هذا كله قول عبد الملك بن حبيب ، ثم رد عليه أبو عمر ، وقال : هذا تحامل منه على مالك رحمه الله تعالى ، فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خلفاً وتحريفاً من التأويل ، والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ، ويشهد له أيضاً العمل بالمدينة عنده ، وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل ، لأنه أمر يتردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء . فمن الآثار التي يحتج بها مالك ، ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم الجمعة ، قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة ، يكتبون الناس ، الأول فالأول ، فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثم الذي يليه كالمهدي كبشاً ، حتى ذكر الدجاجة والبيضة ، فإذا جلس الإمام ، طويت الصحف ، واستمعوا الخطبة ". قال : ألا ترى إلى ما في هذا الحديث ، فإنه قال : يكتبون الأول فالأول ، فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه فجعل الأول مهجراً ، وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والتهجير ، وذلك وقت النهوض إلى الجمعة ، وليس ذلك وقت طلوع الشمس ، لأن ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا تهجير ، وفي الحديث : " ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ". ولم يذكر الساعة . قال : والطرق بهذا اللفظ كثيرة ، مذكورة في التمهيد ، وفي بعضها " المتعجل إلى الجمعة كالمهدى بدنة " . وفي أكثرها " المهجر كالمهدى جزوراً " الحديث . وفي بعضها ، ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدي بدنة ، وفي آخرها كذلك ، وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة ، وفي آخرها كذلك . وقال بعض أصحاب الشافعي : لم يرد صلى الله عليه وسلم بقوله : " المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة " ، الناهض إليها في الهجير والهاجرة ، وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من أغراض أهل الدنيا للنهوض إلى الجمعة ، كالمهدي بدنة ، وذلك مأخوذ من الهجرة وهو ترك الوطن ، والنهوض إلى غيره ، ومنه سمي المهاجرون . وقال الشافعي رحمه الله : أحب التبكير إلى الجمعة ، ولا تؤتى إلا مشياً . هذا كله كلام أبي عمر .
قلت : ومدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور ، أحدها : عل لفظة الرواح ، وإنها لا تكون إلا بعد الزوال ، والثاني : لفظة التهجير ، وهي إنما تكون بالهجرة وقت شدة الحر ، والثالث : عمل أهل المدينة ، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار .
فأما لفظة الرواح ، فلا ريب أنها تطلق على المضي بعد الزوال ، وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قرنت بالغدو ، كقوله تعالى : " غدوها شهر ورواحها شهر " ( سبأ :12) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " من غدا إلى المسجد وراح ، أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح ". وقول الشاعر :
نروح ونغدوا لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
وقد يطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي ، وهذا إنما يجئ ، إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو .
وقال الأزهري في التهذيب : سمعت بعض العرب يستعمل الرواح في السير في كل وقت ، يقال : راح القوم : إذا ساروا ، وغدوا كذلك ، ويقول أحدهم لصاحبه : تروح ، ويخاطب أصحابه ، فيقول : روحوا أي : سيروا ، ويقول الآخر : ألا تروحون ؟ ومن ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة ، وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخفة إليها ، لا بمعنى الرواح بالعشي .
وأما لفظ التهجير والمهجر ، فمن الهجير ، والهاجرة ، قال الجوهري : هي نصف النهار عند اشتداد الحر ، تقول منه : هجر النهار ، قال امرؤ القيس :
فدعها وسل الهم عنها بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا
ويقال : أتينا أهلنا مهجرين ، أي : في وقت الهاجرة ، والتهجير والتهجر : السير في الهاجرة ، فهذا ما يقرر به قول أهل المدينة . قال الآخرون : الكلام في لفظ التهجير ، كالكلام في لفظ الرواح ، فإنه يطلق ويراد به التبكير .
قال الأزهري في التهذيب : روى مالك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو يعلم الناس ما في التهجير ، لاستبقوا إليه " .
وفي حديث آخر مرفوع : " المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ". قال : ويذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقت الزوال وهو غلط ، والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي ، عن النضر بن شميل ، أنه قال : التهجير إلى الجمعة وغيرها : التبكير والمبادرة إلى كل شئ قال : سمعت الخليل يقول ذلك ، قاله في تفسير هذا الحديث .
قال الأزهري : وهذا صحيح ، وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس ، قال لبيد :
أهل المدينة حجة ، فإن هذا ليس فيه إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار ، وهذا جائز بالضرورة . وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار ، ولا ريب أن انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وجلوس الرجل في مصلاه حتى يصلي الصلاة الأخرى ، أفضل من ذهابه وعوده في وقت آخر للثانية ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " والذي ينتظر الصلاة ، ثم يصليها مع الإمام أفضل من الذي يصلي ، ثم يروح إلى أهله " وأخبر " أن الملائكة لم تزل تصلي عليه ما دام في مصلاه " وأخبر " أن انتظار الصلاة بعد الصلاة ، مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، وأنه الرباط " وأخبر " أن الله يباهي ملائكته بمن قضى فريضة وجلس ينتظر أخرى " وهذا يدل على أن من صلى الصبح ، ثم جلس ينتظر الجمعة ، فهو أفضل ممن يذهب ، ثم يجيء في وقتها ، وكون أهل المدينة وغيرهم لا يفعلون ذلك ، لا يدل على أنه مكروه، فهكذا المجيء إليها والتبكير في أول النهار ، والله أعلم .