فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب
كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على عشر ركعات في الحضر دائماً ، وهي التي قال فيها ابن عمر : " حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب في بيته ، وركعتين بعد العشاء في بيته ، وركعتين قبل صلاة الصبح ". فهذه لم يكن يدعها في الحضر أبداً ، ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر ، وداوم عليهما ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملاً أثبته ، وقضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته ، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي ، فمختص به كما سيأتي تقرير ذلك في ذكر خصائصه إن شاء الله تعالى . وكان يصلي أحياناً قبل الظهر أربعاً ، كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم : " كان لا يدع أربعاً قبل الظهر ، وركعتين قبل الغداة " .
فإما أن يقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعاً ، وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين ، وهذا أظهر ، وإما أن يقال : كان يفعل هذا ، ويفعل هذا ، فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده ، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما . وقد يقال : إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر ، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال ، كما ذكره الإمام أحمد عن عبد الله بن السائب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس ، وقال : " إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء ، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح " .
وفي السنن أيضاً عن عائشة رضي الله عنها ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر ، صلاهن بعدها " . وقال ابن ماجه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر ، صلاها بعد الركعتين بعد الظهر " . وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً قبل الظهر ، وبعدها ركعتين " . وذكر ابن ماجه أيضاً عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصلي أربعاً قبل الظهر ، يطيل فيهن القيام ، ويحسن فيهن الركوع والسجود " فهذه - والله أعلم - هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن . وأما سنة الظهر ، فالركعتان اللتان قال عبد الله بن عمر ، يوضح ذلك أن سائر الصلوات سنتها ركعتان ركعتان ، والفجر مع كونها ركعتين ، والناس في وقتها أفرغ ما يكونون ، ومع هذا سنتها ركعتان ، وعلى هذا ، فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر ورداً مستقلاً سببه انتصاف النهار وزوال الشمس . وكان عبد الله بن مسعود يصلي بعد الزوال ثمان ركعات ، ويقول : إنهن يعدلن بمثلهن من قيام الليل . وسر هذا - والله أعلم - أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل ، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ، ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل ، فهما وقتا قرب ورحمة ، هذا تفتح فيه أبواب السماء ، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا . وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أم حبيبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من صلى في يوم وليله ثنتي عشرة ركعة ، بني له بهن بيت في الجنة " . وزاد النسائي والترمذي فيه : "أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل صلاة الفجر ". قال النسائي : " وركعتين قبل العصر " بدل "وركعتين بعد العشاء " وصححه الترمذي . وذكر ابن ماجه عن عائشة ترفعه : "من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة ، بنى الله له بيتاً في الجنة : أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل الفجر " . وذكر أيضاً عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال : "ركعتين قبل الفجر ، وركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين أظنه قال : قبل العصر ، وركعتين بعد المغرب أظنه قال : وركعتين بعد العشاء الآخرة " . وهذا التفسير ، يحتمل أن يكون من كلام بعض الرواة مدرجاً في الحديث ، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً ، والله أعلم .
وأما الأربع قبل العصر ، فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شئ إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي ... الحديث الطويل ، أنه صلى الله عليه وسلم : " كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة ، يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا لصلاة الظهر أربع ركعات ، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات ، وبعد الظهر ركعتين ، وقبل العصر أربع ركعات ". وفي لفظ : "كان إذا زالت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند العصر ، صلى ركعتين ، وإذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند الظهر ، صلى أربعاً ، ويصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين ، وقبل العصر أربعاً ، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين ". وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث ويدفعه جداً ، ويقول : إنه موضوع. ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره . وقد روى أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً " . وقد اختلف في هذا الحديث ، فصححه ابن حبان ، وعلله غيره ، قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى ، عن أبيه عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً ". فقال دع ذا . فقلت : إن أبا داود قد رواه ، فقال : قال أبو الوليد : كان ابن عمر يقول : "حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات في اليوم والليلة ". فلو كان هذا لعده . قال أبي : كان يقول : " حفظت ثنتي عشرة ركعة ". وهذا ليس بعلة أصلاً فإن ابن عمر إنما أخبر بما حفظه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يخبر عن غير ذلك ، فلا تنافي بين الحديثين البتة .
وأما الركعتان قبل المغرب ، فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليهما ، وصح عنه أنه أقر أصحابه عليهما ، وكان يراهم يصلونهما ، فلم يأمرهم ولم ينههم ، وفي الصحيحين عن عبد الله المزني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلوا قبل المغرب ، صلوا قبل المغرب " . قال في الثالثة :" لمن شاء كراهة أن يتخذها الناس سنة ". وهذا هو الصواب في هاتين الركعتين ، أنهما مستحبتان مندوب إليهما ، بسنة راتبة كسائر السنن الرواتب .
وكان يصلي عامة السنن ، والتطوع الذي لا سبب له في بيته ، لا سيما سنة المغرب ، فإنه لم ينقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة . وقال الإمام أحمد في رواية حنبل : السنة أن يصلي الرجل الركعتين بعد المغرب في بيته ، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه . قال السائب بن يزيد : لقد رأيت الناس في زمن عمر بن الخطاب ، إذا انصرفوا من المغرب ، انصرفوا جميعاً حتى لا يبقى في المسجد أحد ، كأنهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه . فإن صلى الركعتين في المسجد ، فهل يجزئ عنه ، وتقع موقعها ؟ اختلف قوله ، فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال : بلغني عن رجل سماه أنه قال : لو أن رجلاً صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه ؟ فقال : ما أحسن ما قال هذا الرجل ، وما أجود ما انتزع ، قال أبو حفص : ووجهه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة في البيوت . وقال المروزي : من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصياً ، قال : ما أعرف هذا ، قلت له : يحكى عن أبي ثور أنه قال : هو عاص . قال : لعله ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في بيوتكم " . قال أبو حفص : ووجهه أنه لو صلى الفرض في البيت ، وترك المسجد ، أجزأه ، فكذلك السنة . انتهى كلامه . وليس هذا وجهه عند أحمد رحمه الله ، وإنما وجهه أن السنن لا يشترط لها مكان معين ، ولا جماعة ، فيجوز فعلها في البيت والمسجد ، والله أعلم .
وفي سنة المغرب سنتان ، إحداهما : أنه لا يفصل بينها وبين المغرب بكلام ، قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني والمروزي : يستحب ألا يكون قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن يصليهما كلام . وقال الحسن بن محمد : رأيت أحمد إذا سلم من صلاة المغرب ، قام ولم يتكلم ، ولم يركع في المسجد قبل أن يدخل الدار ، قال أبو حفص : ووجهه قول مكحول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم ، رفعت صلاته في عليين " ولأنه يتصل النفل بالفرض ، انتهى كلامه .
==>>يتبع