فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه
كان إذا خطب ، احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش ، يقول : " صبحكم ومساكم " ويقول : " بعثت أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى " . ويقول : " أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " . ثم يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، من ترك مالاً ، فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً ، فإلي وعلي" رواه مسلم .
وفي لفظ : كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، يحمد الله ويثني عليه ، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته فذكره .
وفي لفظ : يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول : " من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله " .
وفي لفظ للنسائي ، "وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " . وكان يقول في خطبته بعد التحميد والثناء والتشهد : " أما بعد " .
وكان يقصر الخطبة ، ويطيل الصلاة ، ويكثر الذكر ، ويقصد الكلمات الجوامع ، وكان يقول : " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته ، مئنة من فقهه " .
وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام ، وشرائعه ، ويأمرهم ، وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر ، أو نهي ، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين . ونهى المتخطي رقاب الناس عن ذلك ، وأمره بالجلوس .
وكان يقطع خطبته للحاجة تعرض ، أو السؤال من أحد من أصحابه ، فيجيبه ، ثم يعود إلى خطبته ، فيتمها .
وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة ، ثم يعود فيتمها ، كما نزل لأخذ الحسن والحسين رضي الله عنهما ، فأخذهما ، ثم رقي بهما المنبر ، فأتم خطبته .
وكان يدعو الرجل في خطبته : تعال يا فلان ، اجلس يا فلان ، صل يا فلان . وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته ، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة ، أمرهم بالصدقة ، وحضهم عليها .
وكان يشير بأصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه .
وكان يستسقي بهم إذا قحط المطر في خطبته .
وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس ، فإذا اجتمعوا ، خرج وحده من غير شاويش يصيح بين يديه ، ولا لبس طيلسان ، ولا طرحة ، ولا سواد ، فإذا دخل المسجد ، سلم عليهم ، فإذا صعد المنبر ، استقبل الناس بوجهه ، وسلم عليهم ، ولم يدع مستقبل القبلة ، ثم يجلس ، ويأخذ بلال في الأذان ، فإذا فرغ منه ، قام النبي صلى الله عليه وسلم ، فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة ، لا بإيراد خبر ولا غيره .
ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره ، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصاً قبل أن يتخذ المنبر ، وكان في الحرب يعتمد على قوس ، وفي الجمعة يعتمد على عصا . ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف ، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً ، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف ، فمن فرط جهله ، فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ، ولا قوس ، ولا غيره ، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً البتة ، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس .
وكان منبره ثلاث درجات ، وكان قبل اتخاذه يخطب إلى جذع يستند إليه ، فلما تحول إلى المنبر ، حن الجذع حنيناً سمعه أهل المسجد ، فنزل إليه صلى الله عليه وسلم وضمه قال أنس : حن لما فقد ما كان يسمع من الوحي ، وفقده التصاق النبي صلى الله عليه وسلم .
ولم يوضع المنبر في وسط المسجد ، وإنما وضع في جانبه الغربي قريباً من الحائط ، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة . وكان إذا جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة ، أو خطب قائماً في الجمعة ، استدار أصحابه إليه بوجوههم ، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم قبلهم في وقت الخطبة .
وكان يقوم فيخطب ، ثم يجلس جلسة خفيفة ، ثم يقوم ، فيخطب الثانية ، فإذا فرغ منها ، أخذ بلال في الإقامة . وكان يأمر الناس بالدنو منه ، وبالإنصات ، ويخبرهم أن الرجل إذا قال لصاحبه : أنصت فقد لغا . ويقول : " من لغا فلا جمعة له " . وكان يقول : " من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً ، والذي يقول له : أنصت ليست له جمعة " . رواه الإمام أحمد .
وقال أبي بن كعب : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ( تبارك) وهو قائم ، فذكرنا بأيام الله ، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني ، فقال : متى أنزلت هذه السورة ؟ فإني لم أسمعها إلى الآن ، فأشار إليه أن اسكت ، فلما انصرفوا ، قال : سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني ، فقال : إنه ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت ، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ذلك ، وأخبره بالذي قال له أبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق أبي " . ذكره ابن ماجه ، وسعيد بن منصور ، وأصله في مسند أحمد .
