الرابعة والعشرون : أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام ، و كان العيد مشتملاً على صلاة وقربان ، وكان يوم الجمعة يوم صلاة ، جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان ، وقائماً مقامه ، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة ، والقربان ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " من راح في الساعة الأولى ، فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية ، فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرب كبشاً أقرن "
وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعة على قولين :
أحدهما : أنها من أول النهار ، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما .
والثاني : أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال ، وهذا هو المعروف في مذهب مالك ، واختاره بعض الشافعية ، واحتجوا عليه بحجتين .
إحداهما : أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال ، وهو مقابل الغدو الذي لا يكون إلا قبل الزوال ، قال تعالى : " ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر " ( سبأ:12) . قال الجوهري : ولا يكون إلا بعد الزوال .
الحجة الثانية : أن السلف كانوا أحرص شئ على الخير ، ولم يكونوا يغدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس ، وأنكر مالك التبكير إليها في أول النهار ، وقال : لم ندرك عليه أهل المدينة .
واحتج أصحاب القول الأول ، بحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة ". قالوا : والساعات المعهودة ، هي الساعات التي هي ثنتا عشرة ساعة ، وهي نوعان : ساعات تعديلية ، وساعات زمانية ، قالوا : ويدل على هذا القول ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما بلغ بالساعات إلى ست ، ولم يزد عليها ، ولو كانت الساعة أجزاء صغاراً من الساعة التي تفعل فيها الجمعة ، لم تنحصر في ستة أجزاء ، بخلاف ما إذا كان المردذ بها الساعات المعهودة ، فإن الساعة السادسة متى خرجت ، ودخلت السابعة ، خرج الإمام ، وطويت الصحف ، ولم يكتب لأحد قربان بعد ذلك ، كما جاء مصرحاً به في سنن أبي داود من حديث علي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم الجمعة ، غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق ، فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث ويثبطونهم عن الجمعة ، وتغدو الملائكة ، فتجلس على أبواب المساجد ، فيكتبون الرجل من ساعة ، والرجل من ساعتين حتى يخرج الإمام " . قال أبو عمر بن عبد البر : اختلف أهل العلم في تلك الساعات ، فقالت طائفة منهم : أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها ، والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة والشافعي ، وأكثر العلماء ، بل كلهم يستحب البكور إليها .
قال الشافعي رحمه الله : ولو بكر إليه بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس ، كان حسناً . وذكر الأثرم ، قال : قيل لأحمد بن حنبل : كان مالك بن أنس يقول : لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكراً ، فقال : هذا خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم . وقال : سبحان الله إلى أي شئ ذهب في هذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كالمهدى جزوراً ". قال : وأما مالك فذكر يحيي بن عمر ، عن حرملة ، أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات : أهو الغدو من أول ساعات النهار ، أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح ؟ فقال ابن وهب : سألت مالكاً عن هذا ، فقال : أما الذي يقع بقلبي ، فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات ، من راح من أول تلك الساعة ، أو الثانيه ، أو الثالثة ، أو الرابعة ، أو الخامسة ، أو السادسة . ولو لم يكن كذلك ، ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر ، أو قريباً من ذلك . وكان ابن حبيب ، ينكر مالك هذا ، ويميل إلى القول الأول ، وقال : قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ، ومحال من وجوه . وقال : يدلك أنه لا يجوز ساعات في ساعة واحدة : أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار ، وهو وقت الأذان ، وخروج الإمام إلى الخطبة ، فدل ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات ، فبدأ بأول ساعات النهار ، فقال : من راح في الساعة الأولى ، فكأنما قرب بدنة ، ثم قال : في الساعة الخامسة بيضة ، ثم انقطع التهجير ، وحان وقت الأذان ، فشرح الحديث بين في لفظه ، ولكنه حرف عن موضعه ، وشرح بالخلف من القول ، وما لا يكون ، وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير من أول النهار ، وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس ، قال : وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار ، وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية .
===>>يتبع