بالحج ودعي العمرة" ، فهذا صريح في رفضها من وجهين ، أحدهما : قوله ارفضيها ودعيها ، والثاني : أمره لها بالامتشاط قيل : معنى قوله : ارفضيها: اتركي أفعالها والاقتصار عليها ، وكوني في حجة معها، ويتعين أن يكون هذا هو المراد بقوله : "حللت منهما جميعاً " ، لما قضت أعمال الحج . وقوله "يسعك طوافك لحجك وعمرتك " ، فهذا صريح في أن إحرام العمرة لم يرفض ، وإنما رفضت أعمالها والإقتصار عليها ، وأنها بانقضاء حجها انقضى حجها وعمرتها، ثم أعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها، إذ تأتي بعمرة مستقلة كصواحباتها، ويوضح ذلك إيضاحاً بينا، ما روى مسلم في صحيحه ، من حديث الزهري ، عن عروة، عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فحضت ، فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، ولم أهل إلا بعمرة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي وامتشط ، وأهل بالحج ، وأترك العمرة، قالت : ففعلت ذلك ، حتى إذا قضيت حجي ، بعث معي رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، وأمرني أن اعتمر من التنعيم مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أهل منها . فهذا حديث في غاية الصحة والصراحة، أنها لم تكن أحلت من عمرتها، وأنها بقيت محرمة حتى أدخلت عليها الحج ، فهذا خبرها عن نفسها ، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، كل منهما يوافق الآخر وبالله التوفيق .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار، وتنبية على ذلك ، إذ لو كانت العمرة كالحج لا تفعل في السنة إلا مرة، لسوى بينهما ولم يفرق .
وروى الشافعي رحمه الله ، عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : اعتمر في كل شهر مرة . وروى وكيع عن اسرائيل ، عن سويد بن أبي ناجية، عن أبي جعفر، قال : قال علي رضي الله عنه : اعتمر فى الشهر إن أطقت مراراً. وذكر سعيد بن منصور، عن سفيان بن أبي حسين ، عن بعض ولد أنس ، أن أنساً كان إذا كان بمكة فحمم رأسه ، خرج إلى التنعيم فاعتمر .