وقال صلى الله عليه وسلم : " يحضر الجمعة ثلاثة نفر : رجل حضرها يلغو وهو حظه منها ، ورجل حضرها يدعو ، فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه ، وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ، ولم يتخط رقبة مسلم ، ولم يؤذ أحداً ، فهي كفارة له إلى يوم الجمعة التي تليها ، وزيادة ثلاثة أيام ، وذلك أن الله عز وجل يقول : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " " ذكره أحمد وأبو داود .
وكان إذا فرغ بلال من الأذان ، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ، ولم يقم أحد يركع ركعتين البتة ، ولم يكن الأذان إلا واحداً ، وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد ، لا سنة لها قبلها ، وهذا أصح قولي العلماء ، وعليه تدل السنة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته ، فإذا رقي المنبر ، أخذ بلال في أذان الجمعة ، فإذا أكمله ، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل ، وهذا كان رأي عين ، فمتى كانوا يصلون السنة ؟! ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله عنه من الأذان ، قاموا كلهم ، فركعوا ركعتين ، فهو أجهل الناس بالسنة ، وهذا الذي ذكرناه من أنه لا سنة قبلها ، هو مذهب مالك ، وأحمد في المشهور عنه ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي .
والذين قالوا : إن لها سنة ، منهم من احتج أنها ظهر مقصورة ، فيثبت لها أحكام الظهر ، وهذه حجة ضعيفة جداً ، فإن الجمعة صلاة مستقلة بنفسها تخالف الظهر في الجهر ، والعدد ، والخطبة ، والشروط المعتبرة لها ، وتوافقها في الوقت ، وليس إلحاق مسألة النزاع بموارد الاتفاق أولى من إلحاقها بموارد الافتراق ، بل إلحاقها بموارد الافتراق أولى ، لأنها أكثر مما اتفقا فيه .
ومنهم من أثبت السنة لها هنا بالقياس على الظهر ، وهو أيضا قياس فاسد ، فإن السنة ما كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل ، أو سنة خلفائه الراشدين ، وليس في مسألتنا شئ من ذلك ، ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس ، لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم يفعله ولم يشرعه ، كان تركه هو السنة ، ونظير هذا ، أن يشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس ، فلذلك كان الصحيح أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة ، ولا لرمي الجمار ، ولا للطواف ، ولا للكسوف ، ولا للاستسقاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات .
ومنهم من احتج بما ذكره البخاري في صحيحه فقال : باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي قبل الظهر ركعتين ، وبعدها ركعتين ، وبعد المغرب ركعتين في بيته ، وقبل العشاء ركعتين ، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف ، فيصلي ركعتين وهذا لا حجة فيه ، ولم يرد به البخاري إثبات السنة قبل الجمعة ، وإنما مراده أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شئ ؟ ثم ذكر الحديث ، أي : أنه لم يرو عنه فعل السنة إلا بعدها ، ولم يرد قبلها شئ .
وهذا نظير ما فعل في كتاب العيدين ، فإنه قال : باب الصلاة قبل العيد وبعدها ، وقال أبو المعلى : سمعت سعيداً عن ابن عباس ، أنه كره الصلاة قبل العيد . ثم ذكر حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر ، فصلى ركعتين ، لم يصل قبلهما ولا بعدهما ومعه بلال الحديث . فترجم للعيد مثل ما ترجم للجمعة ، وذكر للعيد حديثاً دالاً على أنه لا تشرع الصلاة قبلها ولا بعدها ، فدل على أن مراده من الجمعة كذلك .
وقد ظن بعضهم أن الجمعة لما كانت بدلاً عن الظهر - وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها - دل على أن الجمعة كذلك ، وإنما قال : وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف بياناً لموضع صلاة السنة بعد الجمعة ، وأنه بعد الانصراف ، وهذا الظن غلط منه ، لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديث ابن عمر رضي الله عنه : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر ، وسجدتين بعد الظهر ، وسجدتين بعد المغرب ، وسجدتين بعد العشاء ، وسجدتين بعد الجمعة . فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاة مستقلة بنفسها غير الظهر ، وإلا لم يحتج إلى ذكرها لدخولها تحت اسم الظهر ، فلما لم يذكر لها سنة إلا بعدها، علم أنه لا سنة لها قبلها .
ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة وجابر ، قال : جاء سليك الغطفاي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له : " أصليت ركعتين قبل أن تجيء ؟ " قال : لا . قال : " فصل ركعتين وتجوز فيهما ". وإسناده ثقات .
قال أبو البركات ابن تيمية : وقوله : قبل أن تجيء يدل عن أن هاتين الركعتين سنة الجمعة ، وليستا تحية المسجد . قال : شيخنا حفيده أبو العباس : وهذا غلط ، والحديث المعروف في الصحيحين عن جابر ، "قال : دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال : أصليت قال : لا . قال : فصل ركعتين . وقال : إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب ، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ". فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث ، وأفراد ابن ماجه في الغالب غير صحيحة ، هذا معنى كلامه .
وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي : هذا تصحيف من الرواة ، إنما هو أصليت قبل أن تجلس فغلط فيه الناسخ . وقال : وكتاب ابن ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به ، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم ، فإن الحفاظ تداولوهما ، واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما ، قال : ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف .
قلت : ويدل على صحة هذا أن الذين اعتنوا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها ، وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها ، لم يذكر واحد منهم هذا الحديث في سنة الجمعة قبلها ، وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإمام على المنبر ، واحتجوا به على من منع من فعلها في هذه الحال ، فلو كانت هي سنة الجمعة ، لكان ذكرها هناك ، والترجمة عليها ، وحفظها ، وشهرتها أولى من تحية المسجد . ويدل عليه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحية المسجد . ولو كانت سنة الجمعة ، لأمر بها القاعدين أيضاً ، ولم يخص بها الداخل وحده . ومنهم من احتج بما رواه أبو داود في سننه ، قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ، ويصلي بعدها ركعتين في بيته ، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك . ولهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنة قبلها ، وإنما أراد بقوله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك : أنه كان يصلى الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يصليهما في المسجد ، وهذا هو الأفضل فيهما ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته . وفي السنن عن ابن عمر ، أنه إذا كان بمكة ، فصلى الجمعة ، تقدم ، فصلى ركعتين ، ثم تقدم فصلى أربعاً ، وإذا كان بالمدينة ، صلى الجمعة ، ثم رجع إلى بيته ، فصلى ركعتين ، ولم يصل بالمسجد ، فقيل له ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك . وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة ، فإنه تطوع مطلق ، وهذا هو الأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام ، كما تقدم من حديث أبي هريرة ، ونبيشة الهذلي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من اغتسل يوم الجمعة ، ثم أتى المسجد ، فصلى ما قدر له ، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ، ثم يصلي معه ، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ، وفضل ثلاثة أيام ". وفي حديث نبيشة الهذلي : " إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ، ثم أقبل الى المسجد لا يؤذي أحداً ، فإن لم يجد الإمام خرج ، صلى ما بدا له ، وإن وجد الإمام خرج ، جلس، فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه ، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها " هكذا كان هدي الصحابة رضي الله عنهم .
قال ابن المنذر : روينا عن ابن عمر : أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة . وعن ابن عباس ، أنه كان يصلي ثمان ركعات . وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق ، ولذلك اختلف في العدد المروي عنهم في ذلك ، وقال الترمذي في الجامع : وروي عن ابن مسعود ، أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. وإليه ذهب ابن المبارك والثوري .
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء النيسابوري : رأيت أبا عبد الله، إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول ، فإذا قاربت ، أمسك عن الصلاة حتى يؤذن المؤذن ، فإذا أخذ في الأذان ، قام فصلى ركعتين أو أربعاً ، يفصل بينهما بالسلام ، فإذا صلى الفريضة ، انتظر فى المسجد ، ثم يخرج منه ، فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع ، فيصلي فيه ركعتين ، ثم يجلس ، وربما صلى أربعاً ، ثم يجلس ، ثم يقوم ، فيصلي ركعتين أخريين ، فتلك ست ركعات على حديث علي ، وربما صلى بعد الست ستاً أخر ، أو أقل ، أو أكثر . وقد أخذ من هذا بعض أصحابه رواية : أن للجمعة قبلها سنة ركعتين أو أربعاً ، وليس هذا بصريح ، بل ولا ظاهر ، فإن أحمد كان يمسك عن الصلاة في وقت النهي ، فإذا زال وقت النهي ، قام فأتم تطوعه إلى خروج الإمام ، فربما أدرك أربعاً ، وربما لم يدرك إلا ركعتين .
ومنهم من احتج على ثبوت السنة قبلها ، بما رواه ابن ماجه في سننه حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية ، عن مبشر بن عبيد ، عن حجاج بن أرطاة ، عن عطية العوفي ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعاً ، لا يفصل بينها في شئ منها . قال ابن ماجه : باب الصلاة قبل الجمعة ، فذكره .
وهذا الحديث فيه عدة بلايا ، إحداها : بقية من الوليد : إمام المدلسين وقد عنعنه ، ولم يصرح بالسماع .
الثانية : مبشر بن عبيد ، المنكر الحديث . وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : شيخ كان يقال له : مبشر بن عبيد كان بحمص ، أظنه كوفياً ، روى عنه بقية ، وأبو المغيرة ، أحاديثه أحاديث موضوعة كذب . وقال الدارقطني : مبشر بن عبيد متروك الحديث ، أحاديثه لا يتابع عليها .
الثالثة : الحجاح بن أرطاة الضعيف المدلس .
الرابعة : عطية العوفي ، قال البخاري : كان هشيم يتكلم فيه ، وضعفه أحمد وغيره .
وقال البيهقي : عطية العوفي لا يحتج به ، ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث ، والحجاح بن أرطاة ، لا يحتج به . قال بعضهم : ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء ، لعدم ضبطهم وإتقانهم ، فقال : قبل الجمعة أربعاً ، وإنما هو بعد الجمعة ، فيكون موافقاً لما ثبت في الصحيح ونظير هذا : قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العمري : للفارس سهمان ، وللراجل سهم . قال الشافعي : كأنه سمع نافعاً يقول : للفرس سهمان ، وللراجل سهم ، فقال : للفارس سهمان ، وللراجل سهم . حتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد الله ، قال : وليس يشك أحد من أهل العلم في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ .
قلت : ونظير هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة لا تزال جهنم يلقى فيها ، وهي تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فيزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط ، قط . وأما الجنة : فينشئ الله لها خلقاً فانقلب على بعض الرواة فقال : أما النار ، فينشئ الله لها خلقاً .
قلت : ونظير هذا حديث عائشة " إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وهو في الصحيحين ، فانقلب على بعض الرواة ، فقال : ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال .
ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة " إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه " وأظنه وهم - والله أعلم - فيما قاله رسوله الصادق المصدوق ، "وليضع ركبتيه قبل يديه". كما قال وائل بن حجر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد ، وضع ركبتيه قبل يديه . وقال الخطابي وغيره : وحديث وائل بن حجر ، أصح من حديث أبي هريرة . وقد سبقت المسألة مستوفاة في هذا الكتاب والحمد لله .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة ، دخل إلى منزله ، فصلى ركعتين سنتها وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعاً . قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية : إن صلى في المسجد ، صلى أربعاً ، وإن صلى في بيته ، صلى ركعتين . قلت : وعلى هذا تدل الأحاديث ، وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه كان إذا صلى في المسجد ، صلى أربعاً ، وإذا صلى في بيته ، صلى ركعتين .
وفي الصحيحين : عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته .
وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " إذا صلى أحدكم الجمعة ، فليصل بعدها أربع ركعات " . والله أعلم .