والسنة الثانية : أن تفعل في البيت ، فقد روى النسائي ، وأبو داود ، والترمذي من حديث كعب بن عجرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل ، فصلى فيه المغرب ، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال : " هذه صلاة البيوت " . ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خديج ، وقال فيها : " اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم " .
والمقصود ، أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فعل عامة السنن والتطوع في بيته . كما في الصحيح عن ابن عمر : حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر ، وركعتيبن بعدها ، وركعتين بعد المغرب فى بيته ، وركعتين بعد العشاء في بيته ، وركعتين قبل صلاة الصبح .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بيتي أربعاً قبل الظهر ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيصلى ركعتين ، وكان يصلي بالناس المغرب ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ويصلى بالناس العشاء ، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين . وكذلك المحفوظ عنه في سنة الفجر ، إنما كان يصليها في بيته كما قالت حفصة . وفي الصحيحين عن ابن عمر ، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الجمعة في بيته . وسيأتي الكلام على ذكر سنة الجمعة بعدها والصلاة قبلها ، عند ذكر هديه في الجمعة إن شاء الله تعالى ، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس صلوا في بيوتكم ، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " . وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل السنن ، والتطوع في البيت إلا لعارض ، كما أن هديه كان فعل الفرائض في المسجد إلا لعارض من سفر ، أو مرض، أو غيره مما يمنعه من المسجد ، وكان تعاهده ومحافظته على سنة الفجر أشد من جميع النوافل ، ولذلك لم يكن يدعها هي والوتر سفراً وحضراً ، وكان في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن ، ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما ، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين ويقول : سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، فكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين ، وهذا وإن احتمل أنهم لم يكونوا يربعون ، إلا أنهم لم يصلوا السنة ، لكن قد ثبت عن ابن عمر أنه سئل عن سنة الظهر في السفر ، فقال : لو كنت مسبحاً لأتممت ، وهذا من فقهه رضي الله عنه ، فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها ، فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها ، لكان الإتمام أولى به .
وقد اختلف الفقهاء : أي الصلاتين آكد ، سنة الفجر أو الوتر ؟ على قولين : ولا يمكن الترجيح باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر ، فقد اختلفوا أيضاً في وجوب سنة الفجر ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل ، والوتر خاتمته . ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص ، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد ، انتهى .
فسورة " قل هو الله أحد " : متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة وما يجب ثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه ، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه ، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوزام الصمدية ، وغناه وأحديته ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير ، فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له ، ونفي كل نقص عنه ، ونفى إثبات شبيه أو مثيل له في كماله ، ونفي مطلق الشريك عنه ، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك ، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، فإن القرآن مداره على الخبر و الإنشاء ، والإنشاء ثلاثة : أمر ، ونهي ، وإباحة . والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه ، وخبر عن خلقه . فأخلصت سورة " قل هو الله أحد " الخبر عنه ، وعن أسمائه ، وصفاته ، فعدلت ثلث القرآن ، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي ، كما خلصت سورة " قل يا أيها الكافرون " من الشرك العلمي الإرادي القصدي . ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه ، والحاكم عليه ومنزله منازله ، كانت سورة " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن . والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر ، و " قل يا أيها الكافرون " ، تعدل ربع القرآن ، والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه :" إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل هو الله أحد ، تعدل ثلث القرآن ، وقل يا أيها الكافرون ، تعدل ربع القرآن " . رواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد .
ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه ، لما لها فيه من نيل الأغراض ، وإزالته ، وقلعه منها أصعب ، وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته ، لأن هذا يزول بالعلم والحجة ، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشئ على غير ما هو عليه ، بخلاف شرك الإرادة والقصد ، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه ، واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه ، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة " قل يا أيها الكافرون " المتضمنة لإزالة الشرك العملي ، ما لم يجئ مثله في سورة " قل هو الله أحد " ، ولما كان القرآن شطرين : شطراً في الدنيا وأحكامها ، ومتعلقاتها ، والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها ، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها ، وكانت سورة " إذا زلزلت " قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر ، فلم يذكر فيها إلا الآخرة . وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها ، كانت تعدل نصف القرآن ، فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً - والله أعلم - ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف ، ولأنهما سورتا الإخلاص والتوحيد ، كان يفتتح بهما عمل النهار ، و يختمه بهما ، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد .
==>>يتبع