فصل فيما كان يقوله بعد انصرافه من الصلاة من الأذكار وكيفية انصرافه
فصل
فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة ، وجلوسه بعدها ، وسرعة الانتقال منها ، وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها
كان إذا سلم ، استغفر ثلاثاً ، وقال : " اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " .
ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك ، بل يسرع الانتقال إلى المأمومين .
وكان ينتفل عن يمينه وعن يساره ، وقال ابن مسعود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره .
وقال أنس : أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ، والأول في الصحيحين . والثاني في مسلم .
وقال عبد الله بن عمرو : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة .
ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه ، ولا يخص ناحية منهم دون ناحية .
وكان إذا صلى الفجر ، جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس .
وكان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شئ قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .
وكان يقول : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كال شئ قدير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " .
وذكر أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة قال : " اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ". هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه عليه الصلاة والسلام ، وما كان يقوله في ركوعه وسجوده .
ولمسلم فيه لفظان .
أحدهما : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم ، وهذا هو الصواب .
والثاني : كان يقوله بعد السلام ، ولعله كان يقوله في الموضعين ، والله أعلم .
وذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة : " اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه ، أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ، اللهم ربنا ورب كل شئ ، اجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام ، اسمع واستجب ، الله أكبر الأكبر الله نور السماوات والأرض ، الله أكبر الأكبر ، حسبي الله ونعم الوكيل ، الله أكبر الأكبر " ورواه أبو داود .
وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله كذلك ، والله أكبر كذلك ، وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير .
وفي صفة أخرى : التكبير أربعاً وثلاثين فتتم به المائة . وفي صفة أخرى : خمساً وعشرين تسبيحة ، ومثلها تحميدة ، ومثلها تكبيرة ، ومثلها لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير .
وفي صفة أخرى : عشر تسبيحات ، وعشر تحميدات ، وعشر تكبيرات . وفي صفة أخرى : إحدى عشرة كما في صحيح مسلم في بعض روايات حديث أبي هريرة " ويسبحون ، ويحمدون ، ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ، إحدى عشرة ، وإحدى عشرة ، وإحدى عشرة ، فذلك ثلاثة وثلاثون " والذي يظهر في هذه الصفة ، أنها من تصرف بعض الرواة وتفسيره ، لأن لفظ الحديث : " يسبحون ويحمدون ، ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين " وإنما مراده بهذا أن يكون الثلاث والثلاثون في كل واحدة من كلمات التسبيح والتحميد والتكبير ، أي قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ثلاثاً وثلاثين لأن راوي الحديث سمي عن أبي صالح السمان ، وبذلك فسره أبو صالح قال : قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون .
وأما تخصيصه بإحدى عشرة ، فلا نظير له في شئ من الأذكار بخلاف المائة ، فإن لها نظائر ، والعشر لها نظائر أيضاً ، كما في السنن من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير ، عشر مرات ، كتب له عشر حسنات ، ومحي عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه ، وحرس من الشيطان ، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله " ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وفي مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة ، "أنه صلى الله عليه وسلم علم ابنته فاطمة لما جاءت تسأله الخادم ، فأمرها : أن تسبح الله عند النوم ثلاثاً وثلاثين ، وتحمده ثلاثاً وثلاثين ، وتكبره ثلاثاً وثلاثين ، وإذا صلت الصبح أن تقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، عشر مرات ، وبعد صلاة المغرب ، عشر مرات ".
وفي صحيح ابن حبان عن أبي أيوب الأنصاري يرفعه : "من قال إذا أصبح : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير عشر مرات ، كتب له بهن عشر حسنات ، ومحي عنه بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات ، وكن له عدل عتاقة أربع رقاب ، وكن له حرساً من الشيطان حتى يمسي ، ومن قالهن إذا صلى المغرب دبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح " .
وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح " الله أكبر عشراً ، والحمد لله عشراً ، وسبحان الله عشراً ، ولا إله إلا الله عشراً ، ويستغفر الله عشراً ، ويقول : اللهم اغفر لي ، واهدني وارزقني عشراً ، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة عشراً " فالعشر في الأذكار والدعوات كثيرة . وأما الإحدى عشرة ، فلم يجئ ذكرها في شئ من ذلك البتة إلا في بعض طرق حديث أبي هريرة المتقدم والله أعلم .
وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من صلاته : " اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري ، وأصلح لي دنياى التى جعلت فيها معاشي ، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من نقمتك ، وأعوذ بك منك ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . وذكر الحاكم في مستدركه عن أبي أيوب أنه قال : ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته حين ينصرف من صلاته يقول : " اللهم اغفر لي خطاياي وذنوبي كلها ، اللهم أنعمنى وأحيني وارزقني ، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق ، إنه لا يهدي لصالحها إلا أنت ، ولا يصرف عن سيئها إلا أنت " .
وذكر ابن حبان في صحيحه عن الحارث بن مسلم التميمي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا صليت الصبح ، فقل قبل أنت تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات ، فإنك إن مت من يومك ، كتب الله لك جواراً من النار ، وإذا صليت المغرب ، فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات ، فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارا من النار " .
وقد ذكر النسائي في السنن الكبير من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " . وهذا الحديث تفرد به محمد بن حمير ، عن محمد بن زياد الألهاني ، عن أبي أمامة ، ورواه النسائي عن الحسين بن بشر ، عن محمد بن حمير . وهذا الحديث من الناس من يصححه ، ويقول : الحسين بن بشر قد قال فيه النسائي : لا بأس به ، وفي موضع آخر : ثقة . وأما المحمدان ، فاحتج بهما البخاري في صحيحه قالوا : فالحديث على رسمه ، ومنهم من يقول : هو موضوع ، وأدخله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه في الموضوعات ، وتعلق على محمد بن حمير ، وأن أبا حاتم الرازي قال : لا يحتج به ، وقال يعقوب بن سفيان : ليس بقوي ، وأنكر ذلك عليه بعض الحفاظ ، ووثقوا محمداً ، وقال : هو أجل أن يكون له حديث موضوع ، وقد احتج به أجل من صنف في الحديث الصحيح ، وهو البخاري ، ووثقه أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين ، وقد رواه الطبراني في معجمه أيضاً من حديث عبد الله بن حسن عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة ، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى " . وقد روي هذا الحديث من حديث أبي أمامة ، وعلي أبي طالب ، و عبد الله بن عمر ، والمغيرة بن شعبة ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وفيها كلها ضعف ، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين واختلاف مخارجها ، دلت على أن الحديث له أصل وليس بموضوع . وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه أنه قال : ما تركتها عقيب كل صلاة . وفي المسند و السنن ، "عن عقبة بن عامر قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة ". ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح على شرط مسلم . ولفظ الترمذي بالمعوذتين .
وفي معجم الطبراني ، و مسند أبي يعلى الموصلي من حديث عمر بن نبهان ، وقد تكلم فيه عن جابر يرفعه : ثلاث من جاء بهن مع الإيمان ، دخل من أي أبواب الجنة شاء ، وزوج من الحور العين حيث شاء ، من عفا عن قاتله ، وأدى ديناً خفياً ، و قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات ، قل هو الله أحد . فقال أبو بكر رضي الله عنه : أو إحداهن يا رسول الله : قال : أو إحداهن . وأوصى معاذاً أن يقول في دبر كل صلاة : " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ".
ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده ، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام ، فراجعته فيه ، فقال : دبر كل شئ منه ، كدبر الحيوان